الفصل الرابع عشر

يوم خارق للعادة

ملاحظة: الرواية ليست للنسخ أو الإقتباس و الترجمة و غيرها.

توليب

كانت لحظة غير عادية، خارقة للعادة حقا...بعد أن انتظرت مجيئ الصباح، للذهاب لاستعادتها و اصطحابها، وجدتها أمامي فجأة! بحقك ! .. من أين ظهرت الآن و كيف و لماذا...؟ أعتقد بأني سأجلسها في غرفة المعيشة و أُجري معها تحقيقا شاملا...لا أصدق بأن شيماء الفتاة الرزينة، تفعل أمرا غبيا كهذا ... و بلا سابق تخطيط، وجدت جسدي يتحرك من تلقاء نفسه إليها.. رفعت يديّ، و قمت بإحاطتها بهما، و عانقتها متجاهلة كل من حولي، و ذلك الشخص الذي معها على الوجه الأخص.

إبتعدت عنها قليلا، و وجدتها تبتسم ابتسامة مشرقة، تدل على أن جميع المشاحنات السابقة قد فضّت الآن و انتهت بكل بساطة، و لكنني لم أفوت تلك الدمعة اللامعة التي لم تنزل من عينيها، كانت و لا تزال جيدة في إخفاء دموعها .. لكن .. ليس أمامي أنا.

و في لحظة ! وجدت نفسي بعيدة ببضع خطوات عنها، نعم، لقد تمّ دفعي، و من حسن الحظ أن من قامت بدفعي هي كوثر و ليست شيماء .. حسنا، سأتغاضى عن هذا للمرة الأولى، فقط لأنني في مزاج جيد، و كان عليّ على كل حال أن أتركها تحظى بفرصتها في عناق شيماء، مع أنها لم تغب طويلا، و لكننا شعرنا، بأن ذلك الوقت كسنوات طوال، سنوات نشعر بأنها تمرّ في كل دقيقة !

سمعت تأوها بسيطا بصوت منخفض و لكنه كان كفيلا بجعلي أسمعه، لأجد كوثر تبتعد عن شيماء و هي تعتذر بحفاوة و سرعة في الحديث: أنا آسفة حقا، لم أقصد الاحتكاك بجرحك، لقد نسيته من فرحتي بكِ.

إبتسمت شيماء تلك الابتسامة الواسعة المشرقة كعادتها، الابتسامة التي تجعلني أفكرُ بالشمس الساطعة من دون سبب،و قالت مطمئنة : أنا بخير، لست سوى بحاجة إلى الراحة.

فقلت بسرعة بعد أن سمعت كلامها : أُدخلي لكي ترتاحي إذا

فأجابت قائلة : حسنا، و لكن قبل ذلك، أريد أن أعرفكم بشخص ما.

قالت ذلك و استدارت إليه ، و بعد ذلك تذكرت الشخص الذي تم تهميشه توا، لدي بعض المعلومات عنه ، و هو نفس الشخص الذي رأيته في كمبيوتر ريان ، إنه ..
ليقاطع صفو أفكاري و تأملي صوت شيماء، و هي تقول بحماس واضح في وجهها و لم يسبق له مثيل : هذا تاي، و هو الشخص الذي ساعدني كثيرا.

أمالت كوثر رأسها نحو اليمين، أي من جهتي و نظرت إليّ ثم وجهت نظرها إليه، و وضعت إصبعها السبابة تحت ذقنها، و من الواضح بأنها كانت تفكر، كان وجهها مضحكا جدا، مما جعلنا جميعا ننظر إليها بتمعن و هي تحدق في ذلك الشخص الذي عرّفته لنا شيماء، أردت إطلاق ضحكة عالية، و لكنني كتمتها في آخر لحظة، لا أعلم السبب، و لكني لم أرِد الضحك أمام شخص غريب بتلك الشاكلة، كنت أعلم بأنها تحاول تمييزه، لأنها رأته معي على شاشة حاسوب ريان، و كان من الغباء فعلا أن لا تتعرف عليه، حتى و إن لم تتعرف على وجهه، و لكن .. بالتأكيد .. عليها أن تعرف بأن شيماء لا تحضر أي شخص كان إلى منزلي، لذلك كان عليها أن تعلم بطريقة بدهية أنه نفس الشخص ... و من دون سابق إنذار سمعت ضحكة مدوية عالية، من شيماء ..!، و بعد أن هدأت أمسكت ببطنها، و كان من الواضح بأنها تألمت بسبب اهتزازها من الضحكة، و قالت و لا تزال تشق الابتسامة محياها : إلى ما تنظرين بهذه الطريقة المضحكة؟، هل أضعتِ شيئا ما في وجه تاي؟

و بعد ذلك .. فاض الكيل، و استسلمت، لم أستطع الصمود أكثر بعد هذا .. و ضحكت كثيرا لدرجة أنّي لم أستطع الحديث، كانت شفاهي تتحرك دليلا على أني أتحدث و لكن ما من صوت يخرج من حنجرتي، حتى هدأت نسبيا .. كان موقفا محرجا جدا !

بعدها قالت كوثر بتذمر من هذا الموقف : حسنا أعتقد بأن هنالك سوء تفاهم هنا.

أردت أن ينتهي كل هذا بسرعة فلا فائدة من حديث مستميت، أريد الوصول إلى الزبدة، فقلت : لما لا نتوقف عن هذا قليلا و نلِج إلى الداخل
ثم وجهت نظري إلى شيماء و استطردت كلامي : شيماء عليك الراحة، لا يصح لك الوقوف طويلا، هذا مجهد لك.

قلت هذا عن عمد لأنّي كنت أعلم بأن الجميع سينسى الحادثة السابقة المحرجة و يلتفت إلى صحة شيماء، و كأنهم نسوا هذا الأمر و تم تذكيرهم به توا، لذلك سنكسب بعض الوقت .. حسنا، أعتقد بأني قد كسبت بضعة لحظات لحياتي، بتجنب جدال سخيف، لا يعلم أحد متى قد ينتهي ..

و كما توقعت، توجهت الأنظار إلى شيماء فأردفت كوثر مخاطبة إيّاها : آه .. يا إلاهي .. لقد نسيت ذلك تماما مرة أخرى، أدخلي إلى الداخل، و استلقي على الأريكة، حتى أجهز غرفة لكِ.

و فعلا، توجه الجميع إلى غرفة المعيشة، بعد أن نزعنا أحذيتنا طبعا، ما عدا شيماء و تاي، تعلم شيماء بأنني لا أمانع دخولها و هي لا تزال ترتدي حذائها، في مثل هذه الأسباب، كإصابتها التي تجعلها لا تستطيع الانحناء إلى الأسفل، فكل حركة تجعلها تتألم .. و لكن .. ذلك الشخص، كيف يجرؤ على الدخول إلى منزلي و هو يرتدي حذائه !..؟

شيماء

بعد أن استلقيت على الأريكة كان الجميع قد أخذ مكانا له في غرفة الجلوس، و بالصدفة وقع نظري على توليب، كانت تنظر إلى تاي بعينين تقدحان قدحا، هل تعرفه من قبل ؟ ... أو ، هل فعل لها شيئا ما ؟!

أهملت هذا الأمر، ثم استرسلت الحديث، الحديث عن النقطة التي يريد الجميع الوصول إليها : حسنا، جميعنا نحتاج لبعض التوضيحات بشأن عدة أمور.
ثم نظرت إلى توليب و استرسلت كلامي : و أعتقد بأن عليك أنتِ إيضاح كل شيئ، كل الأجوبة لديكِ.

أجابت بتهكّم بعد أن رمقت تاي بنظرات نارية لم تفته ثم تبادلا النظرات : سأُجيبك لاحقا ..
ثم صمتت قليلا و قالت : عندما نكون نحن الثلاثة بمفردنا.

قلت بغضب بعد أن أهانت تاي في وجهة نظري : ليس عليك رمي كلام مفهوم بهذه الطريقة، أتمنى أن لا تعاملي تاي هكذا !

