الفصل الحادي عشر : حقيقةٌ أم محضُ خيال ؟!

لم أصدّق ما أراه وأنا أركضُ تجاهها، هل... هل ما تراه عيناي حقيقةٌ فعلا؟! أم أنّه من نسج خيالي؟! لا! إنّها حقيقة! إنّها هي! إنّها هي حقًّا! بعد كلّ ذاك الوقت! لم يختلف لون شعرها البنيّ المُموّج الذي انسدل على كتفيها بنعومة عن السابق، لم تختلف ملامحها الحنطيّة البسيطة والجميلة البتّة!... ولكنّها كانت أكثر حزنًا و... انطفاءً... ركضتُ حيثُ كانت تسير وسط حشدٍ قليلٍ من الناس الذي اجتمعوا لشراء بعض الخضراوات من الباعة المُتجوّلين أسفل إحدى المظلّات العامّة، لم أعبأ لشيء وأنا أصطدم مرارًا وتكرارًا بأكتاف الأشخاص وأنا أتُمتم كلّ ثانية :« آسف.... اعذرني... عذرًا »

حتى وصلتُ لها حيث كانت مُستديرةً لي بظهرها تبتاع بعض الحاجيّات، وقفت مذهولاً وكأنّ جسدي قد شُلّ فجأة ولم أستطع الحراك وأنا أحدّق بملامحها التي اشتقت لها كثيرًا، تلك الملامح التي كدتُ أنساها، ملامح أمي الجميلة وتقاسيم وجهها، آهٍ لكم افتقدت ذاك الوجه الجميل!

تزاحمت الدموع في مقلتاي وصرتُ أكتم شهقاتي بجهدٍ كبير وأنا أُنادي بصوتٍ خفيض لم يصل لسواها :
« أختي!... جانيت! »

توقّفت جانيت عن انتقاء الطماطم وجمدت في مكانها؛ لابدّ أنّها تعرّفت على صوتي، التفتت إليّ مُسرعةً وظلّت تُطالعني بهدوء وقد لاحظتُ تجمّع الدمع في عينيها، لم يدُم لقاؤنا طويلًا فسرعان ما استدارت وسارت مبتعدةً بخطى سريعةٍ، ومن هول صدمتي كنت ثابتًا في مكاني لا أتحرّك وقد سالت دموعي وصارت تتقاطر على ملابسي بهدوء خالف ضجيج قلبي المُضطرب. ألفيتُ بعض الأشخاص يجتمعون حولي وقد أقلقهم حالي الغريب وصاروا يسألونني ما إن كنتُ بخير وأنا ظللتُ أجيبهم أنّي بخير، حسنًا لم أكن أكذب... كنتُ بخيرٍ فعلا ولكن... ظاهريًّا فقط أما داخليًّا فقد كنت منكسرًا حزينًا، وما زاد من ضعفي هو رؤيتي لظهر جانيت وهو يختفي رويدًا رويدًا وتبتعدُ معه أختي بعيدًا ثانيةً، ولا أعلم إن كنتُ سأراها ثانيةً أم أنّ هذا سيكون آخر لقاءٍ مؤلمٍ بيننا. كنتُ أعلم سبب رحيلها، فهي حزينةٌ ومحطّمةٌ ممّا فعله والدي معها، وربّما تشعر بالوحدة والغضب منّي لأنّي لم أبحث عنها، ربما افتقدتني في الكثير من المواقف وكانت بحاجتي حينها، ولكنّها لم تجدني، ربما احتاجت لكتفي لتتّكأ عليه ولكنّها لم تجد لا الكتف ولا صاحبها، ربمّا احتاجت من يواسيها ويضمّد جرحها الغائر الذي خلّفته خسارة أندرو في فؤادها؛ فقد كانت له أمًّا قبل أن تكون أختًا. وددت لو أعانقها، أضمُّها إليّ بشوقٍ، أخبرها أنّي قد افتقدتُها، أُخبرها أنّي قد عانيت كثيرًا في غيابها ولكن.... حينها شعرتُ فقط برغبةٍ في رؤيتها، أردت أن أشبع من رؤية وجهها واسترجاع ذكرياتنا معًا، أردتُ أن أراها سعيدة مُبتسمةً ولكن... ولكنّها لم تكن كذلك...

