المشهد الثاني


حدقتُ بالأرضِ المهدمةِ أسفلَنا من نافذة المروحية. تشانيول كانَ جالسًا جواري، نائمًا ورأسُهُ مُسنَدٌ على الجدار. الرئيس جايشين كانَ مقابلي، قريبًا من حارسيهِ والطيار. بسبب علاقة مينسوك الوطيدةِ مع الرئيسِ، اصطحبنا معهُ إلى المقرِ الرئيسيِّ حيثُ جُمِعَ كُلُّ الناجين. أما الباقون فقد أُحضِروا في حافلات. بالرغمِ من تخبطنا وصدمتنا بسببِ الوضعِ الراهن، كان من المريحِ لي ولتشانيول معرفةُ أن الرئيسَ ينظرُ لنا بعينٍ مُراعية. أنا لم أندم قط حينَ كُنت أشهِر كم كنتُ أحترم وأقدر كُلَّ ما فعلهُ مينسوك هيونغ لأجلي، لأنَّ كُلَّ المِنَّةِ تعودُ له.

أخذتُ نفسًا عميقًا وتحمحمتُ في بحثٍ عن سلامٍ مؤقت، كُلُّ ما كان مسموعًا هو صوتُ شيفراتِ المروحيةِ تخفقُ أعلانا. أملتُ رأسي أُسنده على كتفِ صديقي ثُمَّ أطبقتُ عيني.

"آسفٌ لفقدكما" وأخيرًا كسر الرئيسُ جايشين الصمتَ الطويل. تشانيول تنبهَ من غفوتهِ الخفيفةِ وببطءٍ رفع رأسهُ لينظرَ للرئيس "تعلمُ كم أن الطبيب مينسوك كان يعني لي شخصيًا، ليسَ فقط كطبيبٍ فاعلٍ بالغِ الأهميةِ في الميدانِ الطبيّ، بل كان صديقًا مُقربًا مني. اعلما أنني أرسلُ لكما تعازيَّ ولروحهِ في السماء كذلك" تشانيول وأنا بقينا صامتين، لم نعرف ما الذي كانَ يتوجبُ علينا قولُه. تشانيول أومأ برأسه إيماءةً وحيدة "سوف نصلُ للمقرِ قريبًا، كونا على استعداد"

"حسنٌ سيدي" تشانيول أجاب.

مسارُ الطائرةِ بدأ ينحدرُ حين ترآى لنا الملجأُ في الأفق. المباني هُنا لم تلقَ نفس الضررِ الذي لقيتهُ بقيةُ البلاد. هناكِ مبانٍ نصفُ مهدمة، بعضُ النباتاتِ ذابلةٌ أو ميتة، إلا أنها موجودة. السماءُ كانت أكثر وضوحًا وبضعةُ أشعة شمسٍ تسقطُ على المنطقةِ أسفلنا. بعضُ الأبنيةِ لا زالت شامخةً في مكانها، نظيفة وتقريبًا كأنها لم تُمس.

هبطنا بسرعةٍ وسلاسةٍ في أرضٍ مفتوحةٍ جوار مبنى المقرِ الرئيسي، وحتى الآن لم نتحدث بغيرِ ما قلناهُ سابقًا. الحراس اصطحبونا نحن الثلاثة للداخلِ ثم أُخِذنا أنا وتشانيول من قِبل موظفين ببزاتٍ برتقاليةٍ كأولئك الذين ساعدونا في الملجأ. وقادونا نحوَ تجمهرٍ كبيرٍ يقف في ساحةٍ رحبة. الرئيس جايشين كان على المنصة مع مكبر صوت.

"سيداتي وسادتي الكرام. لأجل ما أنتم جميعكم تحيطونَ بهِ علمًا، معظمُ المنازلِ والطرقاتِ دمرها تفجيرٌ نووي" وعلى إثرِ نطقهِ ثارت صيحاتُ الشحدِ المحتجة.

"كان بالإمكانِ تجنبُ هذا!"

"لما كان زوجي ميتًا لو أنكم حذرتمونا!"

