~الفصل الثاني عشر: لعنَةُ كارما: وسواس قهري~


صدقَتْ أقْوالُ من جرَّبوا الغيبوبَةَ و ادَّعوا عدمَ فقدانِهِمْ لأحاسيسِهِمْ الشُّعوريَّةِ و هُمْ في خضَمِ معاركهِمْ مع شبحِ الموْت

أظنُّ أنَّ ما أمرُّ بهِ الآنَ هوَ ما يسمَّى بال'وعْي المشْلول' بالرَّغمِ من قلَّةِ و نُدْرَةِ من عانوا منهُ

أنا في كامِلِ قوايَ العقليَّة و الشُّعوريَّةِ بالرّغمِ من أنَّ إحساسي بأطرافي معطَّلٌ تمامًا، أنا حاليًّا أُنْصِتُ إلى حوارٍ لسْتُ طرفًا فاعِلًا فيه..لأنَّني لا يسعُني سوى الإنصاتُ

"نسيتُ سؤالَهُ عن سببِ شجاعَتِهِ و تضْحيَتِه التِّي آلتْ إلى تحويلهِ إلى نمْسيسٍ ممَّا يعتبرُ مخاطرةً بما أنَّ العوْدةَ إلى هيأةِ الإنسان ليستْ مؤكَّدةّ تمامًا، ما الذِّي قدْ يستدْعي منْ غريبٍ أن يفدي جسدَهُ إلى غرباء؟ ألمْ يخبِركَ بأيِّ شيءٍ بخصوصِ هذا الشَّأن جونْكوكْ؟"

سمِعْتُ صوْتها بدقَّةٍ عاليَةٍ و فهمْتُ مقصَدَها جيِّدًا و إلى منْ تعودُ كلِماتُها و كأنَّ السُّؤالَ موجَّهٌ لي لا لآخرَ

"لوْ فُزتُ فسأكونُ عظيمًا رابِحًا و لوْ خسِرْتُ فسأكونُ عظيمًا خاطرَ بحَياتِه، و كلاهُما لقبانِ يستحقَّانِ العناء و لي الشَّرفُ في أنْ أتَّصفَ بأحدهِما..كانَ هذا ما قالهُ سوكجينْ بعدَ أنْ فسَّرَ لي سببَ رغبتِهِ الملِحَّةَ في مساندتي له و...عُذْرًا لا يسعُني البوْحُ بالمزيد"

لماذا قلَّدني بتلكَ النَّبرَةِ النرجسيَّة البحتَة؟ أنا أتحدَّثُ هكذا؟ سأنتقِمُ منكَ عندما أستيقظُ لأنّكَ جعلتني أستاءُ و اغتبتني جونْكوكْ!

مهْلًا لحظَة! عادَ إليَّ الشُّعورُ بأطْرافي التِّي كانت شبهَ مختفيَة لدرجَةِ أنَّني شككْتُ لوَهلَةٍ في أنَّها مقطوعَةٌ لتحلَّ محلَّها أخرى آليَّة كخاصَّةِ جلِّ متساكني الكرة الثَّلجِيّةِ لا الكرةَ الأرضيَّةَ

تحمَّستُ أكثرَ ممَّا ينبغي و أقلَّ ممَّا يلْزَم، على ما أظنّ؟ لأنَّهُ عندما أردْتُ أن أحرِّكَ يدِي اليمْنى لمْ أنجحْ سوى في تسبيبِ رجْفَةٍ طفيفَةٍ بخِنْصَري...يا لها من حركةٍ مثيرةٍ للشَّفقَة!

عقَدْتُ حاجبَيَّ بمضَضٍ، سمِعْتُ صوْتَ صيْحَةٍ أفْرجَتْها ليسَا عن شفتيْها ففزعْتُ و أُزيحَ ذلِكَ الجَّبَلُ الثَّقيلُ عنْ جفْنيَّ ليَنْكمِشا تلقائيًّا و كأنَّهُما يرْغبانِ في الدُّخولِ إلى جسَدي للإحْتِماءِ بي و طلبِ إذنٍ الرَّاحةِ بعضَ الوقتِ منِّي فسمحْتُ لهُما بفعْلِ ذلِكَ و تركتُهُما مسدوليْنِ حاجبَيْنِ بندقيَّتيَّ عن الأنظارِ بغيْرَةٍ شديدةٍ

مرَّتْ لحظاتٌ و حانَ وقْتُ الوداعِ إذْ فتحْتُ عينيَّ تدريجيًّا، و تقبُّلُ ذلِكَ الكمِّ منَ النُّورِ كان صعْبًا عليْهِما فأدركْتُ لتوِّي سببَ كونِ خيْرِ الأمورِ أوْسطُها و السَّعادةُ أو الصحَّةُ هما من ضمنِ تلْكَ الأمور

