الفصل| الأخير
مرحبا بخفافيشي الغاليين 😍❤
اكيد ما حدا توقع اني حدث وانو هذا الفصل رح يكون الاخير 😂😂😂
خلصت كتابة الفصل قبل ما نزل الفصل السابق وقبل ما نزل بيليونير وجسد، ماكنت رح نزل روايتين وتعري مش خالصة 😂🔥
ميني فالرواية 😭
Enjoy 💕
-
ما أكادُ أغترِف مِن جُبِّ السَّعادَة حتَّى يندثر، وتتراءى لي رِمالُ الضَّياعِ ثانيةً، تُنبِّئني أنَّه وهمٌ مِن وحيِ الظَّمأ، وما أكادُ أُقفِل كفيَّ على غنائِم أدركتُها بعدَ صبرٍ موجِعٍ، حتَّى تُصادِرها الحياة بغيرِ وجهِ حقّ، وأحيانًا الموت!
يتحيَّن الكون لحظاتِ حُبوري ليُرديها قتيلة، كأنَّها محظورةٌ عليّ، وما ذلِك إلَّا عِقابها لأنَّها جرَت إلى أحضاني، كأنِّي محكومةٌ بالتَّعاسَة مُنذ أن هدَمت الأيامِ حِصني الوحيد لأغدُوَ مُعرَّضةَ لمكائِد البَشر، وما أنا بمُتفقِّهةٍ في ما هُو دونيّ وما هُو حسن، وردمت يُنبوعا الحنانِ الوحيدين الَّذين سكنا في أرضي.
تلقَّيتُ الغدر مِن الشَّخصِ الوحيد الَّذي بوَّأتُه مقامَ أبويَّ المَرحومين، ظنًّا أنَّه قد نابَ عنهُما، لمُجرَّد أنَّه منَحني دِفئًا زائِفًا، لم يكُن أيٌّ مِمَّا صدَر عنه مجَّانِيًا، بل نالَ المُقابِل مِنِّي دونَ أن أدرِيَ، لأنِّي كُنت طِفلةً لا تفقَه شيئًا عن عالمِ الشَّهوات، الشَّخصُ الوحيدُ الَّذي استَعذتُ بِه اتَّضح لي أنَّه شيطانٌ رجيم، استغلَّ هفوتي ليُشبِع جوعَه المريضَ مِن ثمارٍ لم تُدرِك النُّضجَ بعد، وغدَا هُو أعظَم خطاياي، وخيبةً مِن خيباتي.
وبينَما أنا أُقسِم أنِّي لن أستضيفَ بصدري بشرًا اقتَحم ذلِك الرَّجُل حياتِي بعفويّة، توالَت صِداماتُنا المُباغِتة حتَّى صِرنا مُلتحِمان، يشدُّنا ببعضِنا حبلٌ متين، يُدعى الحاجَة، كجسرٍ بينَ ضفَّتين يستحيلُ أن تلتقِيا، بل وتجزَّأنا عقِب كُلِّ اصطِدامٍ حتَّى تفتَّتنا، ليُشيِّدَنا القدرُ بُرجًا واحِدًا، ما مِن قوَّةٍ قادِرة على فصلِ موادِه، واشتِقاقِنا مِن أحدِنا الآخر، إلَّا أن يُهدَم ليُفرزَ مِنه ما قدَّمناه رغمًا عنَّا، لأنَّنا سويًّا أصليَّان، أصيلان.
هُو الرَّجُل الَّذي انسَقتُ وراءَ ألحانِه إلى حافَّة الخطيئة الجوفاء، الحافَّة الَّتي لا طوابِقَ لها، ولا قاع، إن زلَّت فيها قدمٌ فما سوفَ تعرِف الاستِقرارَ مُجدَّدا، وما عرِفتُه مُنذ زلَّت قدَمي، وربَّما دفَعني طيشِي بِها، إذ استَرخَص ثمَن حياتِي، كَما فتَّشتُ عن حاويةِ رِجزٍ لألقيني بِها، دونَ أن أعبأ لمصيري. ظننتُ أنِّي انتَهيتُ، حتَّى استَلقى وُجودُه في طريقِي كخطِّ بِدايةٍ آخر، ما حسبتُ له أيَّ حِساب، وبدأتُ مِنه، وإليه.
رؤيتِي للحياةِ وهِي تتربَّصُ بِه دونَ شفقةٍ على حالِي أنَّا الَّتي لا تمتلِك سِواه، أضنى صدري، حتَّى كادَ يلفِظُ مُضغةً مُرَّة، ما تفتأ الحياةُ فيها سارية، شعرتُ بالاختِناقِ وهُوَ هامِدٌ بينَ ذِراعيَّ مِثلَ جمادٍ لا روحَ فيه، واحتَرقتُ بشراراتِ الوَجل الَّتي تطايرَت في داخِلي، مِن فوهةِ حبٍّ ثائِرٍ، يُبلي السَّرائِر، وارتَعشت.
آنذاكَ تذكَّرتُ كيفَ جعَل مِن ظهرِه لي وِقاءً يصدُّ عنِّي طلقاتِ الموتِ الطَّائِشَة الَّتي ما ترحَم أحدًا، كأنَّ حياتَه مُجرَّدُ ثوبٍ بخِزانتِه عدَّةٌ مِن أمثالِه، ولن يُشكِّلُ فناؤُه أيَّة مُشكلةٍ له، وتساءَلتُ ما إذا كُنت قد كبُرتُ فيه حدَّ أن أُنافِسَ عُمرَه قيمةً، وقوامًا، ألِذلك استَباحَ فِدائي بأنفاسِه دونَ توانٍ، لأنِّي الذرَّة الَّتي تنقُص الأكسيجينَ ليُنعِشَ رئتيه، بدونِي يفنى؟ مَتى سقانِي مِن حُبِّه حتَّى غمرته فُروعي مِثلما غمَرني مُنذ آناءٍ مديدة؟ أهُو الآن ضحيَّة افتِتانٍ في عِدادِ العاشِقين، والجميعُ يدري، وهُو لا يدري؟
دُموعِي تتفجَّر مِن فوهتيها دونَما انحِباس، كأنَّ فُؤادِي هُو الَّذي ينصهِر بنيرانِ الجوى، ثُمَّ تشقُّ خنادِقها في خديّ، ولغزارتِها تنسكِبُ مِن ذقني على ملابِسه السَّوداء، بينَ الحِين والآخر أُمرِّر سبَّابَتي بجِوارِ مجرييِّ الحياةِ في أنفِه، أتحقَّقُ مِن أنَّها تغمُرهما ولو قليلًا، دونَ أن ينفكَّ لِساني يُراوِدُه عن سكونِه المُخيف.
" أجاشِّي، لا توصِد جفنيك، أنا أرجوك. "
لم يستجِب لجميعِ مُحاوَلاتِي في استِدراجِه إليَّ، خشيتُ أن أهزَّ جسَده المُستلقيَ على جنبِه الأيمَن فأُؤذيه لذلِك اكتفيتُ بالرَّبتِ على وجنتيه بحنان، لعلَّه يهديه إليّ حيثُما كان.
" لستَ في جيبي، ولكن مُذ وضعتني في جيبِك وأنِستُ بدِفئِك اشتهيتُ ألَّا أفارِقك، حتَّى وإن كُنت لكَ مُجرَّد مِفتاحٍ تستخدِمُه إذا ما دقَّت الرَّغبةُ بابَك، لا بأسَ ألَّا تُحبَّني كما أُحبُّك، لن أُسامِحك إن أنتَ ترَكتني يتيمةً للمرَّة الثَّانية، وفي حياةٍ أُخرى سأتمنَّى ألَّا أَذكُركَ، وتذكُرَني، سأُعاقِبُك بقسوة. "
جفلتُ حينَما جأرَ سيهون مُخاطِبًا مَن تأخَّر في فتحِ نافِذة الوِصال.
" ما خطبُك جونميون لِماذا لا تردّ على هاتِفك؟ "
مِن مكانِي هذا رأيتُ رأسَه تحيدُ عن مسارِها المُستقيم صوبَ النَّافِذة العاريَة مِن زُجاجِها، بينَما يُصغي إلى أعذارِه الواهِية، ثُمَّ زفَر بعُمق، لاشكَّ وأنَّه قاطِعه؛ إذ أنَّ الموقِف لا يحتمِل التَّأجيل ولو قليلًا.
" ليسَ مُهمًّا، فلتحزِم عدَّتك الطبيَّة ولتأتِ إلى منزِل الجِنرال بيون بيكهيون فورًا، لقد أصيبَ بطلقٍ ناريّ في ظهرِه. "
ما كادَت نظراتِي تجثوا على حرمِ بيكهيون، تتلو أنباءَ وجلِي المرير، وصلواتي لعودتِه إليَّ بسلامٍ، حتَّى أقامَها الهُراء الَّذي تفوَّه بِه سيهون للتوّ... لم أنوِ التدخُّل في المُكالمة مُنذ أن انطَلقت، لكنِّي وجدتُني أنطِق بدَهشة.
" ماذا؟ إلى المنزِل؟ هل فقدت صوابَك سيهون؟ "
زارَت عدَستاهُ انعِكاسي المُضطرِم على المِرآة الأماميَّة لثوانٍ، ثُمَّ تجاهَلني، وواصَل التحدُّثَ إلى المدعوِّ جونميون بنبرةٍ بارِدة، كهيئتِه.
" لا أدري ما مَدى خُطورة الوضعِ فلا كفاءَة لديَّ لأجزِم، ولكنَّه غائب عن الوعي مُنذ لحظات، لا داعِيَ لأذكِّرَك أنَّ زُمرته o سلبي. "
لولا أنَّ فخِذايَ مردومين أسفَل رأسِه لوثبتُ على المِقودِ، ولوجَّهتُه كيفَها أبتَغي، دونَ اكتِراثٍ لِما قد يحلُّ بثلاثتِنا، كيوم نفَخ فيَّ الجِنرال مِن تسلُّطِه حدَّ الانفِجار، وما باليتُ بكينونتِه، بل اندَفعتُ بجموحٍ وهدَّدتُ كلينا... بذاتِ الرَّغبةُ المُختزنةِ في أوصالِي عاجِزةً عن تلبُّس الأفعال انبثقت كلِماتِي حامِيةً كالجمرات.
" لا تتظاهَر بالصَّمم يا هذَا، إيَّاك أن تختبِر صبري لأنَّه نفوذ، ولتقُد إلى أقربِ مُستشفى على الفور، لن أخسَره بسببِ استِهتارِك، أو أيٌّ كانَ ما يجولُ برأسِك. "
للمرَّة الثّانِية داسَ نجوايَ، مُصرًّا على قَرارِه.
" كما أخبرتُك جونميون، سأُرسِل لكَ العُنوان بعدَ أن أُغلِق الخطّ. "
للحظةٍ أفلتُّ فتيلَ العقل، فعلا صوتِي.
" أخبرتُك أن تتَّجِه إلى المُستشفى، ألا تسمَعُني؟ "
وعلى ذاتِ الوتيرةِ ردّ، بعدَ أن فرغت أنامِلُه مِن تجهيزِ العُنوان.
" اخرسي، أعلَم ما أفعلُه. "
" ما الَّذي تعلَمُه أنت؟ لو كُنت واعِيًا بِما فيه الكِفاية لمَا قرَّرت اصطِحابَ صديقِك المعلَّق بينَ الحياةِ والموتِ إلى المنزِل، حيثُ لا إمكانِيَّات مِن شأنِها أن تُعيلَ مُنقِذه على قهرِ عِلَّتِه، أو تُعلِي مِن أملِ نجاتِه، كأنَّك تنشُد التخلُّصَ مِنه، أيُّ عِنايةٍ هذِه الَّتي سيلقاها في مكانٍ غيرِ معقَّم يفتقِر حتَّى إلى الأجواءِ؟ "
تابَع القِيادَة بأعصابٍ بارِدة حيثُ شيَّد عبَّارةً لا تضُمُّ سِوى ما يظنُّه صوابًا، كأنِّي أصرُخ بصمت.
" بيكهيون شخصيَّة عامَّة أيَّتُها الغبيَّة، وإن نشَب حولَه تحقيقٌ فلن يخمَد إلَّا وقد تحوَّل إلى رُفات، لن يرغَب في الذَّهابِ إلى المُستشفى إن كانَ واعِيًا، نحنُ معتادونَ على مِثل هذِه الظُّروف، ليسَت المرَّة الأولى الَّتي يُصابُ فيها أحدُنا وينجو دونَ حاجةٍ إلى التورُّط فيما لا يُحمَد عُقباه، لذلِك لا تتدَّخلي. "
كُنت على أُهبةٍ لصبِّ المزيدِ مِن الويلاتِ على مسامِعِه، لكنَّه حالَ بينِي وبينَ ذلِك، إذ ليَّنَ نبرتَه الَّتي كانت خشِنةً مُنذ قليل.
" جونميون يعمَلُ معنا مُنذ سنينَ سحيقة، هُو خبيرٌ في العمليَّاتِ المنزِليَّة، سيكون بخير. "
-
غادَر الطَّبيبُ مُنذ نِصفِ ساعةٍ، بعدَ أن أوصانِي بسُبل العِنايةِ به، ولحِقَ بِه سيهون مُخليًا الأجواءَ لي ولصريعِ السَّرير، النَّائِم دونَ أن يحتسِب مُعاناةَ الواعين، كالميِّتِ المَرثيّ، رغمَ أنَّ حالَ الأحياءِ هِي الَّتي يُرثَى لها!
ما استَبشرتُ خيرًا مِن إجراءِ العمليَّة لهُ في المنزِل، دونَ أجهِزةٍ مُتطوِّرةٍ تنمُّ على وضعِه لمُعالِجه، في نِطاقٍ لم يُعقَّم كما ينبَغي، لقد فُرِض عليَّ القُبول، حتَّى وإن لم أُصدِره فالشَّابَّانِ قد حسما أمرَهُما، ما كان رأي ليُزحزِحهُما، ولكنَّها نجَحت. اليَومَ أولجتُ سيهون قائِمتي السَّوداء، وسطَّرتُه بكُرهٍ غليظٍ مِن العسيرِ أن يُمحَى، لعلَّ الزَّمن يُحوِّرهُ بنظري، أو يُعوِّجُه قليلًا، أنَّى لهُ أن يُؤثِر سُمعتَه على حياتِه كأنَّه موقِنٌ مِن انتِصارِه، مِن أنَّه سيعيشُ ليلتحِفها، رغم أنَّ ظِلالِ الموتِ مُستلقيةٌ خلَفه؟ كأنَّه ربطَ حولَ خصرِ الحاضِر استِهتارًا ناسِفًا، وأرسَله إلى المُستقبل في عمليَّةٍ انتِحاريةٍ، نِسبةُ إفلاحِها ضئيلة!
