الفصل الخامس عشر

أحداث كثيرة
وقطة وسط الحمام

ملاحظة: هذه الرواية ليست للنسخ أو الاقتباس و الترجمة و غيرها.

كوثر

لغارقة أنا في فوضى عارمة ها هنا ! .. لعالقة أنا في ريح معاكسة لتيّاري ! .. كرهت تلك الكلمات الجميلة المنمقة التي كنت أخدع بها نفسي طويلا !.. كرهت لعب دور اللطف ذاك ، إلى متى سيستمر هذا يا ترى ؟ .. ومتى سأكتسب شخصيتي .. وإلى متى سيبقى قلبي ضريرا  وروحي يتيمة ! .. لقد اكتفيت ! مجرد صراع داخلي بيني وبين نفسي التائهة في سراب وداخل ضباب يخفي معالما لو كانت واضحة لتغيّر كل شيئ ، إلى صفّ من سأقف ؟
لضائعة أنا في تفاهات صغيرة !، في عالمي الوردي السابق ذكره، لمُجادلة أنا الحماقة !، لمفاوضة الحذاقة .. فأنى لهذه المعادلة أن تكون صحيحة؟ !، ولذلك يسير كل شيئ عكس تيار ريحي ! .. لخائفة أنا من ظلّي أن يغدر بي !

تخبرني الأيام من حولي ها هنا بأن كل شيئ على ما يرام ، كلا بل ران على عيني كل ما هو يغدر بي، غشاوة تغطي بصري وتعميني عن الحقيقة المخفية، أم أن مشاعري التي تصارع العقل والمنطق تحاول بجهد وجهيد التغلب على عدوها في معركتها الضّمُوسِ، كي تجعلني أنسى، لا ! بل أتناسى ! التفاصيل الصغيرة اللّماحة.

أيا ليت الحياة كلمات تكتب بقلم رصاص كي تُمحى أي زلة فيها بسهولة ويسر، أيا ليت ما أتمناه بدعوى يا ليت يتحقق.

أيا ليت حياتي كابوس سأستيقظ منه عاجلا أم آجلا.
أيا ليت الزمان يعود لأُعدل ما يحدث.

أيا ليت وأيا ليت، تتبعها الأخرى في أمانٍ كثيرة لا عدّ ولا حصر لها .. آهٍ كم أمَانِيَّ كثيرة و مستحيلة التحقيق !.. تبا لك يا أماني العديدة ..! صهٍ يا أفكارا تراودني ..! وحواجز تبعدني ! وكرًى يباعدني ..! ويرهبني، يفتك بي ويقتلني ..!  يعذبني ..! يؤلمني .. يبكيني ويحسّرني ..!
ريان، إن كانت لديك يد في هذا الأمر، فأنا من ستنهي حياتك ..!

شيماء

كنت قد استيقظت هذا الصباح وأنا أشعر براحة شديدة، وسعادة تغمرني، سرورا يتملك كل جوارحي، فرحة تملئني، وغمرة تغمرني غمرا ..!

ربما هذه السعادة الشديدة بسبب اتصال تاي بي الليلة الماضية، فلأعترف بهذا .. نعم .. لقد سهرنا ثلث الليل ونحن نتحدث وندردش معا، وأغرب ما شعرت به أثناء حديثنا هو شعور الأُلْفَة الذي لم يسبق له مثيل في حياتي، أحسست وكأننا نعرف بعضنا البعض منذ زمن طويل جدا، وكأنني لم أتعرف عليه منذ يومين وحسب.
صفعت نفسي و قد كان ذلك مؤلما جدا، كان عليّ أن أفعل هذا منذ وقت طويل، كي أفكر مليّا فيما أقوم بفعله.

شيماء ! أنت فتاة عاقلة، أن أستظرف و أستلطف شخصا ما بهذه السهولة، ليس من عاداتك أبدا، كان علي أن أظهر له بعضا من الجمود في البداية كي لا يظن بأنني فتاة سهلة المنال، أو يمكن التلاعب بها، على خلاف كل ما أندم حياله الآن، هذا كل ما فعلته حرفيا، و هو أن أضحك بصوت عال معه ! وأتكلم بطريقة غير راقية، لا تدل أبدا بأنني من سيدات الأعمال.

كان علي أن أتريث قليلا، و أكون رزينة وأتظاهر بأنني فاتنة لا يمكن الحصول عليها.

فردت شعري إلى الوراء .. نعم كل شيئ بخير، لقد حدث ما حدث على أي حال، ما الفائدة من التفكير؟  سأستهلك بعض الثواني من حياتي و حسب.
(الكاتبة: و أنا أستهلك ساعات من حياتي في كتابة خطابك  !!!!)

حسنا سأكون رزينة في المرة القادمة، وأجعله يستغرب من طريقتي الجديدة في التعامل معه، لا ضرر من الاستمتاع قليلا، أنا لا آخذ ما يحدث بيننا بمحمل الجد بعد أن اتجهت إلى الأسفل ،سمعت ضجة من المطبخ فشققت طريقي إليه لأعرف ما يحدث، و تبادرت إلى ذهني فكرة غريبة جدا وهي: هل توليب وكوثر تتعاركان بأدوات المطبخ؟

مجرد التفكير في هذا جعلني أضحك، لذلك آلمني الجرح كثيرا .. وكأنه وخز إبر متتالية، قد مشيت بحذر إلى المطبع لسببين أولهما جرحي الذي يعيق حركتي المستقرة، والثاني كي لا تسمع من في المطبخ صوت وقع أقدامي فتتوقف عن ما تفعله وأكون قد فوّتّ المشهد  !

بعد أن وصلت إلى المطبخ طللت من النافذة الصغيرة الخاصة به، كي أرى ما يحدث، وكنت أعلم جيدا بأن تعابير وجهي الآن مضحكة جدا، وأنا أحاول أن أخفي رأسي كي لاترياني، أضحك متألمة بسبب جرحي والضحك الذي يهزني.

وكانت الفاجعة، لم تكن توليب مع كوثر بل كانت كوثر وحدها، تطبخ الطعام ومع كل لمسة ليدها مع أدوات المطبخ يصدر صوت مزعج يصم الآذان، كانت هذه الحركات كفيلة لإخباري بأنها في مزاج سيئ للغاية !