"سوكجينْ! استيْقظْتَ؟ أتراني؟ أتسْمَعُني؟"
نطقَ جونكوكْ هذهِ الكلِماتَ بسعادةٍ و هوَ ينْكُزُ مواضِعَ عديدةٍ من وجْهي بسعادةٍ عارمة

ما فعلهُ كانَ مُزعجًا و صاخِبًا، و ما أزعجنِي أكثَرَ كانَ انعِقادُ لسانِي بسبَبِ المجْهولْ

لاليسَا كانَتْ قدْ ركضَتْ بعيدًا في تزامُنٍ معَ اخْتِراقِ أوَّلِ شعاعٍ ضوئيٍّ لحدقتيَّ، و عندما عادت إلى الغُرْفةِ بعْدَ لحظاتٍ و معهَا أحدُ العمَّالِ في مركزِ المناعةِ علمْتُ سببَ اختفائِها الذِّي اعتبرْتُهُ في البداية غيرَ مبرَّرٍ

"أترى ما أراه بعينيّ؟ هوَ بخيْرٍ صحيح؟ جونكوك أنتَ كذلكَ ترى نفسَ الشَّيءِ صحيح؟"

اتَّخذَ جسدُ ذلكَ الشَّخْصِ لهُ وضعيَّةَ التِّمثالِ كي يمثِّلها، ينظُرُ إليَّ و مقْلتاهُ تتوهَّجانِ طفيفًا فعلِمْتُ أنَّهُ يحلِّلُ وظائفَ أعضائي الداخليَّةَ، ثمَّ نظرَ إلى جونكوك بطريقَةٍ أرعبتْني كما أرْعبَتْ ليسَا، على ما يبدو!

"نعمْ هوَ بخيْر!"
نبسا بتلكَ الكلِماتِ في آنٍ واحدٍ قاصِديْنِ بذلِكَ المزاحَ رغمَ أنَّ ملامحهُما كانَتْ تنفي المقْصَدَ، أمَّا عن كلُويهْ فقدْ تأفّفتْ بانْزِعاجٍ سرْعانَ ما أضْحى ابتسامةً لطيفةً وليدة سعادةٍ بعوْدَتي.. على ما أظنّ!

                                 ***

أسبوعانِ مرَّا بعْدَ عودتي من الغيبوبة...

"سوكجينْ! لستَ أنْتَ فقطْ سبب دمارِ الكوْكَب، لا تشعُرْ بالذَّنب!"

تكلَّمتْ فجأةً فنظرتُ إليْها بعْدَ أنْ كنْتُ شاردًا في المنْظَرِ الطَّبيعيِّ الخلَّابِ أمامنا و الذِّي كان لي الشَّرفُ في الجُّلوسِ أمامهُ على مدرَّجاتٍ مصنوعةٍ من الجَّليد الجافِّ المغطَّى بجلدِ الماموثِ

بالرَّغمِ من أنَّ الرِّياحَ كانتْ عاتيةً ممزوجةً بأوراقِ كارْما و بقطراتٍ من النَّدى التِّي كان لها الفضلُ في ترطيبِ أماكنَ لطماتِ تلكَ الأوراق لوجهيْنا، كنتُ مبتهِجًا، أمامَ شجرةِ كارْما التِّي كانتْ جذوعُها مجاوزةً لما أدعوهُ بالأوزون، لا نهايةَ لها و بدايتُها مجهولٌ عمقُها كسببِ ظهورِها...لربَّما كانتْ متَّصلةً بشجرةٍ أخرى مطابقَةٍ لها و تمتدُّ على الجَّانبِ الآخر للكوكب..من يعلم؟ مجرّدُ التخيُّلِ جميل!

"ما الذِّي تقولينهُ؟"

بعدَ أنْ سألتُها عنْ مقصدِها أعدْتُ بصَري الذِّي اشتاقَ إلى كارما إلى رؤيةِ أكثرِ ما راقهُ في هذا المكانِ

استطعْتُ سماعَ صوتِ تنهُّدِها بقلَّةِ حيلةٍ، قبلَ أن تُشبِعَ فضولِي
"أظنُّ أنَّني حدَّثْتُكَ عن برْمودَا من قبْل، سأُخْبرُكَ الآن بماهيَّتِها"