لا يسعُني إلَّا أن أهجُوَه بينَ أبياتِ مُقلتيَّ، رغمَ أنَّه صدَقَ في ظنِّه، وأخطأتُ أنا، لو انصاعَ لي لانهارت سُمعةُ بيكهيون، ولقضَى الدَّهر يمقُتني؛ لأنَّه ما توقَّى كمائِن الحياةِ، وركضَ يحمِلُ حياتَه على الافتِراضات جزافًا. يشهَد الربُّ أنِّي ما عِشتُ مِثل هذَا الذُّعر بعدِ الغارَة الَّتي طرحَت والديَّ موتى، ولصِغرِ سِنِّي آنذاكَ فقدتُ بعضَ اللَّقطاتِ مِن شريطِها في ذاكِرتي، أمَّا هذَا اليومُ فسيُصاحِبُني حتَّى القبر.
اجتاحَت الحُمَّى جسَده، فمكَثتُ بجوارِه، وضعتُ تحت جبينِه كمَّادات بجوفِها مكعَّباتٌ مِن الجليد، وبمِنديلٍ مُبلَّلٍ رُحت أرطِّبُ قفا عُنقَه، وظهرَه العاري، مُرورًا بمسقطِ الطَّلقة المقيتِ، المُغطَّى بضِمادةٍ طبيَّة يعلوهَا شريطٌ لاصِقٌ يُبقيهَا مثبَّتةً بِلحمِه.
بعُسرٍ احتَلتُ على ذاتِي لئلَّا تنعيهُ وهُو على قيدِ الحياة، أن يكفيني استِلقاؤُه على مُلاءَة مُنبسطةً، لا لُفافةً بشريَّة على وشكِ أن يُدخِّنَها الثَّرى إلى أمد، يكفيني أنِّي قادرةٌ على سماعِ مقطوعةِ الحياةِ الدَّافِقة مِن فمِه، وتحسُّس النَّبضِ في أوداجِه، إذ تعمَّدتُ دسَّ سبَّابَتي بعُنقِه، لتجسَّ لي مُجرياتِه، وكُنت مُستمتِعةً فيما أفعلُه.
باتَ يهذِي بكلماتٍ وأقاويل غير مفهومةٍ، ميَّزتُ مِنها بِضعةَ شتائِم مسَّت سيرةَ زوجتِه السَّابِقة، نعتَها بالعاهِرة، والمُؤخِّرة، تمنَّيتُ لو أنِّي سجَّلتُه، لجعلتُها نغمةَ هاتِفي حتَّى الأبَد. في دُبرِ هذِه اللَّيلة، وقبل أن يدفَعني الإنهاكُ في حُفرةِ الغَفلة نادَى باسمي، بصوتٍ خامل، يبدو وأنَّه يُهلوِس بي، أو يسترجِع ما طرأ على شاكِلة كابوس. انحَدرتُ نحوَه بجسِدي، وبرفقٍ طبطَبت أنامِلي على كتِفه خِشيةَ أن أزيدَه فزعًا.
" بيكهيون، أأنتَ مُستيقِظ؟ "
" ابتَعِد عنها أيُّها الوَغد. "
بذلتُ مزيدًا مِن القوَّة في رجِه، لعلِّي أُفلح في انتِشالِه مِن أرضِه.
" استَفِق، إنَّه مُجرَّد كابوس. "
شهَق بينَما ينتزِعُ وعيَه مِن أنيابِ الغفلة، واهتاجَ يبتَغي الاعتِدالَ بالجُلوس... حاولتُ أن أمنَعه عن الحَراك، ولكِن عبثًا.
" اهدأ، أنا هُنا. "
نازَع الجاذبيَّة لرفعِ جسدِه عن السَّرير، لولا أنِّي تدخَّلت ويسَّرتُ عليهِ المهمَّة؛ فإذا بجفنيهِ كالشَّقِّ في باب، بالكادِ يُفشيانِ عما يدُور خارِج حيِّزِه، سحنتُه كسماءِ ينايِر شاحبة، مِلؤُها السُّحب المُرهقة، وشفتاهُ ناضِبتان.
اغتَرفَ وجهِي بينَ كفَّيه، ولاطَف خُصلات شعري الطَّليقَة. أطَّرني بإطارٍ مِن خامةٍ لم يسبِق وأن سخَّرها مِن أجلي، كأنَّ عيناهُ حاكَت لي أكاليلَ مِن حبّ، وقلَّدتني إيَّاها دونَ توانٍ، هُو الَّذي جحَد عليَّ بخارِطتي فيه، فما صبوتُ مكانَتي قطّ، هُو الَّذي أوهَمني أنَّه بيدَاء وعِرة، تبتلِع رِمالُها الكلِم، ها هُو ذا يُبهِرُني ببساتينِه.
" أنتِ بخير! "
عانَق كفَّايَ ظاهِريّ يديه.
" بفضلِك. "
التَقطتُ كوبَ الماءِ الَّذي جهَّزتُه على المِنضدَة تحسُّبًا إن شعَر بالظَّمأ، وعرضتُه عليهِ، عسى أن تترَقرق الحُمرةُ في شفتيه مُجدَّدًا. سكبتُ في ثغرِه رشفة، ازدَردَها طواعية، ثُمَّ أعدته إلى نُزلِه، وسعيتُ لأن أطرَح بيكهيون على الوِسادَة.
" عُد إلى النَّوم، أنتَ بحاجةٍ إلى الرَّاحة فقد فقدتَ الكثيرَ مِن الدِّماء. "
ما انقَضى مِن عُمرِ اللَّيلةِ سِوى أنفاسٌ معدودة، حتَّى ثَوى ناصِيتي عِوضًا عن الوِسادةِ الَّتي أدرتُ اقتِياده إليها، لأجلِه، ودبَّت أصابِعه النَّحيلةُ على جانِبيّ عُنقي، رغمَ حرارتِهما، فكأنَّها زمهريرُ رقَّص عوامِيدي.
" أخبرتُكِ أنَّنا إذا انكَشفنا أمامَهم، فلن يدومَ السَّلام طويلًا، ولكِنَّ ألاعيبَك الصِّبيانِيَّة عجَّلت في ميعادِه، قبل أن يُراوِدَني حلّ. "
الوهنُ الَّذي كحَّل جفنيه غواني لأتجرَّد مِن جميعِ أسلِحتي، وأنساقَ وراءَه إلى فِراشِ التَّنازُل المُلطَّخ بالمَهانَة، ونعيثَ سويًّا بعاطِفتينا خرابًا جميلًا... ولو أنَّه جأرَ بذاتِ الخِطاب وهُو في أتمِّ طغوتِه لأعلنت عليهِ حربَ كبرياءٍ طاحِنة. فقط لأنَّه عاجزٌ عن طعنِي بما يمتلِكُه مِن قسوةٍ غشاها الإنهاك، خفَّفتُ غُروري لنتَوازَن.
" آسِفة، إنَّها حماقةٌ مِن الحماقاتِ الَّتي حرّضتني الغيرةُ عليها، وجمَّلتها بينَ ناظِريّ. "
بعفويّةٍ احتكَّ أنفِي بأنفِه.
" أكُنتَ قلِقًا عليَّ يومَها لا مُشوَّشًا حِيالَ الموقِف الَّذي ستتَّخِذه إن نحنُ كُشِفنا؟ "
طمعهُ جبَره أن يحفِر إلى وجهِي، فغمَرني هواؤُه السَّاخِن، وهواهُ الفاتِن، وكُلَّما تمايلت شفتاهُ بينَما تُخرِجان مكنوناته، اصطَدمتا بشفتيَّ اصطِدامًا عفيفًا.
" لأنَّك لستِ صلبةً للصُّمودِ في هذَا الوسَط، ولأنَّك أصغَر مِن أن تستوعبيه، لا أدرِي متَى وكيفَ زرعتُكِ فيّ، ولكنَّ وجودكِ يروقُني، حقيقةُ أنَّ بالمنزِل مَن ينتظِرُني بفارِغ الصَّبر لأحلِّيَ عينيه، بدَل أن أقتطِفَ الثِّمارَ الفاسِدة مِن وكرِها لأملأ فَراغي، أنَّ ثمَة عينانِ كالمَنارةِ تبحَثانِ عنِّي في مُحيطٍ كُلُّه أناسٌ مُظلِمون مِثلي. "
كأنَّها المرَّة الأولى الَّتي نختَلي فيها ببعضِنا، دونَ تدخُّلٍ أجنبيِّ مِن صُلبينا، يحيدُنا عن الوِفاق، أنا وهُو والصِّدق ثالِثُنا، لا كِبرياءَ ليضخَّ فيهِ العمَى، ولا غُرورَ ليرَفعني عنه بضعةَ طبقات، ويوسِّع بينَنا المسافات.
طأطأتُ برأسِي، وانزَلقت أنامِلي على صدرِه.
" أنا آسِفة لأنِّي غدوتُ لكَ نُقطة ضعفٍ بعدَ أن كُنت نُقطةَ قُوَّة، تُسنِد حُبَّك لذاتِك. "
" أتذكرينَ أوَّل قُبلةٍ تبادَلناها على قمَّة الجَبل؟ كانت أوَّل مرَّةٍ أتعدَّى فيها أعتابَ جفنيكِ إليكِ، وأوَّل مرَّةٍ أرى الجمالَ فيكِ، أظنُّ أنِّي لم أُغادِرهما حينَما غادرتُهما نظراتِي، نسيتُني هُناك، وفي كُلِّ مرَّة أضيِّعُني، عيناكِ كمين. "
كانت أوَّل مرَّة يسقيني كلامًا حُلوًا كهذَا، لعلَّها الحُمَّى قد استَفحلت فيه، رفَعت رصيدَ الغفلةِ في ذِهنه، وسطَت على مخازِن كلِماتِه، وشرَعت تُبذِّرها. ربَّما يظنُّ بأنَّه يحلُم، وعِندَما يستفيقُ لن يذكُرَ شيئًا مِن حوارِنا هذا.
" كُفِّي عن إغضابي، أيَّتُها الشَّقيَّة. "
" لا تتأذَّى، ولا تُحاوِل أن تخضَع للموت، أغار عليكَ حتَّى مِن الموتِ إذ يتربَّص بمُحيطِك. "
وبينَما أكادُ أسلِّم لبكوةٍ عزمت على استِنزافِ دمعِي، تقوَّس فمُه بخِفَّة.
" وهل أخونُكِ والموت، لأدعَك فريسةً للحيَاة؟ "
خرَّت ابتِسامتُه سويَّا وطاقتُه الَّتي خارَت، حتَّى ثوَى رأسُه كتِفي مُجرَّدًا مِنه. مدَّدتُه على بطنِه مرَّة أُخرى، وقبل أن أتناءى عنه سمِعتُه يُتمتِم.
" أنتِ لا تنتَمين للموتِ ولا للحياة، أنتِ تنتَمين إليَّ. "
أُدرِكُ بينَ اللِّقاء واللِّقاء أنَّ مُنتَهايَ إليه مهمَا انتَهيتُ عنه، لأنَّه ذنبٌ فاتِن يستَدعيني بوعودِه، وأنا أمَةٌ أُميَّةٌ لا يسعُها تمييزُ الصَّواب، وبينَ اللَّحظةِ واللَّحظةِ أعِي أنَّ حُبَّه فيَّ قد تكدَّس حتَّى فاضَ مخزَني، وتلوَّث جِرمي بجُرمه.
لا يهُمُّ إذا ما داسَني بقدميّ جفوتِه حينَ أغدوُ بينَ شفتيهِ أعقابَ شهوةٍ على وشكِ الانطِفاء، سأشتعِلُ في عينيه ثانيةً، ومُذ أنَّه مُدمنٌ لانحِناءاتي فسوفَ يأتيني ساجِدًا، لا بأسَ إذا ما راوَغ الاعتِرافَ بأنِّي قد تفشَّيتُ فيه، فالفَناء سيُدرِكُه ذاتَ يومٍ حينئذٍ سينفجِرُ صمتُه بصمت، وسأسمع في لظاهُ ما شكاه بِلا حِسّ.
ربَّما نحنُ مُجرَّد نعيمٍ لحظيّ، أو وهمٌ مِن رحِم الجوعِ، نشَب حينَما أشعَلنا مِن أنفُسِنا عودَ ثِقابٍ لنحتَمي مِن زمهريرَ الوِحدة الَّذي يُحاكِي نسيمَ ينايِر، وسيُوسِّم صدورَنا النَّدم، لكِن مَن يهتمّ؟
ومِثلما القِمار حظّ، فإنَ مِن الطَّمعِ ما يقمَع؛ أحيانًا علينا التَّخلّي عن الفُرصةِ للحِفاظِ على ما كسبناه، وأحيانًا إذا تمسَّكنا بالفُرصةِ ابتِغاءَ المزيدِ خسِرنا ما كسبناه، كذلِك الحياةَ لحظات، حاضِرةٌ ومُحتمَلةُ الحُضور، فلِماذا قد نُضحِّي بِما ملأ كفَّينا لأجلِ احتِمال، لِماذا قد نُلقِي باللَّحظةِ للتقرُّبِ مِن الأخرى؟
ربَّما لأنِّي فقدتُ أنفَس ما اكتَنزَه صندوقِي يومًا مِن قبل أن يُنهَب، بتُّ أُقدِّسُ اللَّحظاتِ، لذلِك أقسمتُ أن أُحبَّه في كُلِّ لحظة، ألَّا أسلَخه مِن بالِي لمُجرَّد أنَّ الوقتَ غيرُ مُناسِبٍ للتَّفكير فيه، فكُلُّ الأوقاتِ مواقيتُه، مواقيتٌ للحبّ... هُو اللَّحظةُ الغنيَّة الَّتي لن أستَغنِيَ عنها، خوفًا مِن النِّهاية، خوفًا مِن الفُراق.
