الفصل | 16
هلا بالخفافيش بالكورونات الجميلة 😎
كامي تفرشن اليوم 😂😂
تفرشن: صار فراشة 🌚
اكيد حاسين بالملل وليكني اجيت حتى اقهر الملل 😂 شو اخباركم مع الحجر الصحي! وشو عم تعملو لملأ وقتكم! 😌
كيف الاوضاع عندكم ان شاء الله الكلّ بخير 💔
كان المفروض نزل هذا الفصل مع عودة بناتي العظيمة بس انشغلت بغير شي لهيك اتأخرت شوي 😭😭😭
طبعا ما رح احكي عن عودة ايدل لاني لو حكيت من يوم لبكرا ما رح اقدر وصل يلي جواتي وشو انا فخورة فيهم 😭😭
بالمناسبة في نفرلاند عندي هون!
معذبَّة رجولة الجِنرال.
Enjoy 💕
-
Red velvet- psycho
كَما يقتُل الشَّمعة ابنُها الَّذي نشأَ تحتَ سقفِ حاجةٍ مُدقعةٍ إلى الضِّياء، رغم أنَّها استَماتت لإبقائِه على قيدِ الاشتِعالِ يقتُلنا الحبّ ذاتَ لحظَة... وربَّما يقتُل فينا كُلُّ ما هُو جميل، ولا يُبقي لنا مِن ديارِنا، إلًّا رُكامًا لا يسعُ الحياة!
قد تكسِرُنا النَّكباتُ إذا ما ارتَطمت بأجسادِنا الهلكى مِن حِمل الرُّوح، قد تُخرِّب سُمومُها بجوفِنا شِلوًا، ولكِنّ الضَّرباتُ الَّتي تأتِي من الدَّاخِل بينَ خلجاتِ الرَّاحة دونَما أيَّة بادِرات، كالمنيَّة إذ تهبِطُ مِن رحِم السَّماء، مُمِيتَة.
كذلِك لثَّم الحُبُّ فتيلِي فاحتَرق، ولسَعني لسعات رقيقة حُلوةً آنذاك، ما دريتُ أنِّي أذوبُ وأتلذَّذُ بدمعِ شمعي، إلَّا حينَما صبوتُ القاعَ ووجدتُني وسَط خندقٍ مِن أنقاضِ ثقَتي، مُنطفِئًا أُصارِع الرِّياحَ البارِدة بعجز، وما يفتَأ ندبُ احتِراقي قائِمًا في شِغافي، يُذكِّرُني بالماضي، وأنِّي بذلتُ فيهِ ما لا يستحقّ، فأوفِّر اهتِمامِي وأبخل.
لطالَما كُنت وحيدًا كليالِي ديسمبر الشَّجيَّة، إذ ترثوا سنةً تحتضِر، بينَما تُكفكِفُ عبرات سمائِها المُتجمِّدة بأنامِل الزَّمهرير، سقيمًا كعاطِفةٍ تُحابي الانقِراض بعدَما كافحَت نيازِك الخذلان، ثقيلًا على ألبابِ الملأ كالغُبارِ على كواهِل البيت.
كُنت محضُ ركامٍ ورُفات ألّفت بينه الحتميَّة، حتميّةُ العيش، حتَّى تدُقّ النِّهايةُ نواقيسَها فتماسَك حتَّى غدا صخرةً لا تئِنّ مهما توالت عليها الصّفعات... لملمت شظاياي، وحتَّى هشيمي دون أن تنتقِص مِنه فتَّة واحِدة، وعجَنت خِصالي.
خيَّمت على جسدِي كالمَلاذ، وأجارَتني مِن نبذِ الحياة، ومِن استِكبارِ الوطَن، وصاغَت مِن مُقلتيها وطنًا أضألَ مِن حجمي، يضمُّ الكَونَ بأسرِه، وطنٌ يَحكُمه ربيعٌ أبديّ، ليسَ لأيِّ فصلٍ القُدرةٌ على إزاحتِه عن عرشِه، فِببراءَة الياسمين داعَبت أنفاسي، وبفِتنة الوُرود سحَرت ناظريّ، لأتحدَّى جُلَّ الأشواكِ وأتصيَّدها، وبِئسًا للألمِ الكامِن فيها!
في حِساباتِي البنكيَّة أودَعت لي ميراثًا طائلًا مِن الاهتِمام، رغمَ أنِّي لا أمتُّ لدمِها بصلةِ، حوَّلته لي رويدًا رويدَا، وزرَعت فيَّ أنَا الأجدب الامِتنان دونَ عِلمي، كأنَّها تُنوِّمني بنظراتِها الواسِنة، وترشيني بدِفئِها لتستوليَ عليّ.
ما بينَنا جريمةُ رغبَة، أو ذلِك ما آمنَّا بِه، بيدَ أنَّنا أعظمُ مِنها بكثير، ففي كُلِّ زُقاقٍ نُسقطُ فيه كجُثث هامِدَة، يلقُفها السَّريرُ بحَنان، تشتبِك مُهجَتانا، كأمٍّ وجنين، كالفُؤادِ والوتين، كجُسورٍ تُبنَى بينَ العينِ والعين في لحظةِ ولع.
