الفصل الثالث عشر
الماضي3
ملاحظة: الرواية ليست للنسخ أو الإقتباس و الترجمة و غيرها.
هذا الماضي تكملة ماضي توليب
يرجى استبدال اسم أسماء بشجون حتى التقائها بالعم أندري الذي يغير اسمها لتوليب
يرجى عدم تجاوز هذا الفصل لاحتوائه على معلومات تشرح الرواية و بعض الأحداث فيها،
إن أردت فهم الرواية فما عليك هو القراءة بدون تجاوزه.
إقرأ لآخر سطر، .. فكلّ سطر يحمل مغزى ~ و حكاية.
حبا بالله كفى يا هذا…كفى ألما يا من أثقل الفؤاد هوس انتقامه…كفى طغيانا و طيشا! …كفى حرمانا و بطشا…ألا من أهلكته و أعمته لحظة غضب …كم من لحظة ندم ستلقى؟ …يا من كرِه و كرّه و استولى و احتوى كل ما هو عرفان و إحسان و فضّل و آثر تلويثه حقدا و عميانا…ألا أن هذا القلب الدامي لا يسامح…لا يسامح من جر إليه الأسى و الكرب و الويلات و النوائب…قسمي أن أرجع لك الصاع صاعين …صاعين الواحد يليه الآخر…لهو عتاب من النوع الآخر…رد ألم مضاعف …
لست بمن تغريه الشفقة للعودة إلى نقطة الصفر و البداية…لقد رفعت راية الحرب …و لن أتوقف عن القتال حتى لو رُفعت الراية البيضاء…فكم من مرة رفعتها و لم يجدي ذلك نفعا؟ …طوال حياتي! …لطالما رفعتها و قوبلت بعكس و ضد ما كان يُفترض مناله…جعلت مني وحشا متحركا …بسببك لا غيرك قد صرت بهذا الشكل المزري الكئيب الوحيد العجيب الغريب…فوا كرباه يا أبتاه…أبتاه؟ …أنت لم تكن كذلك يوما …كنت دائما الشخص الذي صورته و رسمته مخيلتي بشكل ظل أسود يتربع على عرش…و ذلك العرش الأبيض هو نوع من الأشياء الغير مفهومة…
الظل الأسود الذي يتحرك في الظلمات…و تلك الظلمات هي خطوات روحي المهدورة الفجورة…يعبث بكل ثناياها و إنحناءاتها و زواياها … إلى أن تحطمت شفقة هذا القلب و رحمته و آخر ذرات غبار شتات الغفران…
ما هو واقع …لا يمكن تصديقه و لا تكذيبه و تفنيده لهو أمر مستحيل التصديق… رغم ذلك أنا لا أريد أن أعرف مستقبلي لأنه و ببساطة أمر مدهلز…لا يمكن التنبؤ به …ربما لن أستطيع العيش و الحياة لذلك الحين…أنا فعلا لا أعلم ما علي فعله في مثل هذه الحالة…هل أفكر في الهرب مرة أخرى؟ …كم من مرة جربت هذا و لم ينفع …
حتى و إن…حتى و إن انتهى بي المطاف بالهرب من هذا الجحيم الرجيم …فإلى أين سألجأ…الشارع؟ جربت حياة الشارع يوما و علمت بأنه مكان لا يرحم…كغابة لها قانون …لا …ليس لها قانون…كل شيئ مسموح به في ذلك المكان…إن تم قتلك أو الاعتداء عليك…فلن يسمع بك أحد…ستهلك…لا غير ، أم سأبحث عن والدتي المفقودة التي لم أسمع عنها منذ أن زفّت علي جدتي نبأ وفاتها…هل سأبحث عنها؟ …أم أذهب إلى قبرها و أقبل ترابها و أخبرها بحياتي الجميلة؟ …آه و أوااه يا أماه…يا حسرتاه عليّ و عليك… أين أنت يا أماه…كم من مرة طلبت منك النجدة و لم تحضري يا أماه…كم من مرة نادتك كلّ جوارحي لحظة ألم يا أماه…لكنك لم تأتي…لـــــم تـــــأتــــــــي…
حتى و إن استنجدت بك آلاف المرات…لكن ما من مجيب…و عندها اكتشفت أن لا حياة لمن أنادي…حسرتي على ما ضاع من أمسي…و على حدود هُدّمَت حواجزها في نفسي…آلمتني شظاياها الحادة يا أماه…أرهقتني طعناتها في روحي يا أماه…تعالي رجاءً…هل يمكنك ذلك؟ …مع أنني أعلم بأنك لن تستجيبي لندائي الصامت الخافت كل ليلة…كل دقيقة…كل ثانية…كل لحظة ألم…كل لحظة انكسار…كل لحظة دق فيها قلبي رعبا و أنا أرتدي قناع القوة و الجمود…كل لحظة خفت فيها من الظلمة…كل ثانية عرقلتني فيها جراح لن و لم تندمل …
هل تسمعين ندائي هذا؟ …سمعت أن الموتى يسمعون الحديث عندما يتكلم إليهم أحد بجانب قبرهم…هل آتي لزيارتك؟ …هل ستعودين معي حينها؟ …هل سأجد إجابة عن ذلك السؤال الذي حيّر كل جزء من عقلي؟ …سؤال: لماذا يكرهني سامر؟ …
العديد من الفرضيات وضعتها و لم تسوّغ إحداها أعماله …هل جننت الآن؟ …أكلم نفسي و في اعتقادي أني أكلمك و أنت تنصتين و لكن بصمت…مع ذلك الحديث إليك كان شيئا جيدا حقا…حتى و أنت ميتة…
فبسببك أنتِ أنا الآن بهذه القوة…حتى و إن لم تكن تشبه القوة الحقيقية إلى أنها كبرياء …كرامة…و كره للذلّ…حتى تلك الإبتسامة في لحظة يغمر فيها الدم وجهي كانت بسببك…كان أجمل انتصار عندما أراه و هو مستاء من ابتسامتي في الوقت الذي يريد فيه هدمي ببطء…لأتحطم و أتهشم شظية شظية.
هل تعتقد بأن حالتي مزرية؟ …ألا أنك مخطئ أشد خطئ …لا حالة مزرية غير حالتك يا هذا…شخص لا يمتلك قلبه الرحمة و الشفقة هو إنسان لا يستحق الحياة و وصفه بالإنسان عار على جنس البشرية جمعاء…
لذلك قسما …قسما مني …قسما ثالثا أنّي سأعيد لك كل شيئ …ستدفع الثمن غاليا أيها النّكرة…لا تزال ذاكرتي النشطة تحتفظ بكل إنجازاتك بحقي…و كلما تذكرتك…زاد عشق انتقامي لك…هل تعلم بأن عشق الإنتقام هو أخطر مرض يمكن أن يصاب به شخص ما؟ …يجعلني هذا أريد الدوس على كل شخص يحاول الوقوف في وجهي و الفتك به …فما بالك غريمي؟ …
ما لا تعلمه كثير …و ما لا أعلمه أكثر …و أول ما لا أعلمه هو سبب كرهك الشديد لي… لا أذكر حتى أني فعلت شيئا سيئا بحقك… تذكّرت، فهل تذكر أنت؟ اليوم الذي ولد فيه ابنك الحبيب…
اليوم الذي قمت فيه بتقبيله و ملامسته بكل رفق و حنية و محبة …و أنا من مكان بعيد أراقب هذا الجو الحميمي بينكما …و أتخيل نفسي مكان هذا الطفل الصغير الذي بين أحضان سامر …الذي أراه يقبله في كل ليلة بحب …حتى و إن أزعجه في فترات النوم فلن ينزعج أبدا…لقد كان يضربني بالسوط عندما أتسبب بضجة توقظه! …لقد تأكدت الآن بأن كرهه لي فاق كل الحدود…
في يوم من الأيام كنت أنظف الأرضية، و لكن عندها ترنحت بقوة و هويت إلى الخلف بعد أن كان هنالك ماء على الأرضية و لم ألحظه… و لكن المكان الذي هويت إليه هو سرير الطفل الهزاز… و المصيبة هي أن الطفل كان في السرير…و سقط! …و عندها بدأ بالبكاء…و في تلك اللحظة سمعت صوت خطوات تشبه خطوات حيوان مفترس ذا كتلة كبيرة جدا …كانت خطوات جري سامر و زوجته …عندها علمت بأن هذه اللحظات القليلة القادمة ستكون نهايتي.
