الفصل الثامن : لقد قتلتُه!
صداعٌ شديدٌ داهم رأسي حينما فتحتُ عيناي، قطّبتُ حاجباي وأنا أطالع المكان الذي تواجدتُ فيه مُحاولًا استيعاب ما حدث؛ فآخر شيء أتذكّره ذاك العراك الذي خضتُه، حاولتُ تحريك يداي إلاّ أنّها كانت مقيّدةً في الكرسي الذي كنتُ جالسًا عليه. جلت ببصري في المكان حيث كانت أشبه بغرفةٍ في سردابٍ مُقفل وبعيدٍ عن الأنظار؛ إذ أنّي لم أستطع سماع الأصوات الخارجية، كانت مجرد غرفةٍ مهجورة معزولة، فيها بعض الخردة. حاولت تحريك أصابع كفّي بحيث أصل لعقدة الحبل؛ علّي أستطيع حلّ وثاقي.
وبالفعل تمكّنت من الوصول لها، وأخذت أحرّك أصابعي بعشوائيةٍ محاولًا فكّ العقدة، ولكنّي توقّفتُ ما إن سمعت وقع أقدامٍ يقتربُ من الغرفة. وصل لمسمعي صوت التحام المفتاح مع قفل الباب ثم فُتح وقد ولج منه كاظم. بعد أن دخل أغلق الباب وراءه والتفت لي وقد اتسع شدقاه ليكشفا عن ابتسامةً مُريبة لم أطمئن لها.
« جيّدٌ أنّك استيقظت وحدك، ما رأيك أن نخوض حديثًا لطيفًا صغيرًا لن يأخذ من وقتك دقائق يا صديقي؟ »
خاطبني وهو يخطو في الغرفة بتمهّلٍ مُقتربًا منّي.
ضممتُ قبضتي أحاول كبت غضبي وأنا أحادثه :« فكّ قيدي أولًا أيّها الجبان! »
خرجت منه ضحكةٌ خفيفة هازئةٌ وهو يجيبني :« أهكذا تتحدّثُ مع صديقك العزيز؟! هذا ليس من شيمك يا
مينا! »
لم أستطع تمالك نفسي وصحت به قائلًا :« أنا لا أُصادق الأنذال أمثالك! فكّ قيدي الآن وإلاّ ندمت »
احتدّت نظراته وأردف بغضب واضح :« ستنفّذ مُرادي شئت أم أبيت! هذه غلطتك يا مينا! وعليك تصحيحها! وإلّا.... »
صمت واضعًا يده في جيبه، ثوانٍ حتى لمع نصل السكين أمام مرآي وقد ظهرت عليّ كلّ أمّارات الصدمة.
« سأضطرّ لإجبارك بالعنف ! وهذا ما لا أريد فعله بصديقي مينا ! »
« أنت جبان! وستظلّ جبانًا يا كاظم! هيا اقتلني! أفضّل أن أموت على أن أسير طوع كلامك! »
تبسّم في وجهي ناطقًا :« لا يهم! ثم إني لم أقل أنّي أودّ قتلك! فأنا أحتاجك حيًّا! أيًّا يكن، استمع لي جيّدًا !
