الفصل الثالث والعشرين : لا تنسَ العهد!


لا تنسوا الدعاء لإخواننا في غزة وفلسطين اللهم الطف بهم وانصرهم يارب 💛

____________________

شرعتُ أقترب من المسجد بخطًى وئيدة بينما تتتالى نبضات قلبي المشتاق مع كلّ خطوةٍ أتّخذها نحو المسجد.

آه لكم هاجني الشوق له!

آه لكم حنّت أضلعي للخشوع في أركانه!

أخذت أذرع الأرض بأقصى ما لديّ من سرعة حالما تراءى أمامي بابه الكبير الذي زُخرف بأجمل الزخارف الإسلامية.

وعلى حين غفلةٍ تعثّرت إحدى عكازتيّ في واحدةً من الصخور التي توزّعت على الأرض، اختلّ توازني وكدتُ أسقطُ لولا أن أحاطت بي تلك الذراع القويّة وحالت بيني وبين سقوطي على الأرض.

« حاذِر يا عميْر! »

انتصبتُ في وقفتي بمساعدته وطالعته مبتسمًا وأنا أجيبه :« آسف! تحمّستُ قليلًا! »

« لا بأس، لكن انتبه لطريقك »

أكملنا طريقنا ومع أولى خطواتي في الولوج للمسجد لفحتني نسائم الخشوع، وأحسستُ أنّ روحي قد عادت لسُكناها، وتهلّلتُ أساريري، وخفق قلبي بتسارعٍ؛ لفرط فرحتي وقد شعرتُ أنّ الروح دبّت في فؤادي من جديد.

ارتسمت على ثغري ابتسامةٌ عذبةٌ حالما لمحتُ شيخي جالسًا هناك وقد اتّخذ له ركنًا في الصف الأول يتلو فيه بضع آياتٍ من القرآن قبل أن تُقام الصلاة كعادته.

خطوةٌ...

تتلوها

خطوةٌ

اتّخذتُها حتى وصلتُ إلى حيث كان جالسًا يتلو القرآن بخشوع جمّ حتى خيِّل لي أنّ هالةً من النور تحيط به وتتوهّج من مجلسه.

« شيخي الغالي... كيف حالك؟! »

رفع رأسه سريعًا وقد تعرّف على صوتي، ما لبث أن انتفض واقفًا وهبّ لمعانقتي وهو يردّد :« عُميْرنا الحبيب قد عاد أخيرًا ! قد عاد ! كنتُ واثقًا من عودتك! واثق! اشتقتُ لك كثيرًا يا بنيّ »

شددتُ على عناقه معقّبًا :« أنا أكثر يا شيخي والله، لقد كنتُ توّاقًا للُقياك. الحمدلله أن كتب لي العودة »

« الحمدلله، الحمدلله على سلامتك يا ولدي »

تحمحم براء بينما يدنو منّا قائلًا بنبرةٍ ضاحكة :« أنا هنا للعلم يا شيخ! »

« بالله عليك؟! أنت تراه كل يوم!! لم أره منذ مدّة
طويلة! » أردفت ضاحكًا.

تهلّلت أسارير الشيخ خبّاب وأنار ثغره بابتسامةٍ وقورٍ وهو يحادث براء قائلًا :« لم أعلم أنّك تغار يا براءنا الصغير! »

تبسّم براء مجيبًا بينما ينكزني من ذراعي :« لستُ كذلك! وإنّما أردتُ أن أداعب خليلي! »

« لستُ طفلًا للعلم!..هذا للعلم فقط! »

ضحك براء وهو يجيبني قائلا :« أعلم ذلك، أليس كذلك يا شيخ؟! »

« بلى! » قال متبسّمًا ثم أعقب قوله بتربيته على كتفي بينما يرحّب بي قائلًا :« لقد أنار الحيُّ بعودتك! »

« الحمدلله، لقد منّ الله عليّ بالكثير! الحمدلله »

لم يسألني الشيخ عن سبب غيابي ولم أرَ في عينيه فضولًا لمعرفة ذلك، كان شخصًا بالغ الحكمة، فطِنًا حسّاسًا للغاية. لم يُرد أن يضغط عليّ أو أن يُذكّرني بما مضى، فهو يعلم أنّه أيًّا كان ما حدث، فقد مضى وانقضى، ما يهمُّ هو سلامتي وأنّي قد عدتُ أخيرًا بعد غياب طال حتى ساورت الأفئدةَ المخاوفُ والشكوكُ.

صلّينا الظهر سويّةً ثم تحلّقنا بعد ذلك في حلقةٍ للعلم، نتذاكر فيها آيات الله ونستزيد فيها من الآلئ النبويّة، رحّب بعودتي جماعةٌ من الشّباب الذين اعتدت رؤيتهم وتجاذب أطراف الحديث معهم في المسجد، وتساءلوا عن سبب غيابي الذي طال حتى أثار قلقهم عليّ وعن إصابتي في قدمي، فأجبتهم أنّي قد تعرّضتُ لحادثٍ بسيط وشغلتني مشاغل الحياة. رحّب بعودتي الجميع وتعانقت معهم فردًا فردًا...

شعرتُ بذلك الدفء يغمرني من جديد...

شعرتُ بتلك السعادة التي أخذت تُصبّ في فؤادي صبًّا صبًّا.....

شعورٌ جميل أن تشعر أنّ لك أشخاصًا يحبّونك بصدق، دون أن تربطك بهم مصالحٌ أو علاقة...

هي فقط....

أخوّة الإسلام...

أخوّةٌ لا تضاهيها أخوّة...

بل قد تتساوى مع أخوّة الدم وتزيد عليها.....

تشعر أنّ لك عائلة مُحبَّة صادقة....

تشعر أنّ لك سندًا يساندك ويؤازرك وقت الشدة...

يفرح لفرحك، ويحزن لحزنك، ويتألّمُ لألمك......

يا الله!

ما أجمل ذلك!

الحمدلله وكفى!

لم أتفاجأ حين وصلتُ لمنزلي الذي بدا مهجورًا وغير مسكون، أخبرني براء أنّه يعرف عامل نظافةٍ أمينًا وممتازًا؛ لذا ذهب لإحضاره. لحسن الحظِّ كنتُ دومًا ما أخبِّئ نسخةً احتياطيّة لمفتاح المنزل أسفل سجّادة صغيرة تموضعت أمام باب المنزل مباشرةً.

كانت فكرةً جيّدة!

أقحمتُ المفتاح في قفل الباب وأدرتُه؛ فأصدر صوت تكّةٍ صغيرة معلنًا بذلك ترحيبه لي بعودتي.

هل اشتقت لي يا منزلي يا تُرى؟!

أزيزٌ خافت صدر بينما أفتح الباب متخذا خُطاي للداخل.

أخذت أجول بناظري في أرجاء المنزل وقد اشتاقت عيناي لكلّ بقعةٍ فيه حرفيًّا. وداعب عبقُ المنزل المميّز أنفي، ذاك العبق الجميل الذي يبثُّ فيّ الراحة والطمأنينة.

عبقٌ هيّج الذكريات!

مازال كلٌّ شيء على حاله...

أريكتي الصفراء المميّزة التي كنتُ دومًا ما أتّخذها سريرًا لي، ولا أعلم ما الحكمة من ذلك!! إلّا أنّي كنت أرتاح فيها... كانت متشبّعة بالتراب حتى لكأنّ صفارها استحال سوادًا.

منضدتي الجميلة الزرقاء عشعش الغبار على سطحها....

ذلك السّجاد القاني الوثير الذي دومًا ما كنتُ أحب أن أقف عليه حتى أحظى بنعومته المفرطة تلك، وأداعب باطن قدمي بها....

لازال هاتفي ومحفظتي على المنضدة حيث تركتهما آخر مرّة....

مددتُ يدي حاملًا هاتفي وذُهلتُ من كمّ الغبار الذي تواجد على سطح شاشته القاتمة...

أرجو ألّا يؤثّر ذلك على عمله!

ولجتُ لغرفتي وحينها هبّت نسائم الحنين على روحي وأخمدت نيران أشواقي المضطرمة.

أوّل ما وقعت عيناي عليه هي تلك اللّوحة المُعلّقة في إحدى زوايا غرفتي...

تلك اللوحة...

التي رسمناها سويّةً في ذاك اليوم...

لوحةُ غروب الشمس في الأفق...

لولا أن التراب قد نال منها أيضًا..

ياللراحة!

هاقد غربت شمسُ أحزاني وآلامي....

وأبلجت شمسنا الوهّاجة المفعمة بالأمل والحياة....

هاقد تبدّدت الظلمات وبزغ سنا الفجر في الآفاق...

خرجت منّي ضحكةً خفيفة حين أبصرتُ توقيعي العشوائيّ الذي أفسدتُ به توقيع فنّاني براء يومَها...

نقلتُ بصري لمنضدتي حيث رأيت صورة أخي التي غطى الغبار على ملامحها فحملتها بين يديّ ومسحت عنها التراب ليظهر وجه أخي منيرًا كالشُّهب يلمع في ظلمة اللّيل الأدهمِ.

كيف حالك صغيري؟!

اشتقت لي؟!

قد لجّ بي الشوق لك يا أخي...

عسى الله أن يُعوّضني خيرًا....

بعدما تجوّلتُ في منزلي بلهفةٍ وحماسةٍ ويكأنّي أراه لأوّل مرّةٍ في حياتي، ارتميتُ على الأريكة وقد استبدّ التعب بجسدي وأنهكه.

هل أرهقتُ نفسي لهذه الدّرجة اليوم؟!

لا أظنُّ...

تمدّدتُ على الأريكة ببطء حتى لا تؤلمني قدمي..

وأخذت سحب النوم تدور في فضائي وتشكّل عواصفًا شديدة تعصف بي حتى تنال منّي وتأسرني في عالم الأحلام....

رمشتُ عدّة مرّات أقاوم ذاك الثقل الغريب الذي جثم على جفوني...

ليس الآن يا عُميْر!

عليّ أن أنتظر براء!

سيحضُر عامل النظافة ويعود سريعًا!

ليس وقت النوم!!

أفق!

ولكن..

هيهات! هيهات!

فقد ألمّ بي إرهاقٌ شديد فرض على جسدي الراحة المُحتّمة...

لم أستطع المقاومة أكثر وغفوت وأنا أذكّر نفسي قائلًا :
« فقط... حتى يعود براء... خمسةُ دقائق فقط
وأستيقظ! »

داعبت أنفي رائحةٌ جميلة أيقظتني رغمًا عنّي، حرّكتُ أناملي أتحسّسُ ذاك الغطاء المريح الذي كان يغمرني بالدّفء والراحة، فتحتُ عيناي برويّةٍ لأُبصر غطائي الأزرق الوثير قد دثّر جسدي في حين تتعقّبُ أنفي مصدر الرائحة.

كان الجوُّ باردًا...

لاشكّ أنّ المُكيّف الهوائيّ مفتوح.

رفعتُ أناملي أُدلّكُ بها ما بين عيناي علّي أفيق طاردًا ذاك الخمول الذي يستوطنُ كامل جسدي.

اعتدلتُ جالسًا بعد أن كنتُ مضطجعًا، وأخذت أجول بناظري في المكان بلا وعي، ورويدًا رويدًا أخذتُ أتماثلُ للصحو بينما أُحملِقُ في المكان متعجِّبًا.

كان كلُّ شيءٍ مُرتّبًا ونظيفًا وبرّاقًا يكاد لمعانه يُذهب بصري. الأرضيّة تتوهّجُ وتبرُق بينما تنبعثُ منها رائحةٌ شذيّة، كانت أقرب لرائحة الورد المُعبّق بالياسمين.

في حين كانت الأرائك المقابلة تنير بألوانها الزاهية كما لو كانت في حلّتها الجديدة، بألوان أبهى وأكثر إشراقًا من ذي قبل.

كلُّ شيءٍ كان منظّمًا ومنمّقًا بدقّة مبهرةٍ !

تناهى لمسمعي صوتُ خشخشةٍ صدرت من الباب تلاها انفتاحه بينما يلجُ منه أحدهم.

« استيقظت أخيرًا؟! »
تخدّث براء فور أن رآني بينما يخطو داخل المنزل في حين أُثقلت يداه بعددٍ من الأكياس البلاستيكيّة.

« براء؟! كم الساعة الآن؟! ومهلًا ! كيف حصلت على المفتاح؟ لقد كان معي! »

ضحكاتٌ متفرّقات عقّب بهنّ على كلماتي المبعثرة، ما لبث أن التفت لي بوجهه بعد أن جلس بجانبي على الأريكة ثم أجابني بنبرةٍ لم تخفَ عنّي فيها محاولاته الفاشلة في كتم ضحكاته : « ألا تتذكّرُ؟! لقد فتحت لي الباب بعد أن ظللتُ أطرق الباب لدقائق طوال، علمتُ أنّك كنتَ نائمًا، فطلبتُ منك المفتاح وخرجت وعدت ثم خرجت ثانيةً وهاقد عدتُ ثانيةً، لقد غربت الشمس، حاولتُ إيقاظك إلّا أنّك كنتَ تغطُّ في نومٍ عميق. »

« حقًّا؟! لا أتذكّر ذلك بتاتًا! لقد مرّ وقتٌ طويل! هل أحضرت عامل التنظيف؟! »

« نعم منذ مدّة! رغم الضّجة والجلبة التي أحدثناها إلّا أنّك لم تُحرّك ساكنًا لقد كنت في وادٍ سحيق! حتى...أن..أنّك »

لم يكمل حديثه وظلّ يُرسل ضحكاته الخافتة في الفضاء لتحوم وتحوم في أذنيّ بينما أنتظر تفسير ضحكاته متعجّبًا.

« بالله عليك يا براء! توقّف عن الضحك أو أضحكني معك! »

« حسنا، حسنًا سأخبرك، لكن لا تغضب حسنًا؟! »

« هذا يعتمدُ على ماهيّة ذاك الأمر المضحك! »

« لقد كنّا نرشّ عليك رذاذ الماء علّك تستيقظ ولكنّك كنت تُقطّب جبينك بانزعاج وسرعان ما تتبدّد تلك التقطيبة وتعود لسباتك العميق، ظللنا نرشُّك بالماء حتى صحت وأنت مغمضَ العينين : « سأقتلك يا براء! » آهٍ كلما تذكّرتُ الموقف ووجهك المُتجهّم العابس الناعس انتابتني نوبةٌ من الضحك »

تفاجأتُ بما سمعت، مهلا!

أنا قلتُ ذلك؟!

لم أشعر بتاتًا!

لم أستطع كبح تلك الابتسامة التي أخذت تتبدّى على صفحة وجهي بينما أرنو إلى براء الذي يُجاهد لكبت ضحكاته في حين يُردّد اعتذاراته.

ألفيتُ ضحكاتي تتفلّتُ من بين شفتاي واحدةً تلو الأخرى حتى بتُّ لا أستطيع التوقف عن الضحك فور أن استوعبتُ الموقف.

« يا إلــهي! أنا قلتُ ذلك؟! »

« نعم، أكادُ أجزم أنّك كنت لتقتلني لو أنّك أبصرتني حينها! »

شقّت قهقهاتنا فضاء المنزل حتى خلتُ أنّ جدران المنزل تشاركنا سعادتنا بينما تُسجّل تلك اللّحظات الجميلة التي حُفرت في ذاكرتيْنا للأبد.

« هيّا قُم لأعينك على الوضوء؛ حتى تُصلّي ما فاتك من صلوات، وكن خفيفًا في نومك بعد ذلك ! في المرّة القادمة ستضطرُّني لإغراقك بدلوٍ من الماء المُثلّج ! »

« يا لطيف! لم أعلم أنّك متوحّش لتلك الدرجة!»
قلتُ من بين ضحكاتي.

توضّأتُ وصلّيتُ ما فاتني من فروضٍ، أتاني بعد ذلك براء وجلس جواري بينما يخبّئُ خلف يديه شيئًا لم أتبيّنهُ، طالعني وقد نبتت على ثغره ابتسامةٌ متحمّسةٌ يملؤها الغموض.

ارتقى حاجباي بدهشةٍ بينما أحاول معرفة ما يُخبّئه.

« أغمض عينيك! »

ذُهلتُ وكدت أنطق لولا أن بادر هو وأعاد أمره عليّ؛ فما كان منّي إلّا أن أغمضتهما على مضضٍ والفضول يكاد يفتك بي.

« دعني أُخمّن ستلقي بدلو ماءٍ عليّ؟! »

« بل أفضل! هيّا ! يمكنك فتحُ عينيك »

انزاحت جفوني عن مقلتيّ، فأبصرتُه متبسّمًا بينما يحمل بين يديه علبة هدايا كبيرةً بعض الشيء ملوّنة بأبهى الألوان بينما خُتم سطحها بشريطةٍ زرقاء شكّلت وردةً صغيرة.

« تفضّل يا عُميْر! هذه لك! »

ألجمت الصدمةُ لساني بينما رجفت جفوني في ذهولٍ . رفعتُ بصري أطالعه فوجدته مبتسمًا ينتظر فتحي للهديّة بشوقٍ توهّج في دعجاويّتيه .

تمتمتُ بخفوت وقد خانتني مدامعي وفاضت بمائها على وجهي : « ب...براء...أنا حقًّا أشكرك..لكن..»

قاطعني بينما التقى حاجباه بعبوسٍ طفيف : « ليس هناك لكن! أنا حقًّا أودُّ منك أن تقبل تلك الهديّة البسيطة، ستحتاجها كثيرًا، وأرجو أن تعينك على طاعة الله
دومًا »

ضحكت بينما سحبت أناملي طرف تلك الشريطة؛ لتحلّ عقدتها ومن ثمّ رفعتُ الغطاء لتتجلّى أمامي أجملُ هديّةٍ أُهديت لي في حياتي. وعادت عَبَراتي تشقُّ طريقها خارج مآقيّ لتهطل قطرةً تلو الأخرى على الأرض بينما أحملق في تلك الهدية التي أسرت فؤادي.

سجادّةُ صلاةٍ زاهية بلون البحر تموج في عرضه زخارف مذهّبةٌ تشكّل قبابًا ومآذن تحيط بها مجموعة من الورد المزخرف الذي أحاط بأطراف السّجادة كلّها. ترقرق الدمع في مقلتيّ بينما أخذت أناملي تفكّ طيّاتها لتكشف عن مصحفٍ جميل تخبّأ بين طيّات تلك السجادة الجميلة. تلمّستُ سطحه الناعم الجميل، وقد كان يفوح من ثناياه عطرُ العودِ العتيق. فتحته وإذا بأولّ صفحةٍ فيه بيضاءُ لم يشب بياضها سوى ذاك الحبر القاتم الذي خُطّت به عبارة
« إهداءٌ إلى صاحبي : عُمير
صديقك المحبّ
براء ...»

« براء...أنا...لا أعلم كيف أعبّر عن شكري وامتناني...لك..أنا ..»

ازدحم الدمع في عينيّ ورفعت رأسي أطالع براء فإذ به مبتسمٌ بينما ابتدر حديثه إليّ : « لست مضطرًّا لذلك، نحن أصدقاء، ليس هنالك شكرٌ بيننا، أملي أن تجعل كتاب الله جليسك الدائم، ولتجعل أوقاتك معمورةً بالذكر الحكيم، عِش به! تمسّك به! فهو المنجي الوحيد وهاديك للطريق الصحيح في زمنٍ كثرت فيه الطرق المضلّلة، ولا تغرّنك قلّة الرفقة في ذاك الطريق، فقط سرْ وواصل المسير حتى تصل للغاية التي لأجلها خلقنا، وتذكّر أنّك ستتعب وستتألم، ستشعر بالوحدة أحيانا، لكن لا يغرّنك كلّ ذلك، فلا تعلم ما أعدّه الله لك في آخر الطريق! »

« ما أجمل كلمك ونصحك يا براء! ثق أنّي سأبذل جهدي! وسأفعل ما بوسعي حتى استكمل المشوار حتى نهايته!»

ازدانت بسمته وهو يرفع معصمه قُبالتي باسطًا كفّه في حين عقّب بقوله : « لنتعاهد سويّةً على إكمال الدرب معًا، وأن يشجّع أحدنا الآخر كلما فتُرت عزيمته وخبت قوّته، لنُعِن بعضنا على ذلك، حتى نلتقي هناك كما التقينا هنا »

فعانقتُ كفّه بكفّي بينما أشدّ عليها مجيبًا : « نعم أعاهدك يا براء أن أستمرّ في ذلك الدرب الطويل حتى أصل معك »

افترّ ثغره عن ابتسامةٍ حانية بينما يرفع حاجبيه بتحدٍّ قائلًا : « لنتسابق سويّة إذًا! لنرى من سيحفظ فينا أكبر قدرٍ من القرآن! لنرى من سيحافظ فينا على أكبر قدر من النوافل! ما رأيك؟»

ضحكت بينما أجيبه : « إن شاء الله بالطبع! فكرة جبّارة! لكن يؤسفني أن أخبرك أنّي سأكون الفائز دوما »

ضحك براء قائلا : « إن شاء الله، ولكم يسعدني ذلك! ولكنّي منافس شرس! لست بتلك السهولة! سنرى في نهاية المطاف من منّا الفائز! ثم إنّك لم تكمل فتح هديّتك مازال هناك شيءٌ يقبع في الصندوق »

عاودت النظر في الصندوق فأبصرتُ كرّاسةً متوسّطة الحجم قد صبغت بزرقة السماء الزاهية حتى لكأنّي أطالع السماء حينما أبصرتها، أخرجتها من الصندوق فانعكس عليها الضوء ليضفي لها رونقا خلّابًا وبرقت تلك السحب البيضاء التي رسمت عليها لتحاكي السماء بمهارة.

« أودّ منك أن تكرّسها لكلّ جديدٍ تتعلّمه في دينك، لكلِّ قصة جديدة تعرفها عن الصحابة رضوان الله عليهم، لكلّ حديث جديد تسمعه، لكلّ آية تضيء قلبك بوهجها، لكلّ يوميّاتك الجديدة التي ستسطّرها هنا في لجج تلك المفكّرة، كلّ شيء يسعدك، كلّ شيء جميل حصل لك دوّنه فيها »

حدّقتُ فيه وعلى وجهي ظهرت ابتسامةٌ اتسع لها شدقاي وقد عجز لساني عن الردّ، علّ ابتسامتي توصل ما في قلبي له من امتنانٍ.

ارتكز على ركبتيه بينما يهبّ ناهضًا من مجلسه ثم أخذ عكازتيّ وقربهما منه ثم مدّ لي كفّه بينما يرنو إليّ قائلا : « هيا، لقد تأخّر الوقت، عليّ الذهاب، هاتِ يدك
أعاونك »

تلاقى حاجباي بخفّة بينما أعقّب على كلامه : « مازال الوقت مبّكرًا، فلتبقَ قليلا، نتعشّى سويّةً »

خلّل أصابعه بين خصَل شعره ذا لون الكستناء في حين أجابني : « لديّ بعض الأعمال التي يتوجّب عليها القيام بها قبل الغد..بعض الأعمال المتعلّقة بالعمل »

تمسّكتُ بكفّه ونهضت بمساعدته والتقفت العكازات منه؛ لأستند عليها فمدّ لي كفّه قائلًا : « لا تنسَ العهد يا
عُميْر! »

فصافحت كفّه وضممته إليّ أربّت على كتفيه مجيبا :
« أنّى لعهد كذاك أن يُنسى يا صاحبي؟ »

احتضنني بحفاوةٍ حتى شعرتُ بدفء شوقه الحاني يتسرّب لفؤادي مباشرةً ويصل لصميمي دون أن يفَه بكلمة، استشعرت شوقه لي، وخوفه عليّ، وحبّه الصادق لي، وحزنه على ما مررت به، شعرت كأنّه أخي الوحيد، سندي، صديقي الأوّل الذي لم ولن ألقى له مثيلا مهما مرّ عليّ من الزمن، ولن يصل لمكانته في قلبي أيُّ إنسيّ، كيف لا؟ كيف لا وهو من أشعل حجرات قلبي التي أظلمت لدهور، كيف لا وهو من أنار دربي، وأرشدني لطريق ربّي، لطريق النجاة، كيف لا وهو من أخذ بيدي قبل أن تلجمني ظلمات البحار التي كان فؤادي يموج فيها. الحمدلله على رفقتك يا براء...

ابتعد عنّي وهو يقول : « سأمُرّ عليك صباحًا إن شاء الله، لا تنسَ__»

لم يكد يتمّ حروف كلمِه حتى بترتها تلكمُ الرّنات المتتابعة التي انبعثت من هاتفه. فمدّ يده في جيبه ملتقفًا إيّاه ثم تطلّع في شاشته للحظة قبل أن يستأذنني للحظة ويردّ على المتّصل.

« وعليكم السلام ضياء، بخير ولله الحمد، خيرًا إن شاء الله؟ »

لم أركّز كثيرا في كلامه ولكن بعد بضع ثوانٍ شدّ انتباهي ذلك الوجوم الذي تلبّس به وجه براء وتلك الغشاوة التي غطّت عينيه ذات لون اللّيل في حين أتبع ذلك كلّه بقوله : « حاول معه، حاول يا ضياء ريثما أصل، دقائق وأكون ماثلًا أمامك إن شاء الله »

ثم أقفل الخط والتفت لي بوجهٍ طغت على قسماته غمائم الهمّ والكدر وهو يتحدّث : « عليّ الذهاب، تأمرني بشيء؟ »

« ما الأمر يا براء؟ خيرا؟ »

تنهّد مخرجًا أنفاسه من أسبار جوفه وهو يجيب متعجّلًا

« إنّه...لقد...»

وما تفوّه به عمد إلى فؤادي كسهمٍ طائش أصاب صميمي، وأخذ القلق ينهش في كلّ إنشٍ منّي وودت لو أنّي ما سألته سؤالي ذاك.

يتبع....

أخيرا عدت من معركة الامتحانات 💛

إذا ما رأيكم في الفصل؟ ✨♡

توقعاتكم؟

ما الذي حدث يا ترى؟

وإلى لقائنا القادم دمتم في أمان الله ورعايته✨ ولا تنسوا الدعاء لإخواننا في غـ8ـزة

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top