على أي حال .. دخلت المطبخ بخطوات تصدر أصواتا خافتة، حسنا، أنا أحاول تلطيف الجو فقط لا غير .. وكذا إخافتها لتضحك وتذهب هذه الطاقة السلبية التي شحنت بها المطبخ .. أفف حسنا، فلتظهري يا نواياي الخبيثة .. أريد فقط إخافتها ورؤية تعابير وجهها التي ستجعلني أضحك لأيام، بالمعنى المجازي طبعا !

إقتربت منها بهدوء شديد، و بعد أوشكت على لمس رأسها حتى يرعبني صوتها المخيف الذي لم يسبق له مثيل من قبل وهي تقول : أعلم .. بأنك ورائي ! لمسة واحدة فقط و سينتهي أمرك لا محالة !

إعتراني فجأة شعور بأنها تهذي، أو جُنّت؟ ربما؟،  لم تتحدث معي من قبل بهذه الطريقة !

يا للهول، هل اقتربت منها في وقت خاطئ؟ .. و قبل أن أكمل استنتاجاتي التحليلية السخيفة سمعت دويّ صوت ضحكها العالي، هل تضحك .. عليّ ..؟  ، ثم جاء دور عقلي الأحمق ليفكر قليلا، وقد استنتج الآن بأنها كانت تمزح وها أنا ذي وقعت في الحفرة التي حفرتها لها، بل وقعت وطُمِرت فيها طمرا ..!

أخذت واحدة من المعالق الكبيرة التي كانت بجانبي وضربتها بها، على رأسها، فصرخت .. وقالت :
هل جننت؟  أتودين قتلي؟

قلت بعد أن كان كلامها في غير محله : أولا، لقد سخرت مني وتستحقين ذلك، ثانيا، إنها مجرد ملعقة ولن تتسبب في موتك.
فقالت مقاطعة إياي ساخرة : ثالثا !
فأجبت بعد أن علمت بأن مزاجها السيئ قد تغير إلى الأفضل .. تقريبا … : ثالثا هذا ما يسمى بجزاء سنِّمار.

فقالت متعجبة تتصنع البراءة وترسم ملامحها بإبداع مشيرة إلى نفسها بسبابتها : أنا؟ و هل قابلت إحسانا منك بالإساءة لتقولي هذا؟ 

فأجبتها مؤكدة أرفع سبابتي لمستوى سبابتها أنا الأخرى : نعم ! لقد كنت أحاول جعلك تشعرين بشعور أفضل بعد أن كنت تبدين غاضبة.

وقبل أن تجيب على كلامي وصلنا صوت توليب وهي تقول بتململ دليلا على أنها قد استيقظت توا : ما هذه الضجة؟ هل تتعاركان مجددا؟.

فأجابت كوثر مصححة كلامها : نحن لا نتعارك وإنما نتناقش بطريقة حضارية جدا !

إبتسمت توليب ابتسامة تدل على عدم التصديق وقالت : حقا؟

فردت كوثر على سؤالها القصير جدا برد مختصر جدا : نعم.
قالت توليب قبل أن تغادر متجهة إلى الحمام: أنت في مزاج جيد حقا يا شيماء.

يا إلهي …أشعر بأن هذا اليوم لن يمر على خير فكل شيئ لا يسير على ما يرام، وقد بتُّ أشعر بأن صداقتنا تتفكك يوما بعد يوم …

سوزان

لم أعد بعد الآن أهتم لتلك التفاصيل الدقيقة كما كان الحال دائما، بئسا .. لقد حلت الخاتمة .. عفوا .. لقد حوصرت في معضلة !

كنت أمشي الهوينى إلى بيتي المتواضع بعد انتهاء الفترة الصباحية من المدرسة أشعر بالطوى و المسغبة ، الذي يقبع في الضواحي الشرقية للحي الشعبي هذا، وكالعادة، لا شيئ يميز هذا الحي، غير صوت شاحنة القمامة التي تمر دائما في وقت محدد وهو الثانية عشر وربع صباحا، صوت جارتي التي تتشاجر مع الجارة من المبنى الآخر، ليدوي صراخهما الحي كله، كذبذبات صوتية مزعجة جدا، ومع هذا أشعر بالسكينة الغريبة التي تجتاحني وتجعلني أشعر بأنني مريضة نفسية تفكر في أمور غريبة جدا، وهنا جالت بخاطري رواية الغريب لألبير كامو، كان "مورسو" شخصا غريبا حقا، ومتبلد المشاعر، في نظري، ولكنه طيب لا يجد ما يقوله فيلتزم الصمت، وعندها أيضا أدركت بأن الصمت نعمة، فإن خرجت بعض الكلمات فلا سبيل لاسترجاعها، كسهم أُطلِق وما من سبيل لإيقافه وهو منطلق بأقصى سرعته يتبع مساره المحدد، وقبل أن أنتبه، وجدت بأنني قد انحرفت عن طريق بيتي بسبب هذا الشرود، وهناك وجدت في ذلك الزقاق الضيق كرم الفتى الذي كان يضايقني أيام الإبتدائية، لقد طُرد من المدرسة بسبب غباءه وإعادته نفس السنة مرات عديدة وكذا سلوكه السيئ تجاه التلاميذ وحتى الأساتذة، فوجد هذا الأخير الشارع مأوى وأنيسا له في هذه الحياة الغريبة غرابة مورسو، أما أنا فكنت تلك البائسة التي تكتب روايات لم يقرأها أحد، حلمها التافه الوحيد هو شراء روايات أغاثا كريستي التي تبلغ قيمتها بضعة دراهم وحسب،  ولكن هذه الدراهم القليلة، كنت دائما أدّخرخا و أجمعها مع الأخريات لأدفع ما عليّ لأستاذ الدروس الخصوصية، وقد أوليت دراستي أهمية كبيرة، بعد وفاة والدي الذي كان يحبني كثيرا لأنجح ويكون لدي ما يكفي من المال كي لا أحتاج أي أحد، فقط لولا تلك المرأة التي قلبت حياتنا رأسا على عقب لما اضطررنا إلى فقدان ما هو عزيز على القلب، وما هو صعب على عليه فراقه.