تناولَتْ من جيبٍ صغيرٍ بمعْطَفِها ورقةً تبيَّنَ لي أنَّها خريطةٌ عندَما فتحَتْها و كادتْ أنْ تقدِّمْها لي، لكنَّني أوقفْتُها بقوْلي
"كلّا شكْرًا! الجَّميعُ يعرفُ برمودا..
هوَ مكانٌ ملعونٌ بالنِّسبةِ إلى البعْضِ، مكانٌ مخصَّصٌ للفضائيِّينَ بالنِّسبةِ إلى البعضِ الآخرين، و مثلّثٌ نتجَتْ فيهِ كميات كبيرة من المياه الرغوية ذات الكثافة المنخفضة والتي ليس بوسعها حمل وتوفير الطفو المناسب للسفن لأسباب طبيعيّة بالنّسبةِ إلى المثقَّفين
أمَّا عنْ نفْسي، فبعْدَ دراساتٍ معدوداتٍ تبيَّنَ لي أنَّها منطقةٌ عاكسةٌ للجاذبيَّة و...نوعًا ما هي بوَّابةُ زمن، لكنْ أخبريني أنتِ عن سببِ كوْنِها كذَلِكَ لو كُنْتِ تعرفين، زيديني علْمًا"

أعادتْ الخريطةَ إلى مكانِها في ملابسها المشابهَةِ إلى خاصَّتي البدائيَّةِ بعضَ الشَّيء، لكنَّها تفي بالغرض، بما أنَّ بدلتي الممزَّقة قدْ تحمَّلت الكثير

"برمودَا في الواقعِ هوَ موقعٌ استراتيجيٌّ لانطلاقَةِ الصِّناعةِ و الاختراعات، و في مرحلةٍ ثانيةٍ هوَ مصْيَدة
لنعُدْ بالزَّمنِ إلى الوراء بما أنَّني متيقِّنةٌ من أنَّ كلماتي تبدو لكَ إلى حدِّ الآن ضبابيَّةً

جدِّي جاءَ إلى هنا مع العديدِ من أصدقائه، كانتْ الآلةُ التِّي استعملوها في البداية للسّفرِ عبرَ الزَّمنِ ضخمةً مهولةً، ثمَّ عندما تحطَّمتْ انفردَ جدِّي بقطَعِها ليصْنعَ منْها آلةً صغيرةً يهربُ بها لوحدهِ لاحقًا في السرِّ..

المهمّ! عندما بدأوا بالاستكشاف هنا وجدوا أنَّ الجَّليدَ في منطقةٍ ما، محيطُها مثلَّثُ الشَّكْلِ، كانَ بمثابةِ معدنٍ من أقوى المعادِن لا جليدًا

كانتْ هناكَ جاذبيَّةٌ كبيرةٌ في برمودا بسببِها تمكَّنتْ الأرضُ من أنْ تكونَ كمثَلِ مغناطيسٍ يسحبُ النَّيازِكَ نحْوَه، و كعالِمٍ يفْترضُ بكَ أنْ تعلمَ أنَّ النَّيازِكَ هي المصدَرُ الرَّئيسيُّ للحديد

تدريجيًّا تمَّ سحْقُ النَّيازِكِ لتصيرَ مزيجًا صلبًا متجانسًا، ترابطَتْ جزيئاتُ الحديدِ أكْثرَ و أكْثرَ بفضلِ قوى الجاذبيَّةِ ليصيرَ أكثرَ صلابة، ناهيكَ عنْ اكتسابِهِ لصفَةِ البرودَةِ بسببِ المحيط، لكنَّ الجديرَ بالذِّكْرِ هوَ أنَّ ذلِكَ المعدنَ كانَ يشكِّلُ عازلًا بينَ النَّاس و الجاذبيَّةِ إلى أن أبطلَ الأخيرةَ تمامًا فأُخمدتْ قواها من بعدِ ذلكَ بفترةٍ قصيرةٍ جدًّا فتوقَّفَ ذلكَ التَّلفُ الذِّي كانَ مُحْدَثًا بال'إيزونشيما' عن النموِّ أكثرَ و أكثَر

تمَّ حفرُ أرضِ برْمودَا بمعدَّاتٍ خاصَّةٍ بغيَةَ استعْمالِ ثروتِها الطّبيعيَّةِ في صناعةِ ما سيكسِبُ المُجرمينَ ثروةً بمفهومِ البشَر، مع موادَ أخرى مضافةٍ تمَّ جلبُها من شتَّى المناطِقِ في الأرضِ بعدَ حفرِها بلا أدنى رحمةٍ

كما قلتُ مسبقًا، الآلةُ التِّي استُعمِلَتْ في الإنْتِقالِ إلى هذا الزَّمانِ كانتْ ضخمةً حرفيًّا، حَملتْ الكثيرَ من الأطعِمَة التِّي لا يُمْكِنُها أن تفسُدَ مهما حدث، الكثير من محاليلِ التغذيةِ لتعوِّضَ المأكولاتَ فورَ نفاذِها، كبسولاتٌ تنشِّطُ الخلايا و تغذِّي الكريَّاتَ الحمراء، و أخيرًا و ليسَ آخرًا كاشف الرّطوبة، و هيَ آلةٌ تحوّلُ بخارَ الماءِ أو الرّطوبةَ في الجوِّ إلى مياهٍ صالحةٍ للشُّربِ