كُنَّا جريمَة رغبَة، وغدونَا ضحيَّة اعتِياد، وكَما أستصعِب مُفارقَة سيجارَتي؛ وسجيرَتي في كُلِّ عُزلةٍ ألوذُ إليها مِن هذا العالمِ المُرهِق، لعلِّي أجِد في أُكسيدِها إكسيرًا يُبقيني على قيدِ الصُّمود. صارَت هِي عادةً سيِّئة، كالعادات الَّتي عدَّدَتها على أصابِعها يومَ اشتقَّت مِن الماضي موضوعًا لطالَما حبَّذتُ الفِرارَ مِنه، وبمعونتِها واجهتُه بشهامَة!
وبعدَ أن اعتَدتُ على الظَّلامِ الَّذي دهَنت الخيبةُ بِه جُدراني اضطرَمت هِي فيَّ باحتِكاكٍ طفيف، كِدتُ لا أشعُر بِه، كاحتِكاكِ شُعاعٍ بشظيَّة، وفُرادى قهَرت عدوَّين، ديجور وزمهرير، كأنَّ ثغرَها ثكنةُ جيشٍ لا يُقهَر مُتنكِّرةٌ على شاكلةِ حانة من يلجُ إليها يستحيلُ أن يطلَع، جِرمَها هُو الفِردوسٌ المفقود، وربَّما الجُرمُ الَّذي لا يغُتفَر.
أراها عارية لكنَّها ترتَدي أسرارًا ثخينة، فلِم قد تُسخِّر امرأةٌ مِثلُها ذاتَها لرجلٍ مبتورٍ، جافٍ مِثلي، انقطَعَت العاطِفة عن الجَريانِ في شرايينِه، فما سقَى أحدًا، وما تبنَّى بعدَ خيبتِه الأخيرة حُبًّا، بينَما الحياةُ أمامَها بُستانٌ مُباح؟
أحيانًا كُلُّ ما نحتاجُ إليهِ لنقفَ باستِواء، أن يتقبَّل أحدهم لاعوِجاجِنا، ويُعيرَنا ذِراعَه كعُكَّازٍ يحولُ بينَنا وبينَ سقوطٍ مريرٍ آخر.
-
الأجواءُ مِن حولي حالِكةٌ كقفصِ فُؤادِي، خانِقَة كأنَّ ما بهَذا الحيِّز مِن هواءٍ ما عادَ قادِرًا على رِعايةِ ضيوفِه والإقساطِ بينَهم، أربَعتُنا مجتَمِعون إلى الطَّاوِلة الَّتي لطالَما احتَضنت مجالِسَنا، وتستَّرت على آلامِنا الخفيَّة، سيهون بجانِبي، أمَّا تشانيول وكاي فبالضفَّة الأخرى قُبالَتي، كفُّ أحدهما تحتضِن كوبَ المَشروب الَّذي تعدَّدت زياراتُه لفمِه، بينَما الآخر يرتشِف ما بحوزتِه على دُفعاتٍ خائِفًا مِن ضريبَة المُزايدَة، وزوجتِه سوجين...
ما أزالُ مُحافِظًا على لقبِ الوافِد الأخير، إذ لم يسبِق لأيٍّ مِن الشَّباب وأن تأخَّر أكثَر مِنِّي، أو قدِم مِن بعدي... تسامَرنا بأريحيّةٍ عَن مكنوناتِ الغِيابِ العَتيق، والنَّصيبُ الأعظمُ مِن السَّهرةِ راحَ ضحيَّة لثرثَرة الرّائِد.
" بيكهيون، أنا أتحدَّث معك أينَ أنتَ شارِد؟."
فصَم تشانيول بيني ويبنَ شُرودِي بجُحوظ، وقبلَ أن أُدليَ بحرفٍ يخدِم قضيَّتي، انتَزعَ سيهون حقَّ الكلامِ مِنِّي.
" ألا تُلاحِظون أنَّ الجِنرال قد بدَأ يفقِد شخصيَّته القديمَة، وروحَ الشَّباب الَّتي صانَها فيه رغم أنَّه قد ولَّى مُنذ زمنٍ سحيق؟ حتَّى أنَّه ما عادَ يتردَّد على المَلهى بكثرة كما كانَ في السَّابِق، وهذا مُريب. "
هطَل انتبَاهُهم عليَّ، ورغمَ الغصَّة الَّتي نشأت في حلقي أبيتُ إلَّا احتِساءَ جُمَّةٍ مِن المَشروب، حتَّى أرطِّبَه، كنت لأبوحَ لهُم أنَّ ببيتي دُميةٌ أواظِب على استِهلاكِها دونَ حاجةٍ لأخرى، لولا أنَّ معرفةَ اثنين مِنهما بِها ستُهين كبريائِي.
جونغ إن سألَ بفُضول:
" هل وافت المنيَّة زيرُ النِّساء الَّذي يتولَّاك، أم أنَّ امرأةً ما قتلته فيك؟ "
" موتُه لا يعَني أنَّها ستَخلفه عنه وتحكمني يا عزيزي. "
رددتُ لهُ الصَّاعَ بمِثله، مُنبِّهًا إلى انقِيادِه بزوجتِه كالدَّواب... وما كِدتُ أتنفَّسُ الصُّعَداء حتَّى صوَّبَني الرَّائِد بطلقاته الشَفويَّة.