"كانَ جريَّا بكم اتخاذُ هذه الإجرآتِ سابقًا، أما الآن فكل شيءٍ انتهى"

"هدوء! جميعًا، أرجوكم الزموا الهدوء!" صاح بهم الرئيس. وهم ببطء عادوا لهدوئهم "أنا هنا لأساعدكم!" بدأوا بالصراخِ مجددًا، لكنهُ واصل ليخرسهم من جديد "كرئيسِ على شعبي، كرئيسٍ عليكم، لا يمكنني وصفُ ألمي حيالَ المشهدِ أمامي الآن. إنها مسؤوليتي في حفظكم سالمين، وقد قصرتُ في هذا. لهذا أنا هنا الآن لفعلِ كُلِّ ما بوسعيَ للمساعدةِ والتكفيرِ عن خطيئتي أرجو من جميعكم التفهم"

الجميع كانَ كان هادئًا، وابتسامةُ رضًى اجتاحت وجه الرئيس "شكرًا لكم. الآن، مساكنُ الطوارئ تحتَ الأرضِ مُجهزةً لأجلكم جميعًا. أريد منكم الحفاظ على نظامكم وعلى الجميعِ البقاء قرب أسرته" تشانيول أحاط جانبي بذراعه يقربني منه وأنا فعلتُ المثل، أسمحُ لنفسي بالغوصِ في راحةٍ قربهِ مُقرًا أني فقدتُ جزءاً من ثباتي.

الناسُ حولي اتبعوا التعليمات مستعدين للتحرك حين صدحت ضوضاء عالية، التفتنا نحوها وكانت مركبة عسكرية عملاقة تشق طريقها عبر المساحاتِ نحونا.

"بدون أن تنفصلوا عن عائلاتكم، وبدون أن تفقدوا نظامكم وهدوءكم، تحركوا لدخول المركبة" الرئيس جايشين أردف ساعتئذٍ، رجلٌ وامرأة من الجنودِ واللذين خرجا من المركبة كانا يقومانِ بتوجيهِ الحشد "المزيدُ من التعليماتِ ستعطى عند وصولكم، شكرًا لتعاونكم" هبط من المنبرِ ورأيته يعود لدخول المروحية. حينها أحدهم دفعني بقوةٍ من الخلفِ كاسرًا تمسكي بتشانيول.

"أيها الصبي، أين هي عائلتُك؟" امرأة ضخمة _وقبيحة_ من الجنودِ سألتني بصوتٍ خشنٍ غليظ. كانت تمتلك ندبة داكنة كبيرة على خدها الأيمن. جعلتني أعيد التصاقي بتشانيول قبل أن أجيب.

"أنا-فقط هو!" تلعثمتُ ولهثت. لستُ خائفًا حقًا لكن تهافت الأشياء المرعبةٍ في هكذا حالةٍ يرعبني. تشانيول لحظَ نبرتي حين اجتذبني إليه مهدئًا.

"حسنٌ، كلاكما اذهبا لذلك الطابور هناك" أمرتنا بينما تشير للطابورِ المقصود.

"حسنًا سيدتي" تشانيول قال مُحنيًا رأسه باحترام، ثم تحركنا لمكاننا ووقفنا هناك في انتظارِ أن ندخل المركبة.

"يولي! برأيكَ ما الذي قد يحصل يعد هذا؟ ماذا بعد؟" قلتها أرفعُ عينيَّ محدقًا بعينيّ البيغل التي تعود لصديقي، والتي أحبها بحق. وهو تنهد.

"لا أعلم! ولا أعلم إن كان أحدٌ يعلم. لكن ما أعلمه هو أن أيًّا كان ما يفعله الرئيس فليس إعتباطًا، تعلم ذلك أيضًا" أومأتُ أنا "أنا أيضًا أعلم.." واصل بينما يستعيد ابتسامته "أنكَ الآن تحاول جاهدًا أن تخفي حقيقةً أنك تحاول ألا تبلل بنطالك، هرٌ خائف" وأخيرًا سمح لابتسامتهِ الواسعةِ باجتياح وجهه. وأنا فتحت فمي مدافعًا.

"أنت تقول هذا؟"

"أنا؟ ماذا عني؟" قالها صديقي محافظًا على ابتسامته التافهةِ الكبيرةِ الواضحة.

"لا تدَّعِ القوة، أبها الفتى الضخم. تذكر حين تسلقت عنكبوتٌ على ساقك عندما كنا نلعبُ البيسبول معًا، كنتَ تصرخ وتركض حول الملعب. أوه! وأول يومٍ قام مينسوكي هيونغ بتدريبك، حين أرغمكَ على لمسِ الحقنةِ للمرة الأولى وأنت بكيتَ أعينك اللعينة خارجًا!" قلتُ أخرج بضعةَ قهقهقاتٍ حيالَ الذكرى.

"ظننكَ كنت نائمًا حينها!" تشانيول احتج.

"أجل! ظننتَ أني كنتُ نائمًا" كلانا ضحكَ متناسيين حجمَ الموقف لوهلة.

