الفصل | 17

هلا بالخفافيش 😎

تحيَّة عسكرية 👋

بدايةً رمضان مبارك للجميع، كل عام واحنا مع بعض 😍 هذا رمضاني الثَّالث بالواتباد 😭 ياخي الوقت يمر بسرعة موجعة.

رمضاني الأوَّل من غير متملك 💔

شيييت يا جروحي لا تنفتحي 😭

خلينا نشوف للجانب المشرق، هو اول رمضان لتعري مع أنو المفروض تختفي فيه
😂😂😂

الإيديت دا مكانو بأعماق قلبي 😭

Enjoy 💕

-

لأنَّك رجُلٌ متين، لا يكسِرُك النِّسيان
فيَّ أنتَ حيّ لا تموت، كذِكرى مُعتلَّة.

أنتَ المغرِب الَّذي طلَعت مِنه شمسي ذاتَ صبيحَة، فتفشَّى الألَم مِن أخاديد الماضي في حاضِري، كَما يتفشَّى الرُّعب في نُفوس المُذنبين ساعَة الحِساب، صبيحةٌ كانت الأخيرة لي في دُنيا التَّعاسَة، وقد ظننتُني فيها خالِدة!

خِلتُك في البادِئ نذيرَ شُؤم، أقبَل ليغتابَ ما في جُعبةِ القدرِ لي مِن ويلات، باتَت معهودَة ولو تواطأت مع عُنصر المُفاجأة، حتَّى مسَحت الأيَّام عن جوانِبك غُبارَ حِقدي، حينئذٍ أدركت أنَّك ما كُنت فألَ نعيم، بل النَّعيم عينه.

أنا الَّتي نسيتُ نُسك العيشِ مُنذ أن انقَلبت بِي قاطِرة الهناءِ في إحدى مُنعرجاتِ الزّمن، فشُلَّت أطرافُ فُؤادِي واعتَزلَ التمنِّي، ووقعتُ في غيبوبةِ الفراغ إلى أجلٍ غيرِ مُسمَّى، انتعَشت جوارِحي بلمساتِك الثَّقيلة ولفظتُ شهقةَ وداعٍ أخيرة، بل عودَة أبديَّة مُترعةٍ بالدَّهشة، بينَما أفارِقَ عالمَ الظِّلال وأستَوطِن عينيك، واستَذكرتُه ثانية.

في حُبِّك حبوت، لا أعلَم ما الصِّراط الَّذي يتلقَّفُني، حتَّى غدوتُ راشدةً أجيد التَّفرِقة بينَ شفراتك، توهَّمتُ أنِّي أمسيتُ مُقتدرة على التحكُّم فيَّ وحُكمِك دون إقحامِ العاطِفَة بينَنا، لأنَّا لسنَا مِن أهلِها وقد لن نكون، لكِنِّي الآنَ فيك عجوزٌ يتوكَّأ على عكَّازِ الشَّوق الَّذي كثيرًا ما غدَر بِه، فوقَع وكُدِم، وما أدركتُ الامتِلاء.

بينَ ذراعيكَ غدوتُ مِن القانتين، رغمَ أنِّي امرأةٌ لم يسبِق وأن زاغت لها عين، أو تصيَّدت ما قد تُكُلِّفها خسارتُه الكثير، امرأةٌ لطالَما تحيَّنت الفُرصةَ المُناسبة للرَّحيل بعيدًا، بمُجرَّد ما ترتفِع حرارة الاهتِمام مِن حوِلها، امرأةٌ لا تجذبُها الطُّقوس الصَّيفيَّة، لأنَّها تخشى أن تسفَع هاجِرتُها شِغافها، فتُدنِّس بياضُه ويسمرُّ حُبًّا!

وبعدَ إبحارٍ مديدٍ في الزَّمن، رسوتُ على جزيرتِك، كأنَّك جزاءُ كِفاحي، وربَّما جُزءٌ مِنه، الأعظَم على الإطلاق، لأنِّي فيكَ أبذُل ما لم أبذُله في سبيلِ أحد، وكُلَّما أمطَرت بينَ حناياي اكتَشفتُ لي وجهًا جديدًا طمسته الخيبَة...

ما خِلتُ يومًا أنِّي سأولَد في عينيَك امرأةً تهوَى التأنُّقَ لا لإرهابِ النَّفرِ مِن حولِها، بل للحِفاظِ على زبونٍ يتردَّدُ على أسواقِها الأنثويَّة، ويبتاعُ مِن مناظِرها ما لا يعدُّ ولا يُحصى على الدَّوام.

على المِرآة أتيقَّن أنَّ ريشَتك قد قهَرت سوادَ الإرهاقِ سُفلى جفنيَّ، ونثَرت الحُبَّ بجوفِهما، حُبٌّ لا تصبوهُ أنامِلي أو تنتزِعه، مهما استمتُّ لذلِك، ولأنَّك بارِعٌ في التَّظليل أعتَمتَ جوانِبي، حتَّى بدوتُ مُضيئَة بك كاليَرقة... لقد تغيَّرتُ، كما تغيَّرتَ أنتَ وحرارةُ استِقبالك، كأننا ما فقدنا الاستواء إلَّا لنَتوازَن بمعونةِ أحدِنا للآخر.

أحيانًا لا نحتاجُ الأكسيجين، بقدرِ ما نحتاجُ شخصًا نشهَق زفيره، ونطرحُه رغبة!

سمِعتُ أنَّ الحُبَّ أحمَق، لا بَل يستَمتِع بمُشاهَدة أتباعِه وهُم يرقصُونَ بحُمقٍ كالسّكارى، دونَ أن يُحرِّك ساكنًا، ليسَ أعمَى بل مُظلِمًا إلى الحدِّ الَّذي نخالُ أنَّه قد أفقدَنا البَصر. عارٌ أن تغزِل أنامِلُنا الخطَايا في سبيلِ الحُبِّ طواعيةً لإبهاجِه، ثُمَّ تُشير إليه بالسبَّابَة لحظَة المُحاكَمة أنَّه هُو المُذنب، لا مُذنِب غيرنا.

وها أنا ذا أحذو حذوَ العاشِقين، مُتغاضِيةً عن التَّبِعاتِ، لم أكُ يومًا حمقاء، ولكنَّ الحُمق صارَ يجري في دمِي وإيَّاه، بالأصحِّ مِن أجلِه، وما أزال أقترِف إحدى الحماقاتِ الَّتي قد تُكلِّفُنا استِقرارَ الأوضاعِ بينَنا، فقد عمَدتُ على الانخِراط في مطعمٍ مشهورٍ بالدَّجاج المقليّ، كعامِلة توصيل مُنذ أسبوعَين دون عِلمه.

عيدُ ميلادِه على الأبواب، ومهمَا فتَّش فِكري عن طريقٍ خاليةٍ مِن الفِخاخ لأسلُكَها آمنةً مُطمئنّة، حبِطت. لم يسعني إلَّا للتَّشمير عن سواعِدي وكسبِ المالِ لاقِتناء هديَّته، رغم أنَّنا قد نتشظَّى بسببي بعدَما تآلفنا، لا يُعقَل أن أستَخدِم بطاقة الائتمان الَّتي أودَعها بينَ يديَّ للعِنايةِ بنفسي في غيابِه، كما أنَّ يدايَ لا تبَرعان في أيَّة حِرفةِ شريفةٍ، لأنَّهُما محضُ لصَّتين، وظيفتُهما سرِقة الوعيَ مِن بينِ عنينه، ومُكافَأتِه باستِرخاءٍ زُلال.

اجتَررتُ خُطايَ خارِجَ غُرفَة التَّبديل مُرورًا بطاوِلة الدَّفع.

" أنا مُغادِرة. "

ردَّ عليَّ العَجوزُ صاحِب المطعَم بوجهٍ بشوش.

" أحسنتِ عملًا مينِّي. "

عُدت إلى المنزِل بعدَ انتِهاءِ دوامِي، لقد التَحفت السَّماءُ عباءَتها السَّوداء مُنذ أمَد، وككلِّ ليلةٍ مِن جِنسِ الظُّلمَة تملَّكني الذُّعر، ورجرج أوصالِي، تكادُ قدَمايَ تزلَّان ببعضِهما البعض، ماذا لو قدِم بيكهيون قُبيلَ موعِده المعهود، هُو الَّذي كثيرًا ما أخلف بِه، واضطرَّني إلى اختِلاقِ الحُجج؟ لقد استَهلكتُ كِذبتين حتَّى الآن، إذ أخبرتُه مرَّةً أنِّي تعرَّضت للحَجز، وفي الثَّانيةِ أخبرتُه أنِّي كُنت برفقة رينا، قد يشتبِه في أمري ويسعَى خلفي!

هُو رجلٌ مِن طينَة الارتِيابِ، جفَّ على حذَر، ذلِك لأنَّ الصَّدماتِ قد كسَرته مِرارًا وتِكرارًا حتَّى تفتَّت، وعجَن نفسَه بنفسِه، وكَما تحرَّى عن خلفيَّتي، لن يتَخاذَل في البحثِ خَلفي، ولو فعَل فسوف يصِل إلى الحقيقةِ حتمًا.

واربتُ البابَ ليسَع دُخولي، وانزَلقت نظراتِي نحوَ الأرضيَّة تتفقَّد الأجواء، فإذَا بزوجٍ مِن الأحذيَة الكلاسيكيّة مركونٍ عِند العَتبة... ما كِدتُ أتخطَّى صدمَتي، وأحبك حُجَّة غيابٍ متينة تُنجيني مِن هاويةِ الشكِّ في مُقلتيه لحظَة وقوعي، حتَّى استقرَّ على مسافةٍ مِن موقِفي بمَعالم منكوبة، ضربَها الغضب، وكتَّفَ ذراعيه بصدرِه.

" أينَ كُنتِ؟ "

لوهلةٍ ضلَّ الهواءِ بداخِلي المَجاري الَّتي تصبُّ في رئتيّ فاختنَقت، وتقلَّبت عدسَتاي ذاتَ اليمين وذاتَ الشَّمال بِلا حيلة، إلى أن أنجَبت شفَتاي جنينًا واهِيًا، لستُ متيقِّنةً ما إذا كانَ سينسبه إلى الحقيقةِ وما هِي بأُمِّه!

" خَرجتُ لإلقاءِ القمامَة. "

حينَما انحنيتُ لأفكَّ عن قدميَّ حصارَ الحِذاء الرِّياضيّ الأسوَد، ليسَ لشيءٍ سِوى للهُروبِ مِن محضرِه المهيب، تساءَل:

" هل تراكَمت بهذِه السُّرعَة؟. "

استَرقتُ الرؤيَة مِن خِلال الشُّرفةِ المُطلَّة على المطبخِ، ثُمَّ عبرتُ الجِسرَ المَشدودَ بينَنا إليه... لقد اكتَمل نموُّ الرِّوايةِ في ذِهني، لا يلزمُني إلَّا إتقان سردِها.

" لقد حاوَلتُ إعدادَ العشاء في غِيابِك مُستعينةً بوصفةٍ على الانترنت، لكنِّي فشلتُ في تطبيقِها، لم تكُن صالِحةً للأكل، لذلِك قُمت برميه في الكيس فامتلأ، وخشيت أن تذيعَ رائِحته لو أطال المكوثَ هُناك. "

طلَعَ نضدٌ مِن أسناني حينَما تناءَت شفتاي عن بعضِهما البعض، بيدَ أنَّ ردَّة فِعله البغيضَة لحمتهُما ثانيةَ.

" أخبرتُكِ ألَّا تبرحي المنزِل في ساعاتٍ داهمة كهذه دوني لأيِّ سببٍ كان، أظنُّه رابِع تحذير لك، في شهرين فقط! "

للحظةٍ مُحتقنةٍ بالارتِباك أضعتُ أعصابي، وهذيت.

" وهل أنا سجينتُك لتُقيِّد حُريَّتي كما تشاء؟ "

اضطَرَب جوُّه وتلبَّدت مُقلتاه، كأنَّ استيائي الَّذي ما شرَّعته محكمتُه سواءٌ كُنت على حقٍّ أم على خطأ قد خوَّض مِزاجَه، عدَا عدَّة طوابِقَ مِن الصَّمتِ لكنَّ مِصعَد الكلِم توقَّف في نِهايةِ المطافِ، وقبضَ على ذِراعي بعُنف.

" لا بل أنتِ مُواطِنةٌ في مدينَتي وأفرض عليكِ حظر التّجوال متَى ما راقَ لي ذلِك، لأنِّي أدرَى مِنك بِما يقطُن خَلجاتِ اللَّيل.."

وبينَ انفِعالاتٍ ضارَّة، وسكوتٍ لن ينفَع يهوي الودُّ إلى القاع...

لذلِك سلكتُ مضيقَ الاعتِذارِ، والمسارَ الوحيد للاحتِيال على رجلٍ عصبيٍّ مِثله، رغمَ ازدِحامِه بالحرج الَّذي أتى على كُلَّ فتَّة هواءٍ مُتاحةٍ فيه، ورغمَ أنِّي شخصٌ ذو نفسٍ قصير!