خلَدتُ إلى النَّومِ مِن دونِ تخطيط، إذ فتحتُ عينيَّ على ضوءِ النَّهارِ الَّذي عبَّد الغُرفَة، وكادَ يستَلقي على جسدينا المُتجاوِرين. بمُجرَّد ما نفضتُ عنِّي غُبارَ الرُّقودِ حططتُ كفِّي على ظهرِه أقيسُ حرارَته، ثُمَّ أولجتُ مُقدِّمةَ المِحرار في أُذنِه لأتيقَّن مِن خُمودِه، لحُسن الحظِّ اعتَدلت حرارتُه. أودعتُ قُبلةً بريئةً على قَفا عُنقِه، قبل أن أُبارِح السَّريرَ إلى المَطبخ؛ عازِمةً على إعدادِ العصيدَة مِن أجلِه، إن أفلحت.
استَخرجتُ وصفةً مِن الانترنت، طبَّقتُها حرفيًّا، آملةً أنَّها غيرُ مخدوعَة، ثُمَّ وضعتُ القِدر على النَّار، ورتَّبتُ الفوضى الَّتي أحدثتُها ببارِ المَطبخ. في لحظةٍ غيرِ مُتوقَّعة، دبَّت الحركةُ حولَ خصريّ بغتةً مُتسبِّبةً في انتِفاضِ قدميَّ بخِفَّة، فإذا بذِراعيه تُعقدانِ وسَطي، وذقنُه يقعُد على كتِفي الأيمَن باستِرخاء.
اختَلجت الفَوضى صدري، وتبعثرت حواسي، وتضارَبت الكلِماتُ في ما بينَها، أيُّها أحقُّ بالعُبور إلى مسامِعه، حتَّى قمَعها الصَّمت... وحينَما ضاقَت عليهِ جُدرانِي فرَّ، وترَكني أُلملِم مِن أرضِي ما وسِعني قولُه له، بدَل الأهمّ.
" لِماذا ترَكت السَّرير؟ "
" لستُ مَن تُضعِفه مُجرَّد رصاصَة. "
تحرَّرت عُنقي مِن أغلالِ السُّكونِ أخيرًا، وانعطَفتُ نحوَ مُستقرِّه باستِنكار.
" مُجرَّدُ رصاصة؟ "
أخلت ذِراعاهُ سبيلي، كأنَّه تكهَّنَ برَغبتي في مواجهتِه، وحينَما واجهتُه تدفَّقَت مكنوناتي مِن ثغرِ الخوف، خوفٌ قضَّ دواخِلي وما انقَضى، ما أفتأ أتخبَّطُ بذاتَ الدَّقائِق العاصِفةِ مِرارًا وتِكرارًا، كأنَّ ذاكِرتي تأبى الارتِحالَ مِنها.
" رصاصٌ بحجمِ عقلةٍ الإصبع قادرٌ على إبادَة أعتى الجَبابِرة، فأنَّى لكَ أن تقول أنَّها مُجرَّد رصاصة؟ كأنّك تتحدَّث عن نزلةِ برد، كأنَّك نجوتَ للتوِّ مِن نكسة، لا نكبة! "
كما تمسَّكت قواطِعي بشفتي السُّفلى رغمَ أنَّ قومًا مِن الكلِم وراءَها مُتظاهِر، تمسَّك جفنايَ بلآلِئهما، لئلَّا تقَع في بُحور الضّعف العميقَة... حينَما استَطعتُ تضليلَ البَكوةِ الَّتي هدَّدت وجهِي نقرتُ صدرَه بسبَّابَتي.
" تِلك الرَّصاصةً مزَّقت فُؤادِي بالأمسِ، وشظاياها أبرَحت أورِدتي وجلًا، كثيرٌ مِن الأفكارِ البشِعة انبَثقت مِن ثقوبِ القلقِ في روحي، وما اقتَدرتُ أن أتوازَن على حبلِ العَقلِ ولو قليلًا، حتَّى أنِّي خِلتني سأخسَرك حينَها. "
ما أفلحتُ في صدِّ جُيوشِ الدَّمعِ عن خديَّ، إذ همَّت تقتصُّ مِن نكبةٍ ولَّت، رغمَ أنَّ أهدابِي بارَزتها، سُدًى.
" شعرتُ كأنَّ الحياةَ حيَّةٌ التَفَّت حولَ عُنقي، وراحَت تخنُقني، تُرغِمني على تقيُّؤ كُلِّ ثانيةٍ حُلوةٍ قضيتُها وإيَّاك. "
حطَّت كفُّه على قفا عُنقي، وطرحَت مُحيَّايَ بصدرِه المُجرَّد مِن السِّتر، فسَرت حرارتُه إليّ، ما تزالُ آثارُ الحمَّى عالِقةً بينَ أنسِجتِه، وطيَّبت أنفاسُه مسامِي المُشتاقةِ إلى هُبوبِه، سويًّا وخاطِري، يكفي أنَّه على قيدِ الحياة.
كان موقِنًا أنِّي لن أُعارِضه، إذ ظلَّت يدُه الأُخرى مُتدلِّيةً بجوارِ فخِذه، مُستكبِرةً أن تزيدَني مِنه قُربًا، وتُعزِّزَ وِصالي بِه، وبالفِعل، ما فكَّرتُ في الهربِ مِنه ولو قليلًا، لا بأسَ حتَّى وإن دامَت هذِه اللَّحظةُ لدهرٍ مديد. وبينَما تُمطِر مُقلتايَ مِدرارًا مِن الشَّكاوِي، تبكي خطرًا زال، وليتَه لا يعود، احتَوته ذراعايَ بشغف.
" لو فقدتُك لعِشتُ ما امتدَّ مِن عُمري بعدَك مُتشرِّدةً في أزقَّة الحِرمان، مُلطَّخةً بندمٍ نتِن، لن يزولَ عنِّي ولو اغتَسلتُ ألفَ مرَّة، لعُدتُ إلى الَّلاشيء الَّذي كُنته قبلَك، ربَّما لا تَدري ولكنَّك المغزَى الكامِن في كلِماتٍ فارِغة، صُفَّت على سطر، أنتَ الأنفاسُ المَحبوسةُ في لفظةِ حياة، والَّتي لفظَتها كُلَّها في رُقعةٍ مِن الماضي. "
لفرطِ ما نزفه جفنايَ ابتلَّ صدرُه الَّذي ضمَّ سقطتي المريرَة هذِه، وبوحِي المُهين مِلءَ جوارِحي أنِّي قد كِدتُ أموتُ خوفًا عليه.
" توقَّفي على البُكاء كطِفلةٍ مُدلَّلة. "
" لستُ أبكِي عليكَ أنت قطّ بتسع أرواح، خسرت اثنتين، وما يزال لديك سبع أُخريات. "
انغَمستُ بينَ ترائِبه، موطِني الوحيد، لقد غدوتُ مخلوقًا لا يُمكِنه العيشُ إلَّا بأنفاقِ وجودِه، لو بارَحتها شقّت عليَّ الحياة.
" لكنَّ لي روحًا واحِدة، فكفاكَ تهوُّرًا. "
ما لبِثَ وأن اشتقَّ وجهِي مِن مخزنِه الدَّافِئ، ورمَّمه مِن آثارِ عاصفةٍ عاطِفيَّة مريرة، خلَّفته منكوبًا بأصابِعه، بينَما يهزَأ بي.
" كُفِّي عن التصرُّف بميلودراميَّة، أهِي الفترةُ اللَّعينَة مِن كُلِّ شهر؟ "
قُلت ما تبادَر على ذِهني، رغمَ أنِّي لا أعنيه.
" عليَّ أن أشرعَ في الاستِعداد ليومِ وفاتِك مُنذ الآن، فأنتَ تفوقني بسبع وعشرين سنَة، لا مجالَ للشكِّ فيمَن سيُفارِق الحَياة أوَّلًا. "
رحُبَ جفناهُ يُحاكِيانِ بدرًا كامِلًا يشعُّ بالدَّهشةِ، بعدَ أن كانا طوالَ موعِدنا العفويِّ هذا هِلالان، بالكادِ يسعانِ عدستيه الفيروزيَّتين.
رتَّبتُ ما أهمله مِن دُموع مُنذ قليل، مُضربةً عن النَّظرِ إليه.
" لا أريدَ المُرور بتجربةٍ مُماثِلة لتجربةِ الأمس، لا أريدُ أن ينفجِر بِك لُغم المنيَّة بغتة، فأنعَطف وأراكَ هامِدًا، ثُمَّ أتلفَّت حولِي ولا ألتمِس لكَ أيّ أثر، لا أُريدُ أن أنكسِر، لذلِك عليَّ أن أقتنِع بأنَّك ستموتُ يومًا ما. "
أعلمُ أنَّ أيَّ عُدَّة ستخِرُّ أمامَ الشَّجنِ المُنبعِث مِن الخَسارَة، كريهَ الرَّائِحة، كأنَّه جُثَّةُ حبٍّ فاحَت إذ أبى القلبُ أن يدفِنها...
" سأودِّعُك بابتِسامة حينَها، وأنتظِر عبَّارتي بفارِغ الصَّبر لألحَق بِك. "
ظفرتُ أنامِلي خلفَ عُنقِه، وترفَّعتُ على أصابِع قدمِي، حتَّى أُضاهِيه طولًا، أبتسِم وبجوفِ جفنيَّ زخمٌ مِن الدُّموع.
" فلتعِش طويلًا، ولا تمُت فجأة، مفهوم؟ "
حينَما اهتَدى إلى المُزاحِ بينَ سطوري الجادَّة ظاهرًا، أسدَل حِجابيّ عينيه، مُفسِحًا مجالًا ضئيلًا، يسعُ مُروري إليهِ.
" الموتُ لا يعرِفُ عُمرًا، قد يختطِفُكِ أوَّلًا! "
" كما الحُبّ؟ "
ما إن أتيتُ على ذِكر الحُبِّ حتّى فرَّت عدَستاه مِن قبضةِ بصرِي، هُو الرَّجُل الَّذي لا يهابُ المَوت بعظمتِه يرتجِفُ أمامَ كلِمة!
علِمتُ أنَّه شاخِصٌ إلى القِدر حينَما قال بسُخرية:
" لم يسبِق وأن رأيتُ عصيدَة بُنيَّة اللَّون. "
لم أنوِ الإصرارَ على ذاتِ النَّغمةِ، لئلَّا يجعَل مِنها ملحمةً مأساويَّة، لذلِك جاريتُ ذاتَ المَقامِ الَّذي اصطَفاهُ لحِوارِنا، وعبست بصِبيانيَّة.
" عليكَ أن تكونَ سعيدًا لأنَّك ستنالُ شرَف تناوُل وجبةٍ مِن إعدادي. "
أطلقَ سراحَ تنهيدةٍ هزليَّة.
" تقصدين التسمُّم؟ "
أخليتُ سبيلَ رقبتِه، وحشوتُ فجوتيّ خصريّ بقبضتيّ، مُحتجَّة.
" ما الَّذي تفعلُه هُنا على أيَّة حال؟ فلتعُد إلى السَّرير ولتَحظى ببعضِ الرَّاحَة. لقد قالَ الطَّبيبُ أنَّ عليكَ الاستِرخاء ليومين إضافيَّين، لا يُمكِنك التَّجوُّل في المنزِل، سأحرِص أن تظلَّ حبيسًا بغُرفتِك. "
بعدَ شدٍّ وجذبٍ نجحتُ في إقناعِه بالعَودَة إلى السَّرير، خشِي أن ألتجِئ إلى البُكاء غالِبًا، فدُموعِي الواهِنة تُرديهِ خاضِعًا لي... انتَظرتُ أن تنضُجَ العصيدَة ثُمَّ التَحقتُ بغُرفتِه، حيثُ رأيتُه جالِسًا بضجر، يُحدِق بي كالنِّسر.
اضطَجعتُ بجِوارِه، بعدَ إذ رمَّمتُ ملامِحي لئلَّا تذرِف دُموعَ الامتِنانِ، لأنَّه وافاني في ميعادٍ شيِّقٍ آخر وما توفِّي. أنزلتُ الصَّحنَ بحِجري، واقتَطفتُ بالمِلعقةِ لُقمةً مِنه، اتَّجهتُ بها نحوَ فمِه، رغم أنِّي أشكُّ في استِقبالِه لها.
" قُل آه. "
تناءَت شفتيّ عن بعضِهما، فيما انحدَر حاجِباه، لولا الكُتلةُ بينَهما لتلاقيا.
" أتُحاوِلين استِدراجي إلى شِجار؟ "
" كُن مطيعًا ليومٍ واحِد فقط، أرجوكَ سيِّدي. "
أرتج جفناهُ بغيظٍ ثُمَّ أفسَح بينَ شفتيهِ مجالًا وسِع المِلعقةَ الَّتي أقللتُها إليهِ توًّا، ومضَغ اللُّقمَة على مضض... بينَ الحينِ والآخر يرجُمني بإحدى نظراتِه المسنونَة، مِن طرفيّ جفنيه، بينَما يزمُّ فمَه ويلوكُ ما فيه بتلكُّؤ.
بعُسرٍ شغلتُ البَسمة عن الحُلولِ ضيفةً بثَغري، حتَّى لا تصطدِم بِها عيناه، وتشتعِلا غضبًا... ليسَ في وضعٍ صحيٍّ يُبيحُ لِي استِفزازَه، كذلِك منعتني عنه لهفَتي لأن يداعب الصَّمتِ البليغِ بوزنِ ألفِ كلمةٍ حواسي.
لعلَّ بذوقِي خطبًا ما، لأنِّي أراهُ رجُلًا يليقُ بِه الغَضب، ويضخُّ فيه الهيبة، حتَّى يغدو حارِقًا، غيرَ قابِل للمسِّ، ولا السِّجال، مِثل قُنبلةٍ موقوتةٍ، صحيحٌ أنِّي لا أجيدُ فكَّه، وكثيرًا ما أتشظَّى وإيَّاه، لكنِّي ما ألبِث وأن أستطيِب طعمَ الألَم، أراهُ رجُلًا جذَّابًا بصمتِه، يُثيرُ الفُضولَ في نفسِي لأقتَفي تيَّاراتِه بشغف، رجُلٌ يعتنِق الكتمان، في بُهرةِ سكونِه ثورانٍ ما يدرِي عنه سِوى مَن تفرَّس في المِلاحَة، وقضى بينَ سواحِلهِ عُمرًا. إمَّا أنِّي مخدوعةٌ بالقليلِ مِمَّا اغتَرفتُه مِن معرِفتِه، أم أنِّي خُلِقتُ مُقتدرةً على استيعابِ لُغتِه العجيبة.
