الفصل الخامس/ مكيدة!
أسفر الصباح وغردت الأطيار ألحانه، وأشرقت الأرض بنور الشمس الزاهي، وانتشر الناس كل موكلا لما خلق له، إنه الأحد الموافق للعاشر من شهر مارس عام ألفين وتسعة عشر
أطلت نور بابتسامتها البهية وهي تلوح بيمناها لشيماء في حرم الجامعة، من تلك الملامح المبتهجة اقتبست شيماء خبر تعافي والدة صديقتها، تجلُّدها الذي تسلحت به أمام صديقتها طوال الأيام الماضية انهار إثر ذلك اللقاء
عناق مفاجئ وقوي قابلت به صديقتها لتشعر تلك الصديقة بثقل ما تخفيه شيماء في أعماقها، بادلتها العناق لتطبطب على ظهرها هامسة في أذنها:
_هل أنتِ بخير؟
أنهت شيماء ذلك العناق بابتعادها عن نور لترد عليها بنبرة لم تخفِ قلقها:
_منذ الخميس الماضي وهي تصلني رسائل بالتهديد، أنا خائفة نور أنا خائفة! يبدو أنهم وراء ما يحدث
_اهدأي قليلا اهدأي!
قالتها نور وهي تمسك يد صديقتها وتتظاهر أنها تسير معها نحو القاعة وكأن لا شيء يحدث، نطقت أثناء سيرها:
_ما نوع التهديدات التي تتلقينها؟ وعبر أي شيء تصلك؟
تنهيدة ألم انسلت من شيماء قبل أن تجيب وهي تطرق برأسها أرضا:
_عبر حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها لا تلبث أن تُحذَف بعد تلك الرسائل
رفعت رأسها مع زفرة حارة وأكملت الإجابة متحاشية النظر إلى وجه صديقتها:
_إنه فيديو قاموا بالتقاطه لي، على ما يبدو كان يوم الخميس الماضي، لا شك أنني كنت تحت المراقبة، إنهم يطلبون ما معي مقابل إتلافه، لكن بالفعل لا شيء لدي
توقفت نور عن المشي لتتحدث بعدم فهم وهي تنظر في وجه شيماء:
_لم تفعلِ شيئا خاطئا ذلك اليوم، لمَ الخوف إذن؟ فليلتقطوا ألف فيديو، لن يستطيعوا فعل شيء
_يبدو أنك لم تفهمِ، الأمر ليس مجرد فيديو
علقت شيماء بقلق، لم تعرف كيف تصيغ الأمر لصديقتها لكن تساؤل نور التالي لم يدع لها مجالا للصمت أو التردد:
_إذن ماذا؟ ألن تصرحي بما في ذلك الفيديو؟
_لقد كانت تلك الثواني التي قدم بها ضياء إلينا
أجابت شيماء مقتضبة الجواب، رمت بصرها بعيدا عن نور التي حاولت استنتاج الأمر بنفسها بعد تلك الجملة، تساءلت وهي ترجو أن يكون توقعها غير صحيح:
_هل تم إظهاركما بمفردكما فيه؟
هزة رأس بالموافقة كانت إجابة شيماء، أنشب الخوف مخالبه في قلب نور بعد (السيناريو) الذي صوره عقلها لنوع المكيدة التي دُبرت ضد صديقتها، بل زادوا على ذلك بأن أدخلوا ضياء في ذات الدائرة
كادت شيماء أن تفلت يدها من يد نور وهي تنطق (آسفة!) لخجلها من تلك التهمة التي وجهت لشقيقها، لكن نور شدت قبضتها على يد شيماء وحملقت بها بنظرات تنضح ثقة، نطقت أخيرا بعد أن كانت شيماء تتساءل بنظرات حائرة عمَّا يمكن أن تفعله نور:
_على ما يبدو سنواجه ذات المصير، لذا...