ظللتُ واقفًا في مكاني لبرهةٍ تنزل دموعي بصمت على خدّاي، وأنا أستمع لوقع المطر. ثوانٍ حتى استوعبتُ الأمر ثم بدأتُ أركض لسيارتي وقدتها إلى منزل زوجها الذي اعتقدت أنّها لازالت تقطن فيه معه، طفح الكيل لن أحتمل بعدها أكثر! حينما وصلت للوجهة ترجّلت وصعدت للطابق الذي تقطن فيه ثم أخذت أطرق باب الشقّة وأرنّ الجرس حتى خرج لي رجلٌ قد بلغ منه الكبر عتيًّا واستحوذ الشيب على رأسه فاعتذرتُ منه وسألته : « أليست هذه الشقة ملكٌ للسيد جورج وزوجته جانيت يا عمّي؟! »

« لعلّك تقصد الملّاك القدامى؟! لقد ابتعت هذه الشقة منذ ما يزيد على الخمسة أشهر يا ولدي، من كان يسكن هنا قد رحل منذ مدّة بعيدة »

هنا صدمت!

لم أتوقّع ولو للحظة ذلك الفعل!

كيف حدث ذلك؟

ومتى وإلى أين؟

وندمت حينها أشدّ الندم أنّي لم أقدم على تلك الخطوة منذ أن غادرتني أختي...

اعتذرت للرجل على الإزعاج وههمت بالمغادرة ولكنّي شعرتُ باهتزاز هاتفي في جيب بنطالي، مسحتُ دموعي بهدوء وأنا أُخرج هاتفي من جيبي. أجبتُ على المُتّصل بعد رؤيتي لهويّته. فتحت الخطّ لكنّني ظللتُ صامتًا؛ إذ لم تكن لديّ رغبةٌ في الكلام.

« مينا، تعال إليّ في قسم الشرطة المُجاور لمنزلنا، نحتاج لجمع بعض المعلومات منك عمّا حدث اللّيلة الفائتة حتى أستطيع تسجيل المحضر ضدّهم، تعال بسرعة»

همهمتُ وأنا أجيبه باختصار :« حاضر »

أقفلتُ الخطّ وعدتُ أدراجي نحو سيّارتي خالي الوفاض..وحدي... دون أختي. ركبتُ السيّارة وتوجّهتُ بها نحو قسم الشّرطة، كان قسم الشُرطة بناءً صغيرًا بعض الشيء قد غُّلف بطبقةٍ من الزُجاج الأسود المُعتم الذي ظلّ ضوء الشمس ينعكس ويتوهّجُ على سطحه. ولجت للداخل حيث استقبلتني رُدهةٌ واسعةٌ في آخرها كان يقف والدي وهو يُحادث أحد ضبّاط الشرطة الذي كان واقفًا أمام مكتبه.

« مينا! تعال! » نادى والدي فور أن لمحني أخطو نحوه؛ فأسرعتُ الخُطى نحوه ووقفت بجانبه بعد أن ألقيت التّحيّة على ذاك الضابط الذي وقف بجانبه، لم يكن كبيرًا إذ بدا في بداية الثلاثينيّات من عمره، كان شعره قاتم السّواد وقد صُفّف بعناية. زُيّن وجهه بحاجبان حالكا السّواد وكثيفان نوعًا ما حيث تواءما كثيرًا مع لون بشرته الزهريّ.

« معك الضابط سُفيان، تشرّفت بلقائك يا مينا، أخبرني يا مينا، ليلة الأمس حينما اتّصلت علينا طالبًا النّجدة وتحديدً الإسعاف، كانت الواحدة تقريبًا أهذا صحيح؟ » سألني بنبرةٍ هادئة ومُريحة وهو يحمل بين يديه مفكّرةً صغيرة؛ حتى يُدوّن فيها أقوالي.

« نعم صحيح » قلتُ بينما أومئ له.

« اممم، ماذا كنتَ تفعل معه في هذا الوقت المُتأخّر ؟ »

« بينما كنتُ متّجهًا لعملي حوالي السّاعة التاسعة مساءً تعرّض لي بالضّرب هو وبعض رفاقه واختُظفت بعد
ذلك » أجبتُه بينما أسترجع ذكريات تلك اللّيلة المشؤومة.

« نعم، أكمل من فضلك »

« استفقت في سردابٍ مهجور وكنتُ مُقيّدًا حينها، دخل عليّ كاظم وأخذ يُهدّدني بأن أتنازل عن قضيّة أخي وإلّا ألحق الضّرر بي ولكنّي رفضتُ، فأشهر السّكين في وجهي وحاول إيذائي بها، حاولتُ درأها عنّي ولكن... انتهى الأمر بطعنه في بطنه ولم يكن ذلك بقصدٍ منّي؛ إذ كنت أدافع عن نفسي »

« شهادتك تختلف عن شهادة كاظم » أدلى الضابط بقوله لتتّسع عيناي في ذهولٍ وأنا أسألُه بتعجّب :« هل... هل هو هنا؟ أعني هل.. هل هو على قيد الحياة؟! »