هُو مِثلُ القدرِ كتومٌ، لا يعلَم عن مساراتِه أحدٌ، إلَّا عِندما يقفِز بغتةً مِثلَ قاطِع طريقٍ جشع، لطالَما أسرَّ تحتَ سرائِره كُلَّ ما غزا بالَه، نادِرًا ما تُمزِّق الابتِسامةُ مُلاءاتِه وتفرُّ مِن الإعدام، لطالَما ضربَت الكلِماتُ مِصراعيه المُحكمَين، دونَ أن يكترِثَ لضوضائِها في عقلِه، ولطالَما انتحَر الحُبُّ مِن حوافِ أهدابِه، قبلَ أن ينفِضهُ عنها، أو يرِدهُ نبأُ خُروجِه إلى العَلن، فأتوفَّاهُ في بصري صادِقًا، رقيقًا.
وأنا الَّتي أحببتُه بكامِل تقلُّباتِه المِزاجيَّة، أحببتُ صيفَه الحميم، كُلَّما أندى أبدانَنا، وحمَلنا على الغطسِ في حمَّامِ الإثم لعلَّهُ يُرطِّبُنا، كُلَّما أغرانا لإقامةِ حفلِ تعرٍّ صاخِب، يصُمُّنا عن تبِعاتِه، أحببتُ خريفَه، رغمَ أنَّه يُرغِمُني على ترصُّدَ سمائِه جاهِلةً عمَّا تَنوي عليهِ، أحببتُ شِتاءَه البارِد، إذ أدري أنِّي لو أحرقتُ أحطابَ فُؤادِه لاشتَعل ودفَّأني بقبلاتِه، ولدثَّرني بدقَّاتِه، أحببتُ ربيعَه المُزهِر، رغمَ أنِّي أضطرُّ إلى المشيِ في بُؤبؤيه أميالًا لأدرِكه... لستُ ضليعةٍ في عِلم الألبابِ، ولكنِّي أُفسِّره بنظرة!
سرَّحتُ الصَّحنَ بالمِنضدةِ مُنذ لحظاتٍ وجيزة، وتطوَّعتُ لتطهير جُرحِه كما أُمِرتُ بالأمس، لحُسنِ الحظِّ أنَّه عاجزٌ عن إسعافِ نفسِه بنفسِه، وإلَّا لحالَ بيني وبينَ ذلِك لمُعتقداتٍ عقيمةٍ يعتنِقُها...
استَلقى على بطنِه، وتوسَّدَ ذِراعيه المُتعانِقتين أسفَل خدِّه الأيسَر، في حينِ خلعتُ ضمادَة الأمسِ عن ظهرِه، وسكبتُ المُعقِّم على الجُرحِ المَرتوق، شعرتُ بانقِباضِ عضلاتِه لفرطِ الألَم، رغمَ أنَّه لم ينبِس بآهة، وبُغيةَ أن أُلهِيه عنه كلَّمتُه، ما اجتَهدتُ في انتِقاءِ ألفاظي، تركتُ لها حُريَّة الاصطِفافِ في سطر.
" أنتَ كالموتِ قاسٍ، لم تُنبِّئني مِن قبلِ أن تسلب أنفاسي. "
ما لقيتُ مِنه ردًّا، خِلتُ أنَّه عمَد على تَجاهُلي، إذ ما امتَلكَت كلِماتي القوَّة لزحزحةِ صمتِه، واستِلالِ انتِباهِه.
" أتستحقِّين أن أشعِل مِن أجلِك حربًا ضاريَة؟ "
تساقَطت نظراتي على الجانِب البارِز لي مِن وجهِه، حيثُ كانَ ساهِيًا إلى العَدم.
" لستُ وطنًا يُضحِّي بأحبَّتِه. "
" حتَّى وإن كُنت مبتورًا، وبي ندب؟ "
توقَّفت عن تحريكِ القُطنِ على جُرحِه.
" ليسا بترًا وندبًا. "
حينَما صبَّت نظراتُه عليَّ قُلت:
" بل خيبةً وحُبًّا. "
باستِغرابٍ سأل:
" حبّ؟ "
" ألا تُحبُّني؟ "
صمت، ولكنَّ صمتَه باتَ مرئيًّا، كُلُّ ما كبَته مِن كلماتٍ وأعدَمها في مقصلةِ الشِّفاه تُحلِّق أرواحُها في مُقلتيه، وأنا أراها، حتَّى أنِّي قرأتُ بينَ صفحاتِهما الإعجازيَّة ميثاقَ ملكي لكُلِّه، لا مُجرَّد حِصّةً فيه.
تمَّت مُعامَلاتُ حُبِّنا، رغمَ أنَّ سِعره أبهظ، مُقارنةً بأبعادِ ما عرَضه عليَّ مِنه، ربَّما هِي أوسَعُ مِمَّا يبدو لي، وربَّما قد بنَا لي في بُقعةٍ ضيِّقةٍ مِن فُؤادِه الَّذي باتَ مُعظمُه غيرَ صالِح لبِناءِ العقباتِ ناطحَة حُبٍّ، تخترِقُ غمامَه، ربَّما...
تعلَّمتُ أن أعوِّد نفسِي على التَّقتير في التوقُّعات، لئلَّا تتوسَّع معِدتِي فلا أشبَع حينَما يسكُبُ في صحنِي رغيفَ اعتِرافٍ يابِس، وحبَّات اهتِمام، أن أعوذَ بِه مِنه كُلَّما ثارَ عليَّ وهدَّدني، فوحدَه قراره مَا لا يصبوه سُخطه.
الحُبُّ تعرٍّ، تعرِّي الطَّرفين مِن التوقُّعات، وتحيُّن الهُدَن الُمؤقَّتة، أحيانًا يخرِقُها الكِبرياء، ولكن ما دامَ قويًّا فمآلُه الهلاك...
*
لعينيكِ أنيابٌ لم ترحَم كِبريائي.
كُنَّا عاتِيين، كطَرفينٍ في حربٍ مُتساوِية القوى، حربُ الجَبابِرة، لا رابِح فيها ولا خاسِر، بل فيها مَن سيسقُط أوَّلًا، ومَن سيصمُد إلى الأخير، مَن سيظلُّ واثِبًا في أوجِّ الغوغاء، وقد قاتَل كُلٌّ مِنَّا الآخر لأجلِ شرفِ الصُّمود. تسلَّحت أنتِ بالحبِّ، وتسلَّحتُ أنا بالكِبرياءِ، في نِهايةِ المطافِ اختَرقَ بارودُكِ صدري، واشتعلَّ فيَّ، خِلتُ أنِّي سأصمُد رغمَ أنِّي أُصِبتُ، ورغمَ أنِّي أنزِفُ اشتِهاءً مقيتًا لكِ، لكِنِّي تساقَطت.
تُنبِّئني حصيلةُ خسائِري العاطفيَّة عن جرائِم حُبِّك الحُلوة في صدري، كَم نهبتِ مِنِّي دونَ أن أقتدِر على ردعِك، ذلِك لأنَّ عيناكِ استأجَرتني بلحظاتٍ ثمينة جعلتني أستبيحُ الغَدر بوطنِي، بعقائِدي الَّتي أقسمتُ ألَّا أحيدَ عنها ما دُمتُ أتنفَّس، لئلَّا تُلقِّنني الحياةُ درسَ ثقةٍ قاسِيًا مرَّة أُخرى، لأنِّي أضعفُ مِن تطبيقِه.
راوَغتُ الاعتِرافَ مِرارًا وتِكرارًا ليسَ لشيءٍ سِوى لأتهرَّب مِن المُصادَقة على ميثاقِ الاستِغناءِ عنِّي لك، لا أدري لِماذا كُلُّ هذا التردُّدِ وقد اعتَرفتُ بِك بداخِلي مُنذ أن احتَدم فيَّ القَلق، واختَنقت كأنَّكِ لملمت حينَما اختَفيت الهواء.
عواطِفي كالجذورِ لا تُغيّر مضجعها، إلا لو بلغَ سيل الخيبَة زُباه، وجرفَها بعيدًا عنّي، لكنَّ الشكَّ لم ينعدِم مِن المُعادَلة رغمَ جميعِ براهينِك، فيَّ ندبُ شكٍّ حينَما جفَّت دِماء الماضي المُنسكبة مِنه باتَ يبتلِعُ كُّلَ من يدوسُ مُقلتيّ.
في السَّابِق خِلتني أهوي في الهواء، لكنِّي كُنت أهوي في هواك، اعتنقتُ الإنكار كِبرًا، حتَّى اصطَدمتُ بقاعِ الحقيقةِ الصّلبَة، وتفتَّت قوقَعتي.
كُنتِ بين ذراعيّ غيثًا غسَل عنّي إخفاقاتي، حتَّى غدوتُ بنظري طاهِرًا، أكادُ أنسَى خَرابي السَّالِف، ونزيفي المُتطرِّف، عيناكَ كمينٌ ماجِن وابتِسامتُك لقطاتٌ خادِشة بالحياء.
سألتني؛ ما إذا كُنت أحبُّك، وأردتُ أن أقول:
يشهدُ الحُبّ أنّي ارتحلتُ مِن أرضِه وتهت فيكِ توهانا.
لكنَّ الصَّمت خاطَ شفتيّ، فوقَعت مجزرَة كلمٍ أُخرى!
يكفِي أنِّي استَبحتُ التَّضحيَة بحياتِي لأجلِها مُجدَّدًا، ولكِن هذِه المرَّة عن حُبٍّ لا عن واجِب، أنا الَّذي أقسمتُ ألَّا أقتحِم شؤونَ غيري، لئلَّا يطالَ الخرابُ حياتِي، مُتَّعِظًا مِن تجربتي الأخيرة الَّتي كلَّفتني ذراعي، ولكِن هيهاتٍ بينَ وعدٍ لحظيّ فارِغ، وبينَ واقعٍ تملؤُه الحتميَّات، كذلِك جلبَ الواقِع وإيَّاه حتميَّة حِمايتي لها.
كُنت قد أوكلتُ تشانيول بافتِضاحِ شطرٍ مِن فسادِ قائِد الفريقِ إن لحِق بي أيُّ مكروه، لستُ الرَّجُل الَّذي قد ينهارُ بمُفردِه؛ نسِيَ بارك أنِّي القاعِدة الَّتي بنا عليها أمجادَه، والمِصعَد الَّذي سيقودُه إلى الطَّابِق الَّذي يسعى إليه؛ ليكونَ سِياسِيًّا، وربَّما لم يتوقَّع أنِّي لملمت مُخلَّفاتِه سِرًّا، بأدلَّةٍ ملموسة، الارتِيابُ المُزمِن مُفيد، رغمَ أنَّه لا يُطاقُ غالِبًا.
كان التَّوقيتُ المُناسِب لتغيير انتِمائي، رغمَ أنَّ ما وعَدني به القائِد بارك أعظمُ ممَّا وعَدني بِه مُنافِسه كيم إذا ما انضَممتُ إليه، ولكنَّ جِسرَ المَصلحة بينَنا انكَسر مُنذ أن غدَت تِلك الطِّفلةُ تترأَّسُ قائِمةَ اهتِماماتي، كأنَّها الوحيدةُ فيها.
لقد ذهَبت مُنذ لحظاتٍ إلى الصَّيدليَّة حتَّى تقتَني بعضَ المُعقِّمات والمُسكِّنات، حرارتِي ما تزالُ غيرَ مستقرَّة تمامًا، في حينِ مكثتُ على السَّرير، مُستلقِيًا على بطني بما أنَّ إصابَتي تمنعُني مِن الاستِلقاءِ باعتِياديَّة، أُعانِق الوِسادَة الَّتي تحتضِن رأسِي.
سمِعتُ صوتَ البابِ وهُوَ يُفتَح، توارَب جفناي، ثُمَّ حطَّا بأمانٍ على مُدرَّجِ الظَّلام؛ واثِقٌ أنَّها مينِّي قد عادَت، تواربَا مرَّة أُخرى حينَما أوحى لي صوتُ القرعِ عن كعبٍ عالٍ يصطدِم بالأرضيَّة؛ بينَما فتاتي تنتعِلُ حِذاءً رِياضيًّا، وبَّختُها لأنَّها تجوَّلت بِه بداخِل المنزِل، وبالفِعل فالمرأةُ الَّتي تراءَت لي هِي العُشبةُ الضارَّة الَّتي أفسَدت محاصيلَ الهناءِ في صدري، انفلتُّ مِنِّي ودفعتُ السَّرير بكفيَّ مُعتدِلًا باستِهتار.
" ما الَّذي جاءَ بكِ إلى هُنا بعدَ الَّذي فعلتِه؟ "
لم أعبأ لفقرِ مخزونِي مِن القوَّة، ووثبتُ مِن السَّرير مُطوِّقًا رقبَتها بيديّ، لا أُفكِّر إلَّا بالمصير الَّذي استأجرته ليغتالَ مينِّي.
" أتظنِّينَ أنِّي قد أكونُ راغِبًا في ضمِّ صورتِك إلى بصري مُوحَّدَة دونَ أن أمزِّقَها؟ "
تَلجلج صوتُها ليسَ خوفًا، بل ألمًا.
" اهدأ قليلًا، الغضبُ مُضرٌّ بصحَّتِك. "
" ليسَ بهذِه الحياةِ ما يضرُّ صحَّتي سِواك. "
تخضَّب وجهُها بالحُمرة حتَّى غدا حمَّام دمّ، كأنَّه ينعِي لي مَدى ما أرقتُه فيها. لم أرأف بِها حتَّى وأنامِلها سُجَّدٌ على مِعصميّ تبتهِل الخَلاص.
" فلتُصغِ إليَّ ولو لخمسِ دقائِق، أُقسِم أنَّك لن تراني بعدَها أبدًا. "
ارتَخى وثاقِي حولَ عُنقِها تزامُنًا وتخاذُل غضَبي، لكنَّ رِماحي لم تُسحَب مِن صلبِها، وما تفتأُ تطعنُها في عينيها.
" فقط لأنَّك تُقسمينَ ألَّا تدعيني أرى وجهك، رغمَ أنَّ ذلِك مُستبعد، فنحنُ ما نزالُ محتجزانِ بقلبِ علاقةٍ خانِقة. "
جمعتُ ذِراعيَّ مُنتصَف صدري على مضض، أوشي لها عن القدرِ الَّذي كِلتُه لها مِن صبري ووقتي، لم أنوِ مُنذ البِدايةِ الانخِراطَ وإيَّاها في مُحادَثةٍ ودِّية، كما لم أشأ الجُلوسَ فتنتهِز الفُرصَة طلبًا للمزيد ظنًّا أنِّي مُهتمّ.
" تحدَّثي. "
انتَكست عدَستاها كأنَّهُما ولثقلِ الذَّنب ما استَطاعتا الطَّفوَ في عرضِ جفنيها، وتعاقدت أنامِلها حوَل حِزامِ الحقيبَة المُنسابَة على كتِفها.
" أدري أنَّ أيَّ اعتِذارٍ ومهما امتلأ بالكلِم سيكونُ فارِغًا، لكنِّي لم أُرد أن تتطوَّر الأمورُ إلى هذِه المَرحلة صدِّقني. "
ما إن اجترأت على المُثولِ أمامَ بصري حتَّى التَهمت ابتِسامةٌ ساخِرةٌ أحدَ جانبيّ ثغري.
" أكُل ما اكتَسبتِه مِنّي طوالَ فترةِ عيشِنا سويًّا هُو طِباعي السيِّئة؟ وميلي إلى العُنف حينَما يتعذَّر عليَّ نيلُ مبتغاي باللُّطف؟ أبشِّرك أنَّك قد تفوَّقت عليَّ في السُّوء، كيفَ وسِعك الكيدُ لمُراهقة يتيمة؟ "
" كُنت أقصِدُك أنت. "
لزمت الصَّمت، لأنِّي لو نطَقت فليسَ لِسانِي مَن سينطِق بل قبضَتي، في حينِ تابَعت.
" لستُ نادِمةً حِيالَها، أتمنَّى لو أنَّها الَّتي أُصيبَت، لو أنَّها لفظت آخر أنفاسِها هُناك، لستُ امرأةً طيِّبةً قد ترجو لغريمتِها في الحُبِّ أن تُسعَد بغنيمتِها. "
أذِنتُ للخطواتِ الَّتي تحجَّرت في قدميَّ مِن رغبةٍ مُلحَّة في الانصِراف بالتدفُّق، فاقتادَتني إلى ما وراء ظهرِها.
" لقد قتَلتني مرَّة، لم أستَغرب أنَّكِ حاولتِ قتلي ثانيةً. "
لفرطِ ما بذلته مِن جهدٍ في الالتِفات إليَّ رغمَ أنَّها لن تُبصِر سِوى ظهرِي، سمِعتُ صوتَ تيَّارٍ مِن الهواءِ ينتُج عنه.
" لا أدري ما الَّذي وقَع بينَك وبينَ أبي ليستَهدِفك رغم أنِّي أوصيتُه بحياتِك، وألَّا يُؤذِيَك، لكنِّي ما أزالُ السَّبَب في إصابتِك. "
نظرتُ إليها مِن فوقِ كتِفيَّ باختِيال.
" لم أقصِدني، قصدتُها هِي. "
بعدَ حينٍ سألت:
" أتحبُّها كثيرًا؟ "
تنحَّيتُ عن طريقِها بمسافةٍ تُخوِّلها المُرورَ بجِواري، مُتحاشِيًا أن أدوسَ ألغامَ جفنيها.
" إن كانَ هذَا جُلّ ما أتيتِ لقولِه فلتُغادِري. "
تصفَّحَت سحَنتي الفارِغَة بحسرة، رأيتُها حينَما كانَ صبري يحتضِر وودتُ أخذَ ميثاقِ مُغادَرتِها لي على الحال. استَغرقَت مُقلتاها وقتًا طويلًا في تقليبي، ربَّما تطمح لاستِخراجِ الحُبِّ المُكتَنز في أعماقِي، جاهلةً أنَّه غير موجود، وربَّما تُودِّعُني!
قبل أن أنبِسَ ببنتِ شفةٍ امتدَّت يدُها تفضُّ سحَّابَ حقيبَتها العريضَة، أخرَجت مِنها ظرفًا تُرابِيَّ اللَّون، حلَّقت بِه يدُها ناحِيتي.
" هذَا اعتِذاري. "
لم أشكَّ ولو لثانيةً في أنَّه يكتنِف حُريَّتي. ما إن عثَرت نظراتِي على توقيعَها في نِهايةِ الورَقة حتَّى هرَعت إليها مُستفسِرة، علِمتُ أنَّ بخاطِرها الكثيرَ لتقولَه.
" لقد أدركتُ متأخِّرةً أنَّنا آذينا بعضَنا بِما فيه الكِفاية، إذ سمَحنا لهذِه العلاقةِ بالاستِمرارِ مُنتهية كما قُلتَ لي ذاتَ يوم، تتعثَّر بالمَشاكِل بينَ الخُطوةِ والخُطوة، لن أُحمِّل عاتقيَّ كُلّ الذُّنوب وأخبرك أنِّي برَّأتُك مِن كُلِّها لأشعِرك بالتحسُّن، كذلِك أخطأت حينَما لم تفسَخها، مِن أجلِ مصلحتِك، ليتَنا انفَصلنا آنذاك! "
لقيت زفرةُ حسرةٍ مصرعَها على بُعدِ مسافةٍ ضئيلةٍ مِن ثغرِها.
" لأنَّ الغيرة عبِثت بفرامل بصيرتي لم أعرِف كيفَ أتوقَّف حتَّى اصطدمتُ بحقيقةِ مؤلمة، حقيقة أنَّ حُبِّي كادَ يقتُلك بطيشِه."
صمَتت عندَما اهتزَّ صوتُها بشكلٍ ملحوظ، كان يسيرًا عليها إعاقةُ الكلِمات لئلَّا تفتضِح الاشتِعالَ بداخِلها، ولكِنَّها حبِطت في ردعِ الدَّمعِ عن إزهاقِ غُرورِها، إذ انتَفض بحُرقةٍ في جفنيها، وتَهاوى على وجنتيها.
" ربَّما لا تكترِث لأمري، ولكنِّي بعد المُحاكَمة سأنتقِل للعيشِ باليابان، لن تراني مُجدَّدًا، فلا تمسّ أبي أنا أرجوك، تعلَم أنَّه قد كرَّس حياتَه للعمَل والوصول إلى ما هُو عليه، وكُلّ ما أقدَم عليهِ بأمرٍ مِنِّي. "
سلَّطتُ بصري على الحائِط قُبالَتي بحدَّة.
" لقد مسَّ مُمتَلكاتي، عليهِ أن يدَفع الثَّمن، ويخسَر شيئًا عزيزًا عليه. "
كَم كانَ علينا أن نجرَح بعضَنا لنُدرِك أنَّنا قد متنا؟ لو أنَّنا استَسلمنا لنُقطةِ النِّهايةِ وتعرَّينا مِن هذِه العلاقةِ الَّتي باتَت مسمومةً، بدَل أن نستمرَّ بارتِدائِها، ونمشِيَ في الفَراغ الشَّائِك ما وراءَها لعلَّنا نعثُر على بدايةٍ جديدَة لما أُلنا إلى هذِه المَرحلة؛ لأنَّ الحُبّ يستحيلُ إنعاشُه إذا ما انطفأ، لكنَّها نفخت فيهِ مِن أنفاسِها على حِسابِ نفسِها الَّتي احتَاجت كُلَّ جُرعةٍ تخلَّت عنها، لربَّما كانت أشدَّنا دمارًا، مُذ أنِّي أعلنتُ عن وفاتِه..
لقد سقَطت مِن مكانٍ شاهِق، كانَ مِن المُستحيلِ أن تظلَّ مِن بعدِ ذلِك على قيدِ الحياة في فُؤادِي، تكسَّرت مِثلَما كسَرتني، ورُدِمت تحتَ السِّنين، حتَّى نسيتُها؛ يومها تعلَّمتُ أن أُفلِت أيادِي الأشخاصِ إذا ما انجَرفنا إلى هاوِية الخيبة، ألَّا أبذُلَ لأجلِهم ولو كلِمة فلو أنَّ الذِّكرى بجبروتِها لم تشفَع لي عِندهم، فأنَّى قد يشفع الكلِم الواهن؟
دوهِمت الغُرفَة هذِه المرَّة بهمجيَّة، بينَما أنا جالسٌ على حافَّة السَّرير، رفعتُ وجهِي الَّذي انكَبّ على الورقَة يتحرَّى مِصداقيَّتها بتجهُّم، لكنَّ مرأًى غير مرآها حلَّى بصري. انبرت خُشونَتي فغدوتُ رفيعًا في ضِعتي أمامَها، هِي الَّتي ما تنفكُّ تُحنيني!
" لقد رأيتُ تِلك المرأة وهِي تُغادِر في سيَّارتِها، هل قابَلتها مُجدَّدًا؟ "
سكَنت كُثبَ السَّرير، وما استَكان الغضَب الَّذي عصَفَ بدواخِلها وزعزعَ لِسانِها فبعثَر الكلمات بحِقد.
" كَم هِي وقحة! ما سبَق وأن قابلتُ شخصًا على شاكِلتها المُعدَمة مِن الحياء، أُقسِم أنِّي لو وصلتُ إلى هُنا قبل رحيلِها لقتلتُها، فمنظرُها يُهوِّن العشرينَ سنة الَّتي سأقضيهَا في السِّجن، كانَ عليَّ أن أُغيِّر كلمةَ المُرورِ مُنذ أمد، إنَّه خطئيِ... "
هيئتُها وهِي تتوعَّدُها بالهلَاك سُخطًا على التَّلفِ الَّذي أحدَثته في أحدِ أيَّامِنا، هوَّن على صدري سنينًا قضيتُها حبيسَ علاقةٍ بورٍ، لم تُنبِت بُرعمًا. قبل أن تُضيفَ حرفًا واحِدًا حاصَرت ذِراعايَ خصرها، في الفجوةِ بينَ قدميَّ، وتوسَّدت ناصِيتي بطنَها.
غرقتُ في غيبوبةٍ لحظيَّة مُستجمًّا بعبقِها العالِق في ملابِسها، بالرَّخاءِ الكامِن بينَ ثنايا جسدِها كُلَّما احتضَنتُها بعفويَّة هكذا، أشُدُّها إليَّ رغمَ أنَّها لم تُعارِض إرادَتي... وفي غمرةِ غفوتي تراقصت تراتيلُها في آذاني.
" هل اقتَرفت ما أزعَجك؟ أم أنَّها هدَّدتك بوالِدها؟ "
" لقد منَحتني الطَّلاق. "
هبَطت أنامِلُها على قمَّة رأسِي، وواسَت خصلاته المَفرودَة بحنَان؛ لعلَّها أدركتُ أنِّي لم ألتحِف رِداءَ الجوى الأسوَد لأجلِ جنازةِ حُبٍّ قديم، بل لأجلي أنا...
" لابدَّ وأنَّك تشعُر بالأسَف على ما أنفقته على هذِه العَلاقةِ الخاسِرة مِن عُمرِك، على ما مضَى مِن أيَّامِك هباءً، أهدرتَ الكثيرَ بينَما أنتَ مغلولٌ بالمَصلحةِ في مُحيط يُؤذيك، ومهما ثُرت فلن تَلقى تعويضًا. "
أسنَدت ذقنها إلى صهوةِ رأسي، تمنحُني راحَة لا تشتَرى بثمن، ثمَّ همَست.
" كانَ عليَّ أن أولَد باكِرًا. "
" ومَن يضمَن لكِ إن كُنت سأميلُ إليك أم لا؟ "
" ستَميل بطريقةٍ أو بأُخرى، لأنِّي كيم مينِّي. "
عقِبَ مقاطِع مهيبةٍ مِن الصَّمتِ سمِعتُها تُغنِّي بصوتٍ عابِث.
" مُثير، حرّ وأعزب، لقد اكتَملت جميعُ الإعدادات. "
أغثتُ رأسِي مِن الوكرِ الَّذي أويتُ إليه هربًا مِن عواطِفَ مُختلطةٍ غمَرت صدري، مُستفهِمًا:
" ما هذا؟ "
" أُغنية قديمةٌ مشهورة، ألا تعرِف سوبر جونيور؟ "
كانت المرَّة الأولى الَّتي لا أُحاوِل فيها مُواراة ابتِسامَتي، لئلَّا تحيكَ بِها آمالًا واهِنة، المرَّة الأولى الَّتي أتأمَّلُها فيها دونَ خوفٍ مِن أن تقبِضَ عليَّ مُتلبِّسًا بجريمَة حُبّ، ففي مذهَبي حُرِّم ما أُحلَّ للعالَمين، وأُحلَّ ما حُرِّم عليهم.
أنا مَن وضعتُ أُسسَ كونِي وِفقَ معايير الخيبةِ الأخيرةِ الَّتي ضربَتني، وهدَّت مبانيَّ، حتَّى جاءت وقلبَت كافَّة الموازين، وغدوتُ أنا المُضطَهد في أرضِي، كأنَّها صحَت فيَّ بدَل الضَّمير الَّذي اغتلتُه، وصارَت الضَّمير، صارت أنا.
" سنَحت لكِ الكثير مِن الفُرص لهجراني والبحث عن مرتعٍ أشدّ بذخًا مِنّي، لكنَّك الآن عالقةٌ معِي، لا قادِر على تحريرِك مِنّي سِوى الموت، فليكُن ذلِك بعِلمك. "
بعدَما اكتَفت أنامِلها مِن مُصاهَرة خصلات شعري، تمشَّت على تَرائِبي بخيلاء، متأكِّدَة أنَّ كامِل ألاعيبِها تروقُني.
" إن كانَ ذِراعاكَ سِجنًا، فلتَحكم عليَّ بالمُؤبَّد. "
اجتَذبتُها إليَّ بغتة، ما جعَلها تتمسَّكُ بكتفيّ.
" حتَّى إذا عجِزتُ أن أُسدِّد لكِ نِصف ما تمنحينَه لي؟ حتَّى إذا تسيَّبت أعصابي وغرِقت في الفوضى؟ حتَّى إذا آثرتُ نفسي عليكِ؟ "
" لماذا علينَا أن نتغيَّر إن كُنَّا قد قبِلنا بعضنا رغمَ درايتِنا بأنَّا مُختلِفان مُنذ البِداية؟ ليسَ مِن حقِّي أن أتذمَّر لأنَّك مُختلفٌ عنِّي، لأنَّك لا تُشارِكني ذاتَ الرُؤى، مِن النَّذالةِ التذمُّر على خَياراتِنا. "
لقد رأت لي عدَّة جوانِب مظلِمة، لاسيما الساديّ الَّذي وُلِد مِن عُقدِ النُّقصِ في ذاتِي، كانَ لها الفضلُ الأعظَم في التِئامِها. خِلتُ أنِّي منذورٌ للفراغ، ولكِنَّها قدِمت إليّ صُدفَة، وملأت حياتِي بِها... هِي الوحيدةُ الَّتي يُمكِنُها فهمُ لُغتِي الصَّعبة، والكِتابةِ لي بعاطفةٍ أفهمُها.
" لقد انتَظرت كثيرًا لتَنال حُريَّتَك، لتخرُجَ مِن بينِ قُضبانِ علاقةٍ مُرَّة، رغمَ أنَّك عِشت خارِجها طوالَ ذلِك الوقت، أعلَم أنَّك تخَشى أن نكونَ مرهونين لفشلٍ ذريع، أنتَ بحاجةٍ لأن تتعافى مِن نكبتِك القديمَة أوَّلًا، ونحنُ أكبَر مِن أن نُحصَر في ورقة، لسنا مُرغمين على الزَّواجِ لنَكون، فقد سبَق وأن كُنَّا بالفِعل. "
حِدتُ عمَّا رسمته للزَّمنِ حينَما أقعدتُها بحِجري- كثيرًا ما تخيبُ التوقُّعاتُ في إيقاعِها لأنَّها أكبرُ مِنها- وبحرارةٍ لاطفتُ أُذنَها.
" تتحدَّثينَ كراشِدَة. "
" ربَّما لا أُقارَن بِك، ولكنِّي راشدةٌ بِما فيه الكِفاية لأفهَمك. "
في مُنحدِر عُنقِها انزَلقت قُبلاتِي، هِي كُلُّها قِمم يستَحيلُ عليَّ أن أصبُوَها دونَما تعثُّرات، وفي كُلِّ سقطةٍ أنزِف مِقدارًا مِن وعيي!
" أنتِ صنفٌ استِثنائيّ مِن النِّساء، ورُبَّما قِطعةٌ وحيدةٌ لا مثيلَ لها في الكون، مَن قد تُحارِب لأجلِ علاقةٍ مجهولٌ مصيرُها؟ "
كما اختلَّت أنفاسِي اختلَّت أنفاسُها، وشقَّ عليها ضخُّها دونَ ضجَّة توشِي بما يحدُث بجوفِها.
" أخبرتُك أنِّي على مقاسِك، سيِّدي. "
تيسَّر علي قواطِعي أن تختطِفَ شفتها السُّفلى، إذ كانت دائِخة لا حولَ لها ولا قوَّة أمامي، بيدَ أنَّها انتفضت.
" ما الَّذي تفعلُه؟ عليَّ أن أُعقِّم جُرحَك. "
" أنا بحاجةٍ لتعقيمِ بصري أوَّلًا. "
اقتَحمت يدِي محارِمَها، ونثرت اللَّمسات بعبثيَّة، حتَّى عرقَلت مسيرها ناهِية.
" كفاكَ جُنونًا. "
حينَما التَمستُ الإصرارَ في نبرةِ صوتِها، رمقتُها بحِدَّة.
" تعلَمين أنَّك تسبّبتِ لي بالكثيرِ مِن الخسَائر، عليكِ تعويضي جسديًّا الآن. "
قبلَ أن أُضرِم قُبلة أشاحَت بوجهِها عنِّي.
" توسَّلني. "
أمسكتُ ذقنَها، وبخُشونةٍ قوَّمتُ قِبلَتها.
" أنتِ تحلُمين. "
ذاعَ وغى التحدِّي في ساحَتيها المُفعمتين بالفِتنة، لكنِّي على غفلةٍ مِنها وأدتُها على السَّرير، وبُقبلةٍ خرسَاءَ ألجمتُهما، ما نويتُ أن أنتَهجَ اللُّطفَ وإيَّاها، ليسَ لأعاقِبَها على ألحانِ الانتِظارِ الّتي عزفتها رغمَ أنِّي ناديتُها إليَّ، كُلُّ ما في الأمرِ أنِّي فقدتُ زمامِي، وأذِنتُ للشَّغفِ المُتأجِّج في داخِلي بقيادَتي على مُنحدَراتِها الوعِرة، أدري أنَّها أعظَم مِن أن أجتازَها بكُلِّي، دونَ أن أُلثِّمَ أرضَها بألمٍ لأكثَر مِن مرَّة.
تمزَّق مِن بينِ شفتيها أنينٌ خافِت حينَما اشتَركت قواطِعي في حربِنا الشَّهيَّة، كانت تتحسَّسُ كتِفايَ بلهفة كأنَّها بينَ الغيبوبَة والأخرى تستفيقُ خائِفةً مِن اندِثاري، لقد نالَت ذاتَ الصَّاعِ مِن الرُعب، لذلِك ما عثَر كِبريائي على أيَّة حُجَّة للانتِقامِ مِنها على ما لا ذنبَ لها بِه، سِوى أنَّها اعتَنقت رجُلًا أعوَج مِثلي، رجُلٌ مليءٌ بالحُفر، مُحتَّمٌ عليها الوُقوعُ في إحداها، مادامت حديثَة العهدِ بطُرقِه وممرَّاتِه.
تقابَلنا صُدفة، إذ أخليتُ لها بعضَ المساحة، للالتِقاطِ أنفاسٍ تُخوِّلُها الصُّمودِ في وجهِ ما هُو آتٍ مِن كوارِث عاطفيَّة، وأسهَبتُ في سردِ ولَعي بِها، في سطرٍ وحيد. رغمَ شكاوِي صدورِنا المحزومة في لُهاثٍ بِلا عُنوان، ورغمَ تضرُّعاتِ عينينا لغفوةٍ في جناحِ الحُبِّ الفاخِر، قُدسيَّة اللَّحظة أجبَرتنا على التريُّثِ، شاهدتُ على شاشَتيها اكتِمالِي بِها، مِثل هِلالٍ انتَظر بشوقٍ ليلَته المُقدَّرة ليصيرَ بدرًا، كأنَّها القِطعةُ الأخيرة مِن أُحجيتي.
لم تولَد في فُؤادِي العقيمِ وبفمِها مِلعقةٌ مِن فضَّة، كانت هِي الفِضَّة والدرّ، اكتَنفتها جُدرانِي، وما علِمتُ عنها حتَّى حفرتُها.
دسَّتني الحياةُ في كونِها كبلاء، ولكنَّها تُبلي في تلقُّني بلاءً حسنًا، كثيرًا ما أخفَقت ولِقاء الإخفاقِ دفعت دُموعًا طائلة، ووابِلًا مِن الآهاتِ الصَّامِتة، لأنَّ كِبرياءَها العتيد يشبِهُني، الاختِلافُ الوحيدُ بينَنا أنَّها تفوقُه قُوَّة، ولصوتِها مدًى بعيد.
لطالَما استَطاعَت التكيُّفَ فيَّ رغمَ الحِرمان، ورغمَ أنِّي رجُلٌ بخيلٌ بالعَطاء، راضيةً بِما سقَط مِن عينيَّ سهوًا بينَما تفِرَّان مِنها، بِما تسرَّب مِن أكياسِي المثقوبةِ كُلَّما اجتَررتُها ورائِي بكِبر، ومهما بغيتُ أبطَلت حُجَجي بقُبلة!
هِي لم تبتهِل حُبًّا حينَما نذَرت لي قلبَها!
بدا وأنَّ كُلَّ شيءٍ قد انتَظم في مكانِه الصَّحيحِ مِن بعدِ ما تفرَّغتُ مِن الزَّوائِد، وأنَّ الحياةَ قد رضيت أخيرًا بالتَّرتيبِ الأبجديِّ الَّذي بنيتُه وإيَّاها على أسُسِ الوجد؛ ففي نِهايةِ الشَّهرِ المُنصرِم انطَوت علاقةٌ استَهلكت كُلَّ كلِماتِي، حتَّى خلى لِسانِي وتشمَّع، وانحلَّت عُقدَة المَصلحة حولَ كاهِلي، فانطَلقتُ إليها بجُموح.
زيَّن خبرُ تنحِّي قائِد الفريقِ عن الانتِخاباتِ البرلمانيَّة الصُّحف والقَنواتِ التِّلفزيونيَّة، ما تزالُ الأفواه تمضُغ ما طبخه مِن فسادِ مُنذ تعيينِه وحتَّى الآن، عقِبَ تنحِّيهِ بأسبوعين أعلَن عن تقاعُدِه ليُحافِظ على ما تبقَّى مِن ماءِ وجهِه، الَّذي أنضبته شمسُ الحقيقَة، وناب عنه اللِّواء كيم، بمَعونَتي؛ لقد نحتُّ تهديدِي كما توعَّدتُه، وسلَّمتُ الملفَّاتِ الَّتي أدانته لعدُوِّه، فما توانى في نقلِها إلى وسائِل الإعلام.
جلستُ على حافَّة الصفِّ الثَّالِث لمُدرَّجاتِ المَسرحِ المدرسيّ، أُراقِبُها وهِي تقبِضُ شهادَتها مِن يديِّ المُدير المقيت؛ دارت عجلةَ الزَّمنِ بمسافةٍ بعيدةٍ قطعناها بعدَ بِدايةٍ عفويَّة، لم يُخطِّط أيٌّ مِنَّا لَها، كثيرًا ما فكَّرتُ في المَسار الَّذي ستسلُكه حياتِي لولاها، لكُنت اتَّبعتُ التيَّار على الأرجَح، ولعِشتُ ما تبقَّى مِن عُمري مُعطَّلًا!
انشقَّت عن دفعتِها ووقفت في زاوِيةِ المِنصَّة، ثُمَّ التَحقَ بِها الفَتى الأشقَر الَّذي ألقى على مسامِعي مُحاضَرةً لا طائِل مِنها ذاتَ يوم، تفرُّدهما ببعضِهما البعضِ ضخَّ الغيرَة في صدري، فأعمانِي دُخانُها، لاسيَما وأنَّهُما صفَّا جنبًا إلى جنبٍ عِندَ التِقاطِ الصُّورَة التِّذكاريَّة. كُنت أُبلِّل طرَف شفَتي بلِساني، مِن حينٍ إلى آخر، أُحاوِل التحكُّم بأعصابي، وإخبارَ نفسي أنَّه آخرُ لِقاءٍ سيجمعُهما، لكِنَّه احتَضنها!
أقبَلت عليَّ تلتحِفُ ابتِسامةً مُغتبِطةً لم تنتزِعها مُنذ أن باغتُّها في المَسرح، سلختُها عنها بقُبلة حادَّة بينَما أُشدِّدُ أصرَها بجِذعي كأنِّي أخشى عليها مِن رياحٍ قد تُطيِّرُها بعيدًا عن مُتناوَلي، أردتُ أن أُخبِر ذلِك الفَتى بلُغتِي أنَّها ملكٌ لرجل، لعلَّه يكُفَّ عن حركاتِه المُثيرة للشَّفقة. سُكونُها أوحى لي عن دهشةٍ تتمخَّضُ فيها، هِي الَّتي لم يسبِق وأن أهدرت ثانيةً مِن ثوانِي الوِصالِ دونَ أن تنتهِزَها لجزِّ أنفاسِي، ما عثَرت على جُحرٍ تُنجِبُها فيه فلقيت مرتَعها بفَمي، لحُسنِ الحظِّ تمالَكتُ رغبَتي، وشققتُ بينَنا مضيقًا.
" مُباركٌ تخرُّجك طِفلَتي. "
رفرفت أهدابُها، وتلجلج صوتُها.
" ما هذَا الَّذي فعلتَه أجاشِّي؟ "
تخلَّلت أصابِعي الفَراغاتِ بينَ أصابعِها قبل أن تُعانِقها بلهفة.
" لنذهب الآن، حتَّى نصِل إلى المزرَعة قبلَ المغيب. "
سحبتُها إلى السيَّارَة الَّتي رصفتُها قُبالَة المَدرسة، دونَ أن أُضفيَ أيّة كلمةٍ مِن شأنِها أن تُخفِّفَ استِغرابَها، ومُنذ أن شرعتُ في القِيادَة، ما فارقَت السِّيجارةُ أصابِعي الآليَّة، كانت تُجرِّعُني مِنها كُلَّما تُقت لريِّ غضَبي... لطالَما برَعتُ في ترويضِ العواطِف الجميلةِ لئلَّا تزأرَ أمامَ العيان، لكنِّي أمامَ حرائِقِ الغضبِ أتَداعى!
لم نُضطرَّ للعودةِ إلى المنزِل مِن أجلِ أغراضِنا، فقد حزمَتها مينِّي بالأمس استِعدادًا للرِّحلة الَّتي وعدتُها بها، واكتفيتُ بدسِّها في صُندوقِ السيَّارة قبلَ أن أذهَب إليها. خاطَ الصَّمتُ شفتيّ، وما فكَّرتُ للحظةِ في فتقِه، خِشيةَ أن أجرَحَها، ألزمتُ نفسي بالتَّركيز على الطَّريق، أمَّا هِي فكانت محشورةً في الزَّاوِيةِ بينَ البابِ ومقعدِها، ظفرها عالِقٌ بينَ أسنانِها، ونظراتُها الغاوِيةُ تلفحُ وجهي... ما هو إلَّا وقتٌ قصير حتَّى تخلَّل صوتَها اللَّعوب أُذنيّ.
" أأنتَ مُنزعجٌ مِن نظراتِ الازدِراءِ الَّتي سُلِّطت علينا بعدَ أن لثَّمتني بطيش؟ لم تتوقَّع أنَّنا سنَحظى باحتِفاء المُجتَمع أليسَ كذلِك، دادي هيون! "
تسلَّلت ضحكةٌ خفيفةٌ خارِجَ شفتيها المُلتَحِمتين، قبلَ أن تميلَ بجسدِها ناحِيتي، مُتلمِّسةً كتِفي.
" الجميعُ خالَ أنَّك وليُّ أمري حتَّى مزَّقت غِشاءَ الحقيقَة بقُبلة، ما عهِدتُك مُندفعًا هكذَا، أنتَ الَّذي لطالَما سعيت لتنميقِ مظهرِك أمامَ العيَان، ولسدِّ الثُّغورِ قبل أن تلقف سيرَتها الثُّغور، والجِنرال الَّذي اعتادَ على الزِّيفِ أمامَ العَدسات. "
صُمت عن النَّظر إليها، لئلَّا أقَع أسيرًا لفتنتِها، ككُلِّ مرَّة تُضلِّلني فيها عن انتِهاكاتِها بأساليبَ مُلتوية، تعلَم أنَّ نُقطةَ ضعفي الوحيدة هِي حينَما تتصرَّف أمامِي بأنوثة... انزَلقت أنامِلها حتَّى ثوَت يدي المُلتفَّة حولَ ذِراع السُّرعَة.
" لقد تغيَّرت كثيرًا، أكادُ لا أُميِّزُ شخصَك رغمَ أنِّي شهِدتُ على تحوُّره مِن موقِف إلى الآخر؛ أحيانًا تقوم بقفزات أعلى مِن أن يقتطِفها بصري. "
نثرتُ أكسيدَ الكربونِ خارِجَ فمِي سويًّا ورفُاتَ صيحاتِي المُعدَمة، لم أردَّ على أقاويلها، لعِلمي أنِّي لن أرحمَها لو نطَقت رغمَ أنَّها كانت راقيةً في مُخاطَبتي، ما دريتُ أنَّها تُخبِّئ في جُعبتِها حيلةً أُخرى، حتَّى لسعت ألسِنةُ أنفاسِها الدِّافِئة وجهي، ووطأت شفتاها ذَقني، مُتجاهِلةً إجراءات السَّلامَة كافَّة.
" تُعجبني وأنتَ مُتهوِّرٌ هكذا. "
ضِقتُ ذرعًا بِها، وربَّما بخضوعِي لها، لذلِك طرحتُها على مقعدِها بعُنف، وصرخت.
" اصمُتي، لا تتحرَّكي، بل لا تتنفَّسي حتَّى، أنتِ تُشتِّتينَ تركيزي. "
عمّت الانكِسارات اللَّهفةَ في مُقلتيها.
" أخبِرني أنَّك عازمٌ على إثارةِ شِجارٍ مِن العَدم كالعادَة، لئلَّا أُجاريَك مُنذ البِداية! "
طغى الصَّمت، فابتَلع كامِل الأحاديث الَّتي كان بوِسعِنا تبادُلها خِلالَ الطَّريق، خطَّطتُ لهذِه الرِّحلةِ كإحماء قبلَ الهديَّة الحقيقيَّة، فالوقتُ بحوزَتي ضيِّق لا يُتيحُ لي الانسِلالَ وإيَّاها خارِجَ البلد، وها أنا ذا أُعاقِبها بدَل أن أُكافِئها، لأنِّي أنانيّ لا أُصغِي سِوى لصيحاتِ نفسي، دونَ أن أعبأ باستِغاثتِها كُلَّما عبَست بسببي.
كلَّفنا الطَّريقُ قرابةَ النِّصف ساعة، مُذ أنِّي صببتُ غِلِّي على القِيادَة، مُنتهِكًا قوانينَ المُرور، كما لطالَما انتهكتُ قوانِين الحُبِّ، وخلقتُ نِظامًا مُجحِفًا، فريدًا مِن نوعه، لا يشبِه أيَّ نظامٍ كونيّ؛ الأشدُّ كِبرياءً يأكُلُ موقِف الأثقل حُبًّا، وبينَ براثِنه تتمزَّق أجِنَّة لحظاتٍ بدَت جميلةً وهِي في رحِم الخيال، فما تذوق جنَّة الواقِع.
لقد أعلمتُ مُدبِّرة المنزِل أنِّي قادِمٌ لقضاءِ الإجازَة بالأمس، لذلِك اصطفَّ الخَدمُ على جانبيّ المَدخل، ما إن جاهَر هديرُ المُحرِّك بوصولي، تتوسَّطُهم السيِّدة آهن، لاحظتُ أماراتِ الحيرةِ شامِخةً على وجوههم، وأبصارهم تتراشَق بالأسئِلةِ، إذ تخوَّفت الألسِنة مِن المُجاهَرة بِها. بصمتٍ انتَهجنا الممرَّ إلى غُرفَتي في الطَّابِق الأرضيّ، تتبعُنا إحدى الخادِمات الَّتي وقعَ الاختِيارُ عليها لتجُرَّ أمتِعتَنا، هِي حقيبةٌ وحيدَة تخصُّ مينِّي، فأنا أمتلِك بعضَ الثِّياب هُنا.
غيَّرت مينِّي سرابيلَ الثَّانوِيَّة إلى أُخرى مُريحَة، تليقُ بجوِّ المَزرعَة؛ بنطلونٌ فضفاض وقميص ذهبيٌّ مبتورةٌ أكمامُه، جحَدتُ برأيي حينَما صادفتُ نظراتِها المُتوقِّدَة في إحدى المُنعَطفات، بل وجنحتُ عنها مُنقادًا بغيظي، لم تتكبَّد شقاءَ السُّؤالِ عن خَطبي، وخرَجت مِن الغُرفَة بجمود... ما غَبر إلَّا وقت قصير، حتَّى ورَدني طرقٌ على الباب، علِمتُ مُنذ الوهلةِ الأولى أنَّها ليسَت مِينِّي، فهِي تفتقِر إلى الأدب.
" تفضَّل. "
دلفت مُدبِّرةُ المنزِل الغُرفَة، بعدَما أدركَها صوتِي آذِنًا لها بذلِك. شخصت إليها عيناي بانتِظارِ أن تبوحَ لي عمَّا جاءَ بِها، لكِنَّها بدَت مُتوتّرة، استطعتُ تخمينَ ما يدورُ برأسِها، قبل أن تطرحَه.
" أذكُر أنَّ تِلك الفتاة قد قدِمت إلى هُنا مرَّة برفقةِ الميتَم، هل قرَّرت تبنِّيها؟ "
ببرودٍ قُلت:
" نحنُ على علاقَة. "
علَت الدَّهشةُ محيَّاها، ورغمَ ما طَفح فيه مِن اعتِراضٍ إلَّا أنَّها لم تُدلِ بِه، لا يحقُّ لها التدخُّل فيما أفعلُه بحياتِي لمُجرَّد أنَّنا نعرِف بعضنا مُنذ دهر.
" لا يسعُني التَّشكيكُ في خِيارك، مُذ أنَّها المرَّة الأولى الَّتي تجلِبُ فيها امرأةً غيرَ طليقتِك إلى المَزرعة، وإن دلَّ ذلِك على شيء فهُو جديَّتُك في العَلاقَة. "
نالت قِسطًا مِن الصَّمت، قبل أن تُضيف.
" أتمنَّى لكُما السَّعادَة. "
لا أصدِّق أنَّا قد بورِكنا.
مُنذ السَّاعات الأولى لنا في المزرَعةِ وقعَ بصري عليها وهِي تلهو مع وويونغ، أحكمتُ إغلاقَ قبضتي ثُمَّ لكمتُ الحائِط الّذي يضمُّ النَّافِذة بسُخط، لقد مزَّق ذلِك المُراهِق في المَدرسَة ما يكفي مِن أعصابي، حينَما عانَقها بحجَّة الوَداع، أمَّا الآن فالفوضى تملؤُني. ما يزيدُني انفِلاتًا، تغافُلها عن غيظِي كأنَّها جاهلةٌ بِما يُلمُّ بي، رغمَ أنَّها كثيرًا ما تبجَّحت بفهمِها لِما يتوارى بينَ سطورِ صمتي، لما يندسُّ في جُحريّ دونَ حاجةٍ لأن أبوحَ بِه!
صبوتُ في الصَّبرِ طريقًا مسدودًا، أرغَمني على العَودَة أدراجِي إلى نُقطةِ البِدايةِ، واصطِفاء طريقِ الغضب رغمَ أنَّه قد ينتَهي بهاوِية، لم أستَطِع تمالك منطِقي أطول مِن ذلِك إذ تفشَّى الجُنون في عُروقي، سويًّا ورغبةً مُلحَّة في إيذائِها، لستُ الرَّجُل الَّذي قد يلزَم مقاعِد المُتفرِّجينَ بينَما أملاكُه تعرِض جوانِبَ شخصيَّتِها الحُلوةِ أمامَ كُلّ مَن هبَّ ودبّ كأنَّها في مزاد خيريّ. هرعتُ إلى بُقعةِ وقوفهما بخطواتٍ حثيثة كادَت تُخلِّف على الأرضيَّة الخشبيَّة شُقوقًا، لم ينقطِعا عن الضَّحِك بألفةٍ وكأنَّهُما في عالمِهما الخاصّ، حتَّى مثلتُ أمامَهُما بهالةٍ حارِقة، لا تنمُّ سِوى على الشُّؤم، واستهدف ثغري المُزارع بأولى طلقاتِه.
" فلتعُد إلى عملِك حالًا، لستُ أوظِّفُك لتمرَح. "
انحنَى لي بارتِباك، إذ لم يسبِق وأن عامَلتُه بفظاظَة.
" أعتذِر سيِّدي. "
وجدتُ مينِّي ترمُقني بنظراتٍ مُستنكِرة.
" لقد كُنتَ قاسِيًا معه. "
عضَّت أنامِلي على مِعصمِها، وجررتُها خلفي نحوَ المَجهول، لم أُخطِّط إلى أين، كُلُّ ما أنا بحاجةٍ إليه مكانٌ لا تطالُه الأعيُن، حيثُ أجلِدُها بالعتَب كما ينبَغي، حيثُ أصفِّي حساباتِنا السَّالِفة، لتسَع الصَّفحةُ بِدايةً جديدة!
صفعتُ ظهرهَا بالجِدارِ الخشبيّ للإسطبل، وطُفت مَداري في مُحاولةٍ لاصطِياد كلِماتي التَّائِهة، لقد غادرت قفصي الصدريّ تزامُنًا امتِلاء جفنيّ بصورتِها البهيَّة، ولكِن قبل أن أظفَر بِها أعلنت حربَها ضِدِّي ورفَعت صوتَها.
" ما خطبُكَ هذا اليوم؟ تبدو كشخصٍ مُختلفٍ غيرَ الَّذي شاركتُه أيَّامًا عديدة؟ بالكادِ تُلقي لي كلمةً أو اثنَتين كأنِّي غيرُ موجودَة. "
تبارَز فكَّايَ لبُرهةٍ محمومةٍ بالغيظِ، ولولا أنِّي أمسكتُ نفسي عنها لانهالَت قبضَتي الحُرَّة على خدِّها بصفعةٍ مِن شأنِها أن تُفتِّت كِبرياءَها الصَّلب.
" أتسألين لأنَّك لا تعلَمين حقًّا؟ أم أنَّ نيَّتَك استِفزازي؟ "
أعلَم أنَّ وثاقَ أنامِلي الضيِّق حولَ مِعصمِها يُؤلِمها، لقد شكَتني مُقلتاها الحزينتان لي، لكنِّي تولّيتُ عنهُما بإباء، وواصلتُ الضَّغطَ عليه، في حينِ راحت تُحرِّكُ ذِراعها ابتِغاءَ الفرار مِنِّي.
" كيفَ سأعلَم وأنتَ لا تقولُ شيئًا، بل تكتَفي بنصبِ الحواجِز الشَّاهِقة بينَنا بانتِظاري لأتسلَّقها؟ لقد حاولتُ صدِّقني، لكنِّي في كُلِّ مرَّة أقع، وأتحطَّم، كفاكَ صمتًا وحدِّثني رجاءً، ما الَّذي فعلتُه لكَ لتُعامِلني بهذَا الجَفاء؟ "
حينَما أوشَكت أن تنالَ حُريَّتها، متَّنتُ قيدي، وجذبتُها إليَّ أُورِّطُها بصدري.
" لماذا جميعُ معارفك فتيان؟ لِماذا لا يخيِّم الودّ على مُحيَّاكِ إلَّا وأنتِ في لِقاء وشابّ؟ أتظنِّينَ أنِّي مُوافقٌ على علاقاتٍ كهذِه؟ "
حلَّ على سحنتِها سُكونٌ مُريب، علِمتُ أنَّ خلفَه مُصيبة لن تروقني.
" أتشعُر بالغيرَة؟ "
دفعتُها عنِّي بجفاء، فسماعُ الحقيقةُ على لِسانِها مُهينَة، وغلغلت أصابِعي في خصلاتِي الأماميَّة المُنسدلة على جبينِي، مُنشقَّة عن الرَّبطة.
وبينَما أنا مُنشغلٌ في ترويضِ جوارِحي، دفَنت قُبلةً حُلوةً بينَ شفتيّ بغتة، كما لطالَما عوَّدتني. أردتُ أن أرفُضَها لمرَّة واحدة على الأقلّ، حتَّى أُثبت لنفسي أنَّها ما تزالُ مِلكًا لي، وأتفاخَر أمامَها كُلَّما ظنَّت أنِّي لا أُقاوِمها، لكِنَّ اللَّذَة الَّتي أراقتها فيَّ جعَلتني مُتعطِّشًا للمزيد، شهقت حينَما ضممتُها إليَّ بقوَّة، ثُمَّ ابتَسمت وطوَّقت عنقي، بينَما لِسانُها يُمارِس الاستيطانَ ببراعَة. ركنَّا الحديثَ على الهامِش لنخُطَّ ما هُو أبلغ بلُغةٍ تخصُّ كلينا، تعي أنِّي أنكسِرُ بسهولةٍ إذَا ما مدَّت ذِراعيّ الوجدِ صوبي، أمَّا إن رجَّحَت الكِبرياءَ عليَّ، فسينتَهي بِها المطافُ مُنكسِرة، باتَت على يقينٍ أنَّها الطَّريقُ الأقرب إليّ.