و كما توقعت .. قد كانت تلك نهايتي حقا ـ بمعنى مجازي- فقد تمّ الإمساك بي و أنا متلبّسة بالتّهمة،، طفل يبكي و سرير هزاز رديئ، وجد مكانا له من الأرض، و صاحبة الجريمة جالسة القرفصاء بجانب الضحية، من سيحتاج أدلّة أكثر من هذه؟
كان يوما مؤلما بكل ما تحمله كلمة "ألم" من معنى…كان هذا بسبب إبنه العزيز:'إيهاب'. إبنه الغالي، إبنه ، و لكن تحطم أيها القلب، فعلي أن ألتزم الصمت
أين أنت يا كلماتاً تركت مُعجمي، و حياة تدور و
تقول خاصمي، فيا حسرتاه، أ أبكي عليك أم أبكي على نفسي، أم أبكي على ما ضاع من أمسي، أم أبكي على دنيا أشبعتني ضربا دون لمسي؟ ، غادرتني أسارير الفرح، و زارتني وحوش الكدر، عانقتني مصائد قريب، و تركتني أيادي حبيب، أأتحسر؟، أم أتذمر، هل أتكلّم، أم أتعلم؟، من مآرب قريب لم تنفكّ تتركني، و أوجاع عذاب لم ينتهي ..
و هويت نحو الظلام. كم كنت خائفة، و كم كنت أنتظر حضنا دافئا، و يدا حانية، و لكن هذا كان مجرد حلم و أمنية…أمنية لم تتحقق... كم كرهت هذا العالم بأكمله…و كم كرهت كل شيئ…و كم حقدت على سامر…و كم تمنيت له الموت من مرة؟ …مرات عديدة …لدرجة أنّي حاولت قتله مرة…و لكنني لم أستطع فعلها…لم أستطع فعل ذلك…لم أستطع …كان هنالك شيئ يمنعني من هذا…
و مع أنني أكره أخي المزعوم هذا الذي تربط بيننا علاقة دم و نسب…و كره و حقد…إلا أنني لم أستطع حرمانه من والده أو والدته…لأنّي جرّبت ذلك…لهذا كان في تفكيري أنه مهما كان الشخص سيئا فهو يحتاج إلى فرصة أخرى…لأنه يبقى بشرا…و لكن هذه الأفكار أتت رياح و بعثرتها…
لأكتشف بأنه لا طائل من التفكير هكذا…و أن بعض الأشخاص يستحقون الموت بسبب أفعالهم الدنيئة المسيئة الكريهة…لم يستطع هذا القلب أن يسامح…لم يستطع…فجرح قلبي لم و لن يندمل…مهما حدث لن أسامح…جعلت على عاتقي مهمة، مهمة وعرة تقتضي الانتقام…و لا غير، الانتقام الذي يشفي غليلي،الانتقام الذي يجعل الأدوار تنقلب…كم كرهت لعب دور المظلومة …كم كرهت هذا الدور…لم يكن يسبب شيئا غير الألم و حسب… و لكني في المقابل كرهت لعب دور الظالم … لم أستطع فعلها أبدا، لم أكن جريئة لهذا كفاية، لهذا قررت…قررت الهرب!
تلك الليلة المشؤومة التي غيرت حياتي تدريجيا إلى الأفضل…بعد يوم شاق من العمل المتواصل في تنظيف غرفة الطفل الصغير…و عندها فكّرت …أنا لم أحظ بغرفة من قبل …كانت غرفتي غرفة متنقلة…أحيانا في القبو …و أحيانا في ملحق كريه من المنزل يسكنه شُركائي في السكن الحشرات و الفئران…و أحيانا في المطبخ…أو الرواق…على الأرضية الصلبة.
بعدها…في تلك الليلة…مشيت…في الرواق…سيرا متجهة إلى الباب …و صادف تواجد شخص آخر في أعماق الظلام…كان أخي…كنت آن ذاك في الرابعة عشر من عمري…و كنت أكبره بستّ سنوات…بعد أن لاحظ تواجدي حاملة حقيبة صغيرة على ظهري…أدرك عندها الأمر، و بدأ بالصراخ، و الصراخ، حتى استيقظ الجميع، كانت جميع أطرافي متصنمة من الخوف و الصدمة، و لم يكن جسدي يتحمل أكثر من هذه الكدمات التي عليه …لذلك، و قبل أن يظهر أحد ما في وجهي و يوقفني…لذذت بالفرار، بعد أن دفعته بعيدا عني…و خرجت من الباب مسرعة…إلى مكان مجهول…مجهول تماما…و بعد عدّة لحظات، سمعت صوت أحد ما يناديني…علمت من نبرة صوته بأنه سامر الغاضب بشدة…لم يستغرق الأمر سوى بضع لحظات حتى يخبره ابنه العزيز بآخر المستجدات، و يشرح كل شيئ بعد تحليله…و من ثم يأخذ سامر قرارا سديدا و سريعا في الخروج و محاولة إعادتي…و لكني لن أسمح لهذا…لن أعود إلى الجحيم مرة أخرى…لن أعود إليه أبدا…
جريت بكل ما أوتيت من قوة…و بكل سرعتي هربت من المنزل…لقد ساعدني جسدي الصغير في الهرب وسط الظلام…لم أكن أحمل وزنا زائدا عدا حقيبة ظهري الصغيرة و المتوسطة الحجم ، كان عليّ أن أهرب و إلا كانت هذه هي نهايتي ، كان من الممكن أن يقوم سامر بقتلي!! ، إنه مجنون ، و قد يفعلها، لأن هذا الأمر، لا يغتفر أبدا …كان عليّ أن أفعل ذلك…إما أن تَقتُل أو تُقتل، …كان الأمر شبيها بهذا كثيرا، هربت…و هربت…و هربت…و جريت…ثم تعبت…فاسترخيت…تحت شجرة خضراء…و كان الوقت هو الصباح…كنت أركض طوال الوقت…و لم ألحظ حتى الآن بأن الشمس قد أشرقت بالفعل…و أشرق معها أمل جديد غامض…ها قد ارتحت من سامر و تعذيبه…و عليّ الابتعاد أكثر كي لا يستطيع إيجادي…لم أعرف حتى كيف تخلصت من ملاحقته …فوجدت نفسي هنا…
و مع ذلك…بالرغم من تخلّصي من ذلك الشخص إلى أن مستقبلي ليس مضمونا بعد…كان عليّ أن أهرب…و لم أندم على ذلك…فقد بلغ السيل الزُّبى… و فاض الكأس من كثرة تهشيمه المتواصل…في كل مرة يتم إصلاحه فيها بسبب خدش…جرت عليه تشوهات…و في كل مرة تم إصلاحه من تشوّه…جرت عليه انكسارات عديدة …و تفاقم الأمر سوءً بعد سوء…حتى ذُبْتُ مع ذوبان الكأس…بعد الأحداث الغير الطبيعية التي جرت عليه.
و كم حزنت على نفسي…و علمت بأني لست سوى مثيرة للشفقة تتجول في الأرجاء…حتى و إن كان سامر نفسه هو سجّاني المُعذّب…إلا أنه كان المكان الوحيد الذي ألجئُ إليه…ماذا عن الآن؟ …هل كانت خطوة غبية قمت باتخاذها؟ …لا!!!! ، فلا وقت للندم، بل هذا الوقت للتفكير.. فلا طائل من الندم بعد أن دُمِّرت آخر فرصة منحتها لذلك الشخص…إلى أنه قام بإهدارها عبثا.
فيا آه خرجت من فمي، و كلماتا ماتت بلا أيّ ذنب، و شعورا لم يعد له وجود، بعد أن تلاشت آخر الفرص، و زارتني أفكار كانت في سبات، فاستيقظت تندهني تقول: أنت من في سبات، منحتني صفعة أقوى من كل الصفعات، فبعدها استيقظت و قلت: آن الأوان، كم ذقت ذرعا، و كم كرهت هذي الحياة، و كم سئمت من الانتظار، و كم شئت الانتقام، و لكن يدي كانت في شلل، بها سواء عيب أو خلل، كان ضعفا و وجل، يوم كنت مرتجل، كنت كمنتحر من جبل، من جبل، أو أعلى هضبة، أنادي و أصرخ، أناشد و أنده، و هل من مجيب يا من تسمع؟، فاتخذت هذا القرار، و به أكملت الطريق، نحو المجهول المخفي، بعد طول انتظار، وقفت و كنت في انتصار، و دام ذلك بِضع ثوان، فبعدها اكتشفت أن هذا المكان، ليس سوى غابة من الوحوش، وحوش كاذبة، طرق مسدودة، و أياد معطوفة، و أفخاخ ممدودة، و حيلة مسرورة، بما أمسكت به شبكتها الكذوبة.