و قبل أن أقول كلمة أخرى قاطعني تاي قائلا : شيماء، لا داعي لأن تتدهور الأمور مرة أخرى بينك و بين صديقاتك، لقد أوصلتك إلى مكان آمن، لديك رقمي .. فلتتصلي بي، كي أطمئن عليك.
ثم وقف و أردف : أستمحيكنّ عذرا ، مع السلامة

قلت بتشتت : ت-تاي.
و قبل أن أضيف كلمة أخرى .. كان تاي خارج المنزل .. يا إلهي كان هذا سريعا جدا و غير متوقعٍ أبدا !
نظرت إلى أسماء التي كانت بدورها تنظر إليّ نظرة تقول : "أنا أعلم ما فعلته، و لكنني و في نفس الوقت لم أفعل شيئا يدعو لهذه النظرة".
فكرت بسرعة، نحن صديقات منذ وقت طويل، بالطبع سنفهم بعضنا البعض بمجرد نظرة واحدة.
قلت بطريقة حاولت جعلها هادئة لأقصى حدّ : هل كان من الضروري معاملة الشخص الذي أنقذني و أنا مدينة له بحياتي بهذا الأسلوب؟

أجابت بعد أن عدّلت جلستها قليلا : أعتقد بأنه وقح .. كما أنني لم أسْتَسِغْه البتّة .. و أيضا، أنا لا أحب الحديث عن أمور سرية أمام الغرباء.

فتحت فمي لإجابتها و لكنها قاطعتني بعد أن توقعت ما كنت سأقوله : إن استمعت لي، ستعلمين بأني حريصة أشد الحرص على أن لا يتفشى أي سرّ، عليك أن تستنتجي هذا بعد أن علمت بأني كنت أخفي الأمر في سرية تامة حتّى عنكما.

حسنا، بدا هذا مقنعا جدا، و لكني لاحظت أمرا آخر في كلامها فسألت : ماذا عن نعته بالوقح الآن؟

أجابت بغضب كبير لا يلائم ما قالته، مما جعلني أفكر في ضرب رأسي على الحائط : لقد دخل من دون أن ينزع حذائه، هذه هي الوقاحة بعينها !

لقد كان هذا سخيفا، و كنت لأقول بأنها تكذب لو لم أكن أعلم بأن لديها هاجسا تجاه الولوج إلى المنزل مع ارتداء حذاء كان قد ارتُدي في الخارج، بالنسبة لها، لدى المنزل أحذية خاصة، و من الوقاحة عدم ارتدائها.

و فجأة سمعت صوت كوثر و هي تصرخ و كأنها اكتشفت اكتشافا كبيرا : لقد عرفت ذلك الشخص، إنه هو، من رأيناه على حاسوب ريان من كمِرات المراقبة !!

و مرة أخرى .. أردت صفع نفسي و ضرب رأسي بالجدار، ما غرابة الأطوار التي ضحت عليهما هاتان الإثنتان اليوم ؟
وجهت نظري إلى أسماء بعد أن سمعتها تصفر و تُصَفِّق ثم أردفت بسخرية : perfect!! يا له من اكتشاف عظيم !!.

إهتز حاجبي الأيسر ثم ارتفع بحركة غير إرادية.
سأصاب بالجنون، و السبب .. أكبر مجنونتين !.
شعرت بعدها بأن أسماء تماطل ليس إلّا، فقلت : فلنتجاوز هذا الآن و أخبريني بما لديك.
ثم فلت كل كلمة ببطئ شديد : و من دون أن تخفي أي شيئ أبدا .. ! إيّاك .. ! أريد معرفة كلّ شيئ !

ظللت وجهها بغرة شعرها لتخفي ملامحها الحزينة التي رأيتها رغم ذلك ، ثم قالت و هي تنظر لي و لكوثر : هناك مثل ياباني يقول : " إذا كان للمشكلة حلّ، فلا داعي للقلق بشأنها، أما إذا لم يكن لها حل، فلا فائدة من القلق بشأنها " و مشكلتي تقريبا، ليس لها حلّ، و أُحاول جاهدة إيجاده.

بعد أن انتهت قالت كوثر و قد استشعرت الخطر من كلامها : إذا لم تريدي الحديث فليس عليك ذلــــِ
قاطعتها قبل أن تنهي جملتها : لا ! أريد أن أعرف !، قد نجد لها حلا إذا ما تعاونّا معا، إلّا إذا ما كنت لا تثقين بنا !.

رفعت رأسها و ابتسمت في وجهي و قالت : سأمهّد على شكل قصيدة ألّفتها.

أَيَا شَيماءْ ..
لَنْ أَجِدَ مِثْلَكِ فِي الوَفَاءْ ..
وَ لَنْ أُضْمِر عَلَيْكُنّ الشَّرَّ فِي خَفَاءْ ..
فَهَلْ سَتَقُمْنَ بِالإِبَاءْ ؟ ..
وَ تَرُدَّنّ عَلَيَّ بِالجَفَاءْ ؟ ..

قَدْ أَحْبَبْتكنّ حَدَّا بَدِيعٌ جَمَالُه ..
و‌َ قَدْ تجَاوَزَتْ عَلَاقتُنَا الزّمَالَة ..
وَ وصَلَت حَدّ التّبَالَة ..
مَعَكُنّ أَنَا فِي خُلَّة ..
وَ قَدْ قُمْتُ الآنَ بالاِسْتِكَانَة ..

هِيَ لَيْسَت فَقَطْ بِفَاجِعَة ..
بَلْ هِيَ أَكْثَرُ مِن نَائِبة ..
أخْفَيْتُها عَنْكُنّ خَائِبَة ..
وَ الآنَ أمْسَكْتُ بِخَيْطِ الصَّبَابَة ..

هُوَ سِرٌّ مَخْفِيٌّ فِي سُوَيْدَاءِ رُوحِي ..
بَيْنَ جُرُوحِي ..
وَ قُرُوحِي ..
بَدَّد‌َ جُمُوحِي ..

سَبَّبَ لِيَ الأَرَق ..
وَ رَمَانِي فِي حَرْق ..
فِي العُمْق ..
أَنْسَانِي ذَلِكَ الشَّوْق ..
مَعَ أَنِّي قُمْتُ بِالخَرْق ..

لَمْ أَجِدْ لَهُ حَلَّا وَ لَا حُلُول ..
وَ تَمَنَّيْتُ لَوْ أَنَّهُ عَنِّيَ يَزُول ..
لَكِنّهُ كَسَبَ وَ هُوَ خَمُول ..
وَ شَغَفِي بِالاِنْتِصَارِ يَحُول ..
وَ رُغْمَا عَنِّيَ هُوَ خَذُول ..
حَاوَلْتُ التَّمَاسُكَ فَوْقَ خُيُول ..
سَقَطْتُ وَ بَقِيَ هُوَ يَجُول ..

و بعد هذه القصيدة الجميلة.

سرَدتْ كلّ شيئ ..

كل شيئ من البداية إلى النهاية، من هروبها من بيت والدها سامر، القصة الملفّقة بأنه مات و تَمّ تبنّيها من طرف العم أندري كانت غير صحيحة، شرحت كلّ شيئ و ما قاله لها بكلّ تفاصيله الدقيقة، إلى تورُّطها مع المافيا لهذه الأسباب، و كان الأمر الغريب هو أن نفس الضابط الذي كان معها في اليوم الذي أُصِبْت فيه هو نفس الضابط الذي كانت معه قبل سنوات، و هي حاليا تعمل معه للإيقاع بذلك الشخص، و كما كان الشخص الذي بحث في ماضي أسماء و أخبر العمّ أندري به، و بعد أن علِم بأنها إبنة المرأة التي قُتِلت بطريقة غير واضحة، حرِص على تبنّيها ثم أخبرها بالحقيقة قبل وفاته، و بعد ذلك، و عندما اشتدّ عودها، قامت بخطوات برفقة الضابط في سبيل إنهاء أمر الشخص الذي لم يرحم كبيرا و لا صغيرا، لا عجوزا و لا من كان في المهد، و عندها .. تفهّمت موقفها جيدا، و عذرتها فالغاية تبرّرُ الوسيلة، و حملتُ ضغينة أُخرى لهذا الرجل.
فلقد كان .. قاتل والديّ .. !

