الشّرف
بقلم نهال عبد الواحد
يعد الشّرف من الأخلاق الحميدة التي يُستدل به على نقاء السّريرة والأمانة الماديّة والأخلاقيّة، وأيضًا البعد عن الأفعال الآثمة أو التي يجرّمها المجتمع، كالسّرقة، الاغتصاب، القتل، السّلب والنّهب، وإن كانت تختلف من مجتمعٍ لآخر ومن ثقافةٍ إلى أخرى.
- قال تعالى: «وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَـٰلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ»
من الأمور المتفق عليها بين المسلمين، حرمة الإفتاء بغير علم، ومن أكثر الفتاوي شيوعًا فتوى غسل العار، ففي ديننا الإسلاميّ يتوجب قبل أي حكم، إثبات الجرم على المتهم بالأدلة والشّهود، ولأن ديننا الحنيف من أسمىٰ التّشريعات، فقد حرص تمام الحِرص على حفظ العرض والشّرف، فحرّم مجرد الاقتراب من الزًنا، وجعل عقوبة الزّانية الجلد لغير المتزوجة والقصاص من المتزوجة، وذلك في حالة إثبات واقعة الفاحشة من أربعة شهود يحملون البلوغ، العدالة، العقل، الرّؤية والإسلام، والتأكيد على المواقعة وليس مجرد حديث، مواعدة، لمسة يد أو مجرد ظن، وذلك حفاظًا على العرض والأرواح.
كانت هذه كلمات إمام المسجد في خطبة الجمعة الماضية، والتي استمعتُ إليها بالمصادفة، ولا أدري لماذا ترن في أذنيّ دائمًا! بل تكاد لا تفارقني.
حتى إني لأشعر أنها تراودني في أحلامي مع تكرار كلمة الشّرف، الشّرف، الشّرف، ربما لأنه اسمي، هاهو الصوت يرن في أذنيّ مجددًا، ينتشلني من أحلامي...
لا لا إنه صوت أبي يناديني، بل يصيح بغضب: يا شرف، يا شرف!
تراني أجاهد نفسي لأفتح جفنيّ بصعوبةٍ، لكن صوته الغاضب لم يمهلني، نهضتُ من فراشي على مضض، فركتُ وجهي متحركةً خارج حجرتي.
قدمايّ تسوقاني إليه قبل أن أفتح عينيّ؛ فهما تحفظان كل شبرٍ بالبيت.
لكن فجأة فتحت عينيّ رغمًا عني؛ لطمني أبي بقوة بمجرد أن ظهرت أمامه! من قسوة لطمته سقطتُ أرضًا خاصةً وأنا لم أستعيدُ كامل وعيي بعد، بدأتُ أنهضُ واقفة كي أفهم بأي شئ أوغرتْ امرأة أبي صدره وملأته حنقًا عليّ!
تساءلتُ: لماذا تصكّني هكذا يا أبي؟ ماذا اقترفتُ ليكون أول عهدك بي عقب عودتك من سفرتك هو ضربي؟!
لكنّه لطمني مجددًا، آلمني بشدة، وصاح بعينَين تتقدان شررًا: سأقتلكِ وأغسل عاري أيتها الفاجرة اللعينة.
صرختُ وسط بكائي: عن أي عارٍ تتحدث أبتي؟! ومن تلك الفاجرة؟!
- أنتِ يا لعينة!
قالها وهو يجذبني من عصبة رأسي فانخلعتْ كاشفةً عن شعري، قبل أن أتحرك جذبني من ضفيرتي الطّويلة وساقني بها خارج البيت كمن يسوق أحد بهائمه، صرخ بملء صوته مكرّرًا: سأقتلكِ وأغسل عاري!
- وضحّ لي الأمر يا أبي، واللّه أنا لا أفهم شيئًا!
أهدرتُ بها وسط ألمي وشهقاتي، لكنّه لم يتوقف، ظل يجذبني بإحكام ولا خيار أمامي إلا أن أتبعه، لكنّي لم أتوقف عن البكاء، الصّراخ، التّوسل، القسم بكل الأيمان أنّي لم أقترف شيئًا متفحّشًا.
- واللّه يا أبي لم أفعل شيئًا!
- بل فعلتِ، بِتِ ليلةً كاملةً في بيت رجل غريب.
- يا أبي اسمع مني، من أخبرك لا يعرف الحقيقة، هو فقط ظن بي السّوء.
- لن أصدق كذباتك ودموع التّماسيح.
- اسمعني أرجوك! أنا ابنتك الوحيدة شرف، طيلة عمري اسمًا على مسمى، أعرف ربي وأخشاه، ولم أخن ثقتك بي.
- اصمتي!
- والله لم أخرج إلا للحقل! أزرع وأضرب الأرض بفأسي في لباس الرجال، وهيئة الرجال، لم يعرفني أحد إلا شرف ابن الحاج قاسم.
لكنه لم يسمعني، فقط جرّني كماشيته، مهما ارتفع صراخي وتوسلاتي لم تزد إلا التّفاف الناس حولنا، هم فقط يتبعونا دون أي تدخل، فقط مجرد همهمات لاكتشافهم أني فتاة، لم يحاول أحدهم حتى الاستفسار عن سر تهمتي في عرضي، وكأن تهم الشّرف مجرد حكاياتٍ ممتعة للتّسلية والتّشفّي أحيانًا.
ازداد حنقي منهم، صحتُ فيهم: فيم تتجمهرون؟ لِمَ تتبعونا؟ رجاءً تشفّعوا لي عند أبي، أنا لم ارتكب أي خطيئة، أليس فيكم رجلٌ رشيد؟!