هنا و في هذا المكان من العالم…أنا هنا أكتشف…بأني في أحضان المجهول…المجهول الغريب تحديدا…قد حدث كل شيئ بطريقة سريعة …سريعة جدا حتى أنه لم يتبقى لي أيّ وقت للتفكير و ترتيب هذه الأحداث…كل شيئ كان غير مفهوم…و أنا أنظر إلى السماء…كم كان شروق شمس هذا اليوم جميلا جدا …كم كان جميلا…كان هذا أجمل و أروع شروق شمس أشهده! أيا ليت كل أيامي كانت تمرّ بهدوء كهذا… أيا ليت! …علمت بأني مثيرة أكثر للشفقة …بعد أن بقيت الأماني آخر سبيل.
بعد ذلك اتكأْت جيدا على الشجرة، حتى شعرت بأنّي أتحاضن معها بلا وعي… كانت دافئة جدا …أو ربما كنت أتوهم ذلك…بعد أن عصفت بي رياح الصباح الباردة…هناك…لم يكن أحد…لا أحد…فقط أنا و الشجرة و الغابة و ما فيها…كنت أظن ذلك من قبل…و لكن هذا التفكير ذهب بعد أن سمعت صوتا بين الأحراش…علمت حينها بأنّي لست وحدي في هذا المكان! …قد أُصِبت بذعر شديد…و لكن …سرعان ما استعدت رباطة جأشي…و وقفت على قدمي…و محوت أيّ أثر من التعب على مُحياي …و بقيت منتظرة أن يُظهر هذا الشيئ نفسه…بعد لحظات قصيرة…وجدت شخصا! …بل عجوزا…كان بحالة رثّة فعلا… يكاد يقف على قدميه من التعب…و كما لاحظت على ملابسه بقعا حمراء، فاستنتجت بعدها تماما بأنه مصاب! …أو جريح…فجأة…تداعى جسده نحو الأرض من دون سابق إنذار…فسقط أرضا…و من المرجّح بأنه قد فقد الوعي…ذهبت مسرعة إليه…أجرّ الخطى جرّا …و قمت بفحص حالته بحذر…لا يظُنَّنَّنِي أحد طبيبة!! …قمت فقط بمعالجة الوضع-بالتعبير المجازي- بمعرفة مدى حرج الإصابة مع مراعاة أنه كان رجلا عجوزا…و ما إن قمت بقلب ذلك الجسد …حتى يظهر جرح كبير …جرح غائر في صدره…حتى ظننت بأن هذا الجرح قد اخترق قلبه …و لكن و بعد التدقيق جيدا…وجدت بأنني مخطئة…فالجرح كان في الجزء الأيمن من صدره…و هذا أراحني قليلا…و مع ذلك لا وقت للفرح بأن قلبه لم يتضرر…فعلى كل حال الجرح غائر جدا…كان ذلك موقفا صعبا جدا…لدرجة أني تسمرت في مكاني للحظات أستوعب و أحلل هذا الموقف أمامي…و لكن …أدركت بأن هذا الوقت غير مناسب للتفكير في أمور أخرى غير الإسراع في إنقاذه و نجدته…لا غير…
أولا …قمت بجرّ جثّته…لا، أقصد جسده الجريح إلى تلك الشجرة الكبيرة التي كنت تحتها بحذر شديد…فمن الواضح بأنه فقد الكثير من الدماء…كنت أشعر بالهلع و الفزع الشديد…لم يحدث هذا في مثل هذا اليوم بالتحديد؟ …لم حظي هكذا؟ …من المفترض أن يكون يوما حافلا …و هو اليوم الموالي ليوم هروبي من بيت سامر القذر…و يوما أفكر فيه عن مستقبلي المجهول…نفضت هذه الأفكار من رأسي…و أسرعت بالهرولة ثم تحولت هذه الهرولة إلى جري…و أنا أسلك طريقا مستقيما و أتوغل أكثر في هذه الغابة…فقد سمعت بأن هذه الغابة تؤدي إلى طريق سيّار في نهايتها إن اتّبعت طريقا مستقيما…و أنا أجري و أتمنى أن تكون هذه المعلومة صحيحة…و أثناء مسيرتي هذه قد قمت بحفظ الطريق و كل ركن يجعلني أتذكر مكان الرجل العجوز…كنت أثناء الطريق و طوال تلك المسيرة أحفظ الطريق حتى حفرتها في ذاكرتي ومخيلتي جيدا حتى أنّي جعلت لكل شجرة من أشجار هذه الغابة مسكنا في مخيلتي…و كنت أفكر…ما الذي سأفعله…ماذا لو لم أجد المساعدة؟ ..
و مع كل هذا واصلت الجري بسرعة شديدة حتى شعرت بأن أنفاسي قد توقفت و كنت ألهث بشدة و في هذه اللحظة …رفعت رأسي، و لاحظت بأن الأشجار انتهت …و لمحت شاحنة في الطرف الآخر من الطريق…و كان بجانبها رجل طويل…حتى تعجبت من نفسي…مع هذا الجري كيف لي أن ألاحظ طوله؟ هل حقا أنا في كامل قواي العقلية أم لا؟ .. و في هذه اللحظة رآني الرجل الذي كان من الواضح بأنه صاحب الشاحنة…و تغيرت ملامحه فجأة من دون سابق إنذار و تحولت من نظرات عادية إلى دهشة كبيرة…ربما كان هذه بسبب مظهري المزري و قدماي اللّتان تكادان لا تحملانني …و رجفتهما كَاِصْطِكَاكِ الأسنان…و من الواضح بأن وجهي كان أحمر كحبة طماطم…لأنني أصبح هكذا كلما قمت بمجهود عضلي سواء كان مكثّفا أو بسيطا …وقفت في مكاني فجأة…لم أقوى على المشي خطوة أخرى…و تعالى صوت أنفاسي …و لازلت ألهث …إقترب الرجل مني فجأة …و هو ينظر إلي بقلق و شفقة…كم أكره هذه النظرات التي تخترقني…و تجعل حالتي مزرية…كم أكرهها!! …بدأ بسؤالي عن حالي…فتجاهلت هذا السؤال و أخبرته عن الرجل العجوز ما إن استعدت أنفاسي…و بعد لحظات ذهول منَ الرجل منْ هذه القصة…لاحظت بأنه قد ندم على سؤالي عن حالي…هذا ما شعرت به…
و مع ذلك قد استوعب الأمر و أخبرني أن أدلّه عن مكان ذلك الرجل العجوز…و بعد أن دللته عن المكان الذي حفظت موقعه …وصلنا إلى الوجهة المحددة و هي تحت الشجرة الكبيرة…و ما إن اقترب الرجل إلى الرجل العجوز ليتفحص حاله …حتى أشاح بوجهه إلى الوراء…و لاحظت على ملامحه التقزز و الخوف في آن واحد…و كاد أن يتقيّأ …لولا أنه قد قام بكبح هذه الرغبة في آخر لحظة…هل أرعبه منظر الدم؟ …ليس مرعبا لهذا الحد…حتى أنا …لم أفزع بسبب الدم بل بسبب حالته هذه …و لكن هل حقا الناس يخشون الدم؟.. هل هذا يعني بأنني مختلة عقليا؟ …لا!! أنا إنسانة طبيعية مائة بالمائة…و بعد ذلك أخبرني الرجل أن أساعده في وضع العجوز على كتفه…
و بعد ذلك لاحظنا بأن هذا يزيد من وضع إصابته حرجا…و لذلك قرر أن يحمله بطريقة أخرى…و هي أن يضع يده على ظهره و الأخرى في الجهة الخلفية من ركبتيه…بحكم أن الجرح في صدره…بعد هذا عدنا بسرعة إلى سيارة الرجل…و لا إراديا مني و بدون أي استشارة من أعضائي لي…وجدت نفسي أتجه إلى السيارة و أجلس بجانب الرجل الذي بدأ بتشغيل السيارة بعد أن وضع الرجل العجوز في الخلف…لم أعلم لِم لَم أستطع تركه بمفرده…ربما شعرت بالشفقة عليه و على حاله لذلك أردت الاطمئنان عن حالته …أ كان سينجو أم لا.. و طوال الطريق و أنا و الرجل صامتان حتى قطع هذا الصمت سؤال من الرجل الذي ساعد العجوز …و هو إذا ما كانت لدي أيّ قرابة للعجوز…و عن سبب هذه الإصابة و كيفية حدوثها…لكني أجبت بأني كنت في الغابة و حسب حتى وجدت شخصا يترنح و يتجه نحوي ثم يهوي جسده مباشرة إلى الأرض …و بعد أن نظرت إليه وجدته جريحا فأسرعت لطلب النجدة…و هذا كل شيئ…جعلت الأمر مختصرا و مقنعا قدر الإمكان…