كم تمنّيت لو أنها قد أخبرتنا بهذا منذ البداية، و مع ذلك لا فائدة من التمنّي، كنّا أنا و كوثر مذهولتين، و نحن نستمع إليها بصمت و تركيز بالغ و من دون مقاطعتها .. أردنا منها أن تُكمِل حديثها، و أن لا تنسى أيّ شيئ، كم آلمني أن ترى جثّتي ابنتيّ العم أندري، و أن تتورّط في كل ما حدث في تلك الآونة !

و كم وددت لو أُمسِكنّ ذلك الرجل الخبيث بيديّ و أخنُقه حتى الموت ! أمثاله لا يستحقون الحياة !.

عند تطرُّقِها مرّة أخرى إلى الخطّة السريّة بينها و بين ذلك الضابط، توقّفت قليلا ثمّ أردفت : أستمحيكما عذرا و لكن، لا يمكنني استئناف هذا الموضوع، مع أنني أثق بكما ثقة عمياء و لكن، قد تكون ردّة فعلكما ..

صمتت قليلا ثمّ استطردت حديثها : حسنا، الأهم من هذا الآن .. هو أنّي قد اكتشفت أمرا .. من الواضح وجود خونة بين أتباعي !

قالت كوثر بعدم تصديق : خونة ؟ كيف ذلك ؟ .. هل تقصدين بأن هناك بعضَ الأشخاص الذين ينقلون الأخبار إلى ذلك الرجل؟

أجابتها أسماء قائلة : نعم ، هذا صحيح، خاصة في اليوم الذي أُصيبت فيه شيماء، كان هذا مُريبا جداّ.

بعد ذلك تماما، استنتجت الكثير من الأُمور، لطالما علِمت بأنّ أسماء لا تخوض حربا خاسرة، لذلك كان من المفترض أن تسير الأمور في تلك الليلة على أكمل وجه، إلّا في حالة قد كان جاسوس يعمل مع أتباعها.
سألْت بعد ذلك : أسماء، كم شخصا يعلم بأنّك ستخدعينَهم؟
أجابت بعمليّة : لا أحد غير ريان.
سألت كوثر أيضا : هل سألته إذا ما كان قد أخبر شخصا ما بذلك؟
أجابت على هذا السؤال بنبرة تدل على الغموض و المعاني الكثيرة : لا، لم و لن أفعل
قُلت باستغراب شديد من هذا الكلام الغامض : و لماذا؟

إستنشقت الهواء ثمّ زفرته ببطء و قالت : لأنني لا أثق بأيّ أحد من أتباعي، حتى ريان، و أريد أن أجد هذا الخائن بمفردي و من دون إخبار أحدهم بذلك، حتى و إن كان ريان شخصا أمينا في عمله معي.
قالت كوثر مدافعة عن ريان بصوت عال مما جعلني أستغرب دفاعها عنه : من المستحيل أن يفعل ريان شيئا كهذا !، إنّه شخص أمين في عمله كما تقولين، و نحن نعرفه منذ زمن طويل !، كيف تشُكّين به هكذا ؟

نظرت إليها بلا تعليق منّي، و ركّزت على ملامح وجهها المتغيّرة، أما أسماء فلمحتها ترفع حاجبها الأيسر دليلا على استغرابها الشديد من انفعال كوثر ثم قالت : أنا لم أوجّه الإتّهام لريان، و لم أقل بأنه الفاعل و لا حتى حاولت إلصاق التهمة به كي تحادثيني هكذا، كما و قد وضعت أمانته الشديدة لي في الحسبان، أنا فقط حذرة من كلّ شيئ، و أريد إيجاد الخائن أو الخونة من دون أن أجعل أحدا منهم يكتشف بأن جميعهم في دائرة الشكّ، لست سوى أضع الإحتمالات، لذلك لا داعي لهذا الانفعال.

إرتخت ملامح كوثر المقتضبة قليلا ، و مع ذلك لم يظهر الرّضا و الاقتناع عليها، قلت و قد جعلتها توجه انتباهها و بصرها نحوي : لدى أسماء حقّ فيما تقوله، الجميع و مهما كان من أتباع أسماء في دائرة الاتهام، حتى و إن كان ريان شخصا موثوقا و لكنّه غير معصوم من الخطأ، من الممكن أن يكون قد أخبر شخصا ما من العاملين في ذلك المكان بهذه المعلومات، أو حاول أحدهم كسب ثقته على شكل صداقة و قد جعله يسرّب المعلومات بلا أدنى فكرة عما يفعله، أو أيّ شيئ آخر، لذلك سيكون ريان شخصا صعب التعامل معه عبر سؤاله عن هذه الأمور، من الأفضل أن ندع التعامل معه كآخر حلّ في حال لم تستطع أسماء إيجاد الفاعل.

أكّدت أسماء على حديثي قائلة : نعم .. هذا صحيح تماما.

إنتهى حديثنا الطويل ذاك ، و انقضى هذا اليوم على خير، و بقينا في منزل أسماء ، و لم تسمح لنا بالخروج منه بعد أن علِمنا بهذا السرّ كما قالت بأنها ستقوم بخطوة كبيرة في هذه الأيام القادمة، لذلك سيكون منزلها المجهّز بمُستشعرات خاصة و نظام أمنيّ لا يُمكن تجاوزه إلا بمسح الوجه و البصمات، و كانت ثلاث فتيات فقط قادرات على تجاوزه، و بالطبع هنّ نحن، بعد أن طال الحديث على الخائن أو الخونة في حال كان عددهم كبيرا نسينا تماما الحديث عن الأشياء الأخرى أو التّطرُّق إليها و خاصة أمر رؤيتها للجثّتين، لم نعلّق على أي شيئ من شدة التركيز و محاولة استيعاب ما تقوله، و هذا ما تذكرته لاحقا .. و لكنني فضّلت عدم ذكره مجددا، فهو ذكرى سيّئة جدا بالنسبة لها.

مضى هذا اليوم بطريقة عاديّة جدا، و لكن الغريب الوحيد هو شرود كوثر طيلة النهار، و كأنها تفكّر، كنت أعلم بأنها تفكر بريان، و هو ما يشغل بالها، و لكنني أوهمت نفسي بأن ما أفكر به مجرّد شيئ خاطئ لا يَمُتُ للصحّة بصلة.

في مكان آخر.