لطمني أبي مجددًا لأصمت وأكمل خطواته الصّارمة وجذْبه لي بإحكام، صحتُ فيهم مرة بعد مرة: أدركوني، النّجدة! نادوا إمام المسجد ربما ينصحه، يذكّره بخطبته.
لا زالوا يتبعونا دون أي تدخل إيجابي، عدتُ أستجدي أبي ربما يرقّ لي ويطرد شيطانه: يا أبي واللّه إنّي بريئة! اسمع مني! رجاءً!
لكنه لم يجيبني، بل لم يلتفتْ إليّ مستمرًا في خطواته، صحتُ بقهرٍ: يا شيخ! أدركني! أبي سيقتلني ظُلمًا وافتراءً! أدركوني! أليس منكم رجل رشيد؟!
أعيدها مرارًا، وبالطّبع لم أنتبه للطريق، كيف ولا أين سِرنا؟ لكنّه توقّف فجاة! ارتعدت أوصالي وارتجف جسدي، صحتُ مسرعة: لو كانت امرأتك من رمتني بهذه التّهمة فهي كاذبة، تريد الخلاص مني لتنعم بمالك رغمًا عنك عندما رفضتُ الزّواج من أخيها.
تشنّجت ملامح أبي، ازدادت عينَيه قتامةً ونبس بفحيحٍ أرعبني: بل أنتِ هي الكاذبة، لكن ماذا أنتظر من فاجرة! سأغسل عاري ولن تنعمي بأي حياة بعد اليوم.
وقبل أن أجيبه وأكمل دفاعاتي، غرس سكينه في صدري بقوة، صرختُ بصوتي الذي كاد يختفي من كثرة الصّراخ، فتسلل لي ألم شديد يعتصرني، شيءٌ دافيء يتدفق من صدري يبلل ملابسي، أشعر به يجري على جسدي، وضعتُ يدي موضع الطعنة، نظرتُ فيها بهلع، إنه دمي!
أشعر بيديه تقلل من إحكامها حولي، ألمٌ شديد يغزوني خاصةً موضع الطعنة، في الحقيقة الألم ليس بسبب طعنة سكين أبي، فقد طعنني قبلها بمجرد شكّه، تصديقه واتهامه!
قضمتُ شفتاي لا أريد الصّراخ، فلم يعد له فائدة، أشعر ببرودة بدأت تتسلل داخلي، بدأتْ تتجمّد قدمايّ، لم تعد تحملاني، بدأتُ أهبط أرضًا، لكنّي تشبثت بجلباب أبي وعيناي تزرفان دمعًا، همستُ بصوتي المتحشرج: لماذا؟! في جميع الأحوال سأموت الآن لانتهاء أجلي، لكني لم أرغب أن يكون بسببك...
سكتُّ أحاول التقاط أنفاسي بصعوبة، تحول الجمع المشاهِد إلى صورة ضبابية لا أراها بوضوح، على أية حال لا يهمني رؤيتهم، هم فقط يحبّون متعة المشاهدة، تتبع عورات النّاس والخوض في أعراضهم.
لكن قاطعهم صوت رجوليّ كأنّي أعرفه، اقترب مسرعًا، أشعرُ بركضه، تحدّث قائلًا: يا عم، لماذا فعلت هذا؟! إن ابنتك بريئة، ليتكَ تأكدتَ قبل فعلتك هذه...
منذ يومين كان عليّ السفر إلى المدينة لأستلم عملي الجديد، كانت أمي مريضة تعاني من حمى شديدة، وكان الجو مطيرًا، لم أعرف كيف أتصرف! كيف أترك أمي المريضة وأرحل؟ وفجأة سمعتُ صوت همهمة أنثوية ملاصقةً لداري، تعجبتُ؛ فالطّقس سيّئ لا يشجّع على خروج أحدهم من بيته، لكنّي فتحتُ الباب، وجدتُها جالسةً جلسة قرفصاء بجلبابٍ رجالي مبتلًّا بماءِ المطر ملفوفًا رأسها بعمامة كبيرة، محتضنةً نفسها بارتعاشةٍ من شدة البرد، ظننتها في بادئ الأمر رجلًا من هيئتها الذكورية، لكن عقب دخولها إلى بيتي تفاجأت بكونها فتاة مزارعة، كانت قادمة من الحقل فانهمر المطر عليها، انتهزتُها فرصة وتركتها بصحبة أمي، وقد رحبتْ ابنتك بمجرد أن رأتْ حالتها، تركتهما معًا ورحلتُ، ومكثتْ ابنتك معها إلى اليوم التّالي حتى عُدتُ، وجدتُ أمّي قد تحسّنتْ بفضل اللّه ثم بسببها، البيت قد رُتب ورائحة الطّعام تملأ البيت، وبمجرد مجيئي استعدَّتْ، لفّتْ عمامتها وانصرفتْ مسرعةً دون أي حديثٍ بيننا، واللّه هذه هي الحقيقة! كيف تبعتَ اتهامًا باطلًا في حق ابنتك شرف؟! من أفتاك بحتمية غسل العار وقد قذفها بأبشع تهمة؟!
لم يجيب أبي عليه، فقط أسمع صوت بكاءه، أشعر بقطرات دمعاته تتساقط على وجهي تبللني، أريد التّحدث معه لآخر مرة، لكن قواي لا تساعدني، أفتح فمي دون إخراج أي صوت، بالكاد أنفاسي تخرج بثقل، يغلب على ظنّي أنها خرجت بلا عودة، هاهي الأصوات تتداخل دون تباين مثلما تداخلت الصورة...
لا أسمع في أذني إلا قوله تعالى: « وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ»
فأجبتُ بخفوتٍ: صدق اللّه، لا إله إلا اللّه!
أسلمتُ جفنيّ، اختفتْ كل الأصوات، حتى الآلام، إذن إنه النّفس الأخير...
تمت.
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top