بعد لحظات وصلنا إلى المستشفى…و ما إن نزل الرجل حتى حمل العجوز بسرعة إلى الداخل و هو يصرخ على العاملين لإحضار السرير المتحرك و إسعاف العجوز…ظللت أنا في مقعد الانتظار …أنتظر…و أنتظر…أنتظر زوال الإشارة الحمراء التي تدلّ على حالة طوارئ …و بعد دقائق وصلت الشرطة!! …ذاك ما كان ينقصني…أ لم يكن من الأفضل لي لو أنني تركت ذلك الرجل الذي ساعد العجوز يتكفل بكافة الأمور و لا أسأل عن الأمر مرة أخرى؟ …أ ام يكن ذلك ليكون أفضل؟ …و الآن قد وقعت في ورطة أخرى…لا أعلم كيف أنجو منها…كان الرجل واقفا و مسندا بجسده إلى الجدار الذي يقع فيه باب غرفة الطوارئ…فنظرت إليه…و وجدته قلقا أيضا…لابد و أن طيبة كلينا ستجعلنا نتورط…و قد تكون الخاتمة أمرا لا يحمد عقباه في المستقبل…و مع ذلك …ما باليد حيلة…غير أن أستسلم للواقع …و فقط…لا عمل لي على كل حال…
لديّ فكرة!!!!!. …لا لا أقول بأني من قمت بفعل هذا للرجل العجوز؟ و بعدها أبقى في السجن مدة طويلة…على الأقل سأجد مأوى!!…و بعد لحظات ضحكت على فكراي هذه بصوت عالٍ…و ما إن رفعت رأسي حتى وجدت ضابط الشرطة ينظر إلى بنظرات حادة…قد خفت منها كثيرا…و استبدلت ابتسامتي على الفور بفم مستقيم غير مبتسم…حتى وجدت الضابط ينخفض حتى يصل إلى مستواي …_لأني كنت جالسة على الكرسي و أنا قصيرة بالإضافة إلى ذلك_…و قال: أعتقد بأن وجود شخص في غرفة الطوارئ أمر مضحك أ ليس كذلك؟ …فقلت لا إراديا /لا!!/ فنظر إليّ نظرات لم أفهمها حتى كبرت…كانت نظرات اتهام!
و بعد ذلك تم التحقيق و أخذ إفادتي و إدليت بكل ما حدث…مع إخفاء جزء هروبي من بيت سامر بالطبع…و قد استغربت كثيرا حينها …بسبب عدم سؤالهم عن والديّ…أو حتى …أي شيئ و لكن ليس و كأني أريد سامر معي و لكن من المفترض أن يسألوا فتاة في الرابعة عشر عن والديها…بعد ذلك…طلب الضابط مني مرافقته إلى المكان الذي وجدت فيه الضحية لأول مرة _يمكنني قول ضحية لأني سمعت الضابط يتحدث مع أحد الأطباء بأن على جسده آثارا لمحاولة خنق باستعمال اليد بالإضافة إلى الجرح …ما لم يجرم في حقّ نفسه…فسيكون مجرد ضحية!_…و أرشدت الضابط إلى مسرح الجريمة…و كان معنا خبراء علميون مع بذلهم البيضاء و قفازاتهم و هم مغلّفون بالأبيض من رأسهم إلى أخمص أقدامهم و هم يحومون حول المكان المليئ بالدم و لم أستوعب ما كانوا يفعلونه… و متحرّون …و الكثير من عناصر الشرطة كذلك الذين كانت أصوات جهاز الإرسال الخاص بهم تزعجني مع خشخشتها في كل ثانية…و قد أحاط الشرطة المكان بشريط مخطط بالأحمر و الأصفر على كامل حدود مسرح الجريمة…و مرة أخرى اقترب ضابط الشرطة مني ليقطع حبل أفكاري …التي كانت تحلل الموقف برُمّته… ليسألني بعض الأسئلة التي جعلتني أتأكد من أنه يشك بأنِّي الجانية أو المشتبه بها رقم واحد..
كان يتحدث عن أمور مختلفة بصيغ غير مباشرة…و بطريقة لم أفهم إذا ما كان يعني بها السؤال أو القول فحسب و إخباري …و بعضها التي كانت مواضيع حساسة بالكاد استكعت الإجابة عليها …و لا أعلم حتى كيف اختلقت تلك الكذبة الغبية …سألني عن سبب قدومي لهذه الغابة بالتحديد دون غيرها…فهي مكان لا يدخله الكثيرون…أجبت بطريقة جعلتها خالية من التوتر تماما كي لا أكشف أمر هروبي بأني كنت أستجم و حسب كما أفعل في كل يوم…لا أكثر و لا أقلٖ.. و كم كنت أتمنى من كلّ قلبي أن يصدق ما قلته…
و بعد تلك الأسئلة صرت شبه متأكدة…!! لا بل متأكدة تماما بأنني المشتبه بها…بالطبع! …أول من يجد الضحية هو المشتبه به الأول بالجريمة…وددت لو أذهب للضابط و أبهره بذكائي الحاد بأني علمت بأنه يشك بي و أخبره بأني لست الفاعلة و لينتظر من فضله قليلا استيقاظ الرجل العجوز من العملية و يسأله عن من فعل به هذا :) …و وددت أيضا لو أقول له أن يكف عن الشك بي بهذه الطريقة…بحقك! ، كيف لفتاة بريئة مثلي أن تقتل شخصا؟ °°°°°°✿ قد كان يومي جيدا قليلا …و أموري شبه محلولة تماما بعد التخلص من سامر *ذلك الوضيع*…
أما الآن! ، فقد وجدت نفسي أتورط في شيئ لا يخصني، لم تلحق المتاعب بي دوما؟ …أ لا يمكن أن أعيش حياة مسالمة من دون أيّة مشاكل؟.. و لكني أستحق هذا رغم كل شيئ فأنا من جلبت لنفسي المتاعب …لو أنني لم أحشر نفسي و أذهب مع الرجل العجوز إلى المستشفى، لكنت الآن …أمممم …لا أعلم ما الذي سأفعله في ذلك الوقت و لكن …آه لا أعلم…ربما سأتكئُ على حائط ما…و أتعمق في التفكير …تفكير في مستقبلي …كم من مرة قلت كلمة مستقبل؟ …ربما لن يكون لدي مستقبل حتى و سأبقى مشردة إلى الأبد…هذا إذا لم يجدني سامر …الذي إذا ما فعل ذلك …سيعيدني إلى الجحيم الذي هربت منه…بهروبي من المنزل*الجحيم*…خاطرت بكلّ شيئ.
بعد ذلك بوقت قصير…تعبت من الوقوف و مراقبة الضابط و هو يتحدث مع الأشخاص الذين يرتدون البذلات البيضاء…فذهبت إليه أستأذنه الذهاب إلى مكان قريب لأرتاح فيه من الوقوف…فأشار إلى صخرة كبيرة بالقرب من المكان …كي أجلس عليها* هياااا!!! أ لا تملك الشرطة مقاعد شاغرة في السيارات الكثيرة التي لديها كي يطلب مني الجلوس على صخرة؟؟، حسنا، لا خيار، فقدماي تؤلمانني …و لم أرتح إلا بضع لحظات لم يرتح فيها عقلي أبدا من التفكير العميق…حسنا، سأجلس* توجهت إلى الصخرة و جلست…و نظرات الضابط لم تفارقني بُرهة…ربما يظن بأني سأهرب…لنصفّق على الداهية~ بقيت أفكر …ما الذي سأفعله…و كيف سأخرج من هذا الوضع بسلام…أتمنى أن لا يصل الأمر لسامر و حسب.. إن لم يعلم .. عندها فقط و مهما حدث *سأكون في سلام..