نفى الضابط برأسه مُجيبًا :« لا، هو ليس مُتواجدًا هنا حاليًّا، ولكنّه مازال في المشفى يُعالج جُرحه، وهو تحت المُراقبة حاليًّا، لذا لا تقلق »

صمت هُنيهةً ليتابع مُبتسمًا ابتسامةً هادئة :« أتعلم؟!
حينما اتّصلت علينا وطلبت النّجدة، كنّا سنتوصّل لموقعك باستخدام هاتفك ولكنّك حينما أقفلت الخطّ، حاولنا التوصّل لموقعك ولكن الزّملاء في قسم التتبّع فقدوا أثرك لسبب مجهول؛ ربما بسبب الشبكة، لذا لم نستطع التوصّل لمكان المُصاب إلّا حينما وصلنا بلاغٌ من أحد الشُبّان أنّه عثر على شخصٍ مُصابٍ بأحد السراديب، أخبرنا بموقعه واتّجهنا لهناك وتمّ إنقاذه »

حينها ذُهلت حقًّا، ما هذا الغباء؟! كيف اتّصلتُ بهم وهربت؟! كيف كانوا سيحدّدون موقعه! يا لغبائي! كيف غاب عنّي شيءٌ بديهيٌّ كهذا؟!

ولا أستطيع إنكار أنّي قد ارتحتُ قليلًا عندما علمتُ أنّ كاظم لم يمت؛ إذ أنّ هذا يعني أنّي لم أقتله، وهذا مُريحٌ إلى حدٍّ ما، لكن على الصّعيد الآخر فكاظم مازال حيًّا أي أنّ مكائده ومصائبه لم تنتهي، وهذا ما لا يُريح فؤادي مُطلقًا.

« هل هناك أيّ معلوماتٍ ناقصة يا سُفيان؟ »سأل والدي الضابط بنبرةٍ مُتسائلة.

هزّ سُفيان رأسه بالنّفي مُردفًا :« لا يا سيّد نسيم، هذه المعلومات كافية، سنسجّلُ محضرًا بذلك، وسوف نأخذ أقوال كاظم ثانيةً وسيبقى تحت ذمّة التحقيق مؤقّتًا ولكن إن تبيّن خطأُ أقوالك يا مينا فسيُبرّأُ كاظم وسنضطرُّ لاحتجازك حتى نُحقّق معك. »

أومأتُ بهدوء بينما توجّه سُفيان بكلامه لوالدي :« سيد نسيم، أرجو أن يكون مينا تحت أنظارك هذه الأيّام تحسّبًا لأيّ شيء. »

« بالطبع سيّد سُفيان »

خرجتُ من تلك المشكلة كما تخرج الشّعرةُ من العجين، ليس وكأنّي قد طُبع على جبهتي كلمةُ " بريء" ولكن لأنّ والدي هو العقيدُ الشهير نسيم جورج، ولن يُتّهم بقضيّةٍ أو يقع في مُشكلةٍ بتلك السّهولة، لا هو ولا أقرباؤه، لذا وللمرّة الأولى كنتُ ممتنًّا لمكانة والدي التي أنقذتني من تلك المشكلة بسهولة هذه المرّة. لكن ما بقي يؤرّقني هو كاظم، إن تمّت تبرئته فلا أعلم ما يُخبّؤه لي في الأيام القادمة إن خرج، لابدّ وأنّه سيأتي لقتلي لا محالة!

حينما خرجتُ مع والدي بعد نصف ساعةٍ تقريبًا كان المطرُ قدّ توقّف وقد خبى سنا الشمس في الأُفق ليُعلن أنّ اليوم قد شارف على الانتهاء.

ركبنا السيّارة وانطلقتُ بسرعةٍ نحو المنزل، وبينما كنتُ أقود بهدوء عاود عقلي تذكّر ما حدث اليوم حينما قابلتُ جانيت، ظللتُ أفكّر فيها بحزنٍ وشوقٍ بالغين وأنا أرجو من كلّ قلبي أن تعود... أن تعود ثانيةً. وهمستُ لها بقلبي أن عودي يا أختي... فإنّي قد انتظرتُ طويلًا، عودي فقط ولن أترك للحزن مكانًا في فؤادك سأزيله عن بكرة أبيه وسأجعلك أسعد أختٍ على وجه الأرض، فقط عودي يا أختي... فأنا أنتظرك....

« مينا! هل أنت بخير؟! ما بك؟! » لم أُفق من شرودي سوى عندما صاح والدي بي بقلقٍ وهو يَهزُّ كتفي بقوّة.

رمشتُ عدّة مرّات ورفعت كفّي أتحسّسُ وجنتي المبتلّة، لقد كنتُ أبكي دون أشعر !

مسحت دموعي بسرعةٍ وأنا أجيب والدي مطمئنًا إيّاه بابتسامةٍ هادئة :« لا تقلق يا والدي، فقد تذكّرتُ أخي الرّاحل »

أومأ والدي بهدوء ثم ما لبث أن استطرد :« ستُقام محكمة كريم ذاك غدًا، وسيصدرُ عليه الحُكم النهائيّ »

« وأرجو أن يكون مُنصفًا! » قاطعتُه بينما أقبض بشدّة على مقود القيادة وقد تملّكني الغضب لمجرّد ذكره. وظللتُ أدعو بداخلي أن ينال عقابه الذي يستحقّ وألّا تضيع تضحية روح أخي الصغير سُدى.

وصلنا للمنزل بعد أن أسدل اللّيل أستاره على المدينة، خلد أبي للنّوم بعد تناوله لدواءه ووجبة عشاءٍ خفيفة أعددتُّها له، بينما ظللتُ أنا مُستيقظًا في غرفتي وقد أضأت مصباحًا صغيرًا استقرّ على المنضدة الصغيرة بجانب سريري حيث كنتُ مُستلقيًا على ظهري مُتدثّرًا بدثاري الدافئ، أُقلّب صفحات الكتاب الذي أحمله بين يديّ وأقرأه براحة بالٍ شديدة. كنت أقرأ الفصل الأخير من آخر كتاب من سلسلة « ما هو الإسلام؟ »

ظللتُ أقرأ والابتسامة لا تُفارق وجهي، وكلّما قلبت صفحةً، شعرتُ بشعورٍ غريب، مختلف، لم أشعر به قطّ في حياتي، شعورٌ بأنّي... أقترب من الله عزّوجل أكثر وأكثر...

قلبتُ آخر صفحةٍ من الكتاب وأنا لا أكاد أُصدّق أنّي قد أنهيتُ آخر كتابٍ في السلسلة، أخذت أحدّق في ما كُتب في آخر ورقة والذي لم يكن سوى بضع كلماتٍ توسّطت الصفحة؛ إذ كان فحواها :« إلى هنا تكون رحلتنا قد انتهت معك أيّها القارئ العزيز، ولكن رحلتك مع الله لا تزال في أوجها؛ فسارع إلى ربّك؛ فبابه مفتوحٌ دائمًا لعباده... »

سارع إلى ربّك! هذا هو الطريق! لقد وجدت الطريق الصحيح! نعم! سوف أُسارع لربّي، عليّ أن أفتح صفحةً جديدةً مع الله، عليّ أن أبدأ حياةً جديدةً وأسلك ذاك الطريق الذي سيوصلني لربّي دائمًا.

أغلقتُ الكتاب وقد شعرت بانشراحٍ في صدري بعد أن اتضّح لي كلّ شيء، لم تعد هناك أسئلةٌ تدور في خلجي دون إجابات، لم أعد مضطربًا، لم أعد مُذبذبًا، ولا مشتّتًا، أشعر كأنّي أقف الآن على أرضٍ صلبة راسخة قويّة، نعم... إنّه الإسلام!

وحين حلّ الصباح استيقظتُ من نومي سريعًا، أزحتُ الغطاء عنّي ناهضًا من على سريري ناويًا الذهاب للاغتسال؛ فقد علمت ممّا قرأت أنّ الاغتسال شرطٌ للدخول في الإسلام وتعلّمته، سوف أغتسل بنيّة الخلاص من كلّ ذنوبي وأفعالي السيّئة التي ارتكبتها في حياتي، سوف أغتسل لأستقبل ديني الجديد بنظافةٍ وتوقير وحيويّة، وسأسعى جاهدًا لتغيير حياتي من الآن فصاعدًا، سأتوقّف عن عاداتي السيّئة، سأغيّر من سلوكيّاتي للأفضل، سأتّبع تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن بكلّ حذافيرهما، وسأجاهد لأكون شابًّا مُسلمًا، صالحًا ونافعًا للإسلام، تمامًا... كبراء...

يتبع....

ما رأيكم في الفصل؟ ✨ أتمنى أنّه كان خفيفا عليكم

أغلبكم توقّع جانيت 😆 ولكن هل توقّعتم ردة فعلها؟ ولم تتوقعون فعلت ذلك؟ 🤔

يبدو أنّ مينا على وشك أن يسلك الطرق الصحيح 🤭🍀

هناك فصلٌ آخر كتبته، متى تودون نزوله؟ 🍁🥀

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top