" آسفة، أجاشِّي. "

انحلَّت يدُه فانفلتُّ مِنها، وصفَع ناظريَّ بمرأى ظهرِه، كبادِرةٍ مِن بوادِر الخِصام، لكنِّي أجهضتُه وهُو في رحِم فِكره، حيثُ انقضضتُ عليه مِن دُبر كالجُبناء، واختزنتُه بينَ ذِراعيّ، مُستبيحَة الاستِلقاء على ظهرِه.

لم ينتَزعه مِنِّي بل ظلَّ ساكِنًا، لعلَّه يُجري الآن عدَّة عمليَّاتٍ حِسابيَّة حِيالي، وعدَّة مُشاوراتٍ بينَه وبينَ كبريائه للحِفاظ عليَّ أو نفيي. رغم أنَّه استبخلَ الردَّ على اعتِذاري الصَّادِق، ما تخاذلتُ في ترميم هذا الموقِف المُتصدِّع، عسى أن ينصاعَ لي؛ ليسَ لأنِّي تجاوزتُ حُدودي، إنَّما لاستِمراري بابتِداعِ الأكاذيب مُنذ أمد.

" هل تهرَّبت مِن العمَل اليوم أيضًا؟ قد أسيء فهم إبكارك في المجيء، وأفسِّره على أنَّك تُريدُ قضاءَ وقتٍ أطول معي. "

" خشيتُ أن تتضوَّري جوعًا في غِيابي، لا غير. "

انساقَ إلى بارِ المطبَخ بخطواتٍ وؤود، حيثُ شتَّت المقادير على سطحِه، وشَرع في تقطيعِ الخُضارِ على اللَّوحِ ببراعَة، أمَّا أنا فحجزتُ لي تذكِرةَ مُشاهدةٍ على الكُرسيِّ المُقابِل لهُ تمامًا، بالطَّبع لم تستَهوِني السَّكينُ وهِي تنحَر أعناقَ الخضراوات، بل هيئتُه الَّتي يحكُمها الأسوَد، وما يليقُ بسيِّدٍ إلَّا سيِّد!

بلا شعورٍ غفِيَ خدِّي على كفِّ يدي، واستَرخى جفناي، وبعثَت لهُ مُقلتاي بباقاتِ انبِهار، افتَضَحت جُلَّ ما دارَ في خُلدي آنذاك.

ظلَّ صامِتًا طوالَ العَشاء ما أعطانِي انطِباعًا سيِّئًا، سأنكشِفُ مُنذ اللَّحظةِ الَّتي تطأ فيها الشُّكوكُ محطَّتَه، لأنَّه رجُلٌ لا تسرُّه رؤيةُ علاماتِ الاستِفهام تستوطِن نِهاياتِ أسطُره، وبكلِّ ما أوتِي مِن حرصٍ سيُزيحُها، حتَّى وإن لمَح لها ملمحًا لا جسَد لهُ، فسيُفتِّشُ عنه بينَ مكنوناتِ العيونِ إلى أن ينقشِعُ ضبَابُ الخفاءِ مِن حولِه.

وبينَما أنا أتباطأ في الأكل، صفَّ العيدانَ على الطَّاوِلة واستَقام ببرود.

" سمِعتُ أنَّكُم حصَلتُم على كشوفِكم مُنذ يومين، ما الَّذي تنتَظرينَه لتُريني؟ "

" لم أكُ أخفي الأمر عنك، لم أدرِ ما إذا كانَ عليَّ مُشارَكتك أم لا بحُكم علاقتِنا. "

انتَعل صمتَه المُعتادَ واتَّجه إلى حائِط النَّبيذ ليأخُذَ مِنه قِنِّينة مُعتَّقة، ثُمَّ إلى الأريكَة الَّتي تتوسَّط الغُرفة، هُناكَ حيثُ جلسَ وملأ كوبه. ما لبِثتُ وقتًا طويلًا حتَّى لحِقتُ بِه، مُذ أنَّ حقيبَتي المدرسيَّة على الطَّاوِلة أمامَه، كانَت نظراتُه مسلَّطةً عليَّ كأضواءِ المسرَح، فاضحةٌ بشكلٍ بليغٍ، ورغمَ أنِّي ثابتةٌ هزَّني التوتُّر.

انتَشلتُ ورقَة الكشفِ أخيرًا، واستَدرتُ نحوَه فكان بالمِرصادِ لِما اصطفَّ على بابِي مِن كلم، فبَعد أن أخلى يدَه مِن الكأس انتَزعني مِن منبَتي، وطواني على حِجره. انتَهزَ جُمودِي ليختطِف الورَقةَ مِن يدِي، لاشكَّ وأنَّه يُحبِّذ استِباحَة المحظورات!

عايَن المكتوبَ بحبرٍ أسوَد كأنَّه يُعايِن قرارًا عسكريًّا حاسِمًا، دونَ أن يُعير لوجودِي على قربٍ مُؤذٍ مِنه أيَّ اعتِبار، كأنِّي وِسادةٌ اعتادت ذِراعُه مُعانقتها، ما لبِث وأن أعاجَ حاجِبَه بكبر بينَما لا يزالُ منكبًّا على المجموع.

" لا بأسَ بعلاماتِك. "

حينَما انحازَت نظراتُه إليَّ واصطادَت أنفاسي برمَّتِها، بسطتُ كفِّي على صدرِه، مُتقنةً أداءَ دورِ الإنسان، رغم أنِّي جُثمان!

" لأنَّ لديَّ أستاذ رياضِيات وإنجليزيَّة رائع. "

نقمًا على ما نجَّره مِن وعيي، عزَفتُ نغمِي بدلال.

" سيغدو سِجلِّي مِثاليًّا لو أنَّ علامتيّ الكيمياء والأحياء أفضَل مِن علاماتِي الحاليَّة. "

تسلَّقت أنامِلي ترائِبه المغمورةَ في قميصٍ حالك، حتَّى بلَغت قمَّة كتِفه، هُناك حيثُ اضطَجعت بهناء، هناءٌ فرَّ مِن قفَصي الصدريِّ إذ وسَّع هواهُ بينَ قُضبانِه، وربَّما سُحِق إذ اندكَّت أسقُفي وانطَبقت على أرضي بفِعله.

" أليس جونغ إن صديقَك؟ فلتتوسَّط لي عِنده حتَّى يرفَع مِن درَجتي، ولتجعله يتوسَّط لي عِندَ زوجتِه بدورِه، ما أظنُّ أنَّه سيرفُض لكَ طلبًا، كما لن ترفُض زوجتُه طلبَه، وإلَّا فما فائِدة الأصدِقاء؟ "

وكأنَّه تغَلغَل في مُهجَتي على أقساطٍ تناقَلتها موجاتُه الصَّوتيَّة، توالَت الانفجارات بداخِلي، حتَّى نُعِي إليَّ نبأُ استِشهادِي في مُحيطِه العاتي، تحديدًا حينَما فكَّت أنامِله زِرين مِن قميصِي.

" أخشى أنَّ زوجَته هِي الَّتي ستُثنيه عن تزويرِ علامتِك لأنَّه جُرمٌ مُشين، بحقِّ الطَّلبة المُجدِّين، وبالطَّبع سيخدِش تاريخ أستاذٍ مُستقيم... "

ركَلت شفتاهُ زفرةً ضحوكة، والتَمستُ الاستِنكارَ في نبرتِه.

" لو كُنت إلهًا لخلقتُ له ذيلًا. "

" ما خطبُ الرِّجال هذِه الأيَّام، كأنَّهُم يتَعاطونَ عقَّارات الخُضوع بانتِظام؟ لا بأسَ بالمُساواة بينَ الرَّجلِ والمرأة، ولكنَّ هيمَنة المرأةِ على الرَّجُل مُذلَّة بحقِّه. "

تعمَّد أن يُسجِّر بُحوري بقبلةٍ ضربت ترقوَتي، أم أنَّها قُنبلة انزلقت مِن بينِ قاف قَدرِها وباءِ بطشِها نونُ نقائِها فنسَفت بكُلِّي لأثويَه، قُبلة موقوتة تُشابِه اللُّغم، حجمًا وحِجمًا، فرغمَ قدِّها إلَّا أنَّها تُؤوي الموتَ بعظمتِه في حيِّزِها!

هُو رجلُ اللَّمساتِ الشَّارِدة، والقُبلات المُباغِتة الَّتي ما سبَق وأن قطَعت مِن استِعدادِي موعِدًا، هِوايتُها أن تترُكني خلفها بفمٍ مفغور، ولِسانٍ مُلجمٍ بالانبِهار، لا يروقُه إلَّا أن ينالَ الصَّمتَ مِنِّي لحظَة يُحاكِيني بلغةٍ غيرِ لُغةِ العالمين، رجُلٌ في قبلته حربٌ لا سامِع للظاها إلَّا مَن ابتُليَ بها، ولا خاتِمةَ لَها إلَّا ما يهواه!

وبينَما تعبثُ ريشَتُه الَّتي تقطُر شغفًا بلوحَتي، تسلَّل رذاذُه الشقيُّ إلى شهيقي، وفتَك بِي. وشَى لي الألمُ المُنبعِثُ مِن مهبطِه أنَّه قد خاطَ وجودَه بي إلى أجلٍ ما، لن تضمحلُّ علامتُه إلَّا على بُعدِ زمن.

" وما رأيُكِ بالنَقيض؟ "

بالكادِ تذكَّرتُ موضوعَنا الَّذي ما يفتأ مفتوحًا، يكفي أن أتشبَّع بِه لأنسى كلَّ شيء، ولكِن لا شيءَ يكفي لأشبَع مِنه.

لزَمني لأحيكَ أشلائِي المُبعثرة في مُحيطيه، أن أغطِسَ فيه مِرارًا وتكرارًا.

" لا أُنكِر أنِّي خفيفةٌ كالغُبارِ أعجزُ عن الثَّباتِ في مُحيط الطَّاعة، ولكنَّ مُواعدةَ رجلٍ جامِد كالتِّلفاز لا يحرِّك ساكِنًا إذا ما هدَّدت الرِّياحُ بنقلي بعيدًا مُملّ، نفس الشَّيء بالنِّسبةِ لرجلٍ انسيابيٍّ يأخُذ شكلَ قوالِبي جمعاء، كأنِّي أواعِد صديقَتي. "

سهوُه إليَّ أربَكني، فتعثَّرت بأنفاسِي. استنزفتُ كامِل صمودِي ظنًّا أنِّي نِدٌّ لعاطِفتي، قبل أن ألوذَ بالفِرار إلى غيرِ ركن، على غيرِ سجيَّتي.

" لم أشكّ ولو قليلًا في أنَّ جونغ إن رجلٌ مِن هذا الصّنف. "

اقتصَّ خونَة الافتِتان مِن مُحيَّاه، وما أبقى إلَّا على الصَّرامَة تعتريه كأنَّه للتوِّ استَعاد زمامَه، ثُمَّ داعَب خصلات شعري المُتساقِطة بمُحاذاة عُنقي.

" هُو كذلِك، ليسَ بيدِه حيلةٌ سِوى الإصغاءَ لها باسمِ الحبّ، وإلَّا فسوفَ تُعاقِبه، كما سأعاقِبُك إذا ما رسبتِ، لذلِك فلتبذَلي ما بوسعِك."

تناسيتُ كُلَّ ما سبَق ونظرتُ إليه بتحسُّر.

" لكنِّي نجحتُ في هذا الفصل، وما أزال بانتِظار مُكافَأتي. "

قيَّدتُ ذقنَه حينَما تهرَّب مِنِّي.

" أجاشِّي، أريدُ رؤيةَ الثَّكنة العسكريَّة. "

" سأغيب عن المنزِل لمدَّة، لديَّ دورٌ عليَّ أداؤُه. "

أهذا ما كانَ يُمهِّدُ لُه مُنذ البِداية بهدَاياه المَغشوشَة؟

أغمِيَ على يدِي، سويًّا ونظراتِي الَّتي استقرَّت على فخذيّ، بعدَ أن لقِمت خيبةَ موبوءَة.

" أكرَه أنَّك مُضطرُّ لاقتِطاعِ حاشيةٍ مِن عُمرك لإرضاءِ جلالتِها. "

حمَل ذقنِي على إبهامِه آخِذًا بصري إليه.

" هِي الآن كالظلِّ، مهمَا ارتَدت مِن حليِّ بهيَّة، ستظلّ سوداء بينَ ناظِريَّ."

وددتُ لو أقولُ أنَّها قَد كانَت مُنذ البِداية مُعمِّرةَ في كوكب المَظاهِر، فلو أنَّها مِن فضائِك لرأتك قُرصًا مهما فرمت مِنك الظَّواهِر وبدوتَ ناقِصًا، لأنَّها امرأةٌ تُعاني قِصرَ النَّظر، ويا للأسف فإنَّ قلبَها المُحبَّ لم يَرى، رغم أنَّ الحُبَّ يشفي العَمى، حينَ يُعمي.