" لاشكَّ وأنَّها جريمةُ امرأة، يستَحيل أن يطرأ عليهِ التَّغيير بتلقائيَّة، هُو الَّذي لم يصُم عن اقتِناءِ الحسناوات على مدار سنين عديدَة... السَّماءُ لا تُمطِر إرادَة. "
حدجتُه بنظرةٍ حادَّة، وككُلِّ مرَّة تضرِب فيها حقيقةٌ موجِعةٌ واقِعي تصدَّعت سحنتي ومِن ثغَراتِها انبَثق غضبٌ شفَّاف... شعرتُ بذراعِ سيهون تزحَفُ على لوحِ كتِفي، قبل أن يسلخ فمَه، ويُطلِق العنان للحيَّة الَّتي تسكُنه.
" أظنُّ أنَّ الأوانَ قد فاتَ على التغيير، أنا مؤمِن بأنَّ من شبَّ على شيءٍ شابَ عليه."
أطَّر جفناهُ هيئَتي الَّتي لحَّفها السُّخط، ونبَّأتني كلِماتُه المنقوعة في الخُبث أنَّه يشكُّ في أمري، لا واثِقًا مِنِّي كما ادَّعى.
" حتَّى وإن حجزَت امرأةٌ كامِل وقتِه رغمَ أنَّه تعوَّد على الاقتِصادِ في إنفاقِه، سيأتِي اليومُ الَّذي يسأمُ فيه رفقتَها، ويبرَح خليَّتها بحثًا عن زهرةٍ أُخرى، سيخيبُ ظنِّي لوما فعَلت، هيونغ. "
قلَّبتُ عينيّ ذاتَ اليَمين لئلَّا يزدادَ تقرُّح أعصابي لفرطِ ما استلقيتُ على خِلقتِه المُستفزَّة، أحيانًا يُحبِّبُني في لكمِه وتنسيقِ معالمِه بما أشتهيه. سُرعان ما ألغيتُ حجزَ ذِراعِه لكتِفي بتبرُّم، ذلِك لأنِّي أجهَل ما يرمِي إليه بخِطابه.
" كُفُّوا عن المُغالاة، كُلُّ ما في الأمرِ أنَّ مِزاجِي في انحِدارٍ لن تثبت عليه قدمُ امرأة. "
بدَا وأنَّ القَناعَة لم تطَل أحدًا مِنهم، إذ ضيَّق تشانيول جفنيه على.
" هذا فقط؟ "
ظننتُ أنَّ النِّهايةَ قد هبَطت على أرضِي بسلام، بيدَ أنَّ سيهون تخلَّى عن كأسِه بالطَّاوِلة كأنَّه مُستعدٌّ للكشفِ عن ورقتِه الرّابِحَة، رجوتُ ألَّا تكونَ ما خطَر لي للتوّ.
" لقد زُرتُه بالمنزِل مُنذ شهرٍ ولن تصدِّقوا ما الحالُ الَّذي رأيتُه عليه! "
رمَقه الجميعُ والفضول يقطر مِن أعينِهم، في حينِ رميتُه بنصلٍ قادِرٍ على إنطاقِ الجمادِ الأخرسِ ذُعرًا، لكنَّه تفادَاه وروَى.
" فتَح لي البابَ وشعرُه مصفّفٌ على شاكِلة قرنين، والواضِح أنَّه لم يكُن يعلَم عمَّا أصابَ رأسَه إلى درجةِ أنَّه صُدِم. "
عقِبَ ثوانٍ مِن التَّشكيك، اندَلعت قهقهاتُهم الهازِئَة مُبارِزةً صخَبَ الموسيقى الَّذي يُجلجلُ الأفئِدَة، حيثُ لم يسِع ثغرُ تشانيول ما تلملم فيه مِن سُخرية.
" هل أنتَ تُواعِد طِفلة؟ "
" أخشى أن أراهُ بجديلتين حينَما أزورُه بالمرَّة القادِمة. "
رغمَ أنَّ رحيلي أوَّلًا قد يُعزِّزُ شكوكَهُم، إلَّا أنِّي أبيتُ إزهاقَ المزيدِ مِن الوقتِ في المَلهى، نحنُ هُنا مُنذ قُرابةِ السَّاعَة، وجُلّ ما اختَزنَّاه طوال شهرِ الغِياب، قد نفد، ولو مكثَت فستغدو سيرَتي فريسةً تلتهِمُها أقاويلُهم المُزعِجَة!
حفَرتُ طَريقي نحوَ السيَّارَة المركونَة أمامَ المَدخل المحروس، بسواعِد الشَّوقِ الَّذي فتُلت عضلاتُه وازدادَ مُكنةً بالآوِنة الأخيرة، ربَّما لأنِّي بتُّ أمتلِك في سردابي مؤونَة لا مُتناهيةً، تسدُّ أرماقَ رغبَتي، ولعلَّها تُهوِّن على بُرودي كذلِك.
في لجَّة الصَّمتِ المهيبِ الَّذي يكتسِح الباحَة الأماميَّة للمبنى تألَّق هديرُ المُحرِّك لوهلةٍ قبل أن يصمت، إذ ركنتُ السيَّارَة وترجَّلتُ بوقار.