شدت قبضتها أكثر وهي تُعْلِي يد شيماء أمامها وأكملت:
_لنبقَ معا شيماء، لا تتركيني ولا أتركك
التمعت في عيني شيماء الدموع بعد الذي سمعته، ليس كما لو أنها لم تتوقع وقفة مشرفة من صديقتها؛ لكنه الخوف من إقحام تلك الصديقة في شيء هي في غنى عن التدخل فيه، شيء لم تسعَ إليه فلمَ عليها أن تتحمل عواقبه؟
رسمت ابتسامة معها حاولت بث الطمأنينة في قلب شيماء وقالت:
_الأصدقاء يجب أن يكونوا في الضراء قبل السراء، والضراء هي التي تكوِّن الصداقات الحقيقية، أليس كذلك؟
صمتت يسيرا لتمسح شيماء تلك الدموع الهاربة من عينيها وهي تهز رأسها موافقة لكلامها، لتردف نور قائلة:
_لذا سأبذل جهدي من أجلك، لا تقلقي!
لكنها قلقة بالفعل، قلقة من تدخلها بالذات (كيف تخبرها بالحقيقة؟) ليس بيدها من حيلة، ولا مناص من مواجهة الأمر، إلى الآن وحدها نور من تعلم بما يجري خلف الستار مع شيماء، ولكَم تمنَّت أن تستطيع تقديم يد العون لها
دخلتا إلى القاعة أخيرا محاولتين عدم إثارة الشبهة بشيء، رفعت شيماء درجة حذرها واحتياطها إلى أن بلغ بها الأمر للشك في أن يكون بين زملائها جاسوسا لإياد ومن خلفه، ما زاد من صعوبة تعاملها مع الآخرين، تمثيل دور لا تشعر بحقيقته في أعماقها
**********
أخذت الساعات تقرض الأمان في قلوب المتوجسين من شيماء قرضا، هددوها بأن تسلم ما معها من شيء ممسكة إياه عليهم، أو تعترف بما تعرفه عنهم على الأقل، لكنها في كل مرة كانت ترد عليهم بسؤالهم عن ماهيتهم، وأنها لا تعرف شيئا ممَّا يتحدثون عنه، وحين طفح بهم الكيل مستصعبين استياغ فكرة أنها لم تعرف عنهم شيئا -قرروا إنهاء أمرها، وبطريقة لا يكونون فيها طرفا مباشرا
أتى الخميس الموافق للواحد والعشرين من شهر مارس عام ألفين وتسعة عشر ليجعلوه يوم نكبتها، وكأنهم يوجهون إليها رسالة تقول: اليوم الذي كشفتِنا به سننكبك في مثله
الخوف والقلق، والتردد والإرهاق بعدَّتهم وعتادهم قد اجتمعوا جميعا عليها، لتفقد رغبتها بالذهاب إلى عملها طوال ذلك الأسبوع، لم تكن تعلم أنها خدمت المخطط الذي يُحاك ضدها جيدا، ليُختم الأسبوع بخميس ذا أحداث مستعرة
**********
كانت حبيسة غرفتها بفعل نفسها، لم تعد تغادرها كثيرا، لكن صوت والدها الذي صرخ باسمها وسط صالة المنزل قد خلع قلبها رعبا، ظنت أن مصيبة ما قد حلت بعائلتها، هرعت إلى فتح باب غرفتها والخروج إلى الصالة، لتسأل وملامح الفزع تكسو وجهها:
_ما الأمر؟ ماذا هناك؟
كان تميم واقفا بجواره يطالعها بنظرات بدت لها غريبة، وشقيقها الآخر أمجد يقف قرب باب المنزل، يحدجها هو الآخر بنظرات بدت لها غاضبة، لم تفهم معنى هذا حتى صرخ والدها مجددا:
_ولا زال لديك الجرأة لتسألي عن الذي حدث؟ لقد كنت مخطئا حينما وثقت بك يا عديمة الشرف
طالعته بنظرات مصدومة، وملامح مبهوتة ارتسمت على وجهها (هل تم تنفيذ المكيدة ووصلت التهمة بهذا الشكل لتنكس حياتها رأسا على عقب؟) تساءلت، وتقاطرت أسئلة من ذات النوع على عقلها الذي أعلن حالة الطوارئ، غير مستوعب لكل ما يحدث الآن
أقبلت والدتها تسأل وقد رسم الخوف ألوانه الباهتة على وجهها:
_ما الأمر؟ لمَ كل هذا الصراخ؟
التفت الأب ناحيتها وقال بصوته العالي ونبرته الغاضبة:
_هذا كله بسبب إهمالك يا خنساء، ابنتك أصبحت تخرج مع من تشاء، وتفعل ما تشاء، وأنتِ لا علم لك ولا خبر
أخذت تحدق به مذهولة ومنزعجة من التهمة التي وجَّهها إليها، نبست وهي تتمنى ألا تسمع ما تكره:
_وهل يجب عليّ أن أفهم ما يحدث من هذه الألغاز التي تقولها؟ ما الذي يحدث؟ اريد أن أفهم!