أُعجِبت بالغابة…يا إلهي.. لم أكن أعلم بأن هذه الغابة بهذا الجمال …كم سحرتني هذه الأجواء الرائعة…عصافير تزقزق و هي بكامل فرحها زاهية بألوان أجنحتها الخلابة…و أشجار طويلة جدا و كأنها عجائز واقفة بشموخ لا تحني رأسها أبدا…و كأن سنينا طوالا مرت بهذه الأشجار الهرمة…إستدرت يمينا…فرأيت الزهور الملونة…آه كم عشقت الورود بأنواعها…كان حقلا مليئا بالزهور الجميلة التي جعلت مني أشرد في جمالها…و عندها استدرت ورائي كي أرى المنظر الآخر الذي كنت متيقنة بأنه سيأسرني كباقي المناظر…و لكن …لكن…ل-ل-لكن…كان مكانا مظلما…و في الأرض الملآ بالطين فتاتان مرميتان فوقه…و تختلط دمائهما الحمراء بلون الطين البني مما جعل الأرض شبه سوداء…و كانت الرائحة أقل ما يمكن نعتها به هو سيئة جدا…قد استغربت من هذه الرائحة طويلا باعتبار هذا المكان مكانا طبيعيا فيه هواء نقي…لكن و مع الأسف …هذا المكان ملوث برائحة الجثث꧁꧂
كنت أفكر
و أفكر
أفكر..
مطولا
ما الذي سأفعله؟
أتركهما .. و كأنّي لم أرى شيئا؟ أم أنده الضابط لنجدتهما؟
كان هذا المنظر يوحي بأن الفتاتين ميتتان منذ زمن ليس بطويل.. فهما لم تغرقا في الوحل تماما.. كان من الواضح أيضا بأنهما رُميتا هنا في هذه البركة الموحلة..
و ما جعلني أتأكد من أنهما ميتتان هو أعينهما المفتوحة التي لاحظتها الآن فقط…كان منظرا رهيبا و مقرفا و مقززا و مثيرا للشمئزاز و مهولا بحقّ و مرعبا .. كانت أعينهما مفتوحة بصدمة…و كأن ما رأتاه قبل موتهما أمر مفزع جدا.. أكاد أجزم بأنهما قتلتا.. و ماتتا ميتة شنيعة و هما تتعذبان.. كم خفت.. و لم أخف من قبل هكذا، حتى عندما كان سامر يوجه إلي السوط في كل أنحاء جسدي..
لم أعلم ما عليّ فعله.. كنت خائفة جدا و تيبّست كل أضلاعي عن الحركة.. و حتى شعرت بأن حلقي جاف.. و بدأت عيناي تتوسعان شيئا فشيئا..
و كنت أمنع نفسي من الصراخ.. أنا في حالة يرثى لها و لا أحسد عليها…و يألت نفسي للمرة الألف ربما: لم تلحق المتاعب بي هذا اليوم؟ …
أ لا يكفي ما شعرت به صباحا؟.. و الهلع الذي شعرت به عند هروبي؟.. و نفسي المتقطع و أنا أجري؟ ..__ هيا الآن!! .. و فكرت مرة أخرى.. هل أخبر الضابط؟ .. أ لست أصلا مشتبها بها؟ و سيزيد ذلك الشبهات ..
لم علي أن أتورط في كل هذا؟، لم علي أن أجد الجثث؟ بينما كنت أتذمر .. قاطعتني فكرة غبية .. : أصرخي بأعلى ما لديك و عندها فقط.. سيأتي الجميع و أخبريهم بأنك وجدت جثثا و أنت مصدومة.. و من دون تفكير آخر صرخت حتى شعرت بأن أحبالي الصوتية تكاد تنقطع.. فنظر الجميع إلي نظرات غير متشابهة.. فبعضهم بصدمة، و بعضهم خوف و هلع لمقاطعتهم وسط تركيزهم.. و البعض بلا ملامح.. و البعض بأعين مفتوحة.
و بينما كان كلٌّ في صدمته.. كنت أنا في عالم آخر
أناشد فيه نفسي.. و أجمع شتاتي
.. و أدعو رباطة جأشي البقاء بجانبي.
!! بحقّ الإله.. ما هذا؟
بل ما هذا بحق الإله!!
قد تشقلبت كلماتي! و لم أجد الحديث
و كأنّ حلقي قد سُدّ بشيئ ما
أو ربما بسبب تلك الصرخة
أو بسبب الصدمة.
و هل لدي وقت للتفكير؟
بالطبع لا..
فقد قطع هذا صوت ضابط الشرطة و هو يهزني مرارا و تكرارا و يصفع خديّ و ينادي ب: يا أنت
فاستفقت و لاحظت بأن وجهي لا ينظر إلى الأمام كما كان قبل قليل.. آه.. هذا بسبب ضابط الشرطة و صفعاته.
و عندها سألني الضابط بعد أن لاحظ استجابتي بالرمش بعد أن كانت عيناي مفتوحتان على مِصْرَعَيْهِمَا: ما بك؟
أجبته بخوف و صوت مرتجف و أنا أشير إلى ما ورائي:
ج. ج. جثثثااااااه
تعجب في البداية ..
و ظهرت ملامح الاستغراب على وجهه بعد أن رفع حاجبه الأيسر بعدم فهم..
و لكنه وقف و نظر إلى ما هو ورائي ..
و ببطئ توسعت عينا ضابط الشرطة في ذهول و هو يرى هذا المنظر الفظيع ، و أكاد أجزم بأنه يشعر بالخوف أيضا.
و من دون أن أستوعب أي شيئ.. أو لأن وعيي لم يكن في هذا المكان كجسدي.. رأيت عناصر الشرطة و المختصين في الجثث يتهافتون إلى بركة الوحل.. لا!! بل كانوا يتهافتون إلى الجثث بسرعة .. ربما لإنقاذهم.. و لكني متأكدة من أن الفتاتين ميتتان .. كلما تذكرت ملامحهما أتذكر الألم و الشقاء و العنف .. كانت ملامحهما تحكي حكاية الألم و العذاب الشديد، هل تعذّبتا قبل موتهما يا ترى؟ و كيف حتى ماتتا، و لم بهذه الغابة بالتحديد؟، قد استنتجت في آخر الأمر بأن مسألة الرجل العجوز مرتبطة بهذا الأمر.
ما سبب وقوع هذه الحوادث في نفس المكان تقريبا و في نفس اليوم تحديدا؟
من المؤكد أنها ليست صدفة و حسب، بل وراء هذا الأمر شيئٌ خطير جداً
رفعت رأسي ببطئ كي أديره إلى الوراء و أرى حالة الجثتين و لكن..!!
وجدت نفسي في سيارة الإسعاف.. و تحديدا في السرير
سألت من كان هناك عن سبب تواجدي في سيارة الإسعاف فأجابني بأنه قد أغمي علي و تم إحضاري إلى هنا.
آه؟ ما الذي سمعته؟
متى أغمي علي حتى؟ ربما من هول تلك الصدمة، فأنا لم أشعر حتى بالإغماء، و كأنّي لا زلت أجلس على تلك الصخرة المشؤومة!!
ليتني لم أغادر منزل سامر.. لا !! ما هذا الغباء؟
كان أفضل شيئ فعلته هو الهروب من سامر، و الشيئ السيئ و الذي أندم عليه هو ملازمة الرجل العجوز إلى المستشفى.. لو لم أفعل ذلك لما كنت هنا و لا كنت مشتبها بها و ما كنت لأرى ذلك المنظر الفظيع الذي رأيته .. لكنت الآن في مأمن من هذه المناظر الخانقة التي جعلت معدتي تنقلب رأسا على عقب ..
و بعد كل تلك الأحداث الّتي آلت إلى دخولي المستشفى بعدما غفوت مرة أخرى في سيارة الإسعاف، إستيقظت في غرفة بيضاء تحتوي على رائحة المعقم.. و عندها عادت ذاكرتي بالزمن، .. عندما رأيت الجثتين، و بعد تذكر ذلك المنظر كدت أتقيأ.. و بعدها شعرت بالجوع الشديد، و تسائلت "متى كانت آخر مرة أكلت فيها؟" و لم أجد الإجابة، فحتى أنا لا أعلم، كل ما أعلمه هو أني جائعة بشكل رهيب و لا يوصف !! ، إستدرت و وجدت بأن حلمي قد تحقق ، طعام!!! . وقفت باستقامة و اتجهت إلى الصينية الموضوعة في المنضدة المخصصة للمرضة، و عندما حملت الصينية المليئة بالطعام لاحظت ملصقا كُتِب فيه فيه:” تناولي الطعام، ثم توجهي إلى الخارج، و ستجدين شرطيّا يوصلك إليّ .. "ضابط الشرطة" ‟ ياله من رجل لئيم، كيف يطلب من مريض تناول الطعام ثم الخروج فور استيقاظه؟، ماذا لو كنت متعبة و غير قادرة على الحراك؟ .. هذا ما يسمى بقلّة الأدب!!