مسَحت جُلَّ ما ارتَسم على مُحيَّاي مِن ولعٍ للِقاء شيِّق، وكحَّلتُ عينيَّ بالجفاءِ الَّذي يليق بيهما، أنا الَّذي ربيتُ في أصّيص البُرود كالشَّتيلة، ما لي القُدرة على طيِّ ساقيَّ والرَّحيل إلى بُؤرةِ الدِّفء، رغم أنَّها على بُعدِ ياردةٍ واعتِراف، لطالَما امتَهنت ملامِحي الكِتمان، بتلاعُبٍ مِنها غدَت ناطِقةً تكادُ لا تصمتُ عن اللّغو، هِي الَّتي مزَّقَت فرامِل الوِحدة فيّ فاصطَدمتُ بجِدارِها، ورغمَ الألمِ الَّذي مسَّ كِبريائي كُلَّما اصطدمتُ أنِست.
صرفتُ خطوةً فاثنتين، وقبلَ أن أربَح لُقياها في مزادِ الزَّمنِ الصَّارِم، كبَّلت أذرعٌ ما وسَطي، واختلَط بأنفاسي عطرٌ نِسائيّ مألوف.
" لقد اشتقت لكَ، سيِّدي الجِنرال. "
بحركةٍ بطيئةٍ انعطَفت، مُتيقِّنًا مِن هويَّة المُجرِم الَّذي اجتَرأت يداهُ أن تطآ جسدي، ما جعَل غُثاءَ الاسِتياءِ يُخالِط مجاري وجِهي.
بخَلت هي في التَّنائِي عنِّي، وما نفَّست بينَنا إلَّا عن مضيقٍ هزيل.
" يورا؟ "
زوَّقت على لوحَة الشَّفق المركونةِ في نِهايةِ معرضِها اللّافِت ابتِسامَة، ظنًّا أنَّها حلَّت مُقلتيَّ كمُفاجأة سارَّة، لكِنِّي هجَّرتُ ذراعيها عن حوضِي قسرًا، ثُمَّ غمست كِلتيّ يديّ بجيبيّ بنطلوني الكلاسيكيّ الأسوَد.
" ما الَّذي جاءَ بكِ إلى هُنا دونَ إنذارٍ مُسبق؟ أذكُر أنِّي قد حكمتُ على ما بينَنا بالإعدامِ خِلال آخرِ لِقاءٍ لنا! "
اهتزَّت مُدنُ وجهها، وفاضَ الإنكارُ في ثغرِها.
" توقَّف عن المُزاح، دمُك ثقيل، وأنتَ بذلِك عليم. "
لستُ رجُلًا ماهِرًا في امتِطاء المُبرِّرات حتَّى وإن كانت المنجاة الوحيدة مِن فُراق مسموم، وحيفٍ محتوم، ولا رجُلًا مُعتادًا على استِلال الكلِم مِن ثغرِه لمُبارَزةِ المواقِف، لذلِك دهستُها بقدميَّ، وهمَمتُ باستِئناف طريقي، لولا أنَّها عرقلت جميع خُططي للرَّحيل، حيثُ غلَّلت ساعِدي بكفِّها، وزعزعت الخيبَة استِواءُ ثغرِها.
" ألم تطلب مِن سيهون أن يُرسِلني إلى شقَّتِك اللَّيلة؟ "
نفيتُ لمسَتها مِن أرضِي دونَ أن أُزعِج غفوةَ يديَّ، برجفةٍ واحِدة ما ارتدَّت إليَّ بعدَها.
ارتأيتُ تأجيلَ الانصِرافِ وصرف بعضِ الحُروف لابتِياعِ الخيبةِ مِن أجلِها؛ في سوقِ المُنكرِ أغدو مُسرِفًا، لا أقتِّر في اقتِناء ما يروقُ لي مِن أسلحةٍ شفويَّة هدَّامة، وفي التَّأليف أغدو بليغًا لو أنَّ الرِّوايةَ تحكِي عن جريمَة أذيَّة.
مالَ رأسِي ناحيةَ كتِفي الأيمنِ بتخاذُل.
" عاشَرتني لما يكفي مِن الوقتِ لتعلَمي أنِّي لا أحيي ما قتَلتُه يومًا، حتَّى وإن تدلّيتُ على حافَّة الحنين للزَّمنِ الغابِر، فلن أسقُط في هاوِيتِه مهمَا استبدّت الرِّياح... لا تتَظاهَري بأنَّ حيلةَ سيهون قد انطَلت عليكِ! "
جادَلتني وكأنَّها أعلَم مِنِّي بفضائي.
"أنتَ لا تُحيي ما قتَلته، ولكنَّك لا تُمانِع لو انبَعثَ مِن رُفاتِه بينَ ذراعيكَ ثانيةً، لذلِك اعتَدت أن تحتَفيَ بي كُلَّما أقبلتُ عليكَ."
الضَّجرُ الَّذي اعتَرى معالِمي عرَّاها مِن ثقتِها المُقلَّدة، ما لبِثَت وأن سألت بربكة:
" هل عثَرتَ لكَ على سقفٍ آخر حقًّا؟ "
" ليسَ مِن شأنِك، غادِري قبلَ أن أثور. "
بدَا وأنَّ بجُعبتِها المزيد لردعي، لكنَّنا قوطِعنا.