قبَضت أنامِلي على فكِّها، تُعيلُني على نهبِ الاكتِفاءِ مِن ثغرِها، لقد قادَت هذِه الثَّورة لِما فيه الكِفايَة، وآن الأوانُ لأن تخضَع لِي، لا تدري كم أشتهيها، وما تودُّ يدايَ اقتِرافه بجسدِها، حركاتُها الغيرُ مدروسَة تُفقِدني أنفاسي، كيفَ تتمايَل ضدَّ جسَدي بخُبث، كيفَ تُجرِّدُني أنامِلها مِن صوابي، وكيفَ تنشيني.
انسَحبت سويًّا وأنفاسِي الثَّائِرة، وجلست عينايَ إلى طاوِلتها المُستديرة مسلوبتيّ الإرادة، تُصادِقانِ على كُلِّ ما تعرِضه، وتُصدِّقان!
" أتدري، مشاعِري جِبالٌ شمَّاء، يستحيلُ أن تتزَحزح مهما أغوتها الظُّروف، ليسَ عليكَ أن تقلقَ وأنتِ تمرُّ بجِواري. "
سيَّرتُ إبهامِي على فكِّها بخُمول.
" قد تنهار. "
" لقد كبُرت فيك، أنا مُخلصة، فحتَّى وإن انهرت فسوفَ أنهارُ فيك، أنتَ مضجعي ومرتَعي، فلا تسمَح للمَخاوِف بأن تشغَل مساحَتنا الخاصّة، بعدَ أن انتَزعناها بعُسرِ مِن براثِن الحياة... ثِق بي. "
تنهّدَت بإنهاك وفوهَتاها السَّوداوان تتصيَّدان ثغري، يروقُني أنَّها راغِبةٌ بي تمامًا كما أرغَبُ بِها، وبذاتِ الطَّريقَة المُلتوِية.
" لستُ مخيَّرة، بتُّ مُسيَّرة مُنذ أن اعتَراني حبّك. "
أنمتُ جبيني على جبينِها.
" أنَّى يُطاوِعُك لِسانُك على المُجاهَرة وكأنَّ الاعتِرافَ عليكِ يسير؟ "
" لأنِّي واضِحة، وذلِك ما يجذِبُك للتجوَّل فيّ. "
كانت أنفاسُها الحارَّة تهدِم مُقاوَمتي كُلَّما انبَثقت بحفاوةٍ مِن ثغرِها، قبل أن تتلاشى في ثغري، مِثلَما تتلاشى الشَّمسُ في الأُفقِ كُلَّ عشيَّة.
على مضضٍ انفَصلتُ عنها، وواربتُ جفنيّ تزامُنًا ومواربتها لجفنيها، فابتَسمت لي بودّ.
" لقد ضيَّعنا الكثير، فلنستمتِع. "
فرَّقت بينَ جسدينا تارِكةً مسافةً مُعتبرة، وألَّفت بينَ يدينا.
" علِّمني ركوبَ الخيل هيوني. "
كثيرًا ما تعرَّضت علاقتُنا لتقلُّباتٍ عصبيَّة هوجاء، أقسَمت أن تمسَحها مِن خارِطة القُلوب، لكِنَّها كانت تنجو مِنها بأعجوبةٍ في كُلِّ مرَّة؛ ما عُدت أستغرِب تماسُكها، إذ أدركتُ أنَّها لم تصمُد حتَّى الآن بفضلِ الحظّ، بل لأنَّها أقوَى مِن أيِّ قدر. كثيرًا ما حرَّضنا السُّخط على العَداوة، وبعبثيَّة قذفنا بعضنا بكلِماتٍ مِن حجارة، كثيرًا ما كسَرت قبضةُ كبري قلبَها الزُجاجيّ، كثيرًا ما تشاجَرنا، ولكِن لولا شِجاراتنا المُرَّة، لما اختَبرنا حلاوَة الصُّلح؛ فرغمَ الشَّبه الدَّامِغ بينَنا، نحنُ مُختلِفان تمامًا، كأنَّها تبدأ مِن حيثُ أنتهي لتُتِمَّني.
بعدَ العَشاء خرَجنا إلى الباحَة الخلفيَّة، وجلسنا على كُرسيّ الأرجوحَة، رغمَ أنَّه مُفصَّل ليسعَ شخصين أبَت إلَّا افتِراشَ حجري، وفحِّ الفِتنة في مُقلتيّ، وجسدِي المُتعاضِد بِجسدِها؛ يختلِسُ الدِّفءَ مِن مخازِنها دونَ عِلمها.
التَحف الكونُ سوادًا فاخِرًا، لطالَما تغنَّى الشُّعراء بِه، وعزف صرصور اللَّيل سيمفونيَّتَه دونَما انقِطاع، ولعبت النَّسماتُ في الأرجاءِ تُنسينا شيئًا مِن جديَّة الصَّيف، أمامِي أكثرُ مِن منظر يتوسَّلُ مِنِّي شظفًا مِن انتِباهي، ولكِنَّها اللَّوحةُ الوحيدةُ الَّتي تُرضِي عينين انتِقائيَّتين كعينيّ، وأنفاسُها المعزوفةُ الوحيدةُ الَّتي تُرغمني على الخُشوعِ لها، وإيصاد جفنيّ لأشعُر بِها فحسب... في ظرفٍ مِن الظُّروفِ القاهِرة، جعلتها الحياةُ لي أُفقًا، وحكَمت عليَّ بالغُروبِ فيها كُلَّ أُمسية، هِي الآن مغربٌ أهوى الخلودَ إليه، وأُفقٌ أستبيحُ إعدامَ نوري فيه، وسماءٌ ذاتُ هلالين، ليسَ في الدُّنيا ما قد يُناهِزُهما جاذبيَّة.
كانَ على أحدِنا أن يقبِض روحَ الصَّمتَ الَّذي طالَ عُمره فينا، ليسَ مِن عادتِها أن تنقطِع عن الثَّرثرة، هي اليوم هادِئة.
" ما الَّذي ستدرسينه في الكُليَّة؟ "
رفرفت أهدابُها بخفَّة كأنَّها للتوِّ استفاقَت مِن شرودِها، استَغرقت بعضَ الوقتِ لاستيعابِ سُؤالي، ثُمَّ مدَّت شفتيها إلى الأمامِ تتصنَّعُ التَّفكير.
" لا أدري، ربَّما عليَّ أن أتجنَّد، أو أن أعمَل كمُمرِّضة في الثَّكنة، حتَّى أُلازِمَك على مدارِ السَّاعَة! "
اشتَعلت غيرَتي بمُجرَّد ما تخيَّلتُها محطّةً لأنظارِ جيشٍ مِن الرِّجال، وأفشت لها يدِي الَّتي ضاقَت حولَ خصرِها عن استِيائِي، قبل لِساني.
" لن تعبُري حُدودَ الثَّكنة بأيَّة صفة، إلَّا على جُثَّتي. "
عقَدت يداها حولَ عُنقي، ثُمَّ ألقَت رأسَها في الفَراغِ وراءَها مُواجِهةً مرأى السَّماء، وانتَحبت.
" لا أصدِّق أنِّي قد ضيَّعتُ نِصفَ عُمري على المَدرسة، لينتهِيَ بي المَطافُ ربَّة بيت."
" يُمكِنك العمَل كطبيبةٍ نِسائيَّة. "
قوَّمت عُنقها، ولوت شفَتها العُليا باستِنكار.
" كِلانا يعلمُ أنَّ الطبَّ أكبرُ مِن عقلي. "
عقِب لحظاتٍ مِن الهُمود، لمَّت شملَ ناصيتينا، ومارست على عينيَّ سِحرًا أسوَد جعلهُما أسيرتين لها.
" أخبرتُك أنِّي لن أُفارِقك، فهَل ستُرافِقني إلى أمدٍ بعيد؟ "
" قد ندومُ إلى الأبد، ذلِك يعتمِد على صبرِك! "
لقد عِشتُ عصورًا مُظلمة، نهشَ فيها النّقص دواخِلي حتَّى هشَّت، واجتاحَت مجاعةُ الفراغِ مُهجَتي، فملأتُها بِما تيسَّر لي سواءٌ كانَ صالِحًا أم طالِحًا، وما همَّنِي إلَّا أن أُسكِت قرقرة غضبي، جاءَت هِي مِثل قِنديلٍ نيِّر، وأعدَمت ظلماتِي، تجسَّدت أمامِي مِثلَ شيطانٍ رجيم، لكِنَّها هدتني إلى جنَّةٍ مُترفة ثمارُها!
استقرَّت على صدري، وجسَّت أُذنها نبضِي المُضطَرب.
" لنُقِم زفافًا صغيرًا في الكنيسَة، سأجعلُ سوجين ورينا إشبينتيّ بما أنَّهُما المرأتان الوَحيدتان اللَّتان أعرِفُهما، يُمكِنك انتِقاءُ اثنينِ مِن أصدِقائِك ليكونا إشبينيك. بعدَ ذلك لننتقِل إلى بوسان، لن يصعُبَ عليكَ طلبُ التَّحويل إلى ثكنةٍ أُخرى، قد أصيرُ مُدرِّسة في الرَّوضَة، رغمَ أنِّي لا أُحبُّ الأطفال حقًّا، وفي نِهايةِ كُلِّ أمسية ستأتِي لتُقلَّني إلى المَنزل، وسأتفاخَر أمامَ الجميعِ بأنِّي زوجةُ رجُلِ الوطَن. "
رغمَ الجُنونِ الكامِن بينَ أحشاءِ ما لفظته، أصغيتُ إليها باهتِمام حتَّى النِّهايَة... ما تزالُ تُدهِشُني، كُلَّما نطقت.
" أتعرضين عليَّ الزَّواجَ الآن؟ "
أومأت مُؤكِّدةً، دونَ أن ترفَع رأسَها عن ضريحه، ربَّما خشيت أن تصطدِم بالرَّفض في عينيّ، رفضٌ لم يقتحمُهما!
" ومَن أخبَركِ أنِّي سأتزوَّجُك؟ "
نظَرت إليَّ برجاءٍ مُتنكِّر كالثِّقَة.
" ستفعل. "
أطلقت شفتايَ سراحَ ضحكة ما عثرتُ على تُهمةٍ أُلبِسها لها، حتَّى أُبقيَها حبيسةً بصدري، حينَما هدأت النَّوبةُ الَّتي أصابَتني، لاحظتُ أنَّها ساهيةٌ إليّ، كأنَّها شهِدت على ظاهِرةٍ نادرة الحُدوث... ملامِحها اللَّطيفةُ حرَّضت سبَّابتي على نقرِ أنفِها.
" هل الضّحك عيب؟ "
" لا أدري ما هُو العيب في مُجتمعك، والاعتِراف فيه يطعنُ بالشَّرف! "
ما كانَت النُّجومِ الَّتي تُرصِّعُ مُلاءَة السَّماءِ مُغريةً كِفايةً ليستَلقي عليها بصري، فإنِّي على مشارِفِ امرأةٍ وعرة، لا أيسَر مِن وطئها، ولكِنَّ الترفُّعَ عنها مُستَحيل. غفِيَت نظراتي على وجهِها الوثيرِ لأمد، ما لبِث ثغري وأن طالبَ بإرثِه مِنها، حيثُ نضدتُ القُبلات على كُلِّ ما انكَشف لي مِنها، أتوقُ لها مُنذ أن شقَّ صِدامُنا العفويُّ هذا الصَّباح صبري.
هي المرأةُ الوحيدةُ الَّتي أغنتني عن جميعِ نِساءِ الأرض، مع كُلَّ يومٍ يمضي، وكُلَّ موقفٍ تركُننا الحياةُ فيه رغمًا عنَّا، أزدادُ يقينًا أنَّها تحتفِظُ بالورقةِ الرَّابِحة دائِمًا خلفَ شفتيها، ولا قادِر على غلبِ طاغيةٍ كالحياة إلَّا طاغية أعظَم مِنها!
قاطعت سلسلةَ انهياراتِي العاطفيَّة على جسدِها، حينَما سحبت مِن جيبِها شريطةً سَوداء، اتَّضَح لي أنَّها ربطَة عُنقي. قبل أن تتسنَّى لي الفُرصةُ للسُّؤال عنها حجَبت بِها عيناي، وعقدتها وراءَ رأسي، ثُمَّ همست على قربٍ خانِقٍ مِن فَمي:
" فلتُحبَّني سِرًّا، وسأُحبُّك علانيَة. "
-
وهيك خلصت الرواية قبل الذكرى السنوية الاولى تبعها بأكثر من أسبوع 😭
تفوز بأكثر رواية تعلقت فيها، اكثر بطل ذوبتني شخصيتو وأكثر بطلة قدرت ارتبط معها عاطفيا، احيانا كنت افضلها على الجنرال حتى 😂😂 اول مرة يصير معي هيك شي 💔
شو رأيكم بالفصل يلي كلو بوس!
اكثر جزء عجبكم وما عجبكم!
بيكهيون!
ميني!
سيهون!
تشان!
شو رأيكم بالرواية 🐭 ان شاء الله كانت خفيفة على قلوبكم 😂😂🔥
شو رأيكم بالنهاية!
حتى لو كانت سعيدة ما حبيت خليها مبتذلة بزواجهم تقدرو تتخيلو على راحتكم متى يتزوجو وكيف 😂😂
المهم هذا الفيديو رهيب لقيتو من زمان، اتخيلتهم بيكهيون وميني لما قالتلو تتزوجني وحبيت شارككم ياه 😂😂😂😂
عقمو ابصاركم بجمال زوجتي بالبلوند 😭
اابكي من جمالها 😭😭
عندي مشاريع مستقبلية لهذا الكوبل، تعري مش آخر رواية اكتبها لهم 🌚😭
القاكم بأعمال أخرى، دمتم في رعاية الله وحفظه 🍀
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top