~الفصْلُ الرَّابع عشر: النّهاية: خُدْعةٌ و اخْتِفاء~


"سوكْجينْ كان كثير السُّؤال، طامعًا في فهمِ طريقةِ سيرِ الحياةِ علَّهُ ينظِّمُ تشوُّشَ عقلِهِ و تضارُبَ أفكارهِ عندَ مُحاكاةِ الطَّبيعةِ منْ حولِه، لكن ما خفيَ عنهُ كان أنَّ هناكَ أشياءٌ نتعلَّمُها من تجارب شخصيَّةٍ فقطْ دون حاجةٍ إلى التحلِّي بصفةِ الفضول المزعجةِ بالنِّسبةِ إلى النَّاسِ من حولِنا، لوكاس كان عاشقاً مُزيَّفًا لأنَّ حبيبتَهُ كانتْ بمثابةِ سقفٍ يحميهِ لا شريكةً أسفَلَ سقفِ دارِه، لذلكَ لمْ يكفيهِ حبُّها، بلْ كانَ يبحَثُ عن الشَّريكةِ المفقودة، الصحَّة الجيِّدة...و لو أنَّهُ من الطَّبيعيِّ الطَّمعُ فيها، و لكنَّهُ طمعَ في الصحَّةِ بتهوُّرٍ و شراسة، بأنانيّةٍ

أعزّائي! جينْ كانَ جشِعًا، إلى درجةِ أنّهُ لم يكن يمانعُ أن يكونَ فأرَ تجارب لاختِراعه، لأنَّهُ كان يخشى أن يحصل شخصٌ آخرٌ على المجدِ لو رحلَ مكانهُ إلى المستقبل، كان يخشى الموتَ بجسدهِ الضَّعيفِ قبلَ أنْ يقطفَ ثمارَ أتعابِه!
كان يخشى أن يصيرَ من المؤكَّد أنَّهُ شخصٌ لا فائدة من وجوده..

ثمَّ بدأ يتعلَّمُ من الماضي، تعلَّمَ أنَّ حدثًا واحدًا قدْ يحفظُ الحيواتَ عندما منع رجلٌ ما الآليِّينَ من قتله، تعلَّم أنَّهُ عليه تركُ مكانٍ للتضرُّعِ بدلًا من كثرةِ إعمالِ العقلِ دونَ نتيجةٍ تُذكرُ خلفَ ذلكَ، تعلَّم أنَّ أغنيةً بإمكانها قلبُ الواقعِ و أنَّ الشَّجاعةَ ليستْ في أن تلقي بنفسِكَ في النَّارِ بل الشَّجاعةُ تكمُنُ في الجُّلوسِ أمام النَّارِ و تجاهُلُ تعليقاتِ السَّاخرينَ و المستفزّين إلى أن يُخمدَ اللَّهبُ بفعلِ برودِك

تعلّمَ التّضحيَةَ من ليسَا و الصَّداقةَ من جونكوكْ و البراءة من ليلان الصَّغيرَة...و أخيرا تعلَّمَ النَّدم!

عاشَ في ألمٍ و خيبةٍ و رغبةٍ في إعادة الزَّمنِ إلى الوراءِ للحصولِ على قبلةٍ أو لمسةٍ، لكنَّ الخلل يكمُنُ في كونهِ سيكرِّرُ فعلَ نفسِ الشَّيءِ لو تحقَّقتْ أحلامُهُ بالفعْلِ و عادَ الزَّمنُ إلى الوراء، تساؤلاتهُ و شكوكهُ هي التّي صارتْ شريكةً لهُ لا صحّته، أليسَا هي حفيدةُ ليسَا الأُخرى؟ هل باختفاءِ الأولى من الماضي انقطع النّسل؟ أكانتْ ستنجبُ لو لم يذهبْ إلى زمانِها لتصبحَ حبيبتهُ من ذريَّتِها؟

لكنَّهُ لمْ يسمحْ للنّاسِ برؤيَةِ ضعفه! بل قاوم و قاوم!

عمِلَ جاهدًا لعلاجِ العالمِ و العقليَّاتِ المتخلِّفة و المريضة، و شعارهُ هو 'تغييرُ العالمِ بالعمل الجادِّ و النّقدِ البنَّاء'

و ها هُوَ الآن أمامكُمْ... أنا! كيم سوكْجينْ!"

نطقَ اسمهُ بصوتٍ عالٍ بعضَ الشَّيءِ، رجلٌ أصابتْهُ الشَّيخوخةُ لكنْ لمْ تُطفئْ نشاطه، خصلاته الرَّماديَّةُ الممتزجةُ بالشِّيب مشذّبةٌ و ممشّطةٌ بطريقةٍ جعلتْهُ جذَّابًا كثيرًا مقارنةً بسنّه، بدلةٌ سوداء ضخمةٌ احتضنتْ جسدهُ الرِّياضيَّ الذِّي وهبَ المراحلَ العمريَّة سخريةً صريحة مباشرةً لاذعةً، أمَّا عيناهُ فلمْ تخسرَا نظرتهُما الأخَّاذة للأنفاس، و جلستُهُ لم تفقدْ استقامتها التّي عكستْ جديَّةَ و رُقيَّ صاحبها

"سيّد سوكجين..هل تقصدُ بكلامكَ أنَّ تجربتكَ في الثُّقوب السّوداءِ مقبرةِ التَّاريخِ كانت سوداويَّةً سيّئة؟'

سألهُ أحد الصحفيِّينَ فزادَ وميضُ آلاتِ التَّصويرِ في نفسِ الوقتِ و كأنَّ الجمادَ نفسهُ متحمِّسٌ إلى الإجابة

"ألم أقلْ أنَّني لستُ نادمًا؟ ألا يكفي هذا لاستنتاجِ إجابة لسؤالك؟"

"إذن هلَّا أخبرتنا الآن عن سببِ تركِكَ للشَّركَة إلى ابنِكَ بالتبنِّي السيِّد 'كيم جونكوكْ' فكما يعلمُ جميع من في القاعة قرارُكَ هذا أحدثَ ضجّة مهولةً"

صحفيَّةٌ طرحتْ هذا السُّؤالَ عليهِ فأجابها بسرعةٍ و كأنّهُ كان في انتظاره
"كتبتُ روايةً ذاعَ صيتُها، عدتُ من الماضي بكوبٍ مملوءٍ دمًا فتبيّنَ أنَّهُ علاجٌ لجميعِ الأمراض و توقّفتْ التّجاربُ المسيئة للبيئة، ساهمْتُ في تمويل مشاريع صغيرة خاصَّةٍ بالطّاقةِ البديلة الصديقة للطبيعة و نجحَتْ...الهدفُ الذِّي وُضعْتُ من أجلهِ على الأرض قد تحقّق على ما أظنُّ..إذنْ ألا يحقُّ لي الحصول على بعض الرَّاحةِ الآن؟"

                                ***

"ألف مترٍ بعيدًا عن برمودا، تسع مائةٍ، ثمان مائةٍ، مستعدٌّ أبي؟"

كانَ بداخِلِ آلةٍ مشابهةٍ للقوسِ و السّهم، جسدُه هو القوْسُ، و الآلة مغطّاةٌ من كلِّ الجِّهاتِ بعازلٍ للماء

"نعمْ مستعدّ!"

طال الانتظار بعض الشّيء فعقد حاجبيهِ بتعجّبٍ

"أمتأكّدٌ أنت...أبي؟"

نبرةٌ باكيةٌ لفظتْ الكلمات، فتنهّد الأكبرُ و تحدّث في مكبّرِ الصّوت أمامه

"آسف...و لا تكرهني رجاءً"

ثمَّ ضغط على زرٍّ أحمرٍ وضعهُ تحسُّبًا لو حدث عطلٌ ما أو طارئ

انفصل السَّهمُ عن القوسِ ليشقَّ عبابَ المُحيطِ بسرعةٍ عاليةٍ، نحوَ منطقةِ الخطرِ الكبرى

                                 ***

صيّرتْ جسدها مائلًا منحنيًا متَّكئًا على آلةٍ ما يسارها، الأنفاس تتعاقبُ على ملءِ صدرها و الفرارِ منهُ بعدَ مُلاقاتِ أساها و حُزنها جراء الوحدَة

كانتْ نائمةً، بملامِح تنقبضُ و تعبسُ لا إراديًّا من حينٍ إلى آخر، هزيلة للغايةِ و شاحبةٌ أكثر ممَّا ينبغي

اقتربتُ منها ببطءٍ شديدٍ إلى أن وقفت أمامها، نظرتُ إليها بإمعانٍ و ماطلْتُ في مدِّ يدي إلى شعرِها للتّربيتِ عليْهِ كي أمتِّعَ بصري قدر الإمكان بملامحها و هي نائمةٌ

جسدُها صارَ دفاعيًّا بامتيازٍ فانتفضتْ من مكانِها، اتَّسعت عيناها بصدْمةٍ، و تحسَّستْني بيديها بعدمِ تصديقٍ، أمَّا عنِّي أنا فقد أحطتُ شعرها بيدي لأقرّبها منّي و ألثم شفتيها دون أدنى تردُّدٍ، ثمَّ فجأةً ابتعدتُ عنها بسرعةٍ لأسعُلَ مغطِّيًا فمي بكفّي، قاطعًا قبلتنا الأخيرة

مسحتُ ما خرجَ من جسدي بمعطفي الأسود بتعجُّلٍ و أنا على يقينٍ من أنَّها قد رأته، لأنّها كتفت ذراعيها و ضيّقت عينيها

"أمجنونٌ أنت؟! لِمَ لمْ تعالِجْ سرطان الرِّئة و معكَ دواءٌ لكلِّ داء؟"

"لمَ كذِبتِ عليّ؟ لمَ لم تخبريني بأنَّك أنت هي ليسَا نفسُها من الماضي و الحاضر؟ أنّك تبعتني إلى كلِّ مكانٍ أو زمان...لمَ تركتني أسافرُ عبر الزّمنِ و أنت هي التّرياق؟"

قدْ يبدو سُؤالُها أهمَّ من سُؤالي لكنَّني احتجتُ إلى طرحهِ عليها

"أخبرتُكَ مُسبقًا بأنَّني مريضةٌ و أخفيْتُ أمراضي بنجاحٍ، في الواقع هما مرضان الأوّل كان هوس العشق و الثَّاني كان الاضطراب الاكتئابي بسببِ نفس ذاكَ العشق، بسببِ إخفاء الحقيقة عن المعشوق،و محاولةِ التّأقلُمِ مع شتَّى الأزمنَة

لمَ لم أُخبركَ بالحقيقة؟
لأنّي لو فعلتُ لما عالجْتَ نفسكْ، لبقيتَ مجنونًا مُتعطِّشًا إلى الشّفاء، كما تعمّدتُ شحنَكَ بالطّاقةِ عبر انتقادكَ

عائلتي ليست حقيقيَّةً بل هي مجرّدُ مجموعة من نكرةٍ نوّمتهمْ مغناطيسيًّا ليشاركوني المسرحيّة، أمّا عن الملامِحِ فأنا أمتلكُ القدرة على التحكُّمِ بصبغةِ الميلانين و بالعضلات و المفاصل فأغيّرهم و أشكّلُهمْ كما أشاء...لكنّني لم أصنع فرقاً كبيراً بيني أنا و ليسَا المزيّفة ، لكيْ يُقنِعكَ اللّاوعيُ بأنّها هي نفسُها أنا...فتسكُنُ إليها"

ابتسمْتُ بعد أن نلتُ منها ما أردت، ثمَّ اقتربتُ منها و احتضنتُها بقوّةٍ نسبيّةٍ نابسًا ب
"كتقدّمِ العمرِ عشقُكِ،مزمن...كرغبتي في الشِّفاءِ رغبتُكِ في أن تكوني بقربي،مرض...لذلِكَ لتشفي بفضلي كما شفيتُ أنا بفضْلِكِ...
ستجدينَ من سيساعدونكِ بسريّةٍ تامّة في الخارج...احصلي على حياةٍ تليقُ بكِ...يا جوهرة!"

ابتعدْتُ عنها بعد أن قمتُ بشدِّ ذاكَ الحبلِ الشفَّافِ الموصولِ بطرفِ السَّهمِ قليلًا كي تصلَهُمْ الرّسالة...و قد فعلتْ بالفعل!

تمَّ سحبُ جسدِها ليطيرَ و يستقرَّ بداخلِ السَّهمِ، ثمَّ خارجَ برمودا تمامًا، تحديدًا أطلانطِسْ البهيَّة...لأنَّ كارما مخفيَّةٌ بداخِلِها

نظراتُها المذهولَةُ، المصدومَةُ، المنكسِرَة، الخائبَة، توعَّدتْني بعقابٍ عندَ اللِّقاءِ التَّالي...لكنْ ما منْ لقاءٍ

~النِّهاية~

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top