لكِنْ دعْنا لا ننْسى أنَّ الأرضَ أوْسعُ من الآلةِ و حتمًا ستحملُ بشرًا أكثرَ ممًّا تحملُهُ الأخرى من طعامٍ، بشرٌ يحملونَ بدواخلِهِمْ صفاتٍ و أفعالٍ جنونيَّةٍ تبرُزُ أوقاتَ التَّهديدِ أو الحاجة الملحَّةِ، و في هذا السِّياقِ أتحدَّثُ عن الحاجةِ إلى السَّرقة لإيثارِ النّفسِ على مالكي ما هوَ مسروق... البشرُ هنا استغلُّوا فرصةَ نومِ أبي و أتْباعِه و سرقوا كلَّ شيْءٍ

"سرقوا كلَّ الطَّعام؟ إذن ما كانَ هناكَ منْ سبيلٍ للنّجاةِ صحيح؟"

تساءلْتُ في نفْسي، و هي ضحِكَتْ و كأنَّها تقرأ أفكاري، أو لربَّما فكَّرتُ بصوتٍ عالٍ بالفعل؟

المهمُّ أنَّها تلوَ ذلِكَ استأْنفَتْ الحديثَ
"أتظنُّ أنَّ جدِّي و رفاقهُ قد استسلموا؟ أتظنُّ أنَّهُمْ قرَّروا العوْدةَ أدراجهُمْ رغمَ أنَّ الأمرَ كان شبْهَ مستحيلٍ بعْدَ تحطُّمِ الآلة؟

كلَّا لم يفعلوا ! بل قرَّروا أن يستعملوا برمودا كمصْيدَةٍ لحيوانِ الماموث، و بخطَطٍ متقَنَةٍ...

تراكمَتْ الجُّثَثُ فوْقَ بعْضِها البعْضِ بسرْعَةٍ نظرًا لكوْنِ ذلِكَ الحيوان كان متواجِدًا بكثْرَةٍ على سطْحِ الأرضِ في مرحلَةٍ ما من الزّمن، قبلَ أنْ يصيرَ في يومِنا هذا مهدَّدًا بالانقراض...و كما أخبرْتُكَ مسْبقًا، دمُهُ عاكسٌ للجاذبيَّةِ، خصوصًا بعدَ تخثُّره! و من المرجَّحِ أنَّ الجاذبيَّةَ ستبقى معدومةً هناكَ نظرًا لشدَّةِ القوَّةِ المعاكسَةِ لها، و التِّي كانتْ السّببَ الأوّل و الرَّئيسي لتدمير ال'إيزونشيمَا'

تأتي أنْتَ و بقيَّةُ العُلماءِ في المرْكَزِ الثَّاني لأبرزِ الأسبابِ المساهِمَةِ في تدميرِ ال'إيزونشيمَا'، فالجاذبيَّةُ و نقيضُها فتَّاكان

لكنَّ السَّبب الرَّئيسيَّ للدَّمارِ القادِمِ و مكانُ انطِلاقَتِهِ هوَ نفسُهُ الحلُّ للنَّجاة..

نحنُ نبني 'أطلانطِسْ' أسفلَ برمودَا، تحْتَ الأرض..لأنَّنا نؤمِنُ بأنَّ تلْكَ الطَّبقَةَ الرَّقيقةَ منَ المعدَنِ العازلَةَ لدماءِ الماموثِ عنَّا و التِّي لمْ نستغلَّها في بحوثِنا ستقينَا من حرارةِ الشَّمسِ معَ مساعدةٍ منَ الجاذبيَّةِ المعكوسَةِ التِّي ستقطَعُ خيوطَ تلكَ السَّبيكَةِ الذهبيَّةِ الضَّخْمَةِ و تمنعُها من تقييدِ أرواحِنا و تقديمِها كقربانٍ إلى الموْت، ستكْفي لتكونَ لنا سقْفًا يحمينا و نعتمدُ عليه"

كنْتُ أُصْغي إليها بإمعانٍ مبتسمًا مُعْجَبًا بتبادُلِ الثَّقافاتِ من عصرٍ إلى آخر، و كالعادةِ رغمَ الشاعريَّةِ و مدى تأثيرِ الأجْواءِ و الكلِماتِ على الوجْدانِ خرجتُ عن السِّياقِ بسؤالٍ شتَّانَ بينَهُ و بينَ ما قيلَ من قبْلِه

"ليسَا أتحصُلونَ على عُطلٍ؟ إجازة؟ أقصد..أيّامٌ تمسكونَ فيها عن العمل و ترتاحون خلالها قليلًا؟"