على كل حال قد أكلت و شبعت بعد أن كنت في قمة جوعي التي تجاوزت الحدود مع أنني طالما اعتدت علل الجوع في بيت سامر.. و لكن خذا الجوع من نوع آخر، ربما بسبب المنظر، آاااااه …يقشعر بدني كلما تذكرت ذلك الموقف، لم عليّ إيجاد جثة؟!!! لا بل جثتين؟!! و ربما ثلاثا إذا ما كان الرجل العجوز ميتا!، بعد الأكل جرجت من الغرفة، فرأيت شرطيا يجلس على مقعد من مقاعد الانتظار، و ما إن أصدرت صوتا بالباب حتى توجهت أنظاره إليّ، فوقف و قادني إلى ضابط الشرطة بعد أن سأل إذا ما كان المحلول الوريدي قد انتهى، فلاحظت بأن المكان الذي يقف فيه ضابط الشرطة هو المكان الذي تقع فيه غرفة الرجل العجوز .. فنظر إلي بنفس تلك النظرة الباردة التي تعتري ملامحة المقتضبة دوما في كل مرة أراه فيها..
فاقترب مني بخطوات واسعة، فنظرت إلى عينيه البنّيتين ذاتا النظرة الحادّة.. فنظر بدوره إليّ و تحدث: الرجل العجوز الذي وجدته في الغابة يطلب رؤيتك.
استغربت في البداية من هذا الطلب، و لكن سرعان ما تجاوزت ذلك و سألت: و لم يريد رؤيتي؟ فأنا لا أعرفه.
فأجاب: يريد رؤية منقذه.. ربما لشكرك.
فقلت: حسنا.
و دلفت الغرفة بعد أن طرقت الباب و وصل إلى مسامعي صوت متعب يأذن بالدخول.
كان الرجل العجوز جالسا في سريره، فطبطب على مكان صغير من السرير بمعنى: تعالي و اجلسي بجانبي. ففعلت ذلك، و جلست بجانبه فقال: شكرا لك.
فأجبت: على ما تشكرني؟
فقال: على إنقاذك لي، قد أخبروني بأنّك من وجدني في الغابة…هل تعلمين بأني قد فقدت الأمل من أن يجدني شخص ما..؟ و في آخر الأمر وجدتني أنت بينما كنت أحاول التماسك و عدم الموت بسبب الجرح و أنا أبحث عن النجدة.. لهذا السبب أنا أشكرك فأنت من أنقذ حياتي، و لذلك أريد منك أن تطلبي ما شئت مني، أي شيئ.. و أنا سأحقق لك أمنيتك.
فأجبته بأسى: أولا.. لا داعي لشكري، فما فعلته لم يكن سوى بدافع الإنسانية، ثانيا.. لن تتمكن من تحقيق أمنيتي فهي صعبة المنال جدا و لا يمكن تحقيقها أبدا إلا إذا ما كنت تملك مصباحا سحريا أو أن تكون دجالا أو تمتلك عصا سحرية تحقق الأماني، لذلك ليس عليك أن تكون مدينا لي بشيء، شكرك وحده قد كان أمرا لا داعي له، ثالثا.. أنا من عليه شكرك، فأنت شخص طيّب جدا!
فقال: لم لا تخبرينني بهذه الأمنية المستحيلة أولا؟، و عندها سأقرر إذا ما كنت قادرا على تحقيقها أم لا.
أجبته: سأخبرك .. و لكن، أنا لا أطلب منك تحقيقها، بل أطلب منك سماع شكواي و تذمري من هذه الحياة القاسية الظالمة الحاقدة و حسب لا أكثر… أمنيتي هي اكتساب عائلة.. فلطالما كنت مكروهة من طرف نصف العائلة الوهمية التي لدي لدرجة جعلتني أهرب.. هل تصدق بأنب وجدتك صدفة و حسب؟ أثناء هروبي من ذلك الشخص البغيض الذي أكرهه و أمقته.. فلو لم أتعرض لذلك التعنيف لما هربت .. و لو لم أهرب لما كنت لأجدك.
بعد صمت قصير من هذا الحديث أجاب العجوز: إذا فأنت هاربة من المنزل؟
قلت: نعم.. و ماذا في ذلك؟ لو لم يكن هذا آخر حل بالنسبة لي لما اتخذته، و لم أكن لأهرب هكذا من البيت، ذلك المكان لم يكن بيتا لي، بل كان سجنا أتعذب فيه في كل يوم و في كل وقت، قد كان هذا آخر سبيل للخلاص من الألم.
قد قلت هذه الكلمة بحُرقة كبيرة لم أقلها من قبل، فرأيت ملامح وجهه تتغير شيئا فشيئا من الاستغراب إلى التعاطف و لم أحبّذ شعور الشفقة أبدا و بعدها أجاب: هل بإمكاني الاستماع لقصّتك؟.
فتكلّمت: و لم عليّ فعل ذلك؟ .. لا ضير في هذا سواء أخبرتك أم لا، أستسمحك عذرا.. فعليّ الرحيل.
فقال: أتمنى أن تحسبيها أمنية لرجل عجوز هرم.
-لم أجد جوابا لما قاله ذلك العجوز فسأبدو في موقف غير مهذب لو رفضت ما قاله، فأخبرته: قصتي ليست قصة بل حكاية .. حكاية قد أجعل منها رواية.. رواية تتلو في سطورها ألما و حسرة، سأخبرك لتحقيق أمنيتك تلك كمجرّد حديث يبقى بيننا، فلتسمع إلى روايتي الطويلة أيها العم…
و بدأت سرد الرواية.. بتفاصيلها المملة، و لم أنسى كلمة ألم، فهي سيّدة سطور هذه الرواية. قرأت عليه تلك الكلمات السوداء الملوثة من شقى عمري، و وصلت جميع مشاعري تحت سيل دموعي المنهمرة، لم أشعر بأني قد بكيت أمامه، لم أشعر بأنّي قد ذرفت الدموع.. تحت ستار من الشهقات المكبوتة منذ سنين طوال كانت غير كذلك، و لكن المعاناة جعلتها سنينا و قرونا و يوما يتلو يوما كأنها سنوات تعادل يوما، قد أخبرته بكل شيئ، و لم أعتقد يوما بأني سأفعل أمرا كهذا يوما.. كم ارتحت من الهمّ الذي أثقل فؤادي طيلة هذه القرون، و أنا أسردها كرواية لشخص غريب وجدته في غابة و أنقذته، و عندما كنت أسرد روايتي لم أتمنى هذا المصير لشخص حتى و إن كان عدوّي، لن أتمنى له العيش بدون عائلة، فهي كنز لا يقدّر بثمن، و لا يقدّر بأي شيئ..
إنتهيت من سرد روايتي الحزينة، و رأسي كان منخفضا وقتها، فلم أرد أن يرى وجهي الباكي المثير للشفقة هذا، و كم وددت لو أنّي الآن بين أحضان أمّ حنون تهدهدني إذا تملّكني الخوف، و تحت جناح أب يلكم الخوف إذا ما أتى للزيارة. و لكن أمنيتي لن تتحقق فهي صعبة جدا!
كنت أشعر بنظرات الرجل العجوز و هي مثبتة عليّ و من دون سابق إنذار قال: إرفعي رأسك يا ابنتي.
لم أفعل ذلك و ظللت ساكنة.
فقال مرة أخرى: إرفعي رأسك!
رفعته.
فأكمل حديثه: لا تحني رأسك أبدا و مطلقا، لا يخجل المرء أبدا من هذه الأمور، و لا يحني أحد رأسه سوى الشخص الظالم لا المظلوم، فدعينا لا نقلب الأدوار رجاءّ..
أحضر منديلا من المنضدة التي بجانب السرير و أعطاني إيّاها، فمسحت شلال دموعي بها.
و بعد أن هدأت، تكلّم مرة أخرى: دعيني أصارحك، لو كنت مكانك لاتخذت هذه الخطوة منذ وقت طويل جدا، أتمنى أن تقبلي عرضي المتواضع في تبنّيكِ.
شعرت بصدمة كبيرة من هذا العرض، خاصة و أنه يعلم بأن والدي المزعوم على قيد الحياة، ظننت بأنه سيهدّأني قليلا و يقول: "عودي إلى المنزل" و لكني أتفاجئ الآن بعرضه السخي الذي لا أستحقه!!
أجبته: و لكن..
قاطعني: أتمنى أن لا ترفضي عرضي هذا فأنا أحقق أمنيتك يا ابنتي، و أتمنى أن لا ترُّدّيني خائبا في طلبي هذا!