ربَّما لا أمتلِك الحقَّ في انتِقادِها، لأنِّي مُجرَّد محطَّة مُؤقَّتة، استَباحَ أخذ قسطٍ مِن الرَّاحةِ بينَ مرافقِها المُجهَّزةِ بكُلِّ ما قد يشتهيه مُسافرٌّ كَلَّ مِن الطَّريق، كظلِّ شجرةٍ هربَ إليهِ مِن ضنكِ الحياة، فسرَّه الاستِلقاءُ تحتَه.

وكَما تنحرُ السَّماءُ شمسَها في نِهايةِ كُلِّ أمسية، فتتلطَّخ بدمعِها الدَّامي، قد تأتِينا أمسيةٌ يتحتَّم علينا فيها الوداع، قد أتشبَّثُ بتلابيبِه رافضةً، لا بل سأتشبَّثُ بتلابيبِه رافِضة، وحتَّى بعد أن يُريق دِمائي ويردِمُني بظلماتِ جفوتِه، سيُكتَب لي فيه فجرٌ آخر، لأنِّي مِثل الشَّمس، الموءودة الَّتي لن تُوافيها المنيَّة مهمَا طَمرها الظَّلام!

على مسافةٍ مِن تكتُّلِنا الحميم هذا تقعُد كأسه الأولى، ليسَ بعدَ الآن، إذ وازَنها بينَ أنامِله، في حينِ غرقتُ في دِفئِه إلى مدًى قصيّ، لم يسَعني الطُّلوعُ مِنه على قيدِ الفِطنة، أكادُ أغفو بينَ ذِراعيه على مواويل قلبِه المُتواتِرة، لم يكُ متوتِّرًا كما عهِدتُه، جفناي يترنَّحان لِما يزنه النُّعاسُ فيهما، فالتَّعب يستَوطِن أوصالِي هذِه الأيَّام.

فكَّرتُ فيما سأجهِّزُه مِن أجلِ ميلادِه، وما طبيعةُ الهديَّة الَّتي سأقتنيها لهُ حالَما أقبِض راتِبي، ربَّما معِي خريطتُه الذُّكوريَّة، ولكنِّي أجهلُ الكثيرَ عن مكنوناتِه كشخص، وأُدرِكُ كُلَّما خُضت فيه أنِّي لا أعلَم عنه ولو تفصيلًا واحِدًا، ليسَ كامرأةٍ تُطارِحه ذاتَ البيت، وذاتَ الفِراش، امرأة كثيرًا ما استَضافَها على شرفِ الرَّغبة!

ضممتُ قدَماي إليَّ حتَّى غدَا كُلِّي مُنكمِشًا على حِجره، وقاطعتُ خلوتَه معَ شرابِه، والَّتي عجزَ حُضوري على أن يمنَعها بنغمٍ وانٍ.

" بيكهيون، أخبِرني ما لا أعرِفه عنك. "

نهَش الإحباطُ نبرَتي.

" أجهَل حتَّى ما تُحبُّه وما تكرَهه عدا الخمر والنِّساء، فصلُك المُفضَّل، طبقُك المفضَّل، أُغنيتُك المفضَّلة، كذا فنَّانُك المُفضَّل. "

تشرَّد أحدُ حاجبيه عن مُستواه باستِهجان.

" وكيفَ استنتجتِ أنِّي أحبُّ النِّساء؟ "

" لأنَّك ترتادُهنَّ بكثرة. "

علِمتُ حينَما تنحَّى عنِّي أنِّي أخطأتُه.

" أم أنَّك تُحاوِل الإثباتَ لأحدِهم بأنَّك قادِرٌ على اقتِناء أيّة امرأة مهمَا ثمِنت مبادِئها؟ "

صمت، ربَّما لأنِّي أصبت، وربَّما لمُجرَّد أنَّه أرادَ أن يصمُت كأغلبِ الأحيان... ما دريتُ أنَّ الكلِم كانَ يتجمهَر بخاطِره قبل أن يهاجِر إليّ.

" ستُعلِّمُك الحياة كيفَ تُؤثّثين حجراتِك بعد أن يبرحها أحبَّتُك، سيُغيِّر الزَّمن نظرتَك لما أحببته، وعنه ترحلين، الأشياء كالبَشر، اليوم نفضِّلُها وغدًا ننبُذها، ونتبنَّى غيرَها رغم أنَّها لم تقترِف بحقِّنًا أيَّة جِناية... لذلِك بمُرورِه انفككت عن الارتِباطِ بِها، كما عالَجتُ جوارِحي مِن إدمانِ البَشر. "

بحركةٍ سريعةٍ أوشحتُه ذِراعيَّ، ودفنتُ مُحيَّايَ بقميصِه مُغمغِمة.

" لا تتحدَّث كالعجوزِ الَّذي أنتَ إليه، وتُشعِرني أنَّك ستُدبِر مِن الدُّنيا في أيَّة لحظَة. "

أوصَدتُ جفنيَّ أشتَهي الانحِلالَ في ترائِبه.

" هرموناتي مُضطربة بالفِعل. "

" لِسانُكِ بطولِ ثُعبان. "

أقمتُ رأسِي عنه حتَّى تتسنَّى لي مُناظَرتُه.

" أتظنُّ أن فلسفَتك ستَجعل فُضولي يصطَدِم بجِدار العَدم؟ أنتَ مُخطِئ. "

سكتُّ تقديسًا لعِناقِنا البصريّ، ثُمَّ استَطردتُ بعِناد:

" ما أزال أُريدُ أن أعرِف كُلَّ شيءٍ عنك، حتَّى التَّفاصيل الَّتي تظنُّ أنَّ لا قيمَة لها. "

" هل تُريدين رُؤيَة الغُرفَة الحمراء؟ "

أطرقتُ برأسي دوَن أن أفهَم قصدَه، ثُمَّ هاجَرتُ موطِني الدَّافِئ في عِزِّ ربيعِ الأُنس، رغمَ أنَّ رحيقُه في أنفاسي يندسّ، ينوِّمُني. انحَنى بفصِّه العُلويِّ حتَّى أدرَك سطَح الطَّاوِلة، حيثُ استَغنى عن كأسِه الطَّويل الَّذي ما يزالُ مُتخمًا بالنَّبيذ، كأنَّه ما أشاحَ انتِباههُ عنِّي ولو للحظة، هُو الَّذي لا تزيغُ قاطِراته عن سكَّة الصّمتِ!

اضطررتُ للثَّباتِ في مكانِي مُسلِّطةً أضوائِي الخامِلة على هيئتِه، إلى أن حملته قدماه عن ظهرِ الأريكَة. عادَ ليتَوارى خلفَ أتراسِ الصَّمتِ، دونَ أن يُسطِّر لغارَته الشَّفويَّة موعِدًا يُتنبَّأ بِه، وما يليقُ بِه إلَّا المُباغَتة.

اقتَفيتُ آثارَه بسكونٍ تغرَّب عن عقلي الَّذي تسيَّب، وحواسِي الَّتي أُغمِيَ عليها. عقِب خطواتٍ لم يقترِن رقمُها بشريكٍ يُسانِد ضآلته رصفنا كُثبَ حائِط النَّبيذ، موقِنةٌ أنَّه لم يأتِ بِي إلى هُنا ليشرب، وإلَّا لَما تبرَّأ مِن قدحِه سابِقًا.

راقبتُه والفُضول يلوك أحشائي، يكادُ يؤلِّف بينَ حاجبيَّ، لاسيَما حينَما سعت يدُه نحوَ أحدِ القنانِي المُصطفَّة على الرفِّ الثَّاني، بجانِب الفونوغراف ذِي الأذنِ الذهبيَّة، الَّذي يُعانِق ذراعُه المثنيّ أسطوانةً خرساء. كانَ شكلُها مُختلفًا عن نظائِرها مِن ذاتِ الجِنس، مميزًّا فعُنقها طويلة، ولونُها زيتيّ، فورما أزاحَها عن موضِعها بأنمُلةٍ انشَطر الحائِط إلى نِصفين، وانجَلى مِن ورائِه حيَّزٌ غشيت الظُّلمات ملامِحه فما بانَت.

ليسَ مِن الغريب أن يمتلِك رجلٌ مليءٌ بالأسرار، مِثله، غُرفةً سريَّة.

انقَبض صدرِي حينَما امتلأ جفنايَ بنظراتِه الكتومَة الَّتي كالَ لي مِنها أصواعًا، قبل أن يخترِق العتمة المُنبعِثةِ مِن الحُجرة. اقتَفيتُه مِن تلقاءِ نفسي مُتلهِّفةً لأعرِف ما يُضمِرُه بجوفِها، وطوفانٌ مِن الأسئِلةِ يغمُر أزقَّتي، أيُّ نوعٍ مِن الغُرفِ تكون؟

مُذ أنِّي مُلمّةٌ بمُيولِه خمَّنتُ أنَّ لها علاقة بِها، وتوجَّستُ، لم أدرِ ما المَدى الَّذي بلغتُه في الغَباء لأتساءَل بيني وبيني: أحمَر وخلوة، أيُعقَل أنَّه يُعدِم النِّساء هُنا؟ قاتل مُتسلسِل؟

وكما لو أنَّ له فيَّ جاسوسًا يتنصَّتُ على أفكارِي قال ببرود:

" ليسَ أيًّا مِمَّا تُفكِّرين بِه، لن أسلخ جِلدك هُنا لأرضِيَ مُيولي فلا تهلَعي. "

شعرتُ أنَّ بالمنزِل مساحةً شاغِرة، بينَ غُرفةِ الجُلوس وغُرفةِ نومِه الأصليَّة، مِن الإهدار أن يستولِي عليها جِدار!

شاركتُه أفكاري بنبرةٍ مهزوزة، لمُجرَّد طمرِ الارتِباكِ الَّذي نشأَ فيَّ.

" لطالَما فكَّرتُ أنَّ الشّقق هُنا تبدو أوسَع مِمَّا هِي عليها، والآن اتَّضَح اللُّبس. "

قلَّصتُ المسافَة بينَنا عِندَما انقَطع عن المسير.

" لاشكَّ وأنَّك تُحبُّ الأسرار، والمداخِل الخفيَّة كالَّتي في القِلاع العتيقَة... هل لأنَّك نفسُكَ إرثُ جيلٍ قديم؟ "

داسَت يدُه قاطِعةً كانت ناتِئةً على مسافةٍ مِن المَدخل، فاجتاحَت الحُمرةُ هذَا الوكر، حُمرةٌ قانيةٌ مِثل الكَرز، منبعُها مِصباحٌ طويلٌ عالقٌ بالسَّقفِ أعلانا، حينئذٍ انجَلت دسائِسُه لمُقلتيَّ اللَّتين تشتَّتا، حيثُ أبصرتُ عشيرةً مِن الحِبالِ مُنتشرةٌ وسطَها، مِن الحائِط إلى الآخر، وكالأقراطِ تتدلَّى مِنها وريقاتٌ صغيرةُ الحجم، مُثبَّتةٌ بمشابِك الغسيل، وعلى الجانِبين حوضان عريضان، فوقُهما أرفف بِها عدَّة قوارير، غُرفة تحميضِ الصُّور!

" سألتِني يومًا عمَّا سأؤول إليهِ لو أنِّي اختَرتُ غير طريق. "

بعدَما أنشَب على انتِباهي ببراثِنه التَهمت مُقلتَاه مَرآيَ المُنبهِر.

" لوما كُنت جِنرالا، لامتهنت التَّصوير الفوتوغرافي. "

ابتَسمت.

" غير متوقَّع كما عهدتُك. "

تنقَّلتُ بينَ الحِبالِ، مُتفقِّدةً كُلُّ ما تعثَّرت بِه عينايَ، مُعظَمُها مقامات تشرَّفت بحُضورِه، سواءٌ كانت مُلوَّنةً أم مُعدَمة، أما الَّتي افتَقرت إليه فاقتَصرت على أماكِن، أوأشخاص غيره، كأنَّه لهِيَ باصطِيادِ الجمالِ الكامِن في كُلِّ شيء، وربَّما صنعه بأنامِله حتَّى لِما خلِيَ مِنه، لاشكَّ وأنَّه قد زارَ طوال مسيرتِه الحياتيَّة بُلدانًا عِدَّة، ذلِك ما باحَت لي بِه هذِه التَذكارات، كُلُّها صورٌ ذاتُ ذكرياتٍ عظيمَة اندكَّت في قُصاصات مهينَة!

لفَتتني صورةٌ لهُ برفقةِ شابٍّ طويل، أمامَ حاجزٍ سِلكيّ، حيثُ أنَّ كِلاهُما يرتَدي زيَّه العسكريّ. أدركت للتوِّ أنِّي لم أرَه بلِباسِه بعد، هدَفي المُقبل هُو رُؤيتُه عليهِ شخصيّا.

" تاريخُ التِقاطِها يبعُد عن اليومِ بالكثير. "

سُرعان ما تحوَّلت تمتَمتي إلى سُؤالٍ جهوريّ، بينَما أنظُر إليه.

" ألف وتسعمائة وتسعة وتسعين، سنَة ميلادِي، كَم كانَ عُمركَ آنذاك؟ ""

" في السَّابِعة والعشرين، كُنت ما أزالُ مُجرَّد جُنديّ. "

البُرود في نبرتِه أشعَلَ دهشَتي، يتحدَّثُ كما لو أنَّ معارِكَ الزَّمنِ قد قهرت شَبابَه، رغمَ أنَّه لا يختلِف عن عقدين انصَرما.

" هل أنتَ وبشكلٍ مِن الأشكال خالِد؟ "

مِن طرفِ وترِه صوَّبني بطلقةٍ مُميتةٍ أخرَستني، خشيتُ أن يطرُدَني وأنا ما أفتأ جائِعةٍ لرُؤيةِ المزيدِ مِنه، سكَنَ طرفي أمامَ صورةٍ لهُ بقبَّعةٍ فرنسيَّة؛ بيريه، بصرفِ النَّظر عن وسامتِه النَّاطِقة، فابتِسامتُه بدَت مُشرقةً، ذهبيَّة، رغمَ أنَّها بالأبيضِ والأسوَد!

" ما خِلتُ يومًا أنَّك ستدفعُ بالزَّمنِ إلى الوراءِ لتُريني نفسكَ القديمَة. "

بعفويةٍ انجَرفت شفتي السُّفلى بينَ قواطِعي.

" كُنت تبدو وسيمًا، وبريئًا. "

لاحَظتُ أنَّه قد صنَّفَ الصُّور وِفقَ التتابُع الزمنيِّ حينَما اكتَست بالألوَان، وازدَادَت تألُّقًا، حتَّى انتَهى تدفُّقُها وتابَع الحبلُ طريقَه إلى النِّهايَة بدونِها، كَما يستمرُّ الزَّمنُ بدونِنا أحيانًا، لربَّما تِلك كانت نِهايةَ حِقبةٍ فيه وبِدايَةَ أُخرى، يعمُّها سوادٌ غيرُ مألوف، بسنَة ألفين وسِتَّة، بعدَ شهرين مِن الحادِث الَّذي ألَمَّ بكلينا...

هل توقَّف يا تُرى؟

" ولكِن لم يسبِق وأن رأيتُكَ تلِج هذِه الغُرفَة مُنذ استِقراري لديك، أتُصوِّر خِلسة؟ "

انهمَرت أصابِعه الآدميَّة على سطحِ الحوضِ، ثُمَّ زحَفت على سواحِله بتَباطُؤ، وغمَرت موجاتُه الصوتيَّة سمعِي التوَّاق له.

" لقد تابعتُ التَّصوير حتَّى بعدَ أن انتَسبتُ إلى الجيشِ كجُنديّ، اليدُ الَّتي عانَقت السِّلاح، لم تنَسى كيفَ تُعانِق آلة التَّصوير، لم أفقِد اهتِمامي بِه وكأنِّي قد خيَّبتُ أملَ الحياة التجأت إلى أقسى مِن التَّغيير لتُفقدَني إيَّاي."

سها إلى الصُّورِ المُتشبِّثةِ بالحِبال، مِثلما نتشبّثُ بالحياة.

" وكمَا اجتُزَّ ذِراعي اجتُزَّ شخصي الَّذي سقيتُه لأعوامٍ مديدة، ونَما مكانَه آخر، كعُشبةٍ ضارَّة، لا بذرةَ لها، ولا أصل. "

سُرعانَ ما احتَذيتُ بِه وحططتُ على آخر صورة، ذاتُها الَّتي حطَّ عليها مُنذ قليل، صورةٌ للبَحر.

" يحدُث أن نموتَ على قيدِ الحياة أكثَر مِن مرَّة. "

حينَما تحرَّرتُ مِن أفكاري الخاصَّة، وبحثتُ عنه بعينيّ، اكتَشفتُ أنَّه قد وجَدني قبل أن أجِده... لِقاؤُنا غيرَّني، وربَّما أعادَني إليّ!

قُلت على قناعَة:

" لا تقتُل الحياة شخصيَّاتِنا، بل تدفِنُها فقط، وكثيرًا ما يرمِي بِنا الحنين عِند أضرِحتها في أفئِدتنا، نتمنَّى لو نستطيعُ الإيابَ، ولكنَّا مقيَّدون بالعِبر الحياتيَّة، ربَّما لن نستَعيدَها، ولكِنَّنا قادِرون على العودَة إليها متَى ما شِئنا. "

ركَد كفِّي على ذِراعِه الآليَّة الَّتي لن ترصُد وفودِي أبدًا، ثُمَّ صعِدها ببطء..

" أتخلَّيتَ عن سلوتِك بسبِب ذِراعك؟ "

" مهما روَّضتُ اليُسرى، فإنَّها ما تزالُ عاجزة عن التَّصوير على أكملِ وجهِ. "

ما يفتأ مُحافِظًا على جفائِه، رغم يقيني أنَّ ثمةَ بِداخلِه سيلًا يتحيَّنُ الفُرصَة ليفيض، كما أتحيَّنُ الفُرصَة للتسلُّل إليه بينَ ثغرات صمتِه.

" لكلِّ يدٍ ما تبرعُ بِه ولو قلَّدتها الأُخرى لما أحرزت ذاتَ النَّتيجة، رغمَ أنَّهمَا ملكٌ لجسدٍ واحِد، كذلِك الألباب. "

أظنُّني بارِعةٌ في الحبّ، مِثلما أنتَ بارِعٌ في التملُّك.

أحاطَت أنامِلي برقبتِه، فأغمَض عينيه بخُمول.

" آن الأوانُ لتكفَّ عن تقليمِ أظافِر خيباتِك، سيِّدي. "

كثيرًا ما تساءَلت، هل بقيتُ على قيدِ الحياةِ لأصلِحَه؟

-

اشتِباكُنا أزمةٌ روحيَّة، مجهولةُ المحَلّ، لا مُحِلِّ لها، ولا حَلّ، مع كُلُّ قُبلة طائِشةٍ تخترِقُ صدري، وكُلُّ لغطةِ وفاة تذيعُ مِن شفتيَّ لحظَة بُلوغي أواخِر العُمر في الاحتِمال، وكُلُّ غلبة، جُزءٌ مِنِّي يكَفَّنه كفَّاك، شاهِدُه بصماتُك.

ما بينَنا باهِر كظاهرةٌ كونيَّة، دائِمةِ التكرُّر، يخشَعُ لها البَصر، ومواعيدُنا الحميميَّة مُعجزاتٌ مُتعجرفة، تتباهَى بِما أصابَنا، حتَّى مُحادثاتُنا الروتينيَّة الَّتي قد تبدو عاديَّة، استِثنائيَّة، يستحيلُ أن تتشبَّه ببعضِها، فلكُلِّ كلمةٍ مِن ثغرِك مذاقُها، رغم أنَّ جميعَها حُلوة، مهما بلَغت مِن المَرارة، وإن اشتَركت في سِمةٍ لهي الفتك.

هِي المرَّةُ الأولى الَّتي أعيشُ فيها اليومَ بيومِه، والمرَّة الأولى الَّتي تتوالى فيها عليَّ الدَّقائِقُ بملامِحَ مُختلفة، تتَنافسُ على الفوزِ باستِحساني، كأنَّ معرِض الزَّمنِ قد امتلأ بلوحاتٍ آسرة، كُلٌّ مِنها تحثُّني على التريُّثِ والتدبُّر حتَّى وإن أدرَكني الأجل قبل اختِتامِها، لوحاتٌ وُلِدت على يديِّ فنَّان غيرَ الهاوِي الَّذي اعتَاد تزيين أروِقتِه العَجوز برُسوماتِ الموت، الَّتي لطالَما زرَعت فيَّ رغبةً في الاستِعجالِ، وإدراكِ المُنتهى أيًّا كان!

وللمرَّةِ الأولى تقتتِل الأشهُر والأيَّام على التميُّز، بعدَما عشتُ سنواتٍ مُتمَاثِلة، مِن سماتِها البَشاعَة، ما يتبدَّلُ فيها إلَّا أرقامُها على ناصيةِ التَّقويم، كأنَّه بأنامِله نحتها جليَّة، وفي مُقلتيه تصفَّى الوقتُ مِن الآهات.

لقد أدبَر مِن المنزِل مُجدَّدًا دونَ أن يُعلِمني بموعِد مجيئِه، يُخبرني أنَّه مُرغمٌ لا مُغرَم، ما أزالُ غيرَ قادِرة أن أعتادَ على فتَراتِ غِيابِه، ولا على قمعِ هواجِسي، رغم أنَّه نفاها ذاتَ يوم، ليسَ لأنِّي لا أصدِّقُه، بل لأنَّه في نِطاقِ أُنثَى جذَّابة ولو ما لانَ قلبُه لها لجثَت لها غريزتُه... أخافُ أن يُعلِن ولاءَه في لحظةِ مخمورة!

دوامِي الجُزئيّ ابتدأ للتوّ، حيثُ التحفتُ ثيابَ العمَل كبقيَّة الزُّملاء، قميصٌ بُرتقاليّ على واجِهتِه طبعةٌ لرأسِ دجاجَة، وبنطلونٌ أسود يُحوِّط خصريّ بمَتانَة، أمَّا شعري فسرَّحتُ ذوائِبه مِن ناصيَتي وثبَّتُها إلى الوراءِ بمشبكٍ لئلَّا تتواطأ مع النَّسماتِ المسائيَّة على إزعاجِي، ثُمَّ غادرتُ غُرفة التَّغيير، مُتأهِّبةً لتأديَة أولى مهَامي.

كانَ الجميعُ في موقِعه، مِن المالِك الأشيَب المسؤول عن قليِ الدَّجاجِ وِفق وصفتِه الخاصَّة المحبَّبة لدَى العديد مِن الزَّبائِن، رفقةِ ابنِه الأصغَر الَّذي يلتحِق بالمطعَم عقِب انتِهاءِ مُحاضراتِه، إضافةً إلى نادِلين يتجوَّلانِ بينَ الطَّاوِلاتِ، وعامليّ توصيل، أنا ويوسانغ، الفتَى ذو الشَّعر الأشقَر، والمُحيَّى المَليح بجِواري.

" لأنِّي شابّ نبيل سأتكفَّل بتوصيل طلبيَّات مقرِّ التحرير بحيِّ يونغ سان وما جاوَره بِما أنَّه بعيدٌ عن هُنا، الأخرى لكِ. "

" فلتتذكَّر أنَّك صاحِبُ العرض، لا تنتظِر مِنّي شُكرًا. "

أخذتُ الكيسَ الأنحَف، وسبِقته إلى الشَّارِع حيثُ ترتِكن درَّاجتا توصيل، يثِبُ على خلفيَّتِهما علمٌ بُرتقاليّ، عليهِ شِعارُنا، في البادِئ كُنت جاهلةً بكيفيَّة قِيادتِها، ولكنَّ هذا الفَتى تولَّى تعليمي قبل أن يكتشِف المالِك أمري.

أقابِل باستِمرار أشخاصًا يُشعِرونَني بالذَّنبِ لأنِّي أدرجتُهم ضِمن خانَة الجميعِ كُلَّما قُلت بينِي وبينَ نفسي أنَّهُم في المكرِ سواسِية!

احتضنت أنامِلي الخوذَة، وقبل أن أضعها على رأسِي سهيتُ لبُرهة، كُنت سعيدةً لأنِّي سأقبِض راتِبي اليوم، أي أنَّ بحوزَتي مُهلةً كافيَة لتصميم حفلةٍ بسيطةٍ مِن أجلِ بيكهيون. وُلِدت ابتِسامةٌ صريحةٌ على ثغرِي، لكنَّها انقرَضت حينَما ضجَّ الألمُ في مِعصمي، وارتدَّ جسدِي بياردةٍ هزيلةٍ إلى الوراء، مُستقبِلًا قامَته.

" ما أنت بفاعلتِه؟ "

هجَّأتُ اسمَه بفزع.

" أجاشِّي! "

الأزرقُ في مُقلتيه كان يغلي كالسَّعير الحامِي، متوعِّدًا بهلاكِي.

" مُنذ مَتى وأنتِ تعمَلين هُنا دونَ عِلمي؟ "

لم يُتِح لي أيَّة فُرصةٍ للشَّرح، وحتَّى وإن لي أُتيحَت فماذا عسايَ أقول؟

اشتدَّ وثاقُه حولَ مِعصمي، وغشيت أنفاسُه المُهتاجةُ صوته.

" لا بل مُنذ مَتى وأنتِ تحيكين الأكاذيب على مسامِعي للتستُّر على حقيقةِ ما أقدمتِ عليهِ مِن ورائِي؟ أيومَ أخبَرتني أنَّك غادرتِ لإلقاءِ القُمامَة؟ أم قبله؟ يومَ أخبَرتني أنَّك تعرضتِ للاحتِجازِ عقِب الدَّوامِ بسببِ إهمالِك؟ "

ما أخلى بينَ سطريه إلَّا قيدَ ضِحكةٍ مُتقهقِرة.

" لقد تفوَّقتِ عليَّ في التَّمثيل بجدارة. "

ورغمَ قسوةِ ما أنا واقِعةٌ فيه إلَّا أنِّي رجَّحتُ حِمايَة مُفاجأتِي على حِمايةِ فُؤادِي.

لحظَتها انفضَّت الكلِماتُ مِن حولِي، فلملمتُ ما علِق في جُعبَتي، رغمَ أنَّه لن يخدِم مصالِحي... كانَ الأهمُّ أن أنطِق.

" هل أنتَ تُطارِدُني؟ "

" هل اشتَقتِ للعصا؟ "

سقطتُ مِن جفنيه كورقةِ خريفٍ جافَّة، قبل أن تسحَقني أقدامُ جورِه، إذ جرفَني إلى السيَّارةِ قسرًا، مُهمِلًا الوجيعَة الَّتي بثَّها في المُضغَة المحبوسَة بينَ مخالِب سُخطِه.

أبلَج البابَ، ونفَث أمرَه القاطِع كالمَوت.

" اصعَدي. "

ولَج إلى مقعدِه مِن الضفَّة الأُخرى، وانطَلقَ بِنا إلى موصلٍ غير معلوم، لعلَّه يُخطِّط لجريمةٍ مسرحُها المنزِل، حيثُ لا تُثنيه الأبصار!

بعدَ أن أفرَغ خزينَتي مِن ذخيرَة الصُّمود، داهَمني وأنا في عزِّ قلقَي مِمَّا هُو آت، بينَما بصرُه مُتشبِّثُ بالزُّجاجِ الأماميِّ للسيَّارة، كأنَّه خائِفٌ عليَّ مِن بطشِه لو بطَّنته هيئَتي بالمزيدِ مِن الاستِفزاز.

" كيفَ تجرئين أن تتطاَولي على حُدودِك، وأن تكذِبي عليَّ لأمدٍ ما يعلَم عُمره إلَّاك، وقد حذَّرتُكِ مِن عواقِبه؟ هل لأنَّني تساهلتُ معكِ بالآونةِ الأخيرة خِلتني سهلًا لا أنفُخ في تهديداتِي روحًا؟ لاشكَّ وأنَّك تستَميتين لرُؤيةِ وجهي البشِع."

أفرَج عن سُجناءِ رئتيه بسخاء.

" لا أصدِّق أنِّي قد خُدِعت مِن قِبل طِفلة، يا للمهانَة! "

أيٌّ كانَ ما سأقوله فلن يُرطِّب جوَّهُ الحارّ، لأنَّه رجلٌ حالَما تعمُّ الفوضى صدرَه، لا يُصغي سِوى لما يدورُ بعقلِه، لكنِّي لم أستطِع تحمُّل كُلفَة الصَّمت، وبحُرقةٍ سرَّحتُ الكلِم مِن وغى صدري.

" وما الذَّنبُ الَّذي اقتَرفتُه ببحثي عن عمل؟ لا يُمكِنني الاعتِماد على بِطاقةِ الائتِمان الَّتي منحتَها لي في قضاءِ كامِل شؤوني، ثمَة ما لا يسعُها شِراؤًه رغمَ أنَّها مُتخَمة الرَّصيد... لقد كُنت بحاجةٍ إليهِ حقًّا."

تكمَّش حاجِباي، وتطرَّزا بالتوسُّل.

" لا تسألني لماذا أنا أرجوك، ألا تثِق بِي؟ "

بداخِله نارٌ تكويه، أعصابُه تتآكل، وذلِك واضح.

" أتخالينَ أنَّ القضيَّة قضيَّةُ ثِقة؟ أما تزالين تجهَلينَ ذنبكِ حقًّا؟ لابدَّ وأنَّكِ ساعيةٌ خلفَ تمزيقِ أعصابِي الَّتي بليت بالفِعل والفضلُ لكِ، أمتشوِّقةٌ أنتِ لهبوطِي عليكِ كبلاءٍ لا تُحمَدُ عُقباه؟ "

في آنٍ مُشبعٍ بالسُّكونِ انفَجر كالقُنبلةِ الموقوتَة.

" متَى كُنتِ تنوينَ إخبارِي؟ "

حينَما أغلَق بوجهِي كامِل أبوابِ التَّفاهُم، نفذتُ مِن الثَّغراتِ الكامِنة بينَنا.

" لِم ينبَغي عليَّ أن أستشيرَك في كُلِّ ما أُقدِم عليه؟ لستَ فردًا مِن عائِلتي، حتَّى أنَّ العلاقَة بينَنا مُعفاةُ مِن الاكتِراث. "

لسوءِ حظِّي كانت الإشارة حمراء، انحلَّت يدُه المكينَة مِن المِقود وانعَقدت حولَ رقبَتي، وكأنَّه هُو المَحرومُ مِن الهواءِ غمغم.

" أنتِ تحتَ رحمَتي ومُقيَّدةٌ بقوانيني، ومن واجِبك إعلامِي بكُلِّ خُطوةٍ قبل أن تخطيها، لستِ مُخيَّرة يا هذِه. "

لا أُنكِر أنَّ الخوفَ قد أحرَق شِبرًا مِن فُؤادِي، ولعلَّه مَن قوَّلني.

" عيدُ ميلادِك بعد يومين، لقد أردتُ أن أفاجِئك... كُنت سأُخبِرك لاحِقًا. "

ارتَخت قبضتُه حولَ عُنقي رويدًا رويدا، حتَّى انحلَّت تمامًا. تزامُنًا وانزياح بصري عن سِكَّتِه الَّتي باتت مُكتظَّة بالحيرَة، اعوجَّت نبرتي.

" لقد عمِلتُ بجدٍّ حقًّا. "

التَهمنَا الصَّمتُ أحياءً دُفعةً واحِدة، وما اقتَدر أيٌّ مِنَّا على مُبارَحةِ بطنِه، بالأصحِّ لم نودَّ ذلِك... طوال الطَّريقِ إلى المنزِل وبالِي مشغولٌ بمآلِنا، مِراسُه صعب، وأحيانًا يُخيَّل لي أنِّي لن أنجُوَ فيهِ حتَّى الأبد، هذِه الفِكرة لوحدِها تُرعِبُني.

في الماضي تشاحنَّا لأسبابٍ تافِهة أيضًا، ورغمَ أنَّا قد كِدنا نهلِك إلَّا أنَّ خسائِري ما صبَت الحصيلَة الَّتي صبتها اليوم، لم يكُن سهلًا عليَّ أن أتأقلَم معَ العمَل، أو أُوفِّق بينَه وبينَ المَدرسة، لكنَّ غضَبهُ أفسَد كامِل مخطَّطاتِي.

ارتَحلت مِن سيَّارتِه أوَّلًا، ثُمَّ صعدتُ إلى المنزِل بدونِه، واصطفيتُ المُكوثَ في غُرفةِ مُيولِه، تفادِيًا لأيِّ اصطِدام غير وديّ قد يحدُث بينَنا.

رغمَ أنَّه أجرَم بحقِّ عواطِفي، بكلِماتِه أدمى شِغافي أسًى، وما تخفَّض عن كِبره ليأسَف، إلَّا أنِّي لم أتنازَل عن ضنكِ شهر كامِل؛ فبالأمسيةِ الَّتي تسبِق ميلادَه، بمُجرَّد إعلانِ اليومِ الدِراسيّ عن نهايتِه، عرجتُ على المطعَم لأجلِ راتِبي، ثُمَّ اتَّجهتُ إلى محلِّ الحلويَّات؛ مِنه انتقيتُ كعكَة الفراوِلة، مُذ أنَّ لنَا وهذِه النَّكهةَ ذكرياتٌ حلوةٌ مِثلُها، وشمعتين يُشكِّل شملُهما عُمرَه، ومِن محلِّ التُّحَف هديَّة غُلِّفَت بغلافٍ أزرق كعينيه.

بالباقِي اقتَنيتُ بعضَ مساحيقَ التَّجميل لتهذيبِ عيوبي، وستر ندوبِ الإرهاقِ في وجهي، لديَّ بالفِعل فساتين لائِقة لسهرةٍ عاطفيَّة كهذِه، وأحذيةٌ أُنثويةٌ هُو مَن أحضرَها حينما تطوَّع لملءِ خِزانَتي، فما عصِيَ عليَّ التأنُّقُ وإصابَة أعظَم مدًى مِن الجمال لأجله، بفُستانٍ أحمَر مُخمليّ، ضيِّق الخصر، مكشوفَ الظَّهر!

لستُ طاهيةً بارِعة لذلِك طلبتُ البيتزا مِن مطعمٍ موثوق، ثُمَّ زيَّنتُ الطَّاوِلة الزُّجاجيَّة في غُرفةِ الجُلوسِ بشمعدانين، تتوسَّطُهما الكعكَة، أتساءَل لِم أُهديه عفوي، دون أن يسألَه... وبينَما أُعايِن تُحفَتي الفنيَّة تشبَّع فمِي بالسُّخرية.

" يا للمهزَلة، أيستحِق ذلِك الهرِم ما أفعلُه مِن أجلِه حتَّى؟ "

جلستُ على الأريكةِ لوقتٍ طويل، لستُ بحاجةٍ لسؤالِ السَّاعة حتَّى أعلَم أنَّه قد تأخَّر كثيرًا، تردَّدتُ في الاتِّصالِ بِه، لكنَّ الأرقام دنَّست السَّاعة الصِّفر، وفقدَت جهودِي مذاقَها بالفِعل... وجدتُني ودونَ وعيٍ أنقُر رقمَه الَّذي صارَ مُدوَّنًا تحتَ اسم ذنَب الأرنب، بدَل الجِنرال مُنذ زمن، كِنايةً عن تسريحَة شعرِه الرُّوتينيَّة.

سألتُ بكِبرياء ما إن فُتِحت النَّافِذة بينَنا:

" لِماذا لم تعُد إلى المنزِل حتَّى الآن؟ "

لم يكُن صوته ما انبثق مِن السمَّاعَة، بل صوت رجل غيره.

" بيكهيون مشغولٌ حاليًّا. "

موسيقى، وقهقهاتٌ فاضحَة، لاشكَّ وأنَّه في المَلهى!

-

في لحظاتٍ محفوفَةٍ بالغضَب وحيثُ تغدو مُلازَمة سقف الصَّمتِ فضيلةً أتغرَّبُ عنه، رغمَ أنِّي غيرُ مُعتادٍ على التِّرحال، ورغمَ أنِّي لم أصِل يومًا إلى برِّ الأمانِ!

لستُ رجُلًا يُجيدُ التحكُّم في أعصابِه إذا ما تسيَّبت، وكسَرت محلَّاتِ المنطِق فيه، رغمَ أنِّي أقتادُ بأنامِلي أجسادًا كامِلةً إلى الجُنون، عجيبٌ كيفَ أعجزُ عن تمالُك ذاتي كُلَّما مسَّتها نوباتٌ مِن الغضَب، كأنِّي أنشطِر إلى شخصينِ لا يمتَّان لي بصلة، أنا الَّذي كثيرًا ما تملَّكتُ غيري على شاكِلةِ نوباتٍ عاطفيَّة ضاريَة!

أنا الَّذي لطالَما انتَصرتُ في حُروبِ الأفرِشة مهما بلَغ عدُوِّي مِن الورَع، أُهزَم أمامَ نفسي هزائِم نكراء كُلَّما غزاها السُّخط وعمَّر بينَ ثناياها، ويصيرُ لي هذا الجسَدُ كفنًا، وثرَى، كأنِّي أوأد بداخِله، بلا قُدرةٍ على الحراك.

كثيرًا ما قلبتُ طاوِلاتِ التَّفاوُض على أهلِها بعجرفة لمُجرَّد أنَّ شهيَّتي إلى الاستِماعِ مسدودَة، وكثيرًا ما تغيَّبتُ عن مجالِسِ الصُّلح، وأوصدتُ جميعَ معابِر التَّفاهُم، حتَّى وإن كُنت في هذِه القضيَّة الخاسِر الأعظَم!

أعي أنِّي قد بالَغتُ في ردَّةِ فِعلي، ولا أُنكِر أنَّها استحقَّت أكثَر مِمَّا صنعتُه بعواطِفها يومَها، كونِي السَّببُ لن يمحوَ اعتِداءَها على قوانيني الجبريَّة، بيدَ أنَّ مُخاطرَتها بالحِياد عنِّي مِن أجلي شفَعت لها عِندي، وداعَبت شِغافي.

هل كانت ردَّةُ فعلي لتختلِف لو أنِّي علمتُ في الآن المُناسِب؟

كانَ يسيرًا عليَّ الاهتِداءُ بالقُنوطِ الَّذي ترقرق في مُقلتيها حينها، إلى أنَّها أرادَت الاحتِفالَ معِي بأوَّلِ عيدِ ميلادٍ لي معَها، بأوَّلِ سنةٍ مِن عُمري ستتفتَّحُ مقلتاها عليها وتتنفَّسُ عقبَها مُنذ الوهلةِ الأولى، أشكُّ في أنَّها ما تفتأ راغبةً بذلِك.

كما أنِّي عالقٌ في خطَّة سيهون الاحتِفاليَة مُنذ قُرابَة السَّاعَة؛ استَدعاني بغتةً إلى منزِله مُتذرِّعًا بشؤونِنا المُشتَركة، لأصطدِم بحاجزٍ بشريٍّ يُطلِق عليَّ المُفرقعات، ويُهنِّئُني بعيدِ ميلادِي عِند المَدخل، تشانيول، والزَّوجان كيم، كذا قبيلةً مِن معارِفنا، وبعض فتياتِ الهوَى للتَّسليَة، كما هُو المُتوقَّع مِن سيِّد اللَّيل، أوه سيهون.

سُحِبت رغمًا عنِّي إلى حديقةِ قصرِه الفسيحَة، كانَت مأهولةً مِن قبل طاوِلاتٍ مُستَديرة ذات أغطيةٍ ناصِعة كالظَّلم، وأُخرى طويلةٍ تستقِبل الوُقَّف فقَط، أمَّا مُشغِّل الموسيقى فيحتلُّ وأجهِزته دُبرها، قريبًا مِن السُّور الَّذي يحُول بينَها وبينَ الشَّارِع، سبَق وأن قطَّعنا الكعكَة مُتعدِّدةِ الطَّوابِق، الَّتي قدِمت إلينا محمولةً على عربَة، ثُمَّ غُصنَا في أحاديثَ وديَّة، كثيرًا ما تملَّصت مِنها إلى شطِّ الصَّمت، وبخلتُ بالكلِم.

حبَّذا لو أنِّي افتَتحتُ طابقًا آخر مِن طوابِقِ عُمري على معزوفاتِها المَوجوعَة، وهِي على حافَّة النَّشوة!

غادرتُ الطَّاوِلة الَّتي لمَّت شملنا حينَما نقَر أحدُ معارِفي على كتِفي؛ هُو طرفٌ هامٌّ في التَّرويج لحملة حماي، بعدَ أن أوفيتُه نصيبَه مِن وقتي عُدت إلى مقعدي، حيثُ كانَ الجميعُ قد آووا إليها للاستِراحَة مِن الرَّقص.

جلستُ ما بينَ سيهون وتشانيول، قُبالَتي سوجين المَحصورةِ بينَ زوجِها وتشانيول، مُذ أنَّه أكثرُ مَن تستَلطِفُه بينَنا، هي لا تبذُل أيَّ مجهودٍ في إخفاءِ نُفورِها مِنَّا، إذ تعدُّنَا جلساء سوءٍ، تخشَى أن ننقُل العَدوى لزوجَها العفيف!

سُترتي الدَّاهِمة مُعلَّقة على ذِراعِ الكُرسيّ، ونصبَ عينيَّ كأسُ شامبانيا مُتلألِئ يُشارِف على النّفاد، وطبقٌ عليهِ حصَّتي مِن الكعك الَّتي ما فرمتُ مِنها سِوى لُقمتين؛ لستُ مِن محبِّي السكَّريَّات... وبينَما نحنُ في حديثٍ سطا على غالبيَّته تشانيول وجونغ إن كالعادَة، أظلَم بصري، وسالَ صوتٌ مُحبَّبٌ إلى خاطِري في أذنيّ.

" فلتحزر مَن أنا؟ "

سادَ صمتٌ مهيبٌ مجلسنا الَّذي لم يغدر بالصَّخب قطّ، ربَّما لأنَّها فوضَى عارمة كُلَّما هبَّت سحَقت جميعَ الأصواتِ لأجلِ أن تطغى!

أخفضتُ يديها على عجل، وأحطتُها بنظراتِي المصدومَة مُتحرِّيًا صِدق ما رصدته مسامِعي، فالمُنبهِرة مِن الفِتنة الَّتي تلاطَمت في سمائِها الصيفيَّة، كانت مُماثِلةً للوحةٍ مسائيَةٍ مُنهِكة؛ مُقلتاها مسطَّرتان بالإثمِد، وشفتاها معبَّدتان بالحُمرَة، ما للبصرِ إلَّا أن يسيرَ عليهِما عابِدًا رغمَ عقائِدهما المعطوبَة، أمَّا جسدَها فمُحتَجز في فُستانٍ دمويّ، يبوحُ بالكثير عن خرائِط كنوزِها الَّتي شِئتُ لو أدفِنُها في مُقلتيَّ حتَّى الأبَد.

نثَرت صنَّانير مُقلتيها بينَ الأوجُه الَّتي تقاسمني ذاتَ المرتَع، لعلَّها تصيدُ ملامِح مألوفَة، بغُرور امرأة جسَّدتها ببراعَة اليوم. لم تُطأطِئ رأسَها إلَّا لتطأ رصيفيَّ اللَّذين يكادُ الغضبُ يفوقُ سِعتيهما، ويسفَح على جنبيهِما.

" نِعم ما تمتلِكُه مِن أصدِقاء، الحفلة تبدو أنيقَة كما يليقُ بِكَ، سيِّدي. "

لفَحني أثيرُ تشانيول المُطعَّم بالخُبث مِن قُبُل.

" مَن هذِه الجميلة بيكهيون؟ "

بقدرِ ما تحجَّر في حفيظَتي مِن غضب، خنَقت أنامِلي مِعصَمها وضيَّقَ فكَّاي الخِناقَ على الكلِم، فطلَع مِن بينهِما مُعاقًا، وما قصَّرت سِياط عينيَّ في جلدِ الوقاحَة الَّتي تحكمُ بلاطَها الفاخِر.

" ما الَّذي جاءَ بكِ إلى هُنا؟ "

انحَدرت بضعَة درجاتٍ نحوي، وفصَّلت نبرتَها على قدِّ المَجالِ الَّذي صمَد بينَنا، لئلَّا تتسرَّب عن أطرافِه، ولا تبلُغ أيًّا مِن جيراني.

" أتيتُ للانتِقام مِنك حضرةَ الجِنرال. "

ثُلَّة مِن الأعيُن ميَّزت ماهيتَها، إذ شبكَهم الزَّمنُ وإيَّاها سلفًا، سيهون الَّذي لوَّح لها ثغرُه ببيارِق غامِضة المغزَى، لم تلقفها لأنَّها كانت مُنهمِكةً في تمييزِ البقيَّة، كذا جونغ إن وسوجين اللَّذين أطلقا العِنان لصدمتيهما تِباعًا.

" كيم مينِّي؟ أهذِه أنتِ حقًّا؟ "

" لا أُصدِّق عيناي، أنَّى لكُما بمعرِفةِ أحدكما الآخر؟ "

لأنَّهُما في مرمَى بصرِها على غِرار تشانيول وسيهون، فلابدَّ وأنَّهُما أوَّل مَن تعثَّرت عدستاها بهِما، لكنَّها تظاهَرت بالنَّقيض؛ مشَقت جسدَها باستِقامة، وأفرَجت عن نضدِ أسنانِها، كأنَّها تُحاوِل التصرُّفَ بروعة.

" أستاذيَّ هُنا أيضًا، ظننتُ أنَّها سهرةٌ شبابيَّة فقَط، لحسنِ الحظِّ أنَّ بصحبتكم عُنصرًا نسويًّا متشدِّدا، أشعُر بالاطمِئنان. "

أرسَت يدها على كتِفي، مُفصحةً أنِّي مَن خشيت عليهِ فِخاخ اللَّيل، لحظَتها تمنَّيتُ لو أنَّ بمقدوري حملها على كتِفيَّ والهرب مِن هذَا المحفلِ إلى المنزِل المَختومِ بخلوةٍ كتومَة، حتَّى ألحِق بِها كُلَّ مُقترحاتِ غضبِي.

لم أُقدِّر غباوَة ما فُهت بِه لفرطِ الاحتِقان إلَّا حينَما استَحال التَّراجُع عنه.

" غادِري، لا يوجَد كُرسيّ لكِ بينَنا. "

كانَت مُلقَّحةً ضِدَّ نزلةِ الإهانَة الَّتي هدَّدتها، فما يزالُ إشراقُها الزَّائِفُ مُتماسِكًا.

" لِم قد أحتاجُ إلى كُرسيّ وأنتَ موجود؟ "

ما كِدتُ أهتَدي إلى المغزى الكامِن خلفَ أميالٍ مِن الضَّبابِ المُحتشِد في مُقلتيها الآسنتين، تفتُكانِ بكُلِّ مَن يرتشفُ مِنهما، حتَّى نزَلت بحِجري، أسدَلت ساقيها مِن جهةِ تشانيول الَّذي يستَوطِن جِنبيَ الأيسَر، وبِخدِّي ألقَت لعنَة مِن لعَناتِ شفتيها، مُتعمِّدةً أن تدقَّ أوتاري بلمساتٍ آثمة، بعثَرتها على صدري.

" عيد ميلاد سعيد، أجاشِّي. "

تعمَّدت أن تنشبَ بينَ جفنيَّ كحريقٍ مكين، يستحيلُ أن أنجُوَ مِنه دونَ فِدية، مُنذ أن احتكَّت بِي.

هوَّدت على أثرِها بأنامِلها الدَّافِئة، في حين رصَّت يدُها الحُرَّة إلى كفِّي عُلبةً زرقاءَ الغِلاف، لم أستطِع تخمينُ مُحتواها.

" هذِه هديَّتُك. "

لقد حصرتني في موقفٍ لا أُحسَد عليه، سُلِّطت عليهِ كافَّة الأفواه كالأصفادِ ضمَّت يديَّ، ثُمَّ صلت مدارَه بضرامِها فما رأيتُ سِواها، وعجزتُ عن صدِّ سِحرها الَّذي أنارَ هذا السَّحَر، وسِعني نفيُها عنِّي، أو طعنِها بجفائِي كغيرِها مِن فتياتِ اللَّيل كُلَّما اقتَحمن محارِمي بِلا إذني، لكنَّ يدايَ مُكتَّفتان خلفَ ظهرِ الهُيام!

زلَّت أهدابِي بعدَّة أفكارٍ عمياء، برأَها بالي وتبرَّأ مِنها في دربي، أفكارٌ مُصابةٌ بتشوُّهاتٍ خُلقيَّة، وأُخرى تعِدُ بأن تعيثَ في هذِه الحسناء تشوّهات خَلقيَّة.

مال بصرُها عنِّي، وسُحِبتُ وإيَّاه، كأنّها ربطَت حِبالَها بأعمِدتي.

" لا تتعثَّروا بشكوكٍ خاطِئة، فهُو بعمرِ والِدي لو كان على قيدِ الحياة، كُلّ ما في الأمرِ أنِّي أشعُر بالامتِنان له، امتِنانٌ أبديّ. "

بعدَما أعتَقت ما تكدَّس في فمِها، التَقطت الصَّحن الَّذي انقطَعتُ عنه قبلِ وصولِها، حمَلته على كفِّها، وراحَت تحفِر قِطعةَ الكعكِ المُتبقيَّة فيه بالشَّوكَة، كأنَّها قدِمت بطريقةٍ مشروعَة.

في أذنِها فححت.

" مينِّي، هل فقدتِ صوابَك؟ أم أنَّ جِلدك يحُكّك؟ "

نضبَت الحركَة في جسدِها، حتَّى أنامِلها المتوطِّدة حولَ الشَّوكةِ ثوت الصَّحن بلا حولٍ لها ولا قوَّة، أمَّا نظراتُها فتشرَّدت في الأفقِ، مُرورًا بجونغ إن، استَطعمت المَرارَة في ما سقَتني بِه، حيثُ أَنَّ بُؤبؤاها بِلا حِسّ.

" رغمَ أنَّك أعدَمت مُفاجأتِي لكَ، إلَّا أنِّي لملمت أشتاتَها في خرقَة كرامَتي المُمزَّقة، وجهَّزت للاحتِفاء بميلادِك، بالنِّهايةِ ستُفاجأ لأنِّي حرَّرتُ نفسي مِن الضَّغينة في صدري، انتظرتُك في المنزِل لأكثَر مِن ساعَة، لكنَّك ها هنا تستمتِع برفقةِ أصدقائِك، مُتجاهلًا مُكالَماتي. "

ما لبِثت وأن ارتَدَّت إليَّ مُحمَّلةً باليقين، ولو رثَّ قِماشُه.