لم نكن نعرف كم تحركنا حذوَ الطابور، وضحكاتنا قد قاطعها الفريق الطبيُّ الواقفُ عند مدخل المركبة.

"الاسم والعمر؟" رجلٌ طالبنا.

"بارك تشانيول، أربعةٌ وعشرونَ عامًا"

"بيون بيكهيون، واحدٌ وعشرونَ عامًا" قُلت أتَّبِعُ نبرة صديقي. الرجل أومأ ليسجل ذلك في جهازٍ غريبِ الشكل.

"حسنٌ، حافظوا على الهدوء" أمرنا. عندئذٍ أخرج حُقنتينِ وحقنهما في ذراعينا "يمكنكما الذهاب" أنا وتشانيول تبعنا التعليمات وولجنا للمركبة. توجهنا مباشرةً لنهايتها وجلسنا جنبًا لجنبٍ في بقعة فارغة.

"أعترف، لقد كنتُ تافهًا" تشانيول واصل محادثتنا السابقة.

"أجل. أنا لستُ بذلك الشجاع أو ما شابه، لكنك كنتَ أضعف مني" ضحكتُ وحركتُ شفتيَّ لأذنه وهمست "ولا تزال كذلك!" ضربني بحنقٍ وأنا انفجرتُ ضاحكًا من جديد.

"ليس بعد الآن" نبرها بثباتٍ يعيدُ كُلَّ الجديةِ للموقف "الآن يجب عليَّ أن أربط جأشي، لأجلك، لأجل مينسوك هيونغ، لأجلنا"

"لأجلكَ كذلك، أنا سأصبح قويًّا أيضًا. كلانها هنا لأجلِ كُلٍّ الآخر، ونحنُ في هذهِ المحنةِ معًا، لا أحد منا غبيّ. علينا النجاة" مَوضعتُ كفي على فخذهِ وحركتُ عليه إبهامي مُهدئًا. وهو أومأ باسمًا قبل أن يأخذً كفي في كفه. وقد فرق بين شفتيهِ لينطق لكن فجأة ضجيجٌ وفوضى من الخارجِ اجتذب أنتباهنا.

"النجدة! أغيثوني! ابني ينهار!" امرأة كانت تصيح، بجانبها يستلقي صبيٌّ صغير يبدو في التاسعةِ أو العاشرةِ من العمر. وضعتُ رأسي على مقربةٍ من النافذةِ لأستبين الوقيعة بوضوح. الصبيُّ كان يجاهد لالتقاطِ أنفاسهِ ويبدو على قدرٍ من الألم. كما يبدو أنه يفقدُ التحكم في جسده الذي كان ينتفض بعنف. أحاط عنقه بكلتا كفيه وبدأ السعال بشدة بصوتٍ كالزمجرةِ ينبعُ من جوفهِ يجعلني أنا أفقدُ أنفاسي. عندما توقف عن السعال تقيأ على الأرضيةِ بجوارِه. اقتلع قميصهُ بعيدًا بشقاء يُظهِر الحروقَ الحمراء التي تغطي جلده.

الفريقُ الطبيُّ بسرعةٍ أحاطهُ يحجبونَ مظهره عن الجميع. أم الصبيِّ لا زالت تستنجدُ وتتوسل الفريق الطبيَّ ليسمحوا لها بالبقاءِ جوار ابنها. وبعض الموظفين الحكوميين منعوها، وجروها ضدَّ مقاومتها صوبَ حجرةٍ مفصولة. واحدٌ أخيرٌ منهم أشار للسائقِ بالتحرك، مع تعابيرَ هلعةٍ في وجوههم. وتقريبًا طِرتُ من مقعدي بسبب تحركنا الفجائي للأمام. وبوقٌ صدحَ أعلى رؤوسنا.

"بسببِ حادثٍ عرضيّ، نحنُ اضطررنا للتوجهِ لسكنٍ أقرب. سنصل لوجهتنا قريبًا. نعتذرُ على إرعابكم. نرجوكم أن تلزموا مقاعدكم، والهدوء، وانتظروا حتى إشعارٍ آخر"

الصوتُ انقطع، يجعل تمتماتِ الحشدِ المرتبكةِ جليّة. الصدمة تأخذُ مقعدها على وجوههمِ إثرَ ما شهدوه توًا. التفتُ لأحدق بعينيِّ صديقي، الذي لم تكن تعابيره تختلفُ عمن هم حولنا.

"ما واللعنة كان ذلك بحق؟" هو سأل.

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top