(١) قَتَـام

"قتام في قتام في قتام، أهكذا ستبقى حروفي عاما بعد عام؟ أين نوري؟ أين شعاعات حبري؟ هل هنا سوف ينفد صبري؟ يا لحمقي قد نفد! قد نفد صبري مُذْ مدة ليست قصيرة، أنا حقا بحيرة! هل ما أصوغ من كلمات بالثقة ليست جديرة؟!"

بحنق زفر كلماته تلك بينما امتطى نبرة صوته الرِّكْز تارة، والضجيج تارة أخرى، في ذات الآن الذي احتدمت فيه معركة بين أنامله وأوراقه التي تحتضن بين سطورها ما خطه مُذْ أن بدأ سيره في طريق الحبر المنقش على الساحات البيضاء المسماة "أوراق" - إلى ما سكبه من حبر قبل شهور فكانت الأخيرة إذ قرر الاعتزال، اعتزل الكتابة التي لطالما ظن أنه لن يأتي اليوم الذي يقرر فيه أن يدير لها ظهره "لم تكن جيدة في إيصال ما أراده منها" هكذا كان عذره، خائنة في نظره أضحت، وما علم أنه هو من لطريق الخيانة أولا قد سلك

ما الذي يجعل صديقه ذاك يصر عليه بأن يعقد صلحا مع ما يكتب ليعاود ممارسة هوايته المحببة مجددا ليصل حد التألق؟
هو لا يعلم! كلما يدركه الآن هو الضيق الذي شد قبضته على قلبه وتفشى في صدره حتى خُيِّلَ إليه أن الأكسجين من حوله قد انعدم، من أي وادٍ سحيق قد أتت لتزيد طين نفسه بِلَّة! أهذا فقط بسبب تفريقه بين ذلك المُدْلَّهِم الساكن في قلمه وبين الأزهار البيضاء الملقاة على سطح مكتبه؟!
وما فائدة ذاك العناق الذي سيربطهما وهما يحملان صورة باهتة لا تلفت نظر أحد؟! ربما من سيشفق عليهما فحسب سيفعل، ثم ما يلبث أن يغادر صامتا

أبسبب انقشاع غمائم الثقة بكلماته غادرت الأعين وادي كتاباته كما يقول صديقه؟ أسدى ذهبت جهوده وأتعابه في ظل محاولاته المُضْنِيَة لتعلُّم الكتابة بشكل أكثر تألقا؟! أين ثمار رحلته الشاقة لصقل قلمه في ميدان الكتابة؟

حين استقر في ظلها يَرْقُب ثمارا يانعة هطلت عليه أوراقها الصفراء الجافة تتحدث نيابة عن شجرة جهوده مخبرة إياه: أن الخريف في أجواءها قد حل

حلقت الأوراق التي كانت بين يديه في آفاق غرفته كأنما تعرضت لموجة ريح عاصفة، ثم بدأت هبوطها تدريجيا إثر إرساله لها في رحلة طيران مجانية من يديه بعد أن أكل الغيظ قلبه، وتفشى الغضب والإحباط في كيانه

لطالما ظن أن طريق الكتابة هو الطريق المُعَبَّد الذي سيفتح له أبوابه بترحيب، دون عوائق أو عراقل بعد أن أوصلته كثير من طرق مجالات شتى إلى الضياع والشتات، لكن الآن يبدو أن طريق الكتابة كان هو الآخر ذا قلبٍ قاسٍ ليصدمه بعائق كبير قيد حركته، صدمة أخرى كما اعتاد وليته اعتاد!

انطفأت جذوة الأمل التي كانت تناضل بشدة في قلبه أمام رياح اليأس التي هبت نحوها بقوة، انطفأت وانطفأت معها رغبته بفعل أي شيء مهما صَغُر، وذبلت تلك الزهرة التي كان يراها دائما صامدة في بطن وادٍ غير ذي زرع رغم وحدتها وقسوة العيش، وصعوبة البقاء!

غزت الغياهب كيانه من كل حدب وصوب بعد أن ارتمى جسده المنهار ببطء على سطح مكتبه، وأناخت أعضاءه ركابها هناك

يداه المرميتان يمنة ويسرة حول رأسه كأنهما حارسان شخصيان يحوطانه من الخطر، مع مسافة لا بأس بها تفصل بينهما وبينه، ورأسه المتعب الذي اتكأ على وجنته اليمنى فوق مكتبه ليأخذ راحة لا يعلم متى سيقرر إنهاءها

فرجة ضئيلة احتلت ما بين شفتيه لتكشف جزءا من أسنانه المتلاحمة ببعضها البعض، وبعض خصلات من شعره ذات الطول النسبي أخذت تغطي بميلانها أجزاءً من وجهه، كان أبرزها تلك التي غطت جبينه بالكامل، كما لو أنها تحاول حمايته من الظلام الذي اقتحم حياته حينها، متناسية أنها تشاركه السواد ذاته

عيناه المنطفئتان كحاله آنذاك أخذت تحدق بالفراغ بنصف انفتاحة، مرتدية ثوب السواد الذي كساهما الظلام إياه مقابل لون الشهد المنسكب فيهما، حتى بديا كما لو لم يكن لونهما يوما

بضع دقائق من الهدوء القاتل مرت، لكنه لم يكن في حقيقته هدوءا، بل ضجيجا صاخبا لو أتيح لغيره سماعه لانزعجت منه أمة بأكملها

هَبَّ فزِعا من مكانه يلتفت يمينا وشمالا وأخذت عيناه تَمْشُطَان المحيط من حوله بذات النظرات الفزعة، ما ظهر له أجبره أن يقاطع سباته التفكيري ويغادر زنزانة فكره، أو "ملاذه الآمن" كما يسميه

***********

مررررررحبا بكم في قصة جديدة من ما خطه قلمي ^_^

كما هو واضح من السطور السابقة فإن بطل القصة سيكون كاتبا، كم تمنيت كتابة قصة بطلها كاتب _تشعر بالحماس_

هذه القصة قصيرة جدا، يمكن القول أنها عبارة عن ون شوت طويل، لكن هناك من يشعرون بالملل من الطول، فاضطررت إلى أن أقوم بتجزيئها إلى ستة أجزاء صغيرة، وهذا هو الجزء الأول منها

إن كانت مشوقة يمكنكم متابعتها، فأنا سأقوم بتنزيل الأجزاء الباقية في فترات متقاربة، لأنني قد أنهيت كتابتها بحمد الله

متابعة ممتعة ^_^

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top