فكَّرَتْ مُطوَّلًا، ثمَّ نفتْ برأسِها عاقدَةً حاجِبيْها و أجابتْني بتذمُّرٍ
"كلَّا...لمْ أنْجَحْ في إقناعِهِمْ بترْكِ العملِ قليلًا، همْ حتَّى يقطعونَ أطْرافَهُمْ أو يُؤذونَ أنفسَهُمْ أثناء سهوِهِمْ أو نعاسهِمْ أثناء تأديتِهِمْ لوظائِفِهِمْ، و لأنَّ الجّراحةَ ممنوعَةٌ يكتَفونَ بالقطعِ و تعويضِ الأطرافِ بأخْرى آليَّةٍ متطوِّرَةٍ، كما سبقَ و أنْ رأيْت"

فاجأتُها عنْدَما وقفْتُ بغتةً انسياقًا إلى اندفاعِ مشاعِري و أفْكاري، و زدْتُ من اتِّساعِ حدقتيها بقوْلي

"دعينا نقيمُ لهُمْ حفْلًا..ليوْمٍ واحدٍ فقطْ بحجّةِ أنَّني أحتاجُه"

كادتْ أنْ تردَّ عليَّ لكنَّني أصررْتُ على موقفي
"دعي الأمرَ لي..لوْ سمحْتِ"

                                 ***

جلسْنا حوْلَ العازفينَ حلقةً، لا أعلمُ مسمَّى آلاتهمْ الموسيقيَّةِ و لكنَّ ليسَا أخبرتْني بصوْتٍ خافتٍ أنَّ المادَّةَ الأساسيَّةَ المسْتعْمَلَةَ في صنعِهِمْ هيَ أنيابُ الماموثِ... إذن هوَ العاج صحيح؟ بما أنَّ الماموث من سلالةِ الفِيَلة...ربَّما!

كنَّا آلافًا خُلِقَتْ بيْننَا أُلْفةٌ تدغدغُ القلْبَ بلُطْفٍ، جالسونَ على مدرَّجاتٍ مصنوعةٍ للغرضِ، لكنَّها للأسفِ هُجِرَتْ من قِبَلِ المُستَمعينَ الذِّينَ فضَّلوا الهُيامَ بالعِلْمِ على عشْقِ الفنِّ

لنْ أقولَ أنَّها أفضلُ معزوفةٍ موسيقيَّةٍ سمِعْتُها يوْمًا و لكنَّها بدَتْ لي الأنْقى، نقيَّةٌ كنقاءِ الجَّليد، على عكسِ الهواءِ الذِّي تلوَّثَ قليلًا بسببِ الاختراعات

صفَّقتُ فجْأةً ثمَّ نهضْتُ عنْ مقعَدي و دنوْتُ من العازفينَ الذِّينَ توقَّفوا عنْ النَّفخِ في فوهاتِ آلاتِهِمْ الصَّغيرَةِ اللَّطيفةِ

أمسكْتُ واحدةً منها و استعْملتُها بطريقَةٍ عشوائيَّةٍ محدِثًا نشازًا مزعِجًا، و الغريبُ في الأمْرِ أنَّ هندسَةَ هذا المكان المعماريَّةَ كانَتْ تسْمَحُ للجميع بالإستماع إلى صوتِ آلةٍ صغيرةٍ مهمَا كبُر عددُهُمْ و طالتْ صفوفُهُمْ

"أنا سوكْجينْ! طبيب، عالِمٌ، مخترعٌ، عاشقٌ، وحيدٌ، هناكَ من يدعمونهُ و أضعافُ أضعافهِمْ يخالفونَهُ في الأفكار
كنْتُ مريضًا، بدونِ مناعةٍ، بدونِ عظامٍ صلبةٍ تهبُ جسدي هيكلًا متناسقًا، بدونِ جلدٍ أو عضلاتٍ أوْ أيِّ شيءٍ يحميني و يصِلُ بينَ أعضائي بحيثُ أبتعدُ عن الخطِّ الأحمَرِ رمزُ التّهديدِ بالقَتْلِ...و القاتِلُ هنا هوَ نفسُهُ أنا"

فركْتُ صدغيَّ بلطْفٍ و تنهَّدتُ بتوتُّرٍ ثمَّ أضَفْتُ
"تعبتُ، مرضتُ، تعذَّبت، لكنَّني بالحبِّ صرتُ أفضل، أقوى، أذكى، تعلَّمتُ المواجهة بالعواطف لا بالمادَّة و الجَّسد، الجَّسدُ لمنْ كانَ و كيفما كانَ تكفيهِ شرارةٌ من العنايةِ و ستتأجَّجُ بداخِلِهِ نيرانٌ نهِمَةٌ تحرقُ كلَّ طاقةٍ سلبيَّةٍ تعترضُ طريقها