" لقد جهَّزتُ نفسي لأكونَ هديَّتَك، ولكن شاء القدَر أن أكونُ عِقابك. "

انزَلقت يدي على ظهرِها العاري، وكردَّةِ فعلٍ على القشعريرَة الَّتي استعمرتها استلَّت مسامُ جسدِها خناجِرها النَّابيَة. أكادُ أجنُّ لأنّها جعَلت مِن جسدِها مرفأً لكُلِّ مَن هبَّ ودبّ، كم رجُلًا اعتَدى على مفاتِنها بنَظراتِه، وكَم رجُلًا حطَّت بفِكره كوجبةٍ دسمةٍ لم يتوانَ في اللَّقم مِنها، وكَم رجُلًا جعَلها بطلةً لرِوايةٍ إباحيَّة!

" حتَّى وإن استَهلكتُ اللَّيلَ برمَّتِه فُرادَى، فطبيعةُ علاقتِنا تسلُبك حقَّ التذمُّر، وتلقيني درسًا في الاهتِمام، ثُمَّ ما هذا الفُستان الَّذي ترتدينَه؟ "

برَت نبرتَها حتَّى دقَّت.

" لقد لبستُه لكَ وحدَك، أردتُ أن أكونَ أوّل من ترتشِفُه نظراتُك، ولكنَّك أرغَمتني على مُشاركتِه والجميع. "

" أمستعدَّة أنتِ لدفعِ ثمنِ تصرُّفاتِك الفاحِشة هذِه اللَّيلة؟ "

بعدَ زوالِ تأثيرِ مُقلتيها، وانحِلالِ قيودِ العَيانِ حولَ مِعصميّ، فإنِّي سأعيثُ بِها فسادًا بليغًا، قد يستحيلُ عليهَا درأُه ما حيِيَت، بمجيئِها هِي أعلَنت الحربَ على غضَبي، وما هِي بغريمٍ له، لكنِّي المُخطئ لأنِّي تهاونتُ في ترويضِها، وفي كُلِّ مرَّة كُنت أُبطِل عِقابَها ما إن تبانَ معالِمه، وأُدرِك أنَّه قد يُغرق قارَّة مِن قارَّاتِ عواطِفها.

تعدَّدت فحوى النَّظرات المُرسلةِ إلينا، ما بينَ الصَّدمة، الغضَب، والاستِغراب، عدا أنَّ سيهون طرقَ كتِفها بسبَّابتِه يُنبِّهُها إلى وجودِه، مُذ أنَّها تُعطيه بظهرها... هُو يتصرَّفُ بغرابة، كأنَّه توقَّع مجيئَها!

" ها قد التَقينا مُجدَّدًا، وعُرِف سببُ تسريحَة القرنين. "

للتوِّ لاحظَته.

" أوه، صاحِب المَلهى. "

قبلَ أن تلفِظ أيَّة كلمةٍ تغشاها الأنوثَة، مِن بوقيها الخنَّاسين، جنَّدتُ سُترتي على كتفيها لتحجُبَ أملاكِي عن أرماقِ العيونِ الطَّامِعة. ربَّما أخفيتُها عن مرآيَ أنا الآخر، لأُنقِذ ما يسعُني إنقاذُه مِن أنفاسِي الَّتي كانت رهن فتنتِها، حتَّى كِدتُ ألهثُ حاجةً للهواء. هِي فضاءٌ لن ينفَعني فيه إلَّا تنشُّق القُبل، أو أكثَر مِن ذلِك!

رمَت بلوحةٍ مُستفزَّة لمُحيَّاها في سعيري، حيثُ وُلِد بينَ شدقيها نجلُ الخطيئَة، دونَ أن يرفَّ لها جفن.

" ما الَّذي ستفعلُه حِيالَ فخِذيّ؟ "

" اللَّعنة عليكِ. "

وبينَما نحنُ نتَهامَسُ على طاوِلة النِّزاع، تخلَّل الموسيقى صوتُ جونغ إن المُستاء.

" بيكهيون، مينِّي، فلتَشرَحا لي ما الًّذي يجري هُنا، مُنذ متَى وأنتُما مُقرَّبان خارِج إطارِ العَمل؟ لا يُعقَل أنَّ الإشاعات الَّتي تدور في الثَّانويَّة صحيحة، أخبِرني أنَّك لستَ الرَّجُل الَّذي يدَّعي الطُّلابُ أنَّه راعيها. "

تولَّت مينِّي مهمَّة الإجابَة، غيرَ مُكترثةٍ للانتِقادات الَّتي قد ترجُمنا سويًّا، مُذ أنِّي لم أُفكِّر ولو لثانيةٍ في الإبحارِ بِهم إلى ساحِل، لا بأسَ معِي إن ظلُّوا عالِقين في عرضِ فهمِي، عاجزين عن إدراكِ الحقيقَة.

" وما الَّذي بدَر مِنَّا لتصدُق ادِّعاءاتُهم حيالَنا؟ ليسَ وكأنَّ أبصارَهم قد ضبَطتنا في خلوةٍ خليعة؟ هُم لا ينفكُّونَ يعجنون الأوهامَ مِن فُتاتِ الحقيقة، ليلوكوا سيرَتي ليسَ إلَّا. لقد أتَى إلى الثَّانوية بصفته وليَّ أمري، وأنقذَني مِن موقفٍ كانَ سينتَهي بطردي لمُجرَّدِ أنِّي لُقمةٌ سائِغةٌ لذوي النُّفوذ الشَّرس. "

هدَمت قطعةً مِن الكعكِ بالشَّوكَة، ثُمَّ ملأت بِها فمَها.

" حتَّى وإن كانَ ما يجمعُنا نقيًّا، لاختَلقوا الشوائِب لمُجرَّد أنِّي المعنيَّة بالقضيَّة. "

قرصتُ فخِذَها العاري عِقابًا على اعتِرافِها المُبطَّن، وجازَتني بالتِفاتَةٍ مُشتعلة، انطفأَت مِن بعدِها وما فتِئت أتفحَّم متعطِّشًا للارتِواء مِن ينابيعِها. رغمَ أنَّها مُقيمةٌ بِي، إلَّا أنِّي محصورٌ خلفَ قُضبانِ الملأ، أيُّ حركةٍ تصدُر عنِّي ستُؤرَّخ.

ردَّ جونغ إن باستِنكار:

" الآن وقد اجَتمعت كامِل قِطع الأُحجيةِ في رُقعةٍ واحِدة، اتَّضحت الصُّورة، وباتَت ذات معنًى أخيرًا؛ الرَّاعِي الَّذي ظهَر فجأة، والاختِلافُ الَّذي طرأ على روتينك، ألذلِك واصلتَ سُؤالي عنها باسمِ مصالِحك؟ "

استَلمتُ دفَّة الحديثِ عنها لأصُدَّ عن كِبريائِي ما قُذِف بِه، مُبرَّد الجفنين.

" لم أسأل لأنِّي أهتَم، بل لأجلِ سُمعتِي. "

لم تكبَح سوجين نفسَها عن المُشاركةِ لوقتٍ طويل، وها هِي ذا تستجوِبُها.

" كيفَ انتَهى بكِ المطافُ عِنده؟ "

هزَّت كتفيها ببساطة، تَعلم أنَّها مَن راوَدتني عن نفسي، ولَن تُزيلَ لِحافَ المِثاليَة عنها أمامَ أصدِقائِي بالطَّبع، لا بأسَ معَها إن بدوتُ بنظرهم العجوزَ المُحبَّ للقاصِرات.

" هكذَا فقط. "

جاهَر جونغ إن بنَهري.

" ليسَ وكأنِّي جاهلٌ عن نزواتِك، وارتِداداتِك الأنثويَّة، ولكنَّ لِسانِي مُلجم حقًّا، أنتَ مُذهل بيكهيون! "

لطالَما مثَّلتُ نفسي في مَحكمةِ الخطايا، وإذا ما أيقنتُ مُنذ البِدايةِ بأنَّها قضيَّة خاسرةٌ، اعتًززتُ بخطاياها.

" أعلَم أنِّي كذلِك. "

سوجين تنهَّدت، موقِنةً للمرَّة الألف أنِّي أسوأ مِمَّا توقَّعته، وقد صارَ بحوزتِها سببٌ آخر لتكرَهني، وربَّما لتُدرِك أنِّي أستحقّ كُرهها الغيرَ مُبرَّر لي.

تدخَّل تشانيول الَّذي طفَحت معالِم الحيرةِ بوجهِه.

" مرحبًا، أنا ما أزالُ هُنا، لِما أنا الوحيد الَّذي يجهلُ هويَّة هذِه الصبيَّة؟ "

" أنتَ الوحيد الَّذي أجهلُ هويَّته أيضًا. "

ما لبِثت وأن نظَرت إليَّ مُبقَّعةَ الثَّغر، مُنحلّةً في هذَا المجلِس الَّذي ينبُذها.

" أليسَ ذات الفتَى الطَّويل الَّذي رأيتُه برفقتِك في إحدى الصُّور بالبزَّة العسكريَّة؟ "

نظرت إليه مُجدَّدًا تختبِر صحَّة فرضيَّتِها.

" إنَّه هُو حقًّا، أذناه لا تُنسيان بسهولة. "

ضلَّ هُو الآخر طريقَه.

" إذًا فأنتُما تتواعَدان حقًّا. "

اختَرقَ صوتُ كاي سقفَه مُؤنِّبًا، لو أنَّه بجِوارِه للكَمه.

" اخرس أيُّها الأحمق، إنَّها قاصِر. "

" لقد تجاوزتُ الثَّامنة عشر بالفِعل!"

بلكنةٍ مُزخرفةٍ بالمَكر قال سيهون:

" ولكِن لِماذا لم تقُم بدعوتِها إلى مجالِسنا مِن قبل؟ أم أنَّ ثمَة ما منَعك مِن أن تُعرِّفَنا على هذِه الجميلة؟ لقد أخذت وقتًا أطولَ مِن المُعتاد. "

ربَّما لأنّهَا ليسَت فتاة ليل لأدرِجها في سهراتٍ قذِرة، أو أعرِضَها على غيري.

" لِم لا تبدو مُستغربًا سيهون، أعلِمتَ عن علاقتِهما مِن قبل؟ "

سُؤال تشانيول وجيه، صحيحٌ أنَّه قد شهِد على أحدِ صِداماتِنا المُباغِتة، ولكنَّها لم تكُ تنمُّ على أيَّة علاقةٍ وديَّة بينَنا.

استَرخى سيهون على ظهرِ كُرسيِّه، ثُمَّ أقلَّ كأسَ الشَّامبانيا الخاصَّ بِه على مقربةٍ مِن فمِه، مُستمتِعًا بهذِه المَهزلة.

" لم أعلَم، بل توقَّعت، إنَّها قصَّة طويلة. "

وأخيرًا تغلَّب الصَّمتُ على الجَلبة الَّتي فجَّرها الفُضول بسرائِرهم، أمَّا مينِّي فهمَّشت جميعَ البَنادِق المصوَّبةِ عليها وتلذَّذت بالكعكَة، ما ضاعَف الغضَب الكامِن بجوفي تجاهَها، سِجلُّها اللَّيليُّ قد اتَّسخ بشدَّة، حتَّى كادَ يلتحِف السَّواد!

حلَّت سوجين انطِواءَ قامتِها، وترفَّعت على كعبِها الَّذي يُسيِّر أفئِدةَ الرِّجال، وللمرَّةِ الأولى أنجَبت شفتاها دُرًّا.

" بيكهيون يفعلُ ما يحلو لهُ على الدَّوام، ما لأحدٍ القُدرة على ردعِ جُموحِه، ليسَ وكأنَّكُم لا تعرِفونَه، فلنرقُص. "

ما يفتأ جونغ إن غيرَ مُقتنعٍ بمسألتِنا؛ هُو أكثَرُنا واقعيَّة، لكنَّه امتَثل لأمرِها على أيَّة حال، حيثُ قصَّ حبلَه بينَنا، ورافقَها إلى ساحةِ الرَّقص.

داهَمت لمساتُ مينِّي عُنقي، تختطِفُني مِنِّي.

" فلنرقُص نحنُ أيضًا. "

" لِم أنتِ مُستعجلة على الرَّقص؟ سترقُصينَ كثيرًا في المنزِل، رقصَة الهلاك، يا حُلوتِي. "

زمَّت شفتيها، تُواري خلفَهما خطَّة ما، وانتَظرت تراجُعي عن قراري سُدًى. في الأخير برَحت كنَفي، ووقَفت بجانِب تشانيول.

" أنت، فلترقُص معِي. "

بينَ الإصرارِ المُتدفِّق مِن مُقلتيها، ووجوم تشانيول كأنَّه موسومٌ بحبلِ المشنَقة، هُو النَّظراتُ الواعِدة بالويل المُنبثِقة مِن شقيَّ، مزَّقتُ شرنَقةَ السُّكون، ومِن قاعِ الصَّبرِ انطلَقتُ نحوَها كالطَّلقة؛ قيَّدتُ مِعصمَها، وسحبتُها معِي مُقتفيًا تيَّار الغضَب الَّذي صبَّ بِنا في رُقعةٍ مهجورةٍ مِن الحديقَة، لم يطلها أيُّ شخص، ذلِك لأنَّ الجميعَ مشغولون بالسَّكر، والأوهامِ المُسطَّرة على أجسادِ الإناثِ اللَّائي جاءَ بهنَّ سيهون.

لقد بذلتُ ما في استِطاعتِي لأتجلَّد، وأُعفيَها مِن بطشي، رغم أنَّها تسحقُّ الأسوأ جزاءً على ما صنَعته بأعصابِي السَّقيمَة، مُنذ أن أقدَمت على العَمل دونَ إخباري... قد تخالُ أنِّي نسيت، أو أنَّ نيَّتها قد محَت الوسيلَة أو برَّرتها، لكن لا، ما أزالُ راغِبًا في تقليمِ حُدودِهاِ؛ أظنُّ أنَّ ملامِحها قد شحبت لمُجرَّد أنَّ اهتِمامِي لأمرِها قد ذاعَ صيتُه، وامتلأت علاقتُنا بالدِّفء الَّذي تبرَّأت مِنه كافَّة محطَّاتِي السَّريريَّة!

بهمجيَّة دفعتُها، فنزفت خطوتين قبل أن تُدرِك الاتِّزانَ. انعَطفت ناحيتِي، وقد اجتاحَ النُّور ملامِحها الماسيّة وأبرقَت رغمَ فُتورِه، كأنَّها هِي الَّتي تمُدُّه سِماته. سُرعانَ ما غدَت بنظري مكبَّ انتِهاكات، بانتِظارِ الحِساب.

ضاقَت أنامِلي حولَ خصلاتِها المُنسدِلة بحُريَّة على قفا عُنقِها، تسحبُها إلى الأسفَل سويًّا ورأسها، وأمامي برَز جيدُها المُلائِم لزرعِ القُبل.

" اللَّيلَة انتهَكت مِن الحُدودِ ما قد يُكسِبُك أيَّامًا لن تُنسَى في مُصاحَبة الألَم، بالكادِ أمسِك يدي عن تهشيمِ جسدِك الَّذي لم يبخَلٍ على أحدٍ بمبلغٍ مِن الفِتنة، أتخالين أنَّك في نِطاقِ الأمان لأنِّي أواصِل منحَ الأولويَّة لسُمعَتي رغم جميع مساعيك؟ "

حينَما طفرتُ عن سيطَرتي ورفعتُ جُرعةَ العذَاب، ركَضت آهةٌ معطوبةٌ خارِج شفتيها. وكأنَّها لا تعني لي شيئًا، لم يرِفَّ لي جفن.

" لا تكوني واهِمة، لأنِّي على حافَّة الصَّبر، ولو وثبت عنها لهويتُ عليكِ كمُصيبةٍ ساحِقة. "

أبقيتُها رهنَ الألَم لبضعةِ لحظاتٍ قبل أن أُعتِقها، ليسَ لشيءٍ سِوى لتُدرِك أنِّي لستُ أمازِحُها أو ألقي كلامًا فارِغًا لا بارودَ بجوفِه ليُزهِق اعتِدادها، فقد بلَغتُ مِن الجديَّة ما يُحتِّم عليها أن تخشاني، وتحتَمي مِن غضبِي بالطَّاعَة.

ظننتُ أنَّها بوقاحَتِها ستثقِب صبري مِن جديد، وتُعجِّل في أجلِها، ربَّما ذلِك ما تمنَّيتُه، لأُنفِّس عن صدري ما ضخَّته فيه مِن أكسيدات، لكنَّها استغلَّت مواهِبها في الإغراء لترويضي، بذات الطَّريقَة الَّتي ما فشِلت قطّ في التَّهوينِ عليّ، فمهمَا بِنتُ للعيان صعبًا، بحُضنٍ أركَع؛ عقَفت ذِراعيها كالحَلق حول عُنقي، وحطَّت رأسَها أسفَله بوداعَة، لا تغشى جوَّها إلَّا بعدَ فواتِ الأوان، لتُعيدَه أدراجَه مِن تلابيبِه!

" لا أريدُ أن نُهدِر المزيدَ مِن الوقت في الشِّجار. "

حافظتُ على استِقامةِ ذِراعيَّ اللَّتين اشتَهيتا أن تحيكَا لخصريها مِنهما طوقًا حميًّا.

" ما الَّذي هدفتِ لجنيِه مِن حُضورِك الفُجائيِّ هذا عدا الضَّغينَة إذًا؟ "

" ظننتُ أنَّك مخمورٌ في سفرٍ مديدٍ عن يابِسة الوعي، غارقٌ بينَ أحواضِ النِّساء، لذلِك قدِمت دونَ التَّفكير في العواقِب، أردتُ أن أعلَم أيُّهنَّ قد سطَت على وقتِك الثَّمين في ليلةٍ مُقدَّسةٍ كهذِه، وأنا الَّتي رغبتُ فيه بشِدَّة. "

لامسَ كعباها العالِيان الأرضيَّة العشبيَّة، حينَما بترتُ مِن طولِي قليلًا، واستَوت نظراتُها على عينيَّ.

" ولكِن هل كُنتَ تنوي إضماري بينَ أيَّامِك كسرٍّ إلى الأبَد؟ "

" لو كُنتِ تظنِّينَ أنَّكِ باستِعطافي ستتملَّصينَ مِن مراسيم العِقابِ عقِب انتِهاء هذِه المهزَلة، فأنتِ مُخطئة، ستَنالينه قطعًا. "

حتَّى وأنا كمدينةٍ منكوبةٍ ما تزالُ تُجازِف لتخوضَ غِماري، موقِنةً أنِّي بنفحةٍ أنهار.

" لا أهتَم حقًّا، لنعِش اللَّحظَة فحَسب. "

تمرَّغت أنامِلي وسَط خدِّها الأملَس، وخشَعت مُقلتايَ في مِحرابِها مُفحَمتين لفرطِ الإعجازِ فيها، لم أفقَه ما كانَت تدعونِي إليه، لكنِّي اعتَنقتُها، وأدليتُ بنذوري في لثُمةٍ مُفصَّلة على مذبحِها، هُناك حيثُ نُحِر وعيي، وفنِي.

بينَ شفتيها عثَرتُ على ضالَّتي لكنَّها كانت تتَناءى عن مُتناوَلي كُلَّما دنوتُ إليها بتوقٍ عارِم، كأنَّها أفقٌ ما لأحدٍ القدرةُ على بُلوغِه مهمَا سمَت مكانتُه وعظُمت مُكنتُه، فيغدو الاكتِفاء مِن اللِّقاء كالمُحالِ في لُبِّ المُتاح؛ هِي تُحوِّجني إلى المزيدِ والمزيد، مع كُلِّ نظرةٍ مُلتهبةٍ تُرسِلها ناحيَتي، وكُلِّ لدغةٍ مُذنبة تُسمِّم فِكري.

كُنت رجُلًا لطالَما تقيَّد بخارِطةِ الجَفاء، كُلَّما خاضَ امرأة، غيرَ أنَّها سُبلٌ مُلتويةٌ لا تتَماشى مع أيَّة خارِطة، فالضَّلالُ اسمُ مَدنيتِها والإثم عاصِمتُها، وهِي الَّتي تَهديني إلى ذاتِي بمُجرَّد تمتلِئ قُفَّتي بِما أشتهيه.

هِي الفنّ، والفَناء.

ورغم مُستقبِلها الَّذي تجهلُه والمُحتمِي بكُثبانٍ مِن الكتمان في مُحيَّاي إلَّا أنَّها استَضافَتني في دارِها المُبلَّطةِ باللذَّة، سقفُها الإدمان، وراقصَتني رقصةَ حبٍّ غير مدروسة، بخُطواتٍ متعثِّرةٍ صاغَتها يداها على ظهري، بينَما أحرِص على إعدامِ المسافةِ بينَنا، مُستشعِرًا تفاصيلَها الأنثويَّة المُقتَرِنة بي، كحبرٍ على ورق.

ذابَت آهاتُها في فمِي، في حين تنهَّدتُ لأعبِّئ ذخيرتَي وأغزوَها المرَّة تِلوى الأُخرى، دون أن يُراوِدني الاكتِفاء؛ كُلَّما تلمَّستني فتَحت بابًا آخر يستَدعي إلقاءَ نظرةٍ خلفَه. في لحظةٍ ضبابيَّة أضعتُ عقلي، وخدَشت قواطِعي شفتَها السُّفلى بلهفةٍ، فدميت... شِئتُ لو أقتحمها، رغمَ أنَّ التَّوقيتَ مُعاق!

لم أكُ في وعيي حينَما عبرتُ إلى أُذنِها وصارحتُها بكُلِّ ضعفٍ ذكوريّ.

" كَم أشتهِي خلع هذا الفُستانِ عن جسدِك. "

استَقطبَ الجُرحِ الَّذي عِثته في شفتِها إبهامِي، وبينَما يتلمَّسه اهتزَّت أرضُه مِن تحتِه بلُطف.

" ألا بأسَ معَك لو اكتشفوا أنَّا قد كُنَّا نتبادَل القُبل؟ "

أعتقتُ خصريها، ثُمَّ أعتقتُ رقبَتي مِن سطوتِها باخِلًا بالردّ، فاستَبدلت سُؤالَها بآخر.

" هل يُمكِنُني البَقاء؟ "

أدبَرتُ بصمتٍ كمُوافَقة على عرضِها، أشكُّ في أنَّها ستُغادِر إن رفضَت؛ بطريقةٍ أو بأُخرى ستظلّ. ما هِي خطواتٌ معدودات حبَرها الزَّمنُ على سطرِ هذا الغَسق، حتَّى تلفلفت ذِراعُها حولَ ذِراعي، مًسفرةً عن سُقوطِ حُفنةِ نظراتٍ مِن مُقلتيَّ على ثراها المُغدَقِ بالحُسن، لزمني للقِيامِ عنها التّضحيَة بأنفاسٍ طائِلة.

سِرنا جنبًا إلى جنب عائدين إلى الطَّاوِلة، لم ألحَظ أنَّ مقعَدي مشغول حتَّى أدركتُه، ومِثلمَا نبَّأتني نظراتُ الرِّفاقِ المُحذِّرة أنَّنا على شفا خطَر، نبَّأت الجالِس عليه أنِّي قد وصلَت، علِمتُ أنَّها إن ها حينَما وقَفت واستَدارت نحوِي قصدَ التَّرحيبِ بي، كانت مُدجَّجة بفُستانٍ أسوَد راق، لا أكمامَ له، ينقطعُ تدفُّقه عِند رُكبتيها، وخُصلاتُها الطَّويلة مفرودةٌ على ظهرها.

" كُنت واثِقةً أنَّك تحتفِل في مكانٍ ما برفقة... "

اضمَحلَّت ابتِسامتُها سويًّا وصوتها بمُجرَّد ما لمَحت مينِّي بجِواري.

لقد أتت لمُفاجأتي ولكِن أجزِم أنِّي الَّذي فاجأتُها.

" مَن هذِه؟ "

بصدمةٍ سألت، فيما ظلَّت مينِّي متوطِّدةً بذِراعِي، كأنَّها تخشى أن تأتِيَ ريحٌ جنوبيَّةٌ وتعصِف بها بعيدًا عنِّي.

حدَّقت المرأتان ببعضهما البعض مطوَّلًا، قبل أن تتنهَّد إن ها ساخِرة.

" أليسَت الفَتاة مِن الميتَم؟ "

-

ميني وهي بتعمل عمل جزئي من ورا بيكهيون
😂😂😂

شو رأيكم بالفصل!😂

الريد روم بنكهة اخرى 😂😎

أكثر جزء عجبكم وما عجبكم!

بيكهيون!

مينّي!

سيهون!

سوجين!

تشانيول!

جونغ إن!

إن ها!

أخيرا التقت الشلة الساقطة بالساقطة
😂😂😂😂

ميني رح تشيب شعر راس بيكهيون بعمايلها ااسودة لسا ما شفتو شي 🌚😎

كيف علمت ميني عن مكان الحفلة!

كيف ستكون ردة فعل الثلاثة بعد اللِّقاء الصادم بالاخير!

ما مصير علاقة بيكهيون وميني!

هل سيعاقبها!

توقعاتكم للفَصل القادِم!

رح استمر فالتنزيل مع انو الفصلين الجايين نو كومنت😂🔥 الموجة العاطفية تنتهي بالفصل 19 حسيت بالسعادة وانا اكتبو 🌚 خلصت الفصل 20 كمان 😭 اذا كملت كتابة الرواية هالشهر فرح نزل آخر الفصول ورا بعض 🐹

الفصل الجاي بعد
250 فوت
600 كومنت

دمتم في رعاية اللَّه وحِفظه 🍀

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top