لم أجد كلاما مناسبا لقوله في تلك اللحظة، فتركت دموعي تتحدث بدلا منّي، و قلت بعد دقائق: نعم .. شكرا لك أيّها العمّ
لم أتوقع يوما بأن شخصا قد يتقبل وجودي في حياته، و لكن العم أندري قد تقبلني بكل صدر رحب و قد دردشنا معا في مواضيع مختلفة و تعرفنا على بعضنا البعض، و بعد أن انتهت مدة مكوثه في المستشفى أراد مني الذهاب إلى بيته، و هو سيهتم بكل الأمور المتعلقة بتبنيّ، و عندما خرجنا من المستشفى وجدنا سيارة سوداء فاخرة في انتظارنا، أخبرني العم أندري بأنّها ملكه، فركبناها و بعد طريق طويل وصلنا إلى بيته، نزلنا من السيارة فتفاجأت بقضبان حديدية غليظة، فضحك و قال أنها البوابة الرئيسية لمنزله.
و بعد ذلك انفتحت تلك القضبان التي نعتها بالباب فجأة!
فتدارك الموقف مرة أخرى و قال: قد فُتحت آليا عند التعرّف عليّ.
فاستوعبت الأمر و دخلنا فاستقبلني قصر كبير لم أرَ مثله في حياتي.
عرّفني على الخدم.
و علمت بأنه رجل غنيّ جدا.
و أحببت حديثه الفكاهي الذي لم أملّ منه، و كم أعجبتني الطريقة التي يتحدث بها مع الخدم، و لا يسمح لأحد بإهانتهم و كانت هذه هي القاعدة الأولى التي على الجميع تطبيقها: "الاحترام" و مناداتهم ب: "المساعدين" عوض الخدم.
أحببت العيش هنا، فالكلّ عبارة عن عائلة، حتى أنني ضحكت كثيرا في اليوم الذي وجدت فيه العم أندري يقوم بغسل الأطباق عوض المساعدة، لأن يدها التوت.
قد نسيت أمر سامر تماما، و على ذكر ذلك، كيف استطاع العم أندري إحضار شهادة التبرّء مني من عند سامر، حتى و إن كان سامر يكرهني فسيفضّل أن أبقى لديه ليس محبة بل ليستطيع تعذيبي وقت ما شاء.. ربما هدده العم أندري بشيء ما؟!
و لكني لم أعد أهتم به بعد ذلك.
و تأكدت أكثر بأن لا مسوّغ لأفعاله النكراء اتجاهي.
و اعتبرت العم أندري العائلة الوحيدة لي، و تبرّأت من العائلة الوهمية التي كانت لديّ.
و في يوم من أيام شهر أغسطس المشمسة، و بينما أنا أقرأ مجلّة الموضة، أتت المساعدة إلى غرفتي، و أبلغتني بأن العم أندري يطلبني في غرفته.
و من دون أي تأخير أسرعت إلى غرفة العم لمعرفة ما يريده منّي، فقد كان يبعدني كثيرا عنه في الآونة الأخيرة، رغم أنه لم يفارقني طوال هذه السنة أبدا، أو يدعني وحدي لفترة طويلة، و عندما عاد من رحلته التي دامت طويلا، طلب منّي أن لا أقابله، فاحترمت رغبته، و أعطيته الآلاف من الأعذار، و ها أنا ذي أرتقي الدرج بسرعة لمقابلة الشخص الذي طالما كان في هذه المدة القصيرة حاميا لي من أي شيئ يعكر صفو أيامي.. كم أحببت معرفته لكل أحوالي، سواء كنت في حالة مزاجية جيدة أم سيئة أم غيرها فكان يعرف ذلك، و عندما أسأله كيف علمت ذلك يقول: "قد قمت بقراءة عينيك، فهما تخبرانني، و تبوحان بكل أسرارك و تفشيان ما تخفينه عنّي".
وصلت إلى غرفته بعد أن ارتقيت الدرج و طرقت الباب، و عادت ذاكرتي للصوت المتعب الواهن الذي سمح لي بالدخول عندما قابلته أول مرة، حيث سمعت هذا الصوت الذي قهرني مرّة أخرى.
علمت بأنه في حالة سيئة بعد أن وجدته مستلقيا في سريره بوهن شديد، و كأنه شخص على وشك الموت، يلفظ أنفاسه الأخيرة!! ، آه أيها العم، أنت شخص طيب جدا ليحلّ بك أمر كهذا، كنت دائما و أبدا مثالا يقتدى به في هذه الفترة القصيرة، و الشخص الذي كان دافعا لي لتحسين مستواي الدراسي من الجيّد إلى الممتاز.
أنت شخص لن أستطيع وصفك، فقد عجزت كلّ جوارحي عن التعبير، خاصة بعد أن رأيت هذه الحالة التي يرثى لها، و انزلقت دموعي للمرة الثانية منذ التقيت بك أيّها العم.. أسرعت نحو سريره و أنا أتفقد أحواله
قائلة: أيها العم!، ما الذي حلّ بك لتكون في مثل هذه الحالة المزرية؟، و الأهم من ذلك، لِم لَم تخبرني بأنك بهذا الوضع الحرج لأستدعي أحدا ليأخذك إلى المستشفى.
فأجابني بنبرة ضعيفة هزّت كياني: هذا ليس وقت العتاب يا ابنتي.. فلدي ما هو أهم من هذا كله، أما بالنسبة لحالتي هذه، فسأخبرك بكل شيئ، و لكني أطلب منك العفو لجعل هذا الأمر مخفيا عنك طوال هذه المدة، فقد كانت أنانيى مني، رجاءً إغفري لي هذا!
فأجبت ببكائي و دموعي التي قامت بغسل وجهي: و كيف لا أسامح من جعلني أعرف معنى الأمان، و أتعرّف إلى الحنان، و الحب و أنساني الكره و الحقد؟
قال: قبل ذلك، أريد منك أن لا تبكي مجددا.. عديني بذلك، لا تبكي بعد الآن، لا تبكي!
أجبته: أنا أعدك.. لن أبكي بعد الآن، فقط أخبرني ما بك و عندها سأكون بحالة أفضل و أحقق مرادك و لن أبكي مجددا!
'و قمت بمسح دموعي بأكمام قميصي'
قال: حسنا.. هل تذكرين تلك الحادثة؟ …الحادثة التي وجدتني فيها.
أجبته: بالطبع، أذكرها، إنها الحادثة الأبرز في حياتي حتى الآن أيها العم، لا يمكنني نسيانها أبدا، و كأن كل تلك الأحداث حدثت الآن.
فقال: أريد منك الاستماع إلى كل ما أقوله لك، و أتمنى أن لا تقومي بمقاطعتي حتى أنتهي من حديثي كلّه.. تلك الحادثة كانت محاولة اغتيال.. سأحاول الاختصار فقد تكون حياتي هذه قصيرة و أيامي معدودة.
'هززت رأسي بمعنى لا بعد حديثه هذا و لكني لم أقاطعه'
فأكمل: أراد ذلك السافل قتلي، لأني كنت الشخص الذي يحاربه، و كانت لدي وثائق ضدّه، يمكنها إلباسه تُهما شتى.. لم أستطع فعل ذلك، لم أستطع مواجهته، كان يهددني بعائلتي، الفتاتان اللتان وجدتهما على شكل جثة، قد كانتا ابنتيّ!
'توسّعت عيناي في مفاجأة و أنا أنظر إلى وجهه الحزين الذي بدأت بعض الدموع بتبليله، يا للحقارة و الفظاعة، تبا لذلك الشخص'
أخذ نفسا عميقا يشجع به نفسه على الحديث و أكمل و هو يحاول اتخاذ وضعية ملائمة و كأنه يحاول تجنب ألم ما بهذه الحركة: كان يحاول قتلي، و لم ينجح في ذلك، و قتل ابنتيّ أيضا، و لم يعد يهتم بقتلي بعد أن أخذ كل تلك الملفّات، بطريقة لم أعرفها بعد مداهمته لقصري في موسكو، الذي كان يحتوي على تلك الملفات، أنا لا أطلب منك أي شيئ من أجلي، أريد و حسب أن تنتقمي لنفسك!