اعترفوا إلى بعضكم البعض بمشاعركُمْ! أحبُّوا بعضكم! أسقطوا الأقنعةَ عنْ أنْفُسِكُمْ الحقيقيَّةِ و لوْ كانَتْ الحقائقُ مرَّةً! ابكوا و تحدَّثوا و تشاجروا! لكن في النِّهايةِ أحصلوا على حضنٍ جماعيٍّ دافئٍ"

اقترَبْتُ من تلكَ الصَّغيرَةِ التِّي لعِبْتُ معَها  ذاكَ اليوْم و سحبْتُها من ذِراعِها بلُطْفٍ إلى مركَزِ ساحةِ الرَّقصِ و العزفِ دائريَّةِ الشَّكل، ثمَّ نكزْتُ ذراعها بلُطْفٍ فبادلتْني الإبتسامة بأخرى مرتبكة، و التمستْ منِّي بعضَ الشَّجاعَةِ عندما خلَّلتْ أصابِعَها في خاصَّتي فحبسْتُهُمْ داخلَ يدي بقوَّةٍ مؤذِيةٍ لتوتُّرِها لا لجسدِها

غنَّتْ! بصوْتِها البريءِ الباكي
أنا صفّقتُ! بصوْتٍ خافتٍ استغْربَ منْهُ الجَّميعُ كما استغربوا من فعلتي، لكنَّ صدمَتهُمْ صارتْ أضخَمَ عندَما انضمَّ جميعُ أطْفالِهِمْ تقريبًا إلى الصَّغيرَةِ عذبَةِ الصَّوت

كلماتٌ مشجِّعةٌ على الحبِّ و الوئامِ تردَّدَ صداها في الأرجاء، قشعريرةٌ اجتاحَتْ جسَدي و اتَّخذَتْ دموعي لها رهائِنَ ما فتِئتْ تجبرُهُمْ على التَّساقُطِ على الأرْضِ أسفلي فتُدثِّرُ الأرْضَ قليلًا عندَ احتضانِها، قبْلَ تجمُّدِها مجدَّدًا

شيْئًا فشيْئًا بدأَتْ نيازكُ المعدَن، أساسُ المصائب، بالانزياحِ عن ضمائِرِهِمْ كيْ ينفِّسوا عمَّا بدواخِلهُمْ من مشاعر...البعْضُ بكوا، تعانقوا، اعتذروا، البقيَّةُ رحلوا من المكانِ بلامُبالاتٍ، و كلتا المجموعتين لم تضُمَّا عددًا قليلًا من النّاس

سعدْتُ بالجَّميعِ معي كانوا أو ضدِّي، لأنَّني على يقينٍ من أنَّ الجزء اللوَّامَ في أنفسهم قد استيْقَظ

ألقيْتُ نظرةً خاطفَةً على ذلِكَ الآليِّ الذِّي أخفيتُهُ في مكانٍ متطرِّفٍ بعيدٍ عن أعيُنِ الجَّميعِ ما عدا عيناي أنا، و ابتسَمْتُ بانتصارٍ عندما لاحظْتُ ذوبان هيكلِهِ شيئًا فشيئًا إلى أن اختفى و كأنَّهُ لم يكُنْ، ليتبقَّى منهُ فقطْ ذلكَ الصُّندوقُ الشفَّافُ المملوءُ بترياقِ النِّمسيس أخضر اللَّون...المشكِلَةُ حُلَّتْ تقريبًا، سيعودونَ إلى بشرٍ، سيوهَبونَ فرصَةً أخرى، بعضُهُمْ سيخونونَها و سيصيرُ السِّجنُ مأواهُمْ، لكنَّ البعضَ الآخر سيستغلُّونها في أعمالٍ صالحةٍ ستجعلُني أفخرُ بما فعلْتُ

   
                                 ***

"جينْ أتُريدُ الخروجَ معي لمراقبَةِ تطوُّراتِ تجهيزاتِ أطلانطس؟!"