" لقد وصَلت أخيرًا، تأخَّرت، كُنت على وشكِ الاتِّصالِ بك. "
لم أظنَّ ولو للحظةٍ أنَّ مينّي قد تتمثَّل أمامِي بهيئةٍ منزِليَّة فاضِحَة، وبينَ أساريرِها ترقُد ابتِسامةٌ أسقمَها التصنُّع، هذا إن ما كانت جُثمانَها.
لفرطِ الدَّهشة انزَلق حاجبيَّ عن منبتِهما حتَّى أوشكَا على الاشتِباك ببعضِهما.
" ما الَّذي تفعلينَه بالخارِج في مِثل هذا الوقت؟ "
قدَّمت الكيسَ المنسدِل مِن بينِ أنامِلها لمرآي دليلًا على تُهمةٍ ما أذعتُها، ثُمَّ ثنَت ذِراعَها حولَ ذِراعي بتملُّكٍ مَلموس، وانقضَّت نظراتُها على يورا الَّتي داهَمتها الحيرة.
" ولكِن، مَن أنتِ آجومًّا؟ "
بدراميَّة بسطَت يورَا كفَّها على صدرِها.
" ماذا؟ آجوما؟ "
لاشكَّ وأنَّ نعتَ مينِّي الَّذي لم ينسل مِن رحِم الاحتِرام حتمًا، جرَح الأنثى بداخِلها، فها هِي دماؤُها تسفحُ على سطحِ كلِماتِها الغاضِبة.
" فلتُراقِبي ألفاظكِ يا صغيرَة، أنا لا أزالُ نزيلةً في طابِق الثَّلاثينات، ولا ينطبِق عليَّ وصفُك. "
سُرعان ما أولتني انتِباهَها وأبدَعت ريشةُ فضولِها في رسمِ الافتِراضات.
" مَن هذِه الصبيَّة بيكهيون؟ لم تُخبِرني مِن قبل أنَّك تبنَّيت طِفلة، أم أنَّها إحدى قريباتِك أودِعت تحتَ حِمايتِك لفترة؟ "
كُنت بصدِد تِكرار ردِّي المشهور على مسامِعها وتذكيرِها بمكانتِها، غيرَ أنَّ مينِّي أعفَتني مِن العَناء إذ باحَت بجُرأة.
" أنا عشيقتُه. "
أشعُر وأنَّ شِجارًا أنثويًّا على وشكِ النُّشوب، مِن أجلِ احتِلال اهتِمامي هذِه اللَّيلة، ولا أُنكِر أنِّي سأستمتِع بالمُشاهَدة عن بُعد!
رضيتُ بمُلازَمةِ الهامِش ومُراقَبة النِّزاع يعمُّ الصَّفحَة الدَّاجيَة، بانتِظارِ التَّوقيتِ المُناسِب لأهبِط كنُقطةِ النِّهايةِ بينَهُما. المرأةُ الَّتي قصدَتني راغبةً في بعث ماضٍ أودعتُه الجَدث ودفنته ستَّةً أقدامٍ تحتَ الثَّرى، لم تُصدِّق ما قالته مينِّي، ولعلَّ الفجوةَ العُمريَّة بينَنا سببٌ مُقنِع للاشتِباه بها، كذَلك ذوقي الصَّارِم في انتِقاء النِّساء.
" يا إلــهي، خيالُ الأطفالِ هذِه الأيَّام تالِف بامتياز، عليكِ التقليصُ مِن فترات استِخدامِك للانترنت قبل أن تضيعَ أخلاقًكِ إلى الأبد. "
مُذ أنَّ بصري ما انفكَّ يعلِق في شِراكِها -وهُو الَّذي لطالما أجادَ العومَ في أيمامِ النِّساء مُحترزًا مِن غوايتهنَّ ومِنهنَّ اقتطَف ما اشتهيتُ، اليومَ يُقتَطف، وبينَ النَّغمة والنَّغمةِ يهوي فيها، كأنَّها قدَري، أو ربَّما خياري- أحطتُ بكامِل ما اختزَنته مِن السُّخرية عِلمًا.
" بالحديثِ عن الأخلاق، ألم يُلقِّنك أحدٌ أنَّ الاختِلاء برجلٍ مُرتبط بينَ خلجاتِ اللَّيل، وبفُستانٍ مشبوهٍ بالغِواية عيب؟ "
عوَّجَ الغُرور أحدَ حاجبيها رغمَ أنَّ الخوفَ يضرِبُها دونَما رحمة، إذ كانت مُتشبِّثةً بي بإلحاح، كأنَّها تحثُّني على الانحيازِ لها، وترجيح كفَّتِها.
" على صاحِب النَّصيحَة أن يكونَ أهلًا لها وإلَّا فمِن الأفضلِ لو يحتفِظ بِها لنفسِه كي لا يُحرجَها... لو ثمَة ما تُريدين مُناقشَته معَه فلتَفعلي ذلِك أمامي، سألعبُ دورَ فزَّاعةٍ مِن القشّ لئَّلا يثلثَكما الشَّيطان، لن تشعري بوجودِي حتَّى. "
دنَت يورَا مِنها وتلكَّأت، كأنَّ كلِماتِها تمرُّ على أكثرِ مِن حاجزٍ قبل أن تفوزَ برُخصةٍ للتغرًّبِ خارِج الوطَن.