محاكمة كريم ستكون الأسبوع القادم! إن ثبتت عليه تلك التهمة فسوف يحكم عليه بإحدى اثنين، السجن المؤبّد أو الإعدام شنقًا و__»
« فليذهب إلى الجحيم! هذا جزاؤه! هو يستحقّ ذلك! »
« ستتنازل عن قضيّتك يا مينا شئت أم أبيت! وإلّا فلن أستطيع أن أضمن لك ما سيحصل لوالدك العزيز » عقّب كاظم وهو يبتسم بمكرٍ، فأجبته وقد انفلتت من بين شفتاي ضحكةٌ هازئة :« أتهدّدني؟! والدي؟! وما الذي تستطيع فعله لوالدي؟ إن فكّرت فقط في ذلك فسوف تندم أشدّ الندم على تفكيرك ذاك! »
« لستَ خائفًا إذًا ؟! أتخالني سأخاف تهديدك ذاك ؟! »
« افعل ما بدى لك! لن تستطيع مساس والدي بشيء مادمتُ حيًّا على قيد الحياة! أما القضية، فانسى ذلك، اُفضّل أن أُقتل على أن أتنازل عن حقّ أندرو! »
« لم أرغب باتخاذ هذه الطريقة، ولكنّك أجبرتني! » لم يكد ينهي جملته حتى هجم عليّ مُشهرًا سكّينه، ولحسن الحظّ طوال وقت حديثنا كنت أحاول إشغاله حتى أتمكّن من حلّ عقدة الحبل وقد استطعت فكّها قبل هجومه بقليل، لذا حينما اندفع إليّ أبعدتُ يداي عن بعضهما وهببتُ واقفًا وقد أمسكت بيده وأنا أحاول أخذ السكين منها. أسقطتُه أرضًا على ظهره فتأوّه لشدّة السقطة، حاولتُ استغلال ذلك واقتربتُ منه علّي أحوز على السلاح، سدّدتُ له لكمةً؛ فارتخت أصابعُه عن السكّين قليلًا إلّا أنّه لم يتركها وازداد دفعُه للسكين مُحاولًا إيذائي بها.
« لن تهرب منّي يا مينا ! ليس هذه المرّة ! لن يموت أخي في السجن ! » صاح بجنون وقد تملّكه الغضب وازداد دفعه للسكين بطريقة جنونيّة حتى أنّي قبضتً على نصل السكّين المصوّب نحو كتفي، تقاطر الدم من كفّي بعد أن جُرح من السكين، انكمشت ملامحي في ألم وانتباني الغضب الشديد وأنا أتذكّرُ أخي العزيز الذي مات بسببه وبسبب أخيه، حينها لم أعد أرى أمامي وانتفخت أوداجي وأنا أصيح به :« بل سيتعفّن في السجن! »
ولا أعلم كيف، ولكنّي دفعتُ يده التي تقبض على السكين ووجّهتُها نحو بطنه ثم.....
في غمضة عين كانت يداي قد لُطّخت بدمائه، وكان هو يتنفّس بسرعةٍ ويأنّ وقد انكمشت ملامح وجهه بألمٍ بادٍ وهو يتلمّس السكين التي غُرزت في أحشائه.
بدأت أتراجع مُبتعدًا عنه وأنا أحدّق ببركة الدماء القانية التي سالت أسفله. تمتمتُ وأنا أهزُّ رأسي بالرّفض :« أ.. أنا... ل.. لم.. أ.. أقصد.. أ... لا.. »
نهضتُ من فوري وتوجّهتُ له حيث استكان قليًلا في مكانه ينزف بهدوء لكأنّما استسلم لمصيره.
« ا.. اهدأ.. س.. ستكون بخير... فقط خذ نفسًا عميقًا »
غمغمتُ له بصوتٍ خفيض خلتُ أنّه سيصله ولكنّه كان قد بدأ يفقد وعيه. حاولتُ التصرف سريعًا؛ فخلعتُ معطفي وحاولتُ الضغط به على الجرح بغية إيقاف النزيف أو عرقلته.
« ابتعد عنّي! » تمتم بصوتٍ بالكاد خرج
تجاهلتُه و أخرجتُ هاتفي من جيبي بأيدٍ مُرتجفة، قمت بمهاتفة الإسعاف و أخبرتهم بوضعه ثم زوّدتهم بالمعلومات التي طلبوها منّي سريعًا عدى المكان؛ إذ أنّي لم أعلم أين أنا من الأساس، فطمأنوني وأخبروني أنّهم سيتوصّلون لموقعي باستخدام هاتفي، أغلقتُ هاتفي ونهضتُ من على الأرض راكضًا خارج الغرفة سريعًا، لمحت درجًا يقود للأعلى فصعدته مهرولًا وخرجت من ذاك المبنى عبر بوابة صدئة مهترئة، استنشقت هواء الشارع براحةٍ كبيرة، وشعرت أنّ هواء الشارع كلّه لم يكن ليكفيني، ركضتُ بأقصى سرعتي بغير وجهةٍ؛ إذ وددتُ فقط أن أبتعد عن كلّ تلك الجلبة.