لفظَتْ بقوْلِها بصوتٍ صاخبٍ في تزامنٍ مع اقتِحامِها غرفتَهُ دونَ سابق إنذارٍ، ثمَّ تردَّدَ النَّفسُ في حلْقِها عنْدَما أدركَتْ أنَّها متطفِّلةٌ و تآكلَها الحماسُ ما إن وقعَ بصرُها على جسَدِهِ المتجمِّعِ على ذاتِهِ أسفلَ الغِطاءِ فبدى كنِصْفِ دائرَةٍ مشوَّهةٍ

ليسَا ضحِكَتْ بصوتٍ خافتٍ و أخذَتْ تسيرُ نحوَهُ ببطءٍ شديدٍ في تزامنٍ مع طرْحِها لسؤالٍ بديهيٍّ عليه
"لماذا ترتجِفُ مفزوعًا هكذا؟ أكِدْتُ أن أرى شيئًا ليسَ عليَّ رؤيتُه؟"

نكزَتْ جسدَهُ بإصْبَعِهَا في مناطقَ عديدةٍ بغيَةَ دفعِهِ إلى التحرُّكِ لكنَّهُ لم يفعلْ و جعلها تقْلق، و ترفَع عنهُ الغطاءَ الذِّي كان متمسِّكًا بنفسِها...إجباريًّا

"ليسَا..أ..أعيدي..أ..أنا أشعر"
تلكَّأَ في نطقِهِ و تفوَّهَ بترَّهاتٍ فلمْ تفْهَمْهُ و زادَ قلقُها، خصوصًا و أنَّ عيناها أخبرتاها بأنَّ الحرارة في جسدِهِ فاقتْ ما ينبغي عليْها أن تكون، معدَّلُ ضرباتِ قلبِهِ ارتفعَ، فنتجَ عنْ ذلِكَ لهاثٌ و صعوبةٌ في التقاطِ الأنفاس في آنٍ واحدٍ

" ما بك؟"
لمسَتْ وجنتَهُ بيْدَ أنَّها سرعانَ ما أبعدَتْ يدها صارخةً عندما استشعرتْ حرارة جسدهِ سطحيًّا و لكن بصفةٍ كافيةٍ لاستيعاب المصيبةِ، لاستيعابِ أنَّ الآثار الجانبيَّة المُحتمَلةَ لآلةِ المامسانْ قد ظهرتْ على شخصٍ واحدٍ فقطْ منذُ اختراعِها، على جسدِ المحظوظِ كيم سوكْجينْ

                                 ***

"ماذا؟"
نطقها جونكوك بفظاظةٍ، كانَ شبْهَ نائِمٍ و يتثاءبُ علَّ الهواءَ يُنشِّطُ عقلهُ قليلًا، لكنْ لا حاجةُ لهُ إلى الهواءِ لأنَّني دفعْتُهُ إلى الدَّاخلِ بطريقةٍ تفضَحُ كوْني شخصًا مُصابًا بإعْياءٍ شديدٍ هاربٍ من سريرهِ الدَّافئ

"سوكجين؟ ماذا تفْعلُ هنا؟"

ألتوِّكَ انتبهْتَ إلى أنَّني سوكجين يا أحْمَق؟

"و ما هذا؟"
هوَ أشارَ بسبَّابتِهِ إلى وجْهي و ما هو ظاهرٌ من بشرتي بتقزُّزٍ شديدٍ ففهِمْتُ مقصده
"هوَ طفحٌ جلديٌّ من الطَّبيعيِّ أن تخلِّفهُ الحمَّى الشَّديدة في الجَّسدِ بعد أن تزول، لكن لا تقلق سيختفي"

نظر إليَّ باستغرابٍ ثمَّ ألقى بثقلِهِ على سريرِهِ و سألني بصوتٍ مكتومٍ
"متى ستُشْفى تماما؟ الحمى تنهشُ جسدكَ منذُ شهرٍ!"

جلستُ القرفصاء رافضًا فكرةَ لمسِ السَّريرِ بما أنَّني صرتُ أمقته، و أجبْتُهُ
"لذلِكَ أتيتُ إليكَ...أريدُ أن نخرُجَ إلى التنزُّهِ قليلًا..رجاءً  هيّا! هيَّا"

انتحبْتُ بطفوليَّةٍ فنظرَ إليَّ شزْرًا و صبَّ جام غضبه عليَّ
"ألِمَا تفعلُهُ الآن فائدة معيَّنة؟ ماهو هذا الشَّيءُ أصلًا؟! الذي تقوم به"

آسفٌ نسيتُ أنَّهُ ليسَ للطافةِ مكانٌ في قاموسكُمْ، لكنْ لم يكُنْ عليْكَ أن تكونَ سيِّئًا إلى هذهِ الدَّرجة، كسرْتَ قلْبي!

كلَّا لقد ظلمتك! لأنَّكَ أعدْتَ تجميعَ قطعِهِ و تسبَّبتَ في جعلِ استيائي يتقهقر
"إذًا لقدْ ارتديْتَ نصفَ ملابسِكَ بالفعل...أنت جاهزٌ لنذهب!"

  
                                ***

"جونكوك أنا أدخل!"

كالعادةِ اقتحَمتْ غرفتَهُ دونَ طلبٍ للإذن، و تعجَّبتْ من خلُوِّ السَّرير

"جونكوك!"

نادتْهُ مجدَّدًا لكن ما من مجيبٍ

"أينَ هُوَ؟"
تساءلتْ في نفسِها و كادَتْ أنْ توصدَ البابَ و لكنَّ شهقةً شدَّتها إلى الدَّاخلِ مجدَّدًا عندما فرَّت من بين شفتيْ أحدِهُمْ

ليسا سارتْ بخطواتٍ متثاقِلَةٍ نحوَ مصدرِ الصَّوتِ، ليسَ خوفًا من صاحبهِ و لكن خشيةً من أن يكون قد أصابهُ مكروهٌ آخر، و نعمْ بالفعْلِ أصابهُ مكروهٌ آخر!

كانَ جالسًا على الأرضِ ضامًّا رجليهِ إلى صدرِهِ مخفيًا رأسهُ بينَهُما
"أ..أنا ارتكبتُ إثمًا لا يُغْتفرُ"

بالرّغمِ من التَّأتأة و الصّوتِ الخافتِ هي فهمَتْهُ، و جلستْ القرفصاء أمامهُ، ثمَّ سألتْهُ بلطْفٍ شديدٍ بعد أن اتّخذتْ قرار مسايرتِهِ لتستقي منْهُ المعلوماتَ

"الخدمُ أخبروني بأنَّكَ خرجتَ للتنزُّهِ مع جونكوك، هل استمتعتما؟ و أين هو؟"

"أنا أثقلُ وزنًا و أكثر حُمْقًا من التذكُّرِ و توجيهِكِ إلى مكانِ تواجُدِه"

طفحَ كيلُها فهزَّتْ جسدَهُ ليُحدِثَ صوتًا قويًّا بمجرَّدِ ملامسة ظهْرِهِ للجِّدارِ، أمَّا عنٍ ليسا فقدْ فرَّتْ الدِّماءُ من وجهِها خوفًا من المشهد الذِّي ظهر لها فجأةً

جسدهُ صارَ ضخْمًا ممتلئاً بالدُّهونِ و العضلاتِ بدونِ مساواةٍ في الكميَّةِ من بينَ منطقةٍ و أخرى، عيناهُ متورِّمتانِ الواحدَةَ أكثرَ من الأخْرى و الأولى انخفضَ مستواها بطريقةٍ غيرِ طبيعيَّةٍ لتستقرَّ في خدِّهِ المترهِّل،ما بجوْفِهِ كان يتحرّكُ و يهتزُّ بداخلهِ بصفةٍ مرعبَةٍ، و الدُّموعُ المنهمرَةُ على وجههِ زادتْ الأمر سوءًا عندما تسبّبتْ في احمِرارِ عينَيْهِ

"م..ما..من..أنت؟"

فقدَتْ توازُنَها فوقعَتْ على ركْبتَيْها، و رغمَ كلِّ شيْءٍ هيَ زحفَتْ نحوَهُ بهلعٍ لتلمِسَ جسدَهُ الذِّي صارَ كالعَجينِ القابلِ للتَّشكُلِ، معَ صوتٍ طفيفٍ مسموعٍ بالرَّغمِ منْ أنَّهُ من الدَّاخلِ، تحديدًا جهةَ العظامٍ المفتَّتة

"لمْ يكُنْ جسدِي هوَ المريضُ ليسا.أوْ على الأقلِّ ليسَ جسدي فقطْ هوَ المعتلُّ"

بسخطٍ ضربَ رأسَهُ على الجِّدارِ و أضاف
"أنا مصابٌ بوسواسٍ قهريٍّ مكنَّنٍ خلْفَ جنونِ العظمَة"

أخذها الجُّنونُ أيَّما مأخذٍ فضحكَتْ و بكتْ في آنٍ واحدٍ لإطاعةِ دواخِلِها و لمسايرَةِ سوكجين في آنٍ واحدٍ
"م..ماذا...فعلت؟"

"لعنةُ كارْما تعمَلُ جيِّدًا... أنا أُعاقَبُ على قسوَتي على جسَدي طيلةَ هذهِ السَّنوات...لكِنَّني لم أدفَعْ الثَّمنَ لوحْدي

جونكوكْ بجانبِ آلةِ المامسانْ..أرجُو أنْ تجديهِ على قيْدِ الحياة"

بصقَ الدِّماءَ من فمِهِ بعْدَ أنْ تحمَّلَ طويلًا، لكنَّ سعَةَ ثغرهِ لم تكفي لإخفاء المزيد من الدِّماءِ عن ليسا، كروحِهِ تمامًا التِّي بدأتْ تُغادِرُ جسدَهُ دونَ أنْ تودِّعَهُ و تُحضِّرهُ إلى ما يحدُث حتَّى

~يتبع~

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top