عند تلك النقطة، لم أستطع المواصلة، قد كان حلما صعب المنال، فما كل ما يتمنى المرء يدركه، كان هذا صعبا، و لكنه يبدو بسيطا بطريقة ما بالنسبة للبعض، و لكنه لم يكن كذلك بالنسبة لي، إنها أنا سوزان، الفتاة التي أرادت الوصول إلى القمة في الكتابة، و لكن كل ما كنت أفعله هو ملأ هذه الأسطر عبثا، عبثا هو هذا!، لم أُرد يوما كتابة رواية مبتذلة، و لا أحداث حصلت من قبل، و مع ذلك .. أُغرمت بشكسبير، و روايته "هاملت أمير الدانمارك"، كانت رواية رائعة بحق، و لم أقرأ في حياتي رواية مثلها.. مع أن الفكرة بسيطة نوعا ما إلى أنها.. كانت حبكة رائعة أظهر فيها شكسبير رأيه الشخصي في مواضيع مختلفة عن بعض التصرفات في تلك الحقبة، كوضع الشعر المستعار، و التمثيل الرديئ نوعا ما لبعض الممثلين، و كذا صبغ النساء لوجوههن، وكذا.. بدت شخصية هاملت فيها مذهلة بالنسبة لي، نعم .. ربما قد تحدثت عنها كثيرا بيني و بين نفسي، و لكن الحقيقة هي أنني مهووسة تماما بهذه الرواية، حتى و إن كنت كاتبة، و لكني أظل هاوية و حسب، لا أقارن بحامل شهادة دكتوراه في الأدب، و لا يزال مشواري طويلا، قال فيودور دوستويفسكي: " إن القيام بخطوة جديدة، أو التلفّظ بكلمة جديدة، هو أكثر ما يخشاه الناس " و كان هذا ينطبق عليّ حرفيا، فقد كدت أتوقف في مواقف عديدة، و قلت لنفسي، ألا أزال صغيرة على الكتابة؟، ربما علي أن أنظم أفكاري و أتثقف أكثر، و لكن .. هزمتني تلك الكلمات التي تأبى أن تنصاع لي، لتكتب نفسها في صفحات رغما عني، كنت و لا أزال أكتب الروايات، و لكن .. كلما انتهيت من واحدة تبعتها الأخرى، و أما المتبوعة، فكما أنهيتها .. بقيت هكذا! في كرّاسة قديمة مليئة بالصفحات، قد ترهلت أوراقها لتشبه صفحات عصر قديم جدا!، أو كرسالة لم يقرأها أحد، فملت و أرادت الرحيل، و امتلأت بالغبار عله يكسوها و يخفيها، هذا كان حال روايتي، رواية: دعه عنّيَ ينجلي، رواية تحكي قصة فتاة رأت أخاها أفضل سند لها، و لكنه خذلها في حين غرة، و مع ذلك لا زالت تناشده إنقاذها من المصائب كما كات يفعل في الماضي، ليأتي و يدع الألم عنها ينجلي، و لكنه خذلها مرات عدة، حتى توصلت إلى خطة تعيد فيها أخاها، و كان ذلك اليوم الذي تحدثت فيه مع شخص حكيم أخبرها بتعويذة، و لكنها قرأتها بالعكس، فمات أخوها، و باشرت رحلتها للبحث عن العجوز الحكيم، و تبدأ القصة الحقيقية المليئة بالمشاعر الفياضة، في رحلة البحث عنه و التقائها مع بعض الأشخاص الذين ساندوهها في رحلتها. .. و بعد أن أنهيت هذه الرواية، بقيت في درج مكتبي لتنسج عليها العناكب شباكها.
كم تمنيت أن تصل مشاعري إلى العديد من الأشخاص، كم تمنيت أن تصل مشاعر روايتي لا إسمي إلى الأشخاص، و كم تمنيت أن أتحاور مع أحد ما عنها، أن ينتقدها أو يمدحها أو يصحح خطأ فيها، و لكن مصيرها البقاء في ذلك الدرج الكئيب، مع باقي رواياتي الثلاث الأخرى !

أغلقت دفتر مذكراتي، و نزلت إلى الطابق السفلي بسرعة بعد أن سمعت صوت الباب الذي فتح و أغلق، و علمت بأن أختي قد أتت، آه يا أختي العزيزة ليتك فقط تصبحين شخصا آخر، أفضل من أن تتخلي عن إنسانيتك و طيبتك القديمة، آه لو تسمعين كلامي قليلا، أو حتى، لا، فقط أن تنامي في المنزل لا في أماكن مشبوهة، قد صار الناس يتحدثون عنا، و عن تهور أختي و طيشها، و عودتها في أوقات تجعل أي شخص حتى و إن كان طفلا يكتشف أنها تقوم بشيئ ما، و أنا كنت أعلم ما هو!
أنا سوزان ! و لست ماريا ! و لكن الجميع في هذا الحي ينظر إلي بازدراء.. و هذا كله بسبب أفعال أختي ...ماذا لو علموا بأنها تعمل مع عصابة تقتل الناس بهدف نشر السموم، و تقوم بلعب القمار.. كل ما يعلمونه هو أنها مدمنة مخدرات تعود في أوقات متأخرة من الليل و هي في حالة يرثى لها، و منظر يوحي بأنها سكرانة..

بعد أن انتهيت من الدرج قابلت وجهها المتعب و الهالات السوداء تحت عينيها.. كانت عيناها تحمل رسالة لم و لن يستقبلها غيري ! كانت رسالة تقول: "أنا حزينة و لا أستطيع المواصلة ! أنجدوني" ، عيناها و حسب من كانت تتحدث، و لكن لسانها يقول بأنها بخير و يمكنها المواصلة في هذا لوقت أطول قبل أن تصل حدها!

ذهبت إليها في عجالة بعد أن بدأت تترنح في تعب .. حسنا، قد سكرت مرة أخرى ! .. ليس هذا بالأمر الجديد عليّ، و لكنها بدت أكثر تعبا من المعتاد! فصحت:
ماريا؟ هل أنت بخير؟
لكنها لم تستجب فصحت بصوت أكثر علوا من ذي قبل: مااارياا!
نظرت إلي بوهن بعد أن استجمعت شتاتها و قالت: أنا بخير، لا عليك!
أجبت بعد أن رأيت وجهها المتعب و عينيها اللتين كادتا تنغلقان: لستِ كذلك! إستندي عليّ.

قالت بغضب: لا! أنا بخير، و لا أحتاج إلى المساعدة !
أجبت بعد أن التقطت أذناي نبرة الغضب التي خاطبتني بها من دون داع: لا تحتاجين مساعدة؟
فأجابت: نعم
و أكملت طريقها مستندة على الحائط الذي بجانب الدرج، فقلت: ماريا !
توقفت عن السير و لم تستدر لتنظر إليّ وجها لوجه: ماذا؟
فقلت لها بعتاب: لم تفعلين هذا؟
أجابت بصراخ: لم أفعل هذا؟، و كأنك لا تعرفين الإجابة! كله بسبب تلك الأم التي تجاهلت مسؤولياتها كأم و هربت مع حبيبها، و بسبب ذلك مات والدنا بأزمة قلبية لخيانة زوجته التي أحبها أكثر من أي شيئ آخر !!.
ثم أكملت بضحك و بكاء في نفس الوقت: و لكن هل تعلمين السبب وراء اندهاشه من فعلتها النكراء؟ .. هذا لأنها كانت تمثل أمامنا الحب و الاهتمام ! كانت تمثل أمامنا كل هذا ! لم تملك تلك المرأة قلبا و تلاعبت بمشاعر الجميع، ثم تركتنا و ذهبت دون أن تنبس ببنت شفة !، و بقينا أنا و أنت يتيمتين !، كيف سنعيش إن لم أعمل؟

قاطعت حديثها بصراخ أنا الأخرى: يوجد أعمال أخرى غير هذه، أنت يائسة من الحياة و حسب ! لهذا تفعلين مثل هذه الأشياء.
ثم أكملت بنبرة من الحنان: خذي بيدي و لنحيا معا بعيدا عن هذا القرف!.
شعرت بأنها تأثرت بهذا الحديث و لكنها أجابت: حتى و إن أردت التغير و التوقف، فلن أستطيع!
سألت: لماذا؟

أجابت: لا يمكنني! إن ابتعدت عنهم فسيقتلونني، سيعتبرونها خيانة، و يقضون عليّ، إسمعي! لقد دخلت لعبة لا مخرج منها، و قد تورطت فيها! لا يمكنني!، حتى و ان هربت أو اختفيت! فسيجدونني، إنهم لا يرحمون الأطفال، فأنّى لهم يرحمونني !.. كيف؟

قلت ببعض من الاندهاش: م ماذا؟.. أهو صعب لهذه الدرجة؟

أجابت و كأن هذا هو أوضح شيئ: و هل تظنين التورط مع عصابة قتل بالأمر الهيّن؟ ، إنهم يدوسون الناس و كأنهم مجرد حشرات!، لايهتمون أبدا!، كل ما يريدونه هو تهريب المخدرات، و حتى أيضا .. في بعض الأحيان يخطفون الناس و يأخذونهم إلى مناجم على وشك الانهيار كي يستخرجوا المعادن الثمينة يدويا! .. في آخر مرة انهار المنجم على رؤوسهم و لم ينجوا أحد! إنهار على مرأى من عيني! .. قد كنت أشاهد!.

ثم أكملت بضحك هستيري: و هل تعلمين ما فعله ذلك الرجل الذي يدعى بالزعيم؟ أو البوس قاب قوسين؟ نظر إلى المنجم و كأن حشرات دهست و ليست بشرا، و قال "فلتحضروا غيرهم! نحتاج يدا عاملة أكثر لاستخراج الكمية التي نريدها"! أيبدو هذا لك عاديا؟؟.

و عندها عجز اللسان عن الحديث، لم أكن أعلم بأن الأمر بهذه الصعوبة!، فقط، لو علمت بأنها ستعمل في مكان قذر كذاك! لما تركتها تفعلها أبدا..

قالت ماريا مستطردة: عليك أن تعلمي! بأن فتاة في الخامسة عشرة مثلك لن تفهم هذه الأمور !، عودي لدراستك، الامتحانات على الأبواب.
ثم أكملت و قد ملأت عيناها نظرة حانية: ٱدرسي كي تكبري و تعملي عملا يليق بك، و لا تخطئي مثلي !

ثم أكملت طريقها إلى غرفتها و كنت لا أزال أتتبع طيفها الراحل.
صدق فيودور دوستويفسكي عندما قال: " أن يكون الشخص إنسانا بين البشر و يبقى إنسانا أبدا، مهما كانت المصاعب، و لا يكتئب و لا يسقط، هذا هو مغزى الحياة"

مع أنها كانت فتاة صغيرة في الوقت الذي فقدنا فيه والدنا، لكنها عملت بجد من أجلي ! و حتى إن أردت العتاب فلن أستطيع، فكل شيئ أقدمت على فعله كان من أجلي، و لا زالت إلى الآن تشجعني على الدراسة، مع أنها كانت أفضل تلميذة في مدرستها .. و لكن .. و لكنها تركت المدرسة من أجل العمل. .. عملت في أماكن متعددة حتى توظفت في تلك المنظمة الوهمية التي تعمل تحت ستار شركة كبيرة للحديد و الصلب، .. و لكنها في الحقيقة شركة لتهريب و إنتاج المخدرات ! و قد تورطت فيها ماريا، و ما كان لها خيار آخر سوى القبول و المثول لأوامرهم ...أعلم بأنها تعاني من تأنيب الضمير، لكن تأنيبي أكثر، لأنها فعلت كل هذا من أجلي أنا و حسب، فقط كي أدرس و أنجح، ضحت بمستقبلها الدراسي و صارت فتاة مسترجلة! أوه قد سقطت دموعي و بللت خديّ، و لكني كنت لا أزال أبتسم و قلت هامسة:

شكرا لك .. ماريا !

في مكان آخر

سارة

لا أشعر بالاطمئنان أبدا ! من المفترض أن تكون محاولة إنعاش الذاكرة بهذه السرعة إجهادا لها ! فقد استعادت وعيها منذ وقت قصير ! ألن يكون هذا ضغطا عليها؟ .. لا أريد أن أكون سببا في أذيتها أو إجهادها، أعتقد بأن ما عاشته قبل الأربع سنوات الماضية كاف، هل ستتقبل صدمة كهذه؟ و هل أخذها إلى مكان كذلك لإنعاش ذاكرتها هو الأمر الصواب؟ هل أنا على صواب في كل ما أفعله؟، حسنا .. لا داعي للقلق ! لقد قالت الطبيبة بأن هذا أمر لابد منه لجعلها تتذكر ! و مع ذلك، أنا لا أريد منها التذكر أبدا ! أريدها أن تحيا رشا جديدة ، قد رأيت صدمتها عندما قلت لها بأن أهلها قد تخلوا عنها ! فهل ستكون بخير إن .. حسنا لا مزيد من التفكير، لقد حسمت الأمر الآن .. من أنا كي أحرمها من أن تعرف ماضيها .. هذا من حقها .. نعم سآخذها .. و إن حدث لها أي مكروه فسأحاسب تلك الطبيبة ! و سأحكم إذا ما كانت فاشلة أم لا !

قاطع تفكيري المتناقض صوت ناعم لم أصدق بأني سأسمعه مجددا في وقت سابق و هو لرشا: نحن الآن في الظهيرة ! و قد أخبرتني من قبل بأننا سنذهب صباحا ! لم تفعلي شيئا سوى الشرود و النظر إلى النافذة !

أجبتها بعد أن أشحت نظري عن النافذة بابتسامة مصطنعة تخفي التوتر الذي داريته منذ الصباح: هذا صحيح، أنا آسفة، ما رأيك أن نذهب الآن؟.

قالت بعد لحظات قليلة و كأنها تفكر، فشعرت بأنها مترددة مثلي، فهذه خطوة كبيرة جدا في الوقت الحالي: هيا فلنذهب

و أثناء الطريق إلى الفناء المؤدي إلى الباب الخارجي قالت بنبرة متوترة جدا، حتى شعرت بأني أقدم على فعل سيّئ جدا، شعرت بأنني أنانية حقا ! حقا ! : هل ما سنفعله صحيح، هل سأستعيد ذاكرتي حقا بشكل تدريجيّ

أجبت و أنا أخفي نبرتي المرتعشة: نعم؛ ربما، قد يحدث ذلك.

توقفت عن المشي، فلاحظت ذلك و توقفت بدوري، و عندها قالت : أنا خائفة جدا ! هل تعلمين أي شيئ؟ هل تعلمين شيئا من ماضيّ، رجاءً، إن كان ذلك أمرا مؤلما بالنسبة إليّ، فدعينا نلغي ذلك !

فأجبت مشجعة : لا، لن يكون ذلك مؤلما أبدا، سنذهب فقط إلى المكان الذي كنّا نقطن فيه قبل هذا و حسب.

قالت باستغراب شديد : و أين كنا نعيش؟

أجبتها عن هذا السؤال: لندعها مفاجأة !

لتومئ ببطئ ثم تقول : حسنا، هيا فلنذهب

كان الصمت سيدا و كل واحدة منا في عالمها الخاص .. تفكر .. و تفكر، في نتيجة هذا الأمر، و عندها و أثناء الطريق في السيارة فكرت بأنّي متوترة جدا، فكيف ستكون هي إن كنت أنا بهذا التوتر ! و لأجبت تلقائية لنفسي: بالطبع ستكون أسوء حالة مني.. مللت من التفكير، و قلت: دع الأمور تسري في نصابها، و لأكف عن التفكير من دون جدوى !

رشا

بعد صمت طويل، و تفكير طويل، لم أشعر بالعالم حولي، و لم أشعر حتى بأن السيارة قد توقفت حتى وجدت يدا على كتفي ..
لتقول بعد أن اكتست ملامحها نظرة قلقة: رشا ! ألم تسمعيني؟
أجبت بعد أن قمت بصناعة أفضل ابتسامة استطعت إظهارها مطمئنة: لا، لا تقلقي، قد كنت شاردة و حسب.. في التفكير ..
قالت بعد أن هدأت ملامحها المقتضبة: حسنا، و لكن .. إن شعرت بسوء و أنك لست بخير، رجاءً أخبريني، و إن أردت العودة و إلغاء كل هذا، فلا مانع لديّ أبدا !
فأجبتها بعد أن لاحظت نبرتها القلقة أثناء حديثها: أنا بخير حقا !و لا داعي لكل هذا القلق، لقد قطعنا شوطا كبيرا حتى الآن بقدومنا إلى هذا المكان، بالمناسبة ! متى وصلنا إلى هنا؟ و ما هذا المكان؟
أجابت بابتسامة واسعة و هي تنظر إلي بقليل من المعاتبة: لهذا السبب كنت أندهك و لكن ما من مجيب، أردت أن أقول لك بأننا قد وصلنا إلى وجهتنا، و علينا النزول من السيارة.
ثم أكملت بصراخ: هيا انزلي من سيارتي حالا !،
نزلت .. و كنت أعلم بأنها تمزح لإضافة جو كوميدي لهذا الوضح المشحون شحنة سلبية، ينتظر عاملا ليؤثر عليه كي يكهرب كل شيئ ! مع ذلك.. جعلني هذا أضحك من كل قلبي، كما كانت جميع جوارحي تضحك و تبتسم، ربما كنت أخفف عن نفسي قليلا.. و ربما أوهم نفسي بأن الأمور بخير .. و لكن، مهما تصنعت ذلك، سيبقى الخوف متربعا على عرش قلبي الذي ينفطر ! سألتها بعد أن لاحظت هذا المكان الذي يبدو كمُنشأة قديمة الطراز، و عبارة عن بناية تكاد تتداعى، مليئة بالنوافذ المغلقة بسياج صغير من الحديد، الذي يبدو كسجن نوعا ما: أين نحن؟
أجابت بعد صمت قصير بدت فيه كمن يجمع الكلمات جمعا و ترتيبا لقولها: في ميتم
فقلت باستغراب من هذه المعلومة الجديدة: ميتم؟
فصمتت مرة أخرى، و لكن هذا الصمت دام لوقت أطول من سابقه، و تنهدت تنهدا عميقا كمن يقوم بإزاحة هم أثقل كاهله بحمله لقرون طويلة.. و أجابت: نعم، إنه ميتم يا رشا، و هو منزلنا الذي كنا نعيش فيه قبل سنوات، و مكان لقائنا الأول أيضا، و هو المكان الذي يحمل جميع ذكرياتك السعيدة بعيدا عن كل الذكريات الحزينة مع أنه كان مكانا بائسا جدا، و لكننا كنا سعيدتين فيه جدا ! كنا نقوم بالمقالب، و نهرب إلى التل القريب من الميتم، و كنا نترك عنبر النوم أيضا لنقوم بلعب لعبة الأغنياء !، هل يجعلك هذا تتذكرين شيئا ما؟

بدأت بهضم تلك الكلمات كلمة كلمة، حتى استوعبتها جميعها بتفاصيلها الدقيقة، و ما أزعجني هو شيئ واحد و حسب، و هو "الميتم" فقلت مستفسرة:
سأسئلكِ مرة أخرى .. هل كنت أعيش في ميتم؟

فأجابت بنظرة مؤكدة مع إيمائة بسيطة: نعم ! .. كنتِ أنتِ و أنا نعيش في ميتم ! و هذه حقيقة لا يمكن نكرانها أبدا، كان هذا هو المنزل البائس الذي احتوانا جميعا، و جعلنا نلتقي ثم يحدث ذلك الحادث الذي جعلك تدخلين في غيبوبة ! بعد أن خرجنا من الميتم بفترة قصيرة، لتتوارى الأيام و نلتقي !، وجها.. لوجه !

محوت آثار المفاجأة من تقاسيم وجهي بسرعة كي لا تفضحني أمامها، و تفشي أسرار نفسي المنصدمة، لأجيب على هذا الحديث الذي دام قرابة الدقيقة و النصف تقريبا: آه.. حسنا، هكذا هو الأمر، تذكرت شيئا ! لقد أخبرتني من قبل بأن عائلتي قد تخلت عنّي، إذا تركوني في ميتم؟

كانت ملامحها كفيلة بإجابتي، و كأنها تقول نعم هذه هي الحقيقة التي عليك معرفتها، نعم إنها كذلك، مؤلمة بكل تفاصيلها، نعم هذه هي الحقيقة التي لم أستطع إخفائها، و نعم هذا ما عليك معرفته للمرة الثانية إعادة، حتى و إن كان هذا رغما عن أنف أي أحد كان ! نعم سأجيبك مع أني أعلم بأنك تعرفين الإجابة !

و أجابت على سؤالي البسيط الذي قلته بطريقة لا توحي بأنّي الشخص الذي رُمي في ميتم: نعم، هذا ما حدث فعلا، حتى أنهم ...

و بتَرت كلماتها فجأة .. "؟؟" و بقيت كغبي ينتظر الإجابة مرة أخرى و هو يحمل لوحة رُسمت عليها علامة استفهام كبيرة، فسألت و أنا أعدُّ أسئلتي و أستغرب، كم سؤالا سألته إلى الآن، ربما ليس بالعدد الذي يدعو للجلل:
حتى أنهم ماذا؟

صمتت لبضع ثوان شعرت بأنها لن تنتهي أبدا مع أني كنت أعلم بأنها بضع ثوان ليس إلا، و مع ذلك نفذ صبري من الانتظار في وقت وجيز لتستأنف حديثها المبتور قائلة و هي تنظر لعيني نظرة حزينة:
حتى أنهم سحبوا منك إسم العائلة ... أي أنهم لا يعترفون بك كفرد منهم .. تبرّؤُوا منكِ ! ...أعلم بأن هذا ثقيل جدا عليك و لكن .. لن أخفي عنك شيئا كهذا أبدا .. أنا آسفة ما حقا !

بعد أن سمعت هذه الكلمات لم أستغرب كثيرا، و لم أشعر بالحزن، و لا الانكسار من سحب اسم العائلة مني حتّى، بل سُعدت ! فرحت ! هذا صحيح، أنا أشعر بالسعادة تغمرني، أنا لا أحتاج اسم عائلة تخلت عني، و لا أحتاج أي شيئ منهم، سيكون هذا أفضل بكثير، أن لا توجد أي صلة تربطني بهم.. و إن استطعت محو حمضي النووي و جيناتي المتوارثة منهم لَفَعلت
كانت تنظر إلي بنظرة ملأتها الشفقة، و لم أحبذ هذا، فأجبت لأطرد قلقها الذي لم يعد باستطاعتها إخفائه كما كانت العادة:
حسنا.. هذا متوقع جدا، أفضل البقاء دون نسب على أن أنتمي لعائلة لا تريدني ! من الجيد أنهم فعلوا هذا، قد قطعوا آخر خيط يمكنه أن يربطني بهم، إن استبعدنا حمضي النووي !
قلت آخر جملة و أنا أضحك، ربما كنت أُضحك نفسي و حسب، و أخبرها بأن كل شيئ على ما يرام مرة أخرى، بطريقة تجعل سارة تطمئن هي أيضا.

مع أنها نظرت إلي نظرة شخص غير مقتنع، و لكنها نظرت إلى السماء و هي تغمض عينيها لبضع لحظات ثم تفتح عينيها و توجه بصرها إليّ مخاطبة:
ما رأيك بالدخول؟ لم يتغير هذا المكان أبدا، و لا يزال على ما هو منذ تركناه قبل سنوات، قد تتذكرين شيئا ما !

أجبت تلك التي تحاول جاهدة تصنُّع الابتسامة بكلمات موجزة حسب ما أظنّه:
هيا بنا إذا .. إن لم أتذكر شيئا فسيكون هذا خطأك لإحضاري إلى هنا.

قالت و هي تخطو إلى الأمام خطوات متثاقلة صغيرة:
نعم، سيكون هذا خطئي عندها.

مع أنها لم تشتكي إلى أني فهمت بأنها تعاني من تأنيب الضمير، و قد تحمل نفسها وِزر هذا الأمر، حسنا .. لا داعي للقلق، لست سوى أُحاول تذكر بعض الأشياء، ليس بالأمر الذي يجعلني بهذا السوء و لا يجعلها كذلك، فلننتهي من هذه الزيارة و لنعد إلى المنزل و حسب !
و في هذه الأثناء وجدتها قد سبقتني بخطوات عديدة فأسرعت للّحاق بها.

بعد أن وصلنا إلى ذلك الباب الكبير لاحظت بأنه مترهّل بشدة و صدئٌ أيضا، بادرت بفتحه و بعد أن فتحته وجدت آثار الصديد على يدي ! و تسائلت.. هل كنت أعيش في هذا المكان، فأجبت نفسي، ربما لم يكن الباب بهذه الحالة من قبل .

بدأت أتلفت يمنة و يسرة، و أينما صوبت نظري، وجدت شباكا من العناكب، و كأنها قامت ببناء مستعمرة ها هنا، بدا كبيت للعناكب لا ميتما للأطفال، ثم نظرت إلى الأرضية، و شعرت بقرف شديد و أنا أدوس على هذه الأرضية الملوثة التي لم أستطع معرفة لونها من تلك الطبقات الدبقة التي تغطيها، لو كنت بلا نعال لالتصقت قدماي بها ! ثم شعرت بحركة خفيفة و وقع أقدام، أنا أسمع الأصوات الصغيرة حتى و إن كانت بعيدة عنّي، و لكن ذلك الصوت بدا لشخص يمشي على أربع !، حسنا .. و لما أفترض بأنه شخص حتى ! ماذا لو كان حيوانا؟

فاقتربت من سارة التي تنظر بدورها هي أيضا إلى المكان و قذارته و قلت:
هل تسمعين هذا الصوت؟

فأجابت: أنا لا أسمع أي شيئ

و قبل أن تقول أي شيئ آخر صرخْت بأعلى صوتي

قد كان هنالك جرذ يتجه نحوي

فصرخت سارة أيضا مما أثار الذعر في الميتم، ليخرج جميع مَن كان فيه مِن غرفهم، للاستطلاع طبعا !
بينما أنا و سارة، نتراقص أمام الباب و نقفز كالمجانين هربا من ذلك الجرذ الكبير، فوجدنا بعض الكراسي التي كانت هناك لنقف عليها، فحتى الكراسي كانت متسخة جدا، و كأنها مهملة ! ...مهملة؟ .. تذكرني هذه الكلمة بشيئ ما، و لكنني لا أعلم ما هو .

قد ذهب الجرذ بعيدا، ثم تنفسنا أنا و سارة الصعداء لرحيله، و فجأة !سمعت صوت ضحكات متعالية للكثير من الأشخاص ..

قد كان الأطفال يضحكون علينا، حتى أن واحدا منهم كاد يسقط من الضحك، و آخر كان يضحك من دون صوت و كأنه قد فقد القدرة على النطق من كثرة الضحك، فضحكنا أنا و سارة أيضا على هذا الموقف المحرج ..

لكن الأمر الذي أضحكني أكثر هو أشكالهم و هم يضحكون أكثر من خوفي من الجرذ..

بعد أن هدأ الجميع، قالت سارة بمرح و هي تتقدم و تفتح ذراعيها للأطفال من أجل العناق:
مرحبا يا أطفال ! من قام بهذا المقلب السخيف أيها المشاغبون؟

فتقدم الكثير من الأطفال إليها و هم يرسمون البهجة على وجوههم، كيف لهم أن يكونوا سعداء و هم في مكان كهذا؟

إقتربت منهم أكثر و لم أُرِد مقاطعة لقاءهم الحميميّ، كان منَ الواضح بأنهم يعرفون سارة منذ زمن طويل جدا. .. كان عددهم كبيرا جدا -بالنسبة إليّ- .. و لاحظت ملابسهم البالية أيضا، و مع ذلك، كانوا سعداء جدا !

شردت في منظرهم الجميل، و ابتسمت عندما سقطت سارة من اندفاعهم نحوها، حتى شعرت بشيئ يجذب فستاني .. كانت فتاة صغيرة، ربما بعمر الخامسة؟، لم تتحدث و لكنها نظرت إلى عيني و هي تشدد قبضتها الصغيرة على دبها المحشو الممزق الذي وُضع زر بدل عينه اليمنى و أشارت بإصبعها السبّابة إلى مكان مظلل قليلا و مظلم و منزوٍ فتتبعت إشارتها حتى لمحت طيفا أسود بين ذلك الظلام الذي بددت تلك الشموع بعضه.. فلم تكن هنالك إضاءة في هذا المكان، و لا مصباحا واحدا حتى ! .. فبدأ ذلك الطيف يقترب قليلا، قليلا، قليلا، ثم أكثر، و أكثر، حتى اتضحت صورة لامرأة عجوز تتكئُ على عكاز، لا، بل خشبة مكنسة ربما.

تحدثت تلك الفتاة قائلة: المُشرفة تريد الحديث معك

تمعنت النظر إلى تلك المُشرفة، ثم إلى عكازها الذي لفت انتباهي أكثر من مرّة، فشعرت بأن شرارة انطلقت في رأسي.. و بدأت بعض الذكريات التي نسيتها بالتدفق إلى مكان ما، و لم أعلم أين كنت !، كل ما أعلمه هو أني كنت أنا و خشبة المكنسة في مكان واحد، حتى يظهر مشهد ما ! .. كانت فيه شابة بشعر مجعّد تبدو في السادسة عشرة .. و لاحظت الشبه الذي بيننا ! هل هذه أنا؟ في الماضي؟... بدت حزينة، أردت الذهاب إليها، و لكنني لم أستطع ! و لا أعلم لماذا .. ثم أتت امرأة كبيرة في السن تشبه المرأة العجوز التي رأيتها قبل قليل، و بدأت بضرب تلك الشابة بنفس الخشبة الطويلة ! أردت مساعدتها .. و لكنني لم أستطع .. لم يكن جسدي يستطيع الدنو منها، جسدي؟ .. أين هو على أي حال؟، لا يكمنني رؤية نفسي الحالية، هل أنا؟ .. في ذكرياتي التي فقدتها؟

ياسمين

عصفت بي فجأة ذكريات مؤلمة ! جعلتني أتذكر ذلك اليوم المشؤوم بتفاصيله الدقيقة، تفاصيل دقيقة جدا ! ها أنا ذي الآن أقبّل صورة والدتي الراحلة، والدتي العزيزة التي لم نستطع إكرامها بشيئ بسيط بعد موتها، و هو دفنها بطريقة لائقة ! لم نجد رفاتها .. لأنه كان .. هباءً منثورا !
عادت مرة أخرى أعاصير تعيد مجريات ذلك اليوم ؛ اليوم الذي حاولت مسحه من ذاكرتي، و لكنه تربع في وسطها، و أبى المغادرة، كانت صبيحة يوم الأربعاء الخامس و العشرين من شهر ديسمبر قبل سنتين تماما من الآن ..

ذهبت مع والدتي العزيزة إلى المطار لتوديعها، لأنها ستذهب في رحلة عمل مدتها نصف شهر، لكن تلك الرحلة المريبة كانت مجرد فخ استدرجها إلى مصيدة منصوبة بعناية، لم أعلم بأن هذا سيحدث، حتى علمنا السبب .. بعد أن وافتها المنية، و رحلت من دون رجعة .. لو علمت بأنني لن أستطيع رؤيتها مجددا لما تركتها تذهب أبدا، أو كنت لأمنعها من تلك الرحلة، أومن بيقين تام أن البشر يموتون و ما من شخص خالد، و لكن على الأقل، ليتها ماتت ميتة عادية.. كانت ميتة بشعة لم أستطع استيعابها .. نعم.. كانت طريقة لم إتصورها أبدا، و لم يخطر ببالي بأن شيئا كهذا سيحدث، حتى أن هذا الأمر ترك لي رهابا شديدا من الطائرات، صرت أخافها ..

تعانقنا بطريقة حميمية، كأي أم عادية مع ابنتها، مع إرفاق حديثنا بكلمات التوصية .. أن أبقى بأمان، و كلمات من هذا القبيل، كانت تذهب كثيرا في رحلات بسبب عملها .. و لم يكن هذا غريبا أبدا، كانت في كل مرة تودعني بنفس الطريقة، أنهت جميع الاجراءات، و عانقتني مرة أخرى... لم تخلو تلك النصف ساعة من العناق.. كنت صغيرتها المدللة الوحيدة على أي حال، سمعنا نداء الطائرة التي ستركبها، فعانقتني مرة أخرى.. كانت آخر مرة قبل أن تذهب من دون رجعة، ذهبت، و هي تلوح لي بيدها بين الفينة و الأخرى، حتى اختفت عن ناظري، و ذهبت إلى الطائرة..

لحظتها .. إنتابني شعور سيئ جدا حينما كنت أراقب من المطار ذي السقف الزجاجي الذي يطلّ على كل طائرة انطلقت، خاصة و أنا أرى الطائرة تلوح في السماء إلى الأعلى و من دون هدف و كأنها بلا وجهة محددة، و لم تستقر في وضع مستقيم بعد، على الرغم من الوقت الذي كانت من المفترض فيه أن تستقر.. نشبت الكثير من الأفكار في رأسي، و منها أن هذا عمل الطيار، ربما يحتاج الصعود إلى الأعلى أكثر، و لكن ما لم أتوقعه أبدا هو.. إنفجار الطائرة فجأة .. !

لم أُحرك ساكنا .. و بقيت متصنمة أحملق في حطام الطائرة الملتهب كالنيازك المشتعلة المستعرة و هو يسقط على المطار !

أو حتى كشُهُب تُمطر و تَرْجُمُ كلّ شيئ !