قلت و قد نسيت حديثه عن المقاطعة: نفسي؟
قال: نعم، أنت لا تعلمين بأن هذا الرجل الخبيث كان سببا في موت والدتك في غرفة العمليات أثناء ولادتك لأنها هربت مع والدك ليتزوجا و رفضت الزواج بذلك الخبيث ففضل قتلها على قتل والدك و اعتبرها خائنة، و جعل الأمر في شكل حادثة عادية ماتت فيها والدتك، و رشى الأطباء المشرفين عليها، لقتلها، بعدم تزويدها بالدم اللازم لإبقائها حية بعد أن فقدت الكثير من الدماء أثناء العملية، و لكنهم جعلوا الأمر عاديا تماما و بعيدا عن الشبهات.. لم يكن والدك على علم بذلك، و لكنه كرهك لبقائك حية عوضا عن حب حياته ناديا، سبب معاناتك و موت والدتك التي كانت من المفترض أن تكوني بين أحضانها هو ذلك الرجل الخبيث الذي لم يعرف أحد إسمه، و لكنه يسمّى ب:"البوس" و هو يعمل في تجارة المخدرات و تربع على عرش السوق السوداء، إنه سبب معاناتك كلّها.. و معاناتي و معاناة الكثيرين أيضا يا ابنتي، إنتقمي منه رجاءً، أعلم بأنه عبئٌ كبير عليك، و لكني لا أستطيع توكيل هذه المهمة لأحد آخر.. رجاءً إنتقمي لنفسك أولا ثم لوالدتك و لي أيضا و لابنتيّ و لجميع الأشخاص الذين عانوا، رجاءً إنتقمي، لقد قمت بإيداع كل أملاكي لك، و أورثتك إيّاها، أعلم بأن طلبا كهذا كثير جدا و لكن.. لو كنت أملك خيارا آخر لما اقترحت هذا، رجاءً، صيري من المافيا!، و حاربيه في مجاله، تربعي على عرش السوق السوداء لتصلي إليه، أعلم بأنعا طريقة قذرة، و لكن رجاءً إفهميني يا ابنتي، فهذا هو آخر حلّ فكّرت فيه و وجدته، قد تظنين بأني أرمي بك إلى الهاوية، و لكني أريد الطريق الصواب لوضع حد لذلك الحقير، الذي قتل والدتك و الكثيرين بدم بارد و من دون أن يتزحزح ضميره قيد أنملة، يمكنكِ أن تقولي أي شيئ لي فأنا أستحق التأنيب و العتاب على إخفاء هذه الحقيقة عنك طوال هذه الفترة، و غيابي عنك كان لهذا السبب، بعد أن علمت بأنه قد قام بتسميمي سما يقتل ببطئ أثناء رحلة العمل الأخيرة، قمت بتحويل أملاكي إليك، لم أجد أي علاج لذلك السم، هاااه لابدّ و أنه قد انتقى هذا السم بعناية، فليس له ترياق مضاد، و سأموت قريبا.. لهذا أودع إليك وصيتي هذه، و أدع لك الاختيار، ما بين العيش و عدم الاكتراث، أو الانتقام!.. أنا أطلب منك الاختيار ما بين هاذين لغاية قد فهِمتها، لذلك رجاءً، إختاري.. هل ستتحملين هذا العبئ أم لا، أخبريني قبل أن توافيني المنيّة!
'كان عقلي يحاول استيعاب كل هذا الكمّ من المعلومات الهائلة و التفاصيل الجديدة التي لم أتوقعها أبدا، غريم من الجحيم، قاتل غير رحيم، شيطان رجيم، في مواجهتي.. و مع ذلك استوعبت هذه الأحداث و ربطتها معا، حتى أصبحت ذات صلة ببعضها، و صار لديّ غريم أشفي غليلي به، حتى و إن استدعى ذلك موتي، فسأقضي عليه، سأفعل!'
نزعت آثار الدهشة من ملامحي و أجبت العم: لم يكن هذا متوقعا أبدا .. أن يكون موت والدتي بهذه الطريقة، و لا حتى موت ابنتيك، و الكثير من الأشخاص أيضا، لم أتوقع أبدا بأن وراء هذا حبكة خفيّة تحكي الخبايا، كم أردت أن تكون حياتي هانئة برفقتك أيها العم!، و لكن هذه الحياة لم تدع السعادة تبقى طويلا، بل و وضعت محلها ستارا يخفي الحقيقة لتظهر بهذه الطريقة! أمّا عن طلبك ذاك فأنا موافقة!!، سأنتقم لنفسي و لوالدتي و لك و لابنتيك أيضا، سأقضي على ذلك السافل حتى لو تطلب هذا الأمر أن تكون حياتي فداء لهذا.. سأجعله يتجرّع الكأس نفسها، و يتمنى الموت ألف مرة في اليوم الواحد من العذاب الذي سيأخذه، سأجعله عبرة لمن يعتبر،و لن أدعه يتسمتع بهذه الحياة الوضيعة طويلا، لعمري لأنّي لن أحنث بهذا الوعد، و قسما منّي سأنتقم، سأنتقم!
أجاب العم: يمكنني الآن أن أموت قرير العين مرتاح البال!
و ما إن قال هذه الجملة حتى تذكرت ما قاله عن السّم، يا إلهي لقد غفلت عن ذلك تماما!!!!
قُلت: أيها العم! ذ-ذلك السم! دعنا نعالجك رجاءً
أجاب: دعينا لا نضيّع الوقت و استمعي إليّ جيدا
فقلت له: عن أي حديث تريد منّي أن أستمع له و أنت في هذه الحالة؟!!!
قال: رجاءً، إستمعي إليّ
فصمتّ أنتظر حديثه بعد هذا الإصرار
فلاحظت بأنه يحمل بين يديه خاتما تتوسطه جوهرة سميكة ذات ارتفاع ملحوظ.
فأكمل: هل ترين هذا اللون لجوهرة الخاتم.
أجبت: نعم، إنه أحمر مائل للأرجواني و الأسود.
قال: هذا لون يدلّ على الانتقام!، أريد منك أخذه، و عدم نزعه أبدا، كي تتذكري انتقامك و عهدنا كلّما رأيتِ هذا الخاتم، كما أنه يحتوي بداخل الجوهرة على سمّ قاتل، يقتل ما إن يصل إلى الحنجرة، ستحتاجينه يوما ما، إستعمليه في الوقت المناسب.
أجبته: مع أني لا أظن بأنني قد أقتل شخصا ما و لكن.. سآخذه، فقد يلزمني.
'بينما كنت أتأمل ذلك الخاتم الرائع الذي يحمل وصية الانتقام، كان أحدهم يحتضر و يلفظ أنفاسه الأخيرة من دون دراية منّي'
رفعت رأسي إلى الرجل العجوز لأشكره، و لكن.. قد وجدت عينيه مغلقتين.. ربما، قد نام؟ …لا لم أمكث فترة طويلة في تأمل الخاتم، لن ينام شخص بهذه السرعة! ، و بعد ذلك استوعبت شيئا مرة أخرى، السم!!! الذي تحدّث عنه، هل يعقل بأن…!!!! لا.. لا.. لا لا لا .. هذا غير معقول.. لا يمكن أن يكون كذلك، لا يمكن أن يكون كذلك!
بدأت بهزه لإثبات خطئ ما ظننته…و لكن، ما من مجيب.
.
.
.
.
.
إكتشفت بأنه قد مات!
بدأت بالصراخ، و الصراخ، ثم لم أعلم ما حدث بعد ذلك، و لكن، أنا لم أبكي بعد موته، لم أفعل ذلك، بل بدأت بالوفاء بوعدي الأول، و هو أني لن أبكي مجددا، إن أردت أن أكون قوية، فعليّ أن لا أبكي أولا، و أن لا أضعف، فالبكاء لن يعيد العم إلى الحياة، بل و هكذا سأجعله ينام قرير العين، بعد الانتقام الذي كتبت كلماته في قلبي، و سيظل هذا الخاتم ميثاقا لهذا الوعد المبجّل، لأقضي على ذلك السافل الخبيث الحقير الذي قلب حياة الكثيرين رأسا على عقب، لن أجعله يعيش حياة هانئة، سأجده، حتى لو بعد سنوات، لن أدعه يموت بطريقة عادية، بل سيتعذّب!
سيتعذّب
أقسم..!
فيووووه لقد انتهيت من هذا الفصل بعد جهد و جهيد، هذا الفصل بالذات هو ثمرة جهدي، 7760 كلمة، يا ناس، هذا إنجاااز بالنسبة لكسولة مثلي.
أحم، المهم، قد لاحظت بأن عددا كبيرا من الأشخاص يقرؤون الرواية و لكن .. لا تعليق لا تصويت لا متابعة؟ لماذا؟ من المفترض أن تقدروا جهد كسولة مثلي😂
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top