لم أُرد قتل كاظم! لم أُرد إيذاءه! هو من أراد إيذائي! لم أُرد سوى تطبيق العدالة على من تسبّب بفقداني لأندرو! أخي الحبيب! الذي لن يُعوّض أبدًا!
انهمرت دموعي بغزارة على خدّاي وأخذت تتطاير بفعل النسمات الباردة التي لفحت وجهي بقوّة بينما أعدو بكلّ ما أوتيت من قوّة نحو اللامكان! نحو المجهول! أريد فقط الهدوء! أريد السعادة! أريد أن أبتعد عن كلّ ذلك!
« مينا ! مينا ! مابك تركض هكذا يا بنيّ؟! » طرق صوته مسمعي وأنا أجري، إنّه العمّ ريمون! متى وصلتُ هنا؟! هل كان المكان قريبا من الورشة؟ أم أنّي قد ركضت كثيرًا حتى وصلت إلى هنا؟!
رغم ابتعادي عنه بمسافةٍ ليست هيّنة؛ إلّا أنّي هدأتُ من سرعتي وعدتُ أدراجي إلى حيث كان العمُّ ريمون جالسًا على كرسيٍّ في الورشة يُدخّن غليونه بهدوء.
« مابك تبدو مبعثرًا هكذا؟! ما تلك الكدمات التي على وجهك؟ أحدث لك مكروه يا بنيّ؟! » تساءل بينما ينهض عن كرسيّه مقتربًا مني بعينين يفيض منها القلق.
لوّحت بكفّي له مجيبًا :« لا.. لا تقلق يا عمّ، أنا بخير.. فقط تعثّرتُ في سيري وسقطت، لا تخف؛ أنا بخير و__»
« مـ__يدك.. يدك تنزف! ما كلّ هذه الدماء التي على قميصك ؟! ما الذي أصابك يا مينا؟ » صاح العمّ ريمون وهو يمسك بكفّي النازف.
« ل_لقد جُرحت حينما وقعت، لا تقلق »
« هذا ليس جرح__مينا! عد إلى هنا! أنا أحادثك! »
نعم! لم أستطع إطالة حديثي معه أكثر من ذلك، أنا متعب! متعبٌ حقًّا! ظللتُ أركض وأركض وأركض حتى خارت قواي وتباطأت سرعتي حتى توقفت، لم أتوقف عند منزلي، بل توقّفت عند تلك المشفى؛ التي يعمل بها براء.
خطوت بخطىً مثقلةٍ وبطيئة نحو مدخل المشفى، وفور دخولي استقبلتني رائحة المستشفيات المعهودة التي تُثير فيّ الغثيان وتقلقني لسببٍ لا أعلمه. توجّهت نحو مكتب الاستقبال بحالٍ يُرثى لها حدّ أنّ المُشرفة التي تواجدت هناك بان عليها القلق وظنّتني مريضًا جئت أطلبُ المداواة، لكنّي نفيت لها ذلك - رغم كوني مُرهقًا فعلًا وأحتاج للراحة إلّا أنّي لن أرتاح إلا مع طبيب واحدٍ فقط...
« أين أجد الطبيب براء؟! » سألتُ بصوتٍ قد بُحّ من شدّة التعب.
طالعتني بشفقةٍ وهي تجيبني :« الطبيب براء أحمد؟ ستجده في تلك الغرفة هناك، لا تدخل إليه الآن؛ فلديه مريضٌ يقوم بفحصه، يمكنك الانتظار على تلك المقاعد سيدي ريثما ينتهي »
أومأتُ لها وتوجّهتُ بهدوء لأحد الكراسي ثم أرحتُ جسدي عليها. وما هي إلّا دقائق معدودة حتى ألفيتُ باب الغرفة يُفتح وقد خرج منه المريض الذي كان براء يفحصه. نهضتُ من فوري واتجهت نحو الغرفة ثم طرقت الباب بهدوء حتى وصل لمسمعي صوته الذي أثلج صدري وهدّأه.
« تفضّل »
دفعت الباب برفق وخطوت للداخل، وما إن وقعت عيناه عليّ حتى نهض من على كرسيّه وهبّ إليّ يُسائلني بتعجّب وقلق :« مـ__مينا؟! مـ__ما الذي حدث لك؟ أأنت بخير؟! ما كلّ تلك الدماء ؟! أجبني يا مينا؟ ماذا أصابك؟ مينا تحدّث! أنت تُقلقني! »
رفعتُ رأسي إليه وقد ترقرق الدمعُ في عينيّ وأنا أردف بصوت مهتزّ :« ب__براء! ل__لقد__قتلتُه! قتلتُه
يا براء! »
احتلّ القلق ملامحه وهو يسألني :« ق_ قتلته؟! قتلت من؟! »
« لم أقصد ذلك، لقد كنتُ أدافع عن نفسي! لقد كان هو المعتدي ولكنّي لم أُرد إيذاءه! »
« مينا، فقط خذ نفسًا عميقًا واجلس على هذا السرير حتى أحضر لك كوب ماء، فقط اهدأ، سيكون كلُّ شيءٍ بخير، لا تقلق » أخذ براء يُهدّئ من روعي وخوفي بتلك الكلمات ثم خرج ليحضر لي كوب ماءٍ. بعد عدّة ثواني عاد حاملًا كوب الماء بيده. أفرغتُ كأس الماء في جوفي خلال ثوانٍ؛ إذ أنّ جسدي كان يحتاج له بشدّة. أخذت نفسًا عميقًا واستدرت له بوجهي أحدّق في عينيه مستمدًّا الشجاعة والأمان منهما وقد عزمت على أن أفتح صفحات الماضي الأليم معه... مع صديقي براء وأثق أنّه سيكون بجانبي دائمًا وسيساندني ولن يخذلني مطلقًا؛ لأنّه براء!
« براء، عدني أنّك لن تخبر أحدًا بما سأقصُّه عليك» تمتمتُ بينما أطالع سوداويّتيه بسكون.
فأجابني مُتبسّمًا وهو يربّت على كتفي :« أعدك.. أعدك يا مينا »
يتبع.....
ما رأيكم بالفصل؟ ✨
توقعاتكم للقادم؟
أودّ توضيح جزئيةٍ بسيطة للقرّاء، لقد ذكرت سالفًا أن أحداث الرواية تجري في مصر، ومينا ينتمي للديانة المسيحية لعائلة متشدّدة. وقد لاحظتم أنّ والده يكره الإسلام والمسلمين ويأمر مينا بالابتعاد عنهم كذلك، قد ظنّ بعضكم أن كره والده للإسلام يرجع لأسباب شخصية او مواقف قد تعرض لها، في الحقيقة لا، هذا غير صحيح، وليس والد مينا وحده من يكره الإسلام والمسلمين بل أغلب المسيحيّين كذلك، قلت أغلب ولم أقل جميعهم. حسنا هنا في مصر إذا كان أحدهم ينتمي للديانة المسيحية ثم فكر أن يعتنق الإسلام فهو يتعرض لأقصى أنواع العذاب والضغوط والنبذ من عائلته ومن الكنيسة ومن المجتمع المسيحي عندهم وإن أشهر إسلامه وأعلن اعتناقه للإسلام فهذه تعد فضيحةً عندهم فإما يخفونه ويحاولون إجباره للعودة للمسيحية بشتى الطرق البشعة وإما يرسلون قتلة لقتله، وأحيانا أسرته هي من تقتله... لذا فالموضوع صعب حقا... يواجه المسيحيون الذين يعتنقون الإسلام الكثير من المشاكل حتى أنهم يضطرون لإخفاء إسلامهم.... ويمكنكم البحث عن هذا الموضوع وستجدون الكثير من النماذج...
أردت فقط توضيح هذه الجزئية للقراء... وأرجو أن تكون واضحة ومفهمومة.
وإلى أن يتجدد اللقاء بكم قرائي الأعزاء دمتم في أمان الله وحفظه 💙💛~
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top