" الأمرُ لا يخصُّك، لذلِك فلتَدعي للكِبار بعضَ الخُصوصيَّة، حسنًا صغيرَتي؟ "
خلعَت مِينِّي الخُشونَة على أعتابِ وجهي مُعدَّةً لمكيدةٍ ماكِرة، حيثُ غرقَ ثغُرها في العُبوس، ورجَّت ذِراعِي الأسيرة مُتوسِّلة.
" سيِّدي، فلتَصرِفها رجاءً. "
حينئذٍ تعبَّق ملمَح يورا بالدَّهشة حتَّى كادَ جفناها أن ينقدَّا؛ قلَّة هُنَّ اللَّواتي يُنادِينني بسيِّدي خارِج الثَّكنةِ العسكريَّة، وأنا مُتجرِّدٌ مِن بِزَّتي الرَّسميَّة، بهيئةِ مدنيّ عاديّ، هِي صيغةٌ مُقتصرةٌ على مكانين، وحدَث أنَّها على اطِّلاعٍ بثانيهما!
" سيِّدي؟ ذلِك مُستحيل. "
وثَبت نظراتُها بينَنا، لعلَّها تنقب الحقيقة الَّتي تودُّ لو تُقوِّت هواجِسها مِن ثرى أحدِنا، لكنَّها وللأسفِ ما أثمَرت بأرضِ أيٍّ مِنَّا، مُذ أنَّ مينّي احتلَّت الخَندق الَّذي يفصِل بينَنا وتضافرت بذِراعي أقوى مِن ذي قبل، في حينِ ثبتُّ على صمتِي، غير مُكترثٍ لفجِّها مِصراعيّ سِرِّنا، وفضحِه أمام العيان، ولا بمُنتهانا.
" فلتَنفي ما تدَّعيه أيُّها الجِنرال، لا يُعقَل أنَّ ذوقَك قد انحَدر إلى القاعِ لتتَردَّد على خانِ طِفلة، أو تتَّخِذ مِنها خليلة. "
نشَّف الحِنق ودياني مِن سوائل الرَّحمة، وتعافَر فكيَّ بضراوة.
" لا تتخطَّي حُدودَك."
كانَت مصارِع الحقيقةِ مُشرَّعة رغمَ اللُّبس المُلتفِّ حولي، لكنَّها حبَّذت الطَّوافَ بمُحيطِي فزِعةً مِن الزَّحفِ إلى عُقري؛ إذ ساقَت جيوش شفتيها نحوَ ميدانِ ميني.
" أصغي إليَّ جيِّدًا، ما تزالين صغيرةً على إزهاقِ طاقاتِك فيما لا ينفَع، لذلِك ستعودين مِن حيثُ أتيتِ ولن تتردَّدي على هذا المكَان ثانيةً، مفهوم؟ "
استَطعمت الغلَّ في صوتِها حينَما ردَّت على عرضِها بوجهٍ مُقفِر.
" لستِ صاحِبة القَرار."
سُرعان ما فقدت الأملَ مِن امتِثالِ الفتاةِ لأوامِرها، فالثَّباتُ الَّذي حافَظت عليهِ معالمُها لم ينمَّ عن أيِّ تنازُلٍ قريبٍ ولو عتَت الأعاصيرُ مِن حولِها وأرغمَتها عليه، لذلِك حطَّت أنامِلها على ساعِدي وحاولت استِمالَتي إلى صفِّها بنبرةٍ ذات قوامٍ رقيق.
" لنقل أنَّك تسلَّيت بِها للحظاتٍ طائِشة أعمَتك فيها رغباتُك، أحيانًا ننشقُّ عن مبَادِئنا لإرضاءِ طمعِنا الفطريّ في المُغامرة، فلتُلقي بِها الآن مُذ أنِّي هُنا، أنتَ قادر على امتِلاكِ أنجلِ النِّساء، فلا تغرَّك فتيَّة قد توقِعُك فيما لا يُحمَد عُقباه لاحِقًا. "
" أبعِدي يدكِ عنه، وإلَّا سيكونُ آخر ما تلمِسينه..."
انتَهت صلاحيَّة صبرِ يورا وما عادَ قادِرًا على إبقاءِ أعصابِها حيَّة فدَفعت وجهَ الصَّغيرة إلى الخلفِ بهمجيَّة، ولفرطٍ ما كرَّسته لدحضِها مِن ذخيرة، ارتَخى وثاقُها حولي، حتَّى انحلَّ تمامًا.
" توقَّفي عن اللَّعب بأعصابي، آخر همِّي أن أتشاجَر مع طِفلةٍ مِثلك."
اعتَصم بصري بالعَدم وثغري بالصَّمت كالأزَل؛ بدَأ الوضعُ يزحَف نحوَ الجديَّة، والكسَل يُكبِّل عقلي الَّذي ما انتَخب لإنهائِه أيَّة فِكرة.
شعرتُ بيديّ مينِّي تتسلَّلان إلى الحِزام المَربوطِ بوسطي، ما خمَّنت قطّ أنَّها قد تستلُّ سِلاحِي مِن حامِله المُرتكِن هُناك، وتوجِّهه نحوَ يورا.