أخذت قطرات العرق تتكدس على جبين شيماء، أطرافها نهشها البرد وكأنها في نهاية ديسمبر تلفحها رياحه الباردة، فاهها يأبى الاستماع إليها والانغلاق، شعور بالارتجاف بدأ يسري في جسدها، وقلبها يقرع طبول الفزع بأقصى ما يستطيع
نطق والدها وكأنه أعلن وفاتها بتلك الجملة:
_ابنتك باعت شرفنا يا خنساء، هل يعجبك هذا التصريح الآن؟
_لا!
صرخت شيماء بأعلى صوتها لتجعل أنظارهم متجهة نحوها، أردفت ودموعها بدأت الانهمار بكثافة من عينيها:
_غير صحيح غير صحيح! لست من يفعل شيئا كهذا
لم تجدِ تلك الكلمات شيئا إذ أن كل شيء قد انتهى بالفعل، جاءها الرد من شقيقها أمجد الذي أخذ يسير باتجاهها قائلا:
_لا داعي للإنكار، لدينا فيديو يثبت حقيقة خروجك مع ضياء، في حين كنتِ تخرجين متعذرة بالذهاب مع أخته وإليها، وفوق هذا لقد شهد عليك اثنان من العائلة، ولا يمكن لأحدهما أن يكذب عليك، فلا مصلحة لهما في ذلك أساسا
مع كل خطوة كان يتقدمها كانت هي تبتعد خطوة إلى الخلف، انسلت شهقات مكتومة من بين شفتيها وهي تكاد تموت رعبا وقهرا، نطقت بصوت عالٍ على أمل أن تُحدث فرقا:
_بلى لديهم مصلحة، لقد سمعتهم يتحدثون عن أمر مشبوه، لذا هم يحاولون التخلص مني
أنظارها كانت محصورة على أمجد كونها أرادت زحزحة فكرة ألا مصلحة لهم من اتهامها من رأسه، لم ترَ ملامح تميم التي طالتها الدهشة، لكنه لم ينبس ببنت شفة
لم ينتظر والدها الاستماع إلى رأي أحد، إذ أخذت أقدامه تطوي الأرض نحوها وهو يقول بغضب عارم:
_كذباتك لم يعد لها داعي ولن نصدقها، يكفيك أن تري كيف أصبحتِ تسجنين نفسك في غرفتك منذ أسبوع تقريبا، حتى الجامعة كدتِ ألا تذهبي إليها، لأنك تعرفين ما اقترفته يداك
_أقسم أنني لم أفعل شيئا، أنا لم أرتكب خطأ، لمَ لا تصدقوني؟
أعقبت تلك الجملة بصوت صراخها المتألم حين أنشب والدها أصابعه بين خصلات شعرها، ليهبط برأسها أرضا وهي تستغيث بوالدتها أن تفعل شيئا
أرادت والدتها أن تتدخل رغم خوفها، لكن مشاركة أمجد لصنيع والده جعلها تأخذ موقف المتفرج فقط، التفتت ناحية تميم لتطلب مساعدته لأجل أخته لكنه أعطاها ظهره قائلا:
_لن أتدخل، جنت على نفسها
أخذت صرخات شيماء تشق الأفق في ذلك المنزل، لن تتمكن حتى من عد تلك الضربات التي تلقتها، قسوة من والدها لم تعهدها، وعنف من أمجد لم تره منه طوال حياتها، وكأنهم يضربون عدوا أمسكوا به بعد سنين من إنزاله بهم العذاب