قد نظرت بيأس إلى كرم، وهو يقف ليدخن سيجارته،  عدت أدراجي إلى بيتي الذي قد تجاوزته سابقا ببعض أمتار قليلة، وكالعادة كانت السيدة جيهان تزأر على أختي ماريا لأنها لم تدفع إيجار هذا الشهر، من وجهة نظري قد بدت لي سيدة جشعة وطماعة ترغب بالمزيد، وتريد دائما رفع سعر هذا البيت المتهالك وكأنها تؤجرنا قصرا مفروشا، لا منزلا على وشك التّداعي !
ولكن أكثر ما أزعجني هو شكل ماريا وهي تنظر إليها بنظرة بدت مشوشة، هل هي ثملة مرة أخرى؟ 

آه .. تبا ! تبا لهذا !، كانت اللامبالاة واضحة على محياها، وكما كانت تنظر إليها بقرف، أما أنا فقد شعرت بملل كبير و لم أستطع التدخل في هذا الشجار كم كالعادة، أشعر و كأنني قد استنفذت طاقتي كلها مع أنني لم أفعل شيئا يذكر البتة، المراقبة وحدها متعبة جدا ، أنا فقط لم أعد أستطيع … انهارت كل طاقتي المنعدمة أساسا، وقد اغرورقت عيناي بالدموع، لم أكن أشعر بالحزن ولا الألم، أنا .. فقط .. أشعر بالتعب .. تعب شديد، لا أستطيع التحمل بعد الآن، لقد طفح الكيل ..
جثوت على ركبتيّ أواصل البكاء كطفل صغير يطلب والديه ليطبطبا على كتفه ويريحاه .. لقد انهرت فعلا وكنت أمسح دموعي التي أبت أن تتوقف عن النزول بكم يديّ تارة وبيديّ العاريتين تارة أخرى، لم أكن أر جيدا ما هو أمامي ولكنني قد شعرت بيد امتدت لتمسد بلطف شديد على كتفي، وقد كانت هي، أختي ماريا ، محمرة الخدين كالعادة، من فرط الشرب، كانت تبدو كالبلهاء لا تفقه شيئا مما تفعله عدا أنها تحاول مساعدة أختها الصغرى، كانت وبلا ريب في عالم آخر !
متجاهلة صوت السيدة جهان التي تصدح مطالبة بالإيجار، وكم وددت لو أجعلها تصمت. .. وكانت ماريا لا تزال تضع يدها على كتفي، وعندها وقفت ومسحت آخر بقايا دموعي، واندفعت إلى السيدة جيهان حتى أحادثها بطريقتي الخاصة، ولكن ماريا استوقفتني وهي تهز رأسها نافية بمعنى لا تفعلي، وكم تملكتني رغبة عامرة في ضرب رأسيهما ببعض، جيهان وماريا، لقد جعلتاني هاتان الغبيتان أفقد أعصابي.

زفرت السيدة جيهان بصوت عال جدا ثم رحلت وهي تتمتم بكلمات غير مفهومة و هذا كان لصالحها فلو سمعتها تتكلم بسوء عني أو عن ماريا فسأجعلها تندم على الخروج من بطن والدتها  ، جيهان، تلك السافلة ! النذلة المستغلة !

بعد أن عدنا أنا وأختي الثملة ماريا إلى المنزل أوت إلى فراشها بسرعة كبيرة، وقبل ذلك قد استفرغت ما في معدتها كله، ثم بدت على ملامحها علامات الارتياح والطمأنينة وهي تخلد في نوم عميق، وفجأة صحت وقد فتحت عينيها مرعوبة مدهوشة وكأنها قد تذكرت أمرا هاما منع عنها النوم في سلام.

بحثت عني قليلا في الغرفة، وبعد أن التقت أعيننا في نظرة، تلك النظرة التي بدت كعتاب شديد، فور أن قطعت ماريا التواصل البصري بيننا، وعندها أدركت بأنها لا تستطيع مواجهتي أو حتى التبرير عن موقفها السابق، فقالت وهي توجه نظرها إلى السقف : ألا تلحظين يا سوزان بأن البيت يبدو قذرا هذه الأيام؟

فأجبت ببعض الاستغراب الممزوج بالسخرية، إذ أن آثار الثمالة لم تزل عنها بعد : هو هكذا دائما لو تلحظين.
ثم قالت وهي تضحك بجنون، حسنا لقد اعتدت على الأمر : نعم، هذا صحيح.

ثم أصابها بعض الفواق و صاحت بصوت عال مستطردة : لقد .. أنا .. لد.. ي موعد اليوم .. أيقظيني .. هئ .. على الثانية .. هئ .. زوالا.

ثم وضعت بكل ثقلها على السرير بحركة سريعة لتكمل نومها، أو لأقل سباتها العميق، بيد أني كنت أطبخ لنفسي شيئا أسدُّ به جوعي.

توليب

بعد أن انتهينا من تناول وجبة الافطار الدسمة بالمعارك، خرجت تاركة ذلك المنزل الذي جعلني أشعر بشعور الذنب، أما مصدره وسببه، فجواب هذا السؤال غير موجود !

شققت طريقي بسيارتي إلى الشركة، وأثناء الطريق كنت في تفكير مستمر بما يشغل بالي طوال مدة ليست بالهيّنة، وهو ريان، السكرتير الخاص بي، لم أستطع أن أتّهمه، فلطالما كان شخصا مخلصا لي، ومن المستحيل أن أشك به، لكن ريان الوحيد الذي يعلم بكل مخططاتي، فأنى لأحد أن يكتشف ما سأفعله وبتفاصيله غيره، لا يمكنني أن أجزم ولا أن أتوقع أي شيء بعد الآن، حسنا .. أنا لست ²زرقاء اليمامة.

إن واصلت على هذا النحو فلن أصل إلى أي نقطة، سأدخل في دوامة، لا بل حلقة جهنمية تعيد نفسها ولا نتائج تذكر.

قد ضربت مقود سيارتي بعنف حتى كادت يدي تنكسر، و رغم ذلك، لم أشفي غليلي بعد، لا أستطيع التحمل حتى أكشف كل هذه الأمور المبهمة التي تحيط بي، و تطوّقني في زاوية لا مفر منها.
لا أريد الموت قبل أن أنتقم من ذلك الرجل الخبيث، لذلك خففت من سرعتي حيث أني قد انطلقت بسرعة كبيرة قد تودي بحياتي إلى الموت.

و كم كان يزعجني مواجهة شخص لا أراه و لم أره من قبل و كما لا أعرف وجهه، بإمكانه أن يكون بأي مكان و في أي وقت ولا أكتشف أمره. بإمكانه أن يندسّ وسطنا كالجاسوس و لا نلقي له بالا، أو حتى نجد عنه دليلا، و هذا كان اكبر ما يزعجني في الأمر كله، بعد مسألة الجاسوس الدنيئ، ريان .. من الأفضل لك أن تبقى بعيدا عن هذا ! و إلا، .. فسأضطر إلى تصفيتك !

ركنت سيارتي في مرآب السيارت، ثم صعدت إلى مكتبي لأباشر العمل الذي أهملته لعدة أيام، لتتراكم فوق مكتبي أوراق كثيرة جعلتني أصاب بحالة من الفشل المعنوي، مستندات و مشاريع و ملفّات … جميعها بحاجة إلى الاضطلاع عليها و قراءتها جيدا، فلا أحد يصلح لمتابعتها غيري، جميعهم بلا فائدة، يتلقون أجورهم و لا يعملون ما عليهم. كم هذا شنيع، أنا فقط لست متفرغة لهذه الأمور و إلا لكنت عاقبتهم جميعا و خصمت من أجورهم.

سمعت طرق الباب، فسمحت للطارق بالدخول، و كما توقعت، كان ريان هو الطارق، فقال بعد أن ألقى التحية : حمدا لله على عودتك و توليك زمام الأمور، فلقد حدثت الكثير من المستجدات فيما يخص الشركة، لقد راجعت جميع الملفات و لم يتبقى سوى توقيعك عليها كالعادة، و سيكون اجتماع الواحدة زوالا هو آخر شيئ نفعله لهذا اليوم، يمكنك التفرغ للاعتناء بالآنسة شيماء.

آه ريان كم أنت شخص جيد، لقد راجعت كل هذه الأوراق المملة، و لكن، ثقتي به قد باتت شبه منعدمة، و لذلك سأضطر إلى مراجعتها من جديد، صفحة صفحة و ورقة ورقة، و فجأة لفت انتباهي كلامه عن الاجتماع، فأنا لم أرتب لهذا. فقلت له : عن أي اجتماع تتحدث يا ريان، أنا لم أنظم أي اتفاقيات مع أشخاص جدد كي ألتقي بهم و أناقشهم في موضوع ما، أم أنك قد تصرفت كما يحلو لك في فترة غيابي المنصرمة هذه، و صرت تعبث و تقرر.

لاحظت دهشة كبيرة على وجهه، حتى أن تلك الدهشة بدت لي كخيبة أمل دفينة. فهل قسوت عليه يا ترى؟ العمل المضني الذي تركته على عاتقه ليس سهلا، و بسبب شكوكي هذه، أنا، و بالتأكيد فقدت ثقتي به تماما. حتى و إن كان شخصا مخلصا يعمل بتفان من أجل ازدهار هذه الشركة، و حتى عملي الآخر مع غريمي.

و هنا أجاب ريان و ملامحه لا تخلو من الحزن و الخيبة الشديدة : أقدم لك أشد الاعتذار يا آنسة إن كنت قد تجاوزت حدودي معك و قررت عنك، إنه خطئ لن يتكرر مرة أخرى، هل ألغي الاجتماع؟

شعرت بتأنيب الضمير، و لم أستطع تركه يحزن بسببي، و تغلبت مشاعري علي بغتة، و تملكتني رغبة شديدة في الاعتذار فأردفت له آسفة معتذرة : …ريان .. أنا جدُّ آسفة، لقد فقدت أعصابي، و قد حدثت الكثير من الأمور هذه الأيام لذلك، لم أتمالك نفسي و صببت جام غضبي عليك، أكرر اعتذاري إليك مجددا.

قاطعني ريان بعدها قائلا : لا حاجة أبدا لهذا الاعتذار المطوّل، فلقد تفهمتك قبل أن تعتذري.

أردفت محاولة تلطيف الوضع : شكرا لك على تفهمي يا ريان .. إذا .. مع من سيكون هذا الاجتماع؟ أحتاج إلى تفاصيل أكثر عن الأمر.

لاحظت تلك اللهفة الشديدة عندما باشر الحديث ساردا عليّ كل التفاصيل، و فهمت من كلامه بأن هذا الاجتماع، مع آنسة شابة تطلب الشراكة لبناء منشأة صناعية تهتم بتطوير إنتاج مواد البناء و كما أنها قد قدّمت مخططا كاملا عن المبنى و الموقع، و كذا المواد اللازمة و عدد العاملين الذين يتطلبهم البناء وحتى أنها قد حددت الأيام التي سيستغرقها و العديد من التفاصيل، مما جعل غريزتي الفطرية تعمل و تنبِّؤني بحلول الخطر.

إن. هذه الشابة قد أتت مستعدة، راسمة كل الخطط، و كما تبدو على يقين مئة بالمئة بأنني سأقبل العمل معها و عندما انتهى ريان من الحديث، قد ذكرته بأنه قد نسي أهم شيئ في ما يقوله و هو اسم هذه الشابة فأردف قائلا : عذرا على إهمالي هذه النقطة يا آنسة ، فلقد كان هذا من فرط حماستي لهذا العمل، إنها الآنسة ياسمين ميرانيي.
و قد فاجأني هذا الاسم كثيرا، أليست نفسها التي التقيت بها في المستشفى قبيل هروب شيماء؟

و كم وددت بعد ذلك مقابتها فطلبت من ريان أن يحضر لهذا الاجتماع على أكمل وجه و بدت أسارير الفرح على وجهه بعد هذا ثم طلبت منه الانصراف، و كنت على يقين بأنه إن كانت نفس الشابة التي التقيت بها سابقا فإن هذه حتما ليست بصدفة !

لم أكن لأهتم كثيرا بهذا المشروع لولا الإسم الذي عرض عليّ الآن، فما غايتك من هذا الاجتماع يا ياسمين؟

رشا

و كم تمنيت الشعور بالسكينة ! و في لحظة من اللحظات شعرت بها بطريقة غريبة، لم أجد لها تفسيرا، كنت في مكان مظلم، و لكنه مشرق، رائع و هادئ، لا منغِّصات و لا آلام و أحقاد و مشاعر سلبية، مكان رائع جدا يخلو من كل شيئ .. و لخلوِّه من كل شيئ، كان مذهلا، و هذا ما ميّزه، لا أحد يتدخل في شؤوني، و لكن .. أدركت بعد لحظات بأني كنت أغرق في عالمي الخاص ليس إلا، و أصنع لنفسي درع حماية منعزلا عن العالم، و لكنني لم أشئ الاستيقاظ، و لم أستطع ترك هذا المكان، كان يسحبني و يعطيني شعورا جيدا، حتى أني لم أستطع مقاومته، كنت محاصرة من كل جانب، و مقيّدة بسلاسل تمنع عني الحركة لأُغادر، و كأنها تحتضنني؟ يا إلهي .. و أخيرا  ، شيئ يودُّ مني البقاء، و لا يدفعني إلى الرحيل بعيدا، و فجأة ! ظهر نور صغير تجسّد على شكل نافذة كبيرة، و قد لاحظت بأنني أستطيع النفوذ عبرها بسهولة، و كم وددت أن أرى مصدر الضوء الذي ينبثق منها، فدخلت إليها و عبرتها، و وجدت الكثير من "أنا"يقمْن بأعمال مختلفة، أو  تحدث لهن أشياء مختلفة، و عندها أدركت بأنها مجموعةمن الذكريات التي مررت بها ! نعم لقد كانت ذكرياتي، أنا،  التي فقدتها سابقا، لقد .. عادت !

وكم كانت دهشتي كبيرة  بهذه الأمور التي أراها  ، نعم لقد عاد كل شيئ و استرجعت ذاكرتي، خاصة، اليوم الذي دخلو فيه في تلك الغيبوبة  ، و تذكرت الحتدثة التي أودت بي إلى هذا .. تذكرت جميع من أساء إليّ و من أحسن إليّ، و تلك العجوز الشمطاء من الميتم، تلك المرأة الشريرة التي عذّبتني كثيرا، و تلك العائلة المتخلفة التي كرهتني كثيرا، و سارة التي اعتنت بي دائما، و قد احتضنتني مشاعر الكره و الحقد، و أردت الانتقام، و لم أستطع الانتظار، و شعرت بأشواك تلسعني كلما عدلت عن الفكرة، و حفزتني تلك الذكريات على الأخذ بالثأر .. سأثأر لحياتي البائسة، و الأربع سنوات التي نمت فيها، سأثأر لكل لحظة تألمت فيها، أبت، أماه، أخي العزيز  ، أنا قادمة ! سأجعلك تعيش جحيما سرمديا لا مفر منه يا ميخائيل رايدن .. يا .. أبي !
Mikhail raiden.

لقد حمدت الله كثيرا على هذه النعمة، و تذكرت سبب تلك الحادثة الشنيعة، و كم مرة حاول فيها رايدن قتلي  أن أدخل في غيبوبة بسبب الدليل القاطع الذي كان لديّ، كنت في غيبوبة لا أستطيع فتح عيني أبدا، و لكنني كنت أشعر بكل شيئ و أسمع لحديث كل الأشخاص، و لكن جسدي أبى الحراك، و أهدابي لم تشئ أن تبتعد عن بعضها فآثرت الانطباق، و بعد أن استيقظت نسيت كل شيئ،  و ها أنا ذي الآن أتذكر كل شيئ، لأعود مرة أخرى مستعدة، إن الإنتقام طبق يقدّم باردا !

و أول شخص سأجعله يعاني هو تلك العجوز الشمطاء التي جعلت حياتي جحيما بأمر من رايدن، تلك السّمجة الشريرة، محِبة المال !
هي رغبة تأججت داخلي، و نَمَت فورا ..

ستدفع الثمن يا ميخائيل رايدن، فحتفك قريب، و مصيرك بين يديّ .. فقط عندما أُحكم قبضتي على تلك الأوراق التي أخفيتها، و كانت سببا في جعله يستهدفني و يحاول قتلي، لأنني اكتشفت أمره، و كان باستطاعتي جعله يخضع لحكم العدالة، أو حتى أن يُعدم !
و لكن خططي تحطمت ما إن استهدفني، و كانت الأربع سنوات تلك، كأيام راحة له يستمتع فيها، و هدوءً و سكينة بالنسبة له، لكنه لم يعلم .. بأنه الهدوء الذي يسبق العاصفة !

سيحترق كل مجرم متحالف معه كالنار في الهشيم !

و فجأة استيقظت،  و استقبلتني إنارة شديدة، جعلتني أغلق عيني مرة أخرى، حتى تعودت على الإضاءة، لم أكن أفتح عيني على وسعهما، مما لم يجعل أحدا في هذه الغرفة يكتشف بأنني استيقظت، أو لأن سارة التي ميّزت صوتها بوضوح كانت تقف موارية إياي بظهرها تقابلها الطبيبة فدار بينهما الحديث التالي :
_لا يمكنني الحكم بعد و إعطاؤك النبأ الصحيح، قبل أن تمر أربع و عشرون ساعة، عندها يمكنني الحكم على حالتها.

ثم استطردت و قد تحسست في نبرتها الخبث الشديد الذي لم تلحظه سارة على الأغلب : و لكن و باحتمال تسعين بالمائة قد تبقى في غيبوبة، و قد تدوم لأكثر من سابقتها لأنها تلقّت صدمة قَوِ..
إستوقفتها سارة غاضبة مزمجرة في وجهها : ألم تقولي من قبل بأن أخذها إلى مكان مألوف سيجعلها تسترجع ذاكرتها؟  .. و الآن تقولين بأنها تلقت صدمة، ألست طبيبة؟ لما لم تضعي هذا في الحسبان؟

رفعت رأسي قليلا دون إحداث صوت أو حركة تجعلهما تكتشفان أمري و رأيت وجه الطبيبة الذي بدت عليه أمارات التوتر و الرعب ثم قالت مدافعة عن نفسها و كان جليا بأنها قد حضّرت ما ستقوله : أُقدر غضبك يا آنسة و لكن صديقتك و بعد الفحص السريع الذي قمت به في ملفها يوم أمس و تنبيشي لماضيها قليلا .. إتضح لي بأنها مريضة نفسية .. و لهذا دون غيرها من الأشخاص لن تسترجع ذاكرتها كالأشخاص الطبيعيين ! و لم أستطع التواصل معك لإخطارك كون ملف أرقام هواتف الأوصياء على مرضانا قد ضاع بسبب الإدارة السيئة من طرف عاملة الإستعلامات التي عُيِّنت كمسؤولة على الحفاظ عليه ! لذلك رجاءً .. لا تحمليني وِزر خطئ لم أقترفه.

بدت سارة مقتنعة تماما لما تقوله تلك الطبيبة، و لكنها صاحت فجأة : سأذهب لأتحقق من الأمر بنفسي.

و همّت سارة بالرحيل و لكن الطبيبة أمسكت بيدها و هي تقول متوترة : لقد طُردت تلك الموظفة لكثرة الشكاوى .. و لشدة غضبي أوصلت الأمر إلى المدير و طالبت بطردها لأنها أضاعت الكثير من الملفات المهمة، حتى أننا نظن و نحقق في أمرها بأنها متواطئة مع منظمة خطيرة تستهدف أحد مرضانا، لذلك أريد منك أن تبقي بعيدة عن الأمر كي لا تجوب الشبهات حولك و تكوني محور اهتمام الشرطة التي تحقق قي الأمر ! ألا تثقين بي يا آنسة سارة؟

أجابت سارة و قد كان يبدو عليها الاقتناع التام : أبدا !.. ثقتي بك مطلقة و لهذا جعلتك تشرفين على رشا كونك الأمهر و الأكفأ .. شكرا لك على تنبيهي أيتها الطبيبة و شرح كل هذا من أجلي ..!

أردفت الطبيبة بسعادة تغمرها : لا شكر على واجب آنستي .. إنني أقوم بعملي و حسب، و أتمنى من كل قلبي أن تستعيد الآنسة رشا عافيتها في أقرب وقت، هذه كانت أمنيتي الوحيدة منذ استلمت حالتها بعد أن يئس منها الطبيب جورج و لم يجد لها حلا ..

ثم خرجت بعد أن ألقت الوداع ..

و أنا متأكدة تماما بأنها عميلة لدى رايدن، و إن لم تخنّي الذاكرة، فإنها ميشيل كريشا، و تنتحل شخصية الدكتورة ملاك نور الهدى سَيَّار المتحصلة على شهادة الدوكتوراه بأعلى رتبة في دفعتها  بل و حتى في الجزائر كلها، إنها العميلة السرية ميشيل التي تستطيع تقليد الصوت، و ماهرة في صنع أقنعة الوجه و لهذا يمكنها التنكر بشخصية أيّ أحد  و كذا متحصلة على شهادة ماستر في الطب ..

لا أعلم تخصصها و لكن يبدو بأنها ماهرة جدا، و لكن وجهها و مع كل ما تحاوله لإخفاءه، لقد لاحظته، و بسرعة خطرت ببالي ميشيل العميلة لدى رايدن، فلا أحد كفؤ لهذا العمل غيرها من أتباع ميخائيل  .. يا ترى ما الذي فعله بالدكتورة نور الهدى؟  .. لقد تذكرت وجه تلك العميلة التي كانت متأكدة بأنني لن أتعرف عليها عند استيقاظي من الغيبوبة ..  أما السؤال المحيِّر الذي أهلك أعصابي و أتلفها هو : كان بوسع ميخائيل رايدن قتلي و لكنه لم يفعل .. لماذا؟

كنت أظن بأنه هو من تحت قبضتي و لكن الواقع قد تغيّر  فأنا من كنت تحت رحمته لأربع سنوات .. فهل كان يا ترى ينتظر استيقاظي ليظفر بمخبئ الأوراق؟ .. لا .. أستبعد هذا التخمين فلو أنه رغب في هذا لما قام بتكليف تلك العميلة بجعلي أتلقى صدمة تعلم بأنها قد تجعلني أدخل في غيبوبة أخرى أو حتى تتسبب في إصابة دماغي بعطب جسيم ما .. مما سيودي بحياتي، و هذا يعني بالطبع الموت المحتّم  ، هذا سؤال قد لا أجد له إجابة أبدا .. لذلك سأبقيه طيَّ الكتمان في نفسي حتى يحين أوانه.

و آثرت ادعاء أني لازلت نائمة، حتى أجد خطة أطلع سارة بها .. أنا فقط .. بحاجة إلى تصفية ذهني من كل شيئ .. فقط .. لوقت قصير .. أجمع فيه شتات نفسي و أرتب أحداثا تشابكت مفاهيمها، و معلومات لم أستذكرها جيدا، أحاول استذكارها، لأهميتها .. كي أربط كل شيئ ببعضه و يُماط اللثام عن الحقائق، و تتجمع أجزاء هذه الحكاية الطويلة.

ياسمين

لقد عملت بجد هذه الأيام ! لم أعمل هكذا قط في حياتي كلها، و لكن ما أتعبني في العمل بكثرة هو كلُّ محاولاتي لأجعل والدي لا يشك بأمري .. لم يعلم بأنني أريد الثأر لوالدتي، و لم يعلم حتى بشأن تلك الرسالة التي أرسلها الرجل المسمى باسم البوس، ذلك الذي حرمني من والدتي العزيزة الغالية، و قام باستفزازي برسالته الوقحة، و كأنه لم يقترف ذنبا أو خطيئة تذكر، شخص بلا ضمير أو إحساس، أقصى طموحه الذي علمته، هو تخريب هذه البلاد و نشر الفساد فيها، لسبب غير معروف .. و قد  قال الله تعالى:﴿ و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ﴾، إذا كان قتل الأرواح بهذه السهولة بالنسبة له، فكم شخصا قتل هذا الشرير الوضيع؟

كان علي إخفاء أمر انتقامي على والدي، فلو تبادر إلى مسامعه و لو تلميح صغير عن الأمر فسيهيج و يموج .. و ما ساعدني على إخفاء الأمر عنه هو تمويه جي وماكس اللذين ساعداني، وسانداني، أشاركهما همي وكربي، يخففان عني أوجاعي ..

كان العمل الذي أخذ كل وقتي هو مشروع لبناء منشأة صناعية تهتم بتطوير إنتاج مواد البناء، و كما كان هذا العمل في نفس الوقت لا يعني لي شيئا .. أردت و حسب لقاء توليب عبر عرض هذا المشروع عليها ..

أما عن سبب عدم ذهابي إليها مباشرة، فهو: لقد لاحظت في آخر مرة التقيت فيها توليب بعض الأشخاص المريبين الذين يحدقون بي و يراقبون وجهتي .. لذلك، من المستحيل أن لا يكتشفوا الأمر إن التقيت بها في مكان عام .. مع أن ذلك الشخص قاتل .. و لكن رجاله أغبياء جدا، و يخيل إليهم بأني لم أكتشف وجودهم، أو مراقبتهم المستمرة ليكلما اقتربت من شركة توليب .. لذلك .. تفاديا لخروج الأمر عن السيطرة فلأجعل الأمر يبدو و كأنه عمل و حسب، و أنا متأكدة و بشدة بأنهم و فور معرفتهم بأمر المنشأة الصناعية، سيقل حذرهم و لو قليلا ..خاصة إذا بدأت الأعمال بسرعة، سيبدو الأمر لهم شراكة لهدف واحد.

لذلك كن متأكدا أيها القاتل، بأن نهايتك باتت قريبة .. ليس بوسعي القضاء عليه لوحدي، و لكن .. إن تعاونا معا و تكاتفنا و جمعنا معلوماتنا مع بعضها، سيصبح الأمر أسهل مما قد أتصوره ..

و عندما كنت مندمجة في أفكاري الإيجابية فتج الباب على مصراعيه فجأة فجفلت لذلك برهة و تنفست بروحة عندما دخل ماكس و خلفه جي و هما يغنيان ويدندنان بفرح كبير و يرقصان أيضا ! .. مما جعلني أضحك على أشكالهما الغريبة فقلت و أنا أبتسم لهما مجاملة وقد تغاضيت عن أمر فتحهما الباب دون طرقه بسبب فرحهما الكبير، فلربما يأتيان بخبر جيد : ما سبب هذه السعادة التي تغمركما يا صديقيّ. 

وبدأ ماكس وجي بالشجار بتفاهة و هما يلعبان حجر ورقة ومقص ليختارا من منهما سيخبرني، وقد ربح ماكس و أطلق ضحكاته الساخرة بينها جي يتذمر كالأطفال كونه يخسر دائما في هذه اللعبة بيد أني كنت أحاول تمالك أعصابي كي لا أنفجر في وجهيهما، ثم وأخيرا تحدث ماكس : ياسمين ! لقد قُبِل طلبك، والاجتماع على الساعة الواحدة زوالا اليوم، أي بعد أربع ساعات من الآن ..! أليس هذا عظيما؟
ليردف جي قائلا : ستقابلينها اليوم !
لم أكن مندهشة أبدا فاحتمال رفض طلب عقد الشراكة ذاك ضئيل جدا .. وعندها حاولت أن أحزر من قبل الطلب، هل هي توليب أم ريان .. ولم أستطع فسألت جي : من قبل الطلب؟
فأجاب مبتسما يغمز لي : إنه راياان

فقلت بامتعاض غاضبة من نغزاته المتواصلة : ألن تكف عن هذا يا جي ..؟ و أنت يا ماكس أنا أراك بوضوح وأنت تضحك .. إما أن تكُفَّا عن هذا أو سأجهل عليكما !

فقال ماكس وهو يقاطعني قبل أن أردف المزيد من الكلمات : رويدك .. رويدك، لا شيئ يستحق غضبك.
ثم أكمل وقد ارتسمت على ثغره ابتسامة لعوبة لا تخلو من خبث مما جعل الشياطين تحلق فوق رأسي : ولكن حقا .. أي نوع من المشاعر التي تكنينها لريان؟
وقال جي مستطردا كلام ماكس يقلد طريقته الخبيثة في الحديث : هيا .. فلتجيبينا، نحن أصدقاء … أليس كذلك، لا تخفي هذا الأمر عنا.

قمت بإفزاعهما وأنا أظهر أمارات الغضب وألوح بمزهرية من الكرستال سهلة الكسر أمامهما، فأحسا بالخطر وفرا هاربين وهما يغلقان الباب خلفهما، وما إن اطمأننت بأنهما خرجا حتى رميت المزهرية على الباب المغلق لتتهشم قطعا صغيرة وتندثر على أرضية غرفتي الملساء.

كان علي تلقينهما درسا لن ينسياه ولكنني اكتفيت بهذا وحسب لأظهر مدى انزعاجي منهما، وكما أن مزاجي كان جيدا ولم أرد تعكيره بمناوشات سخيفة كهذه، لم أهتم كثيرا بما قالاه ولم أفكر كثيرا هذه المرة بالأشخاص الذين يشغلون بالي دوما .. فالآن .. كل ما يهمني هو أن تنجح خطتي على أكمل وجه بلا أي خطئ فأنا أراها مدروسة لا تشوبها شائبة، لم آبه كذلك بأي من تعليقاتهما السخيفة علي لاحقا ولم أفكر كعادتي كيف أواجههما وأخفي خجلي، لن أتوتر هذه المرة أيضا ولن يصير وجهي كحبة طماطم حمراء ناضجة.
أنا سعيدة جدا هذا اليوم، ولن أجعل شيئا يفسد الأمر !!

نعم، بإذن الله .. سيسير كل شيئ على خير ما يرام ! إن انقضى هذا الأمر على أكمل وجه، فستنتهي أيها .. البوس.

.
.
.

شققت طريقي إلى السيارة، وذهبت إلى المكان المحدد، حيث قد بقي على الاجتماع نصف ساعة تقريبا.

بعد أن وصلت وجدت ريان في انتظاري، فارتبكت كثيرا ولم أستطع النظر في عينيه، أما هو كان يبتسم لي كما يملي عليه واجبه المهني من تصرفات وأفعال عليه التقيد بها، لا كما أشعر أنا اتجاهه، وبعد أن ألقى التحية برسمية قادني إلى غرفة الاجتماعات، وكنت قد وصلت قبل الوقت المحدد بعشرة دقائق، لم أحضر ماكس و جي معي، لأنني وكما قد فكرت سابقا .. علي أن أجعلها تثق بي أولا .. وإن أخذتهما معي فسيبدو الأمر مريبا جدا، هي بالكاد تعرفني .. وأنا أحضر معي شخصين، وأحادثها في موضوع خطير، بالطبع هي فكرة سيئة .. حتى وإن لم تثق بي الآن، فأعتقد بأن جعلها على الأقل تلتقي بي أكثر بسبب المشروع سيجعل من بعض الأمور التي أخطط لها أفضل، و قد انقضت العشر دقائق بالفعل وحضر ريان و معه توليب التي دخلت وهي تمسك بيدها ملفا أزرق اللون وكنت متأكدة من أنه الملف الذي أرسلته لها.

أما أنا فكنت أضغط على قرص الذاكرة الذي أحضرته معي، يشرح الهندسة المعمارية للمنشأة بتفاصيلها الدقيقة، ولم يبقى إلا التمويل، وهو شيئ كنت أستطيع تولي أمره بنفسي، ولكن سبب عدم قيامي بهذا معروف بالفعل.

كانت الطاولة على شكل متوازي أضلاع (الكاتبة: لا تؤاخذوني، دروس الرياضيات فتكت بي !)  و كنت أجلس بمحاذاة الضلع الذي جلست عليه توليب توا، أما ريان فجلس بمحاذاة الضلع الآخر، و هذا ما لم أحسب حسابه ! فلم أكن أريد من ريان أن يبقى معنا، حتىوإنو كنت لا أجد في وجوده أمرا خطيرا لأنه مساعدها الخاص، ولكن غرائزي الفطرية، تحذرني من كل شيء. لذلك أردت الجلوس معها هي، وحسب، لا أحد آخر معنا.

نظرت توليب إلى ريان بنظرة جعلته يقف ويومِئ لها ثم يخرج مبتسما تلك الابتسامة التي لم تبارحه مذ رأيته اليوم  ! ولو أن ذهولي وفرحي كانا يقاسان بمقدار ما لكانا متساويين حتما ! بدا الأمر ولا يزال غريبا جدا !

حولت توليب نظرها إلي بغتة بعد أن كانت تراقبه بعينيها إلى أن أغلق الباب وانتظرته يمر وهي تنظر إليه عبر الجدار الزجاجي الذي ذكرني بتلك الحادثة المشؤومة، ولكني قد نفضت هذه الأفكار بسرعة ورتبت كلماتي التي تبعثرت ما إن حولت نظرها إلي تنتظر مني الحديث .. وبعدها تذكرت! هي حتى لم تنبس ببنت شفة ولم تصافحني أو ترحب بي، وبدأ الأمر يزيد غرابة بعد أن وضعت ذقنها على يدها المتكئة على معصمها والتي بدورها تتكئ على مرفقها المتكئ على الطاولة ! تنتظر مني أن أشرع بالحديث.

فرسمت على ملامحي أقوى ملامح وجه استطعت رسمها في هذا الحين وقلت : أعلم بأنك لحصيفة الرأي سديدة الحكم، تعلمين بأن هذا ابمشروع ليس من اهتماماتي، وأن السبب الرئيسي في قدومي إليك هو قضية مشتركة بيننا.
و كم انزعجت بعد أن تثائبت تغطي فمها بيدها وهي ترسل إلي رسالة فحواها أنها بدأت تشعر بالملل. فاسترسلت الحديث بلا أي من المقدمات التي حضرتها وضربتها عرض الحائط في حركة ارتجالية محسنة الوضع المرتبك، لأجذب انتباهها باسم ذلك الرجل الذي ذاع صيته في السوق السوداء منذ سنوات : البوس.

وصمت دون أن أردف كلمة أخرى منتظرة منها التفاعل مع كلمتي هذه، وكما ظننت لقد بدت عليها أمارات الانزعاج زامّة شفتيها، وعدّلت في جلستها ثم سألت : و ما شأني به؟

فقلت وأنا أدعي الحكمة و الدهاء : فلأسرد عليك قصتي ولتحكمي بحصافة رأيك.

وسردت عليها كل شيء وبدت منتبهة أشد الانتباه إلى كلماتي، ولكن ذلك التعبير الذي يدل على الملل والغضب لم يبارحها إطلاقا طوال الوقت، تحدثت عن تلك الرسالة وعن كل ما جمعته من معلومات عن البوس وخطة انتقامي وأولئك الأشخاص الذين يراقبونني، خاصة في ذلك اليوم الذي التقينا به في المستشفى، وفسرت سبب رحيلي بأني قد رأيت أحد الأشخاص المشبوهين من أتباع البوس براقبونني مذ دخلت المستشفى، وكذا عن الطريقة التي استخدمتها لمقابلتها واحتياطاتي التي وضعتها.

وبعد أن انتهيت قالت مما جعلني أستغرب من غريبة الأطوار هذه! :

هُوَ هَزْبَرٌ لَا يُبَالِي ..

هُوَ حَنْظَلٌ مِنْهُ خَافِي ..
كَأَنّهُ فِي الأَيَّامِ الخَوَالِي ..
مَعَهُ، لَنْ تَنْفَعَ طَعْنَةُ مُنْصُلِي ..
هُوَ حَاصِدُ أَرْوَاحٍ بِالمِنْجَلِ ..
شَبَحٌ يَحُومُ، يَنْقَشِعُ وَ يَنْجَلِي ..
يَحِيكُ فِخَاخًا بِالمِغْزَلِ ..

مُدّعٍ ميكيافيللّي¹ ..

يَتَقَدَّمُ لَا يُدَارِي ..
يَكْرُرُ لَا يُجَارِي ..
هُوَ لَيْثٌ مِنْهُ اِحْذَرِي ! ..
هُوَ مُسْتَوْهَلٌ عَلَيْهِ اِكْرُرِي ..
لَا تَخْشَيِ الحَتْفَ فَتَحْتَارِي ..
فِي صَحِيحِ الخِيَارِ ..
لَا تُخْطِئِي فَتَخْتَارِي ..
بَيْنَ الهَزِيمَةِ وَ الفِرَارِ ..

ثم استطردت الحديث قائلة : إن لم تكوني قادرة على خوض شوط كهذا فانسحبي فورا، وسأدعي عدم رؤيتك.

قد أزعجني كلامها وطريقتها للمرة الألف فأجبتها : آ .. لابد وأن ذلك الكريه جعل منك شاعرة تلقي القصائد تمدحه ذامّة إياه ! لعمري أن حديثك أتعبني حدا لم أبلغه من قبل، ولتعلمي علم اليقين أني لست بخاسرة واهنة تبغي خوض معركة تعلم أنها لن تنجو فيها.

فقالت وهي تبثُّ فيّ خيبات الأمل : كم وددت مساعدتك لأنني أحترق شوقا لليوم الموعود الحافل الذي أراه فيه يغرق في دمه ولكن لدي بعض المشاكل التي عليّ حلها وفضّ بعض القضايا الغريبة، فكل حركة أقوم بها تصله ساخنة.

بعد إن استنتجت من كلامها بعض الأشياء أردفت : إذا، فهنالك قطة وسط الحمام !

¹ميكيافيللي: هو رجل سُمّي  بأب الشر بعد تأليفه لكتاب "الأمير " حيث قيل أن هتلر كان يضع هذا الكتاب بجانب سريره و يقرأ فيه قبل أن ينام. !  و هو أكثر إنسان شرا على الإطلاق.

²زرقاء اليمامة: إمرأة من العصر الجاهلي قيل أنها تتمتع ببصيرة كبيرة و تعرف الكثير  من الأشياء التي يغفل عنها الجميع.

فيوه، الكاتبة الجزائرية أسماء هارون عادت بفصل جديد بعد انقطاع طويل عن الرواية دام ربما أربعة أشهر أو خمسة، حتى أنني قد نسيت متى آخر مرة نزلت فيها فصلا، و لدرجة أني نسيت أيضا بعض أحداث الرواية فاضطررت إلى قراءة بعض الفصول.
أستودعكم الله، في أمان الكريم 💜💜

أليس الفصل طويلا؟  5540  كلمة بلا حساب حديثي أعلاه

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top