" غادِري ما دُمت أتحدَّث بلُطف، فأنا لا أثِق بهرموناتي لاسيما في أيَّامٍ كهذِه. "
لم أقلَّ صدمةً عن المرأةِ الَّتي تنطَّع لونُها وارتَجفت شفتاها، خوفًا مِن كائنٍ استصغَرت حجمَه، فطغى على كامِل توقُّعاتِها. ها هِي ذا الظُّروفُ تكشِف لي وجهًا آخر، لمَن آمنتُ أنَّها طِفلة ضعيفَة، إذ اصطَدمت في إحدى أروِقتِها بمُراهقة جامِحَة، ثُمَّ أنثَى مُقتدرة، اليومَ أعِي أنَّ لهَا مِن الجُنونِ ما لم أحصِه قطّ!
حافظتُ على بُرودِي بينَما أنهاها.
" مينِّي، أخفِضي المُسدَّس، ليسَ لُعبة أطفال. "
" ليسَ قبل أن تغرُب هذِه المُتطفِّلة عن وجهي. "
أومأتُ لخليلَتي السَّابِقة برأسِي أُملي عليها أمرًا بالانصِراف، لم تكُ يومًا غريمًا لمشيئَتي، لذلِك انصَاعت على الفورِ مُكرهة.
وظلَّ إبهامُ مينِّي مُسلَّطًا على الزِّناد، في حالةِ ما إذَا ارتدَّت قدماها، حتَّى اندَثرت سيارتُها في الأفق، حينَها سقطَت ذِراعُها بخورٍ كأنَّها تكبَّدت في هذَا الكِفاحِ كامِل دسائِسها. ربَّما ظنَّت أنِّي قد اصطَحبها إلى المنزِل بُغيةَ اللَّهو بينَ مُنحنياتِها، مُتعامِيًا عن العقدِ الَّذي وضعنَا حيثيَّاتِه بلمساتٍ آثمةٍ، وأبرمناه بقُبلة، لأنِّي سئِمتُها.
رجوتُ ألَّا تُترِجِم الموقِف بقاموسِ الغيرة فتؤولَ إلى فقراتٍ ميؤوسٍ مِنها، لا أساسَ لها مِن الصحَّة، ذلِك لأنَّ المواقِف كجُملٍ أدبيَّة ليسَ لها في اللُّغاتِ مُقابِلٌ مُباشِر؛ ولا يُمكِنُ ترجمتُها حرفيًّا، بل ينبَغي تجسيد معناها الأصليِّ بكلماتٍ أُخر، وهِي ما لم تعثُر لها على أثر، فبقيت في عينِها أجنبيَّة، وانصاعَت لأوهامِها.
بعدَ ثوانٍ غفيرة أوِدت إليّ مكسورَة الخاطِر، وبينَ شفتيها وأدت قومًا مِن الشَّكاوي، لم أسمَع لهُم أيَّة آهة، غيرَ أنّي أبصرتُ عبراتِ رثائهم الَّتي اكتظَّت بِها مُقلتيها حتَّى ما عادَت تسعها، ونثرت رذاذًا مِنها على خدَّيها الحمِئين.
" سأذهب لاستِنشاقِ بعض الهواء النقيّ، أشعُر الاختِناق. "
أزاحَت مرآها عن مُتناوَلي كأنَّها لا تُريدُني أن ألتقِط لها صورةً بطلعةٍ ماطِرة، رغم أنَّ المطَر يليقُ بمُقلتيها إذا ما هطل مِن أجلي... همَّت بالمُغادَرة ولكِن ليسَ إلى المنزِل، لعلّها تبتغي التشرُّد بينَ أزِقَّة هذِه المدينَة القاسِية.
" لقد قضيتِ ما يكفي مِن الوقتِ بالخارِج في هذِه الظُّلمَة دون استِشارَتي، ستُرافقينني إلى الدَّاخِل دونَ تذمُّر. "
" لم أكُ أطلبُ مِنك إذنًا. "
وفي عُنفوان الانهيار اصطفَت الفِرار، حيثُ لفَّت قدميها عكسَ التيَّار واقتفته دونَ عُذرِ أو عتب... عصيانُها لأمري صدَّع أعصابي، وولَّد في ذاتِي المُتسلِّطةِ اغتياظًا حارِقًا، وها هِي ذا أجرامِي تنهالُ على ظهرِها الَّذي قصيَ.
كِدتُ أنساقُ خلفَ غُروري إلى المنزِل كأنَّها لا تعنيني، فأنا لن أتغاضى بلا عقاب مؤذٍ، لكِنِّي تقهقرتُ بذاتِ الخُطوةِ الَّتي بنيتُها، ثمَّ أويتُ إلى السيَّارةِ وانطلقتُ بحثًا عنَها، يُمكِنها الوقوع عن ظهرِ جِسر والموت، ولكِن لا يُمكِنها الوقوع فريسةً لغيري.