لينعدم المطار من سقفه في ثانية، أو ربما قللت الوقت، لأن الأمر بدا سريعا جدا، و يسقط الركام على رؤوس من كان في الداخل، لم أهتم للركام و هو يسقط بحركة بطيئة جدا بينما أُعيد شريط حياتي و أنا أتحسر.. و أفكر بعد أن استنتجت شيئا واحدا فقط من كل هذا، و هو.. أن والدتي .. لم يعد لها وجود بعد الآن، كانت حركة الركام بطيئة في نظري، و فكرت مرة أخرى.. ليت ذلك العناق دام لفترة أطول على الأقل ...

من بين مائة و خمسة أشخاص، لم ينجو سوى سبعة، و كنت من بينهم.. أي من بين الأشخاص الذين كانوا بجانب الباب و هم يهمّون للخروج، لا يعني ذلك بأنني قد خرجت سليمة من دون إصابات، كان الستة الأحياء قد هربوا فور سماع صوت انفجار الطائرة، بينما كنت أحملق فيها و هي تتجه نحوي، ثم سألت نفسي: من أين لي تلك الشجاعة لمشاهدة الركام و هو يقترب و يقلّص المسافة بيني و بينه، خرج الستة من الحادث بإصابات طفيفة..

أما أنا، فبقيت ستة أشهر تحت العلاج.. بسبب تلك الإصابات .. كسور في الجسم و طعنات بزجاج المطار الذي طار نحوي كسكاكين تخترق جسدي، ليرمى بي خارج المطار بعد أن حدث انفجار بسيط في الداخل و كما أصبت برضوض خفيفة في الوجه .. قد حميت رأسي في آخر لحظة، قبل أن يتوجه الركام إليّ

كانت حادثة قد زلزلت البلد بأكمله، و زلزلت كل جوارحي معها .. خاصة بعد التحقيق، الذي أظهر بأنّ الأمر كان مقصودا.. و أن الطائرة كانت تحتوي على قنابل لم يستطيعوا عدّها، جعلت من الطائرة تنفجر.. كما و أعرب الخبراء الجنائيون و المختصون في مجال الطيران أن الطيار الذي كان يقود الطائرة، له يد في ذلك.. فقد تعمد عدم الإستقرار في وضع مستقيم ليسقط ركام الطائرة فوق المطار مباشرة، بعد أن كان يعلو و حسب و لم يتبع المسار المحدد لوجهة الطائرة.. كان هذا مقصودا !

لكن الغريب في الأمر، هو تضحية قبطان الطائرة بحياته من أجل الشخص الذي أمره، هل تعرّض للابتزاز ؟ .. أم أن هذا .. وَلَاءٌ كبير لسيّدِه ..!؟.

و بعد شهرين تقريبا من تعافيّ وصلت إليّ رسالة فحواها الافتزاز و هي:

"حمدا لله على سلامتك أيتها الآنسة ياسمين"

أرسل إليك هذه الرسالة عسى أن تقرئيها و تريْ سوء نيتي الواضح فيها.

لا أعزيك على وفاة والدتك الفضولية، فقد كانت تلك الرحلة التي ذهبت إليها، رحلة لجمع بعض الوثائق التي تدينُني، و تجعل سمعتي في الحضيض.

لذلك قررت و بكل قلب صاف أن أقضي على بعوضة حاولت قرصي بطريقة فاشلة جداً.

لقد كانت امرأة لطيفة و جميلة جدا، حاولت صنع السلام و محو المخالفات القانونية في مجالها المهنيّ و لكن، و مع خالص أسفي المتواضع، أخبرك بأن والدتك استفزتني بطريقة غير مباشرة جعلت منّي أُقدم على هذه الخطوة بدم بارد.
مع إضافة بعض اللمسات، لم أستطع التخلي عن طبعي السادي على أيّ حال، لذلك كان من الممتع وجود بعض الضحايا في هذه الحادثة، لتكون والدتك المذنبة، و السبب في موتهم بتلك الطريقة الجميلة~

لطالما كرهت مجتمع الإناث، كم أكره الإناث!
و لسوء الحظ كانت والدتك واحدة منهم.
لن أقتلك، بما أنّني قد وجدت شيئا أكثر إمتاعا للهو به.

فلأُخبرك أنت ابنتها، بأن هذا العالم لا يحتاج السلام أبدا، فقد كان منال والدتك و حلمها سخيفا و صعب التحقيق في أرض الواقع، جعلت منّي والدتك أظنّ بأنها نُكتة~

لا تحاولي البحث عني، فستلقين نفس مصير والدتك العزيزة

كما و اعتبري هذه الرسالة رسالة شماتة ..
أو افتزاز أو أي شيئ آخر

أكتب إليك بقلم والدتك الذي نسته عندي

مع خالص تحياتي

" ‌Τнє Вσss"

لا تظني أبدا بأنني شخص غبي يَكشف هويته بهذه السهولة، فمهما فعلت .. لن يستطيع القانون الوقوف في وجهي .. ~


أُلجم لساني بعد قراءتها و قد حفظت تلك الرسالة الافتزازية عن ظهر قلب، حتى شعرت بالتعب من مشاعري المتضاربة، خوف، شفقة على والدتي، غضب، كره، حقد ..

لم ألجئ إلى القانون لمحاسبته على رسالة ابتزاز و لا أنوي ذلك، و تكتمت على الأمر تماما، سأصفي حساباتي معه بطريقتي الخاصّة، إنتقاما لوالدتي، فلا مناص من المواجهة و لكن قبل ذلك.. عليّ الحصول على بعض الحلفاء الذين يقفون في صفي ضد هذا الشخص، كما و يجب أن يكون عدوا له، فكما يقول المثل: " عدوّ عدوّي هو صديقي ".

سأجعل من قتل والدتي يتمنى الموت ! .. و مصادفة علمت بأن صديقتي القديمة أسماء، في خصام مع ذلك الشخص، في هذا الوقت الوجيز قد قمت ببعض الأعمال، و دخلت عالم المافيا، لأني إن لم أفعل ذلك فلن أستطيع إيجاده أبدا.. أريد إقامة حلف معها، بما أن عدوّنا و هدفنا واحد، لا أصدق بأن أسماء تقوم بمثل هذه الأعمال من دون سبب، حتى و إن كنت بعيدة عنها كلّ البُعد، أو كنت لا أزال أصدق عقليتها الطفولية، و لكنني قد استنتجت بأنها تريد الانتقام !

أعدت تلك الصورة إلى مكانها .. و وعدت والدتي بالقصاص منه لأجلها، لذلك قررت ! سأعدها تطمئن على صديقتها قليلا .. ثم أعود إليها، و أشرح لها كلّ شيئ.. إن تحالفت معها، فلن يقف في وجهنا لا ذلك الشخص و لا غيره .. !

نظرت إلى النافذة، ثم استغربت أمري، فكيف لم ألاحظ تغيُّر لون السماء بعد أن كان أزرق صافيا، و الآن هو برتقالي مُصفرّ، نعم، إنه لون الغروب ..
لقد انتهى هذا اليوم بلمح البصر ..

سمعت طرقا على الباب، فسمحت للطّارِق بالدخول، قد كانا ماكس و جي، يا لهما من وفيّيْن، لطالما قدِما في اللحظة المناسبة.
قال جي : لقد حان وقت العشاء يا آنسة
ليردف ماكس بعده : تعاليْ إلى غرفة الطعام، كل شيئ جاهز.
نظرت إلى السماء قليلا و تأمّلت جمالها، ثم أجبت : نعم .. هيا بنا.

و انتهى هذا الفصل
رجاااءً
تصويت للفصل
و تعليق صغير
فضلا و ليس أمرا
أنا حقا أتعب لكتابة فصل كهذا
و لا أنشر أي فصل إلا إذا كنت حقا متأكدة من جودته.

تلك القصيدة هناك في الأعلى كانت من تأليفي أنا الكاتبة، و أهديها إلى صديقتيّ شيماء و كوثر.
نعم أنا الكاتبة أسماء هارون لديّ صديقة إسمها كوثر و الأخرى شيماء و قد استعملت اسميهما في هذه الرواية.
أشكر كلّ من دعمني للكتابة، و حتى أستاذ السنة الخامسة إبتدائي الأستاذ جلال، الذي كان يناديني ب: "إبنتي الشاعرة"
و كتب هذه الكلمات في ملفّي الدراسي.
شكرا لكم جميعا.

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top