ليست الدموع وحدها ما ذرفته حينها، بل حتى الدماء بدأت تعلن التمرد، عابرة جروحها التي أحدثها تعنيف والدها وشقيقها، كلمة واحدة أخذت ترددها وسط صراخها: لماذا؟
لماذا وخلفها ألف سؤال أرادت أن تقوله، لماذا تفعلون بي هذا؟ لماذا تصدقون غيري عليّ وأنا ابنتكم والأحق بالتصديق؟ لماذا أصبحتم بهذه القسوة؟ لماذا لا تتأكدون من حقيقة الأمر قبل أن تنزلوا بي العقوبة على الأقل؟ لماذا لا تمنحوني فرصة لإثبات براءتي؟ ولماذا أخرى وأخرى وأخرى...
سياط الألم جلدت قلب الأم التي أخذت تشاهد تلك الجريمة التي ترتكب بحق ابنتها أمام عينيها، دموعها روت وجهها وهي تصيح بهم أن يتوقفوا، ثم ينهار جسدها جاثيا وهي تترجاهم أن يتركوا فلذة كبدها دون فائدة!
انخمدت حركة شيماء بعد أن خبى صوتها وضاع، لتبدو كجثة جندي حرب، لا فتاة كانت بين أفراد عائلتها، لطخت الدماء جسدها الطاهر الذي لم يسعَ إلى ما سعى إليه من اكتشفت جرمهم، أو كادت إن صح التعبير، وامتلأ الجسد العاجز عن الحركة بالكدمات، ليكتب على صفحات التاريخ جرما يتكرر في كل زمان ومكان، دون أن يجد صناديد يوقفون أولئك الجناة
طرقات على باب المنزل أفزعت الذئاب الواقفة على رأسها، تلتقط أنفاسها بعد تلك المعركة التي خاضوها على جسدها، تمنت خنساء من أعماقها أن تكون عليهم القاضية، فلا يرفعون رأسا بعد الذي فعلوه
¶____________________¶
انتهى الفصل الخامس
تاريخ الكتابة 2020/3/15
تاريخ النشر 2020/3/21
أما هذا الفصل بداية المصايب :( 💔
بصراحة ما قدرت أتعمق بوصف الضرب، أحس قلبي بيطلع من محله 💔T^T
عموما كلمة (قاضية) في نهاية الفصل ما تعني ان الأم تكون قاضية عليهم بالمحكمة، إنما القصد ان الموقف اللي صاروا فيه يكون فيه القضاء عليهم بعد اكتشاف جريمتهم
(بنت) شفة هل هي بالتاء المفتوحة أو المربوطة؟
_مكسلة أروح أسأل فرسان اللغة_
الأحداث مثل ما ذكرت سابقا كانت في ألفين وعشرين ورجعت غيرتها، ومع إن قضية إسراء غريِّب كانت في نهاية سنة ألفين وتسعة عشر لكن فضلت اني أبقي أحداث هذه القصة في شهر مارس، لأنه نفس الشهر اللي كتبت فيه هذه القصة، يعني له رمزيته الخاصة عندي، ومش كل شي لازم يكون من قصة إسراء، الله يرحمها ويغفر لها، ويقتص لها ممن ظلموها 💔
وصلنا منتصف القصة، لا تفقدوا الحماس، اصمدوا حتى الأخير، للتو بدأنا فقط!
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top