أحيانًا يستكبِر التَّاريخ أن يُخلَّد في الذَّاكِرة كأنَّها أردأ مِن مقامِه، ويأبى إلَّا أن يحِلَّ على مغنانا، ويغتصِبَ سكونَ لحظاتِنا بذاتِ هيئتِه البشِعة؛ اليوم يُشبِه إلى حدٍّ كبيرٍ يومَ قدِمت إليَّ طواعيةً ورصدَتني بصحبةِ شقراء حسناء، لقد لحِقت بِها آنذاك دونَ توانٍ، رغمَ أنَّ كبريائي ما انفكَّ يهزُّ الجِسر الرَّخو الَّذي وطأتُه، كالآن!
انعَطفتُ حيثُ رأيتُها تنعطِف قبل أن أتَّخِذ قرارًا يقضّ أنفتي، بل ويقضي عليها تمامًا، راجيًا أنَّها لم تبتعِد كثيرًا، أو تسلُك طريقًا فرعيَّة تُضلِّلني عنها. سُرعان ما اصطدَمت عدستيَّ -اللَّتين ما بخلتا في إفراغِ وفودِهما خارِج النَّافِذة- بِها تمشي بتخاذُل، بينَما خُصلاتُها تمرحُ في الأرجاء. حرارةُ حِنقي بخَّرت كامِل القلقِ الَّذي ترقرقَ فيَّ، فتَكاثَف على شاكِلةِ غمامِ نقمٍ فوقَ مُقلتيَّ، ومنَعني رُؤيةِ دفائِنها، ومظهرِها الآسِن.
لم تشعُر بي وأنا أدبُّ مِن خلفِها بخُطواتٍ تتسابَق على النَّيل مِنها، حتَى قيَّدتُ مِعصمَها بأنامِلي الَّتي انتهَجت الخُشونَة، رغم أنَّها قد أتقنت العزفَ عليها بدماثَة، كأنَّها أوتارٌ مُهدَّدةٌ بالانقِطاع، مُحيطي سُجِّر وصارَ كالسَّعير!
" لقد انتَهت لُعبة المُطارَدة، فلتَعلمي أنَّ كُلفَة عصيانِك لأوامِري ستكون باهظة. "
لم تجثُ عيناها لِي كما اعتادَت كُلَّما اعتليتُ عرشَها، بل سكَّنت طَرفها، وأشهَرت العَداء في وجهِي، ككلِّ مرَّة تزجُّنا الحياةُ فيها في جِدالٍ مُحتدمٍ لن يُنهيه إلَّا التَّنازُل، وبتشنُّج تخبَّط كفُّها الأسيرُ في زُقاقِي الخانِق.
" لستُ راغبةً في انتِعالِ أغلالِك هذِه اللَّحظة، ولن تُرغِمني على ذلِك... كُلفةُ عصيانِك أبخس مِن كلفةِ خرقي لإرادَتي على أيَّة حال. "
لويتُ ذِراعَها حتَّى انطوت قامَتُها دونَ مُبالاةٍ لما قد يُصيبُها مِن ألَم، ثُمَّ اجتَذبتُها إليَّ ومرَّغتُ غرورها في طينِ الإخفاقِ إذ تقهقرت بخُطوة.
" مُنذ أن وهبتِ نفسكِ لي دونَ أن تفرِضي عليَّ مُقابِلًا، وصادقتِ على بنودي رغم ما يحفُّها مِن استِبداد، خسِرت الحقَّ في الاحتِجاج... وُمنذ أنَّك ستعيشين تحتَ سقف بيتي فأنتِ مقيَّدةٌ بقوانِيني حتَّى وإن جعلتكِ تتورَّمين، شِئت أم أبيتِ. "
حينَما اشتدَّ بِها الألمُ تكتَّلت كُثبانٌ مِن الكلِماتِ بينَ حاجبيها، وفي فيفاء جبينِها الَّتي تموَّج فيها بأناقَة، ورفعت صوتَها كأنَّها تنوي مِن وراءِ ذلِك أن يحجُب أنينَها الدَّاخِليّ... أم أنَّها ما نطَقت إلَّا لتُفضفِض عنه خِلسة؟
" كان شَرطي الوحيد ألَّا ترتادَ امرأةً أُخرى ما دُمت لا تنوي هدم وجودِي في نِطاقِك، أخبَرتُك أنِّي لن أكونَ أدنَى مِن عشيقَتِك، ما هُو محظورٌ عليَّ محظورٌ عليك، ما يُزعِجك يُزعِجني، ولم تعترِض عليهِ آنذاك... لكنَّك خرقته دون أن يرفَّ لكَ جفن، كأنَّك مُتبرِّئ مِن مشاعِري، لن تكترِث لو جُرِحت مِن ذلِك. "
ما استَساغَت جسامَة الغُصَّة المُتكتِّلة في حلقِها، فتقطَّعت إربًا إربا، وتدفَّقت على شاكِلةٍ شهقات بينَما شفتاها ترتعِشان.
" اليوم أعي أنَّ طينتك قد كانت ركيكةً لتتداعى أمامَ أوَّل تساقُط للفِتنة وتُؤذيني. "
ما أذِنت للشَّفقَة بثنيي على عقِبيّ، إذ أقامَت عينيَّ على أهبةٍ لقمعِها.
" كيفَ تُهزَم وتُخلي كلِمتَك، أنتَ العَظيم؟ "
أفرجتُ عن مِعصمِها الَّذي أسعفته يدُها الأخرى حالما صارَ طليقًا بمُتناوِلها، دريتُ أنَّ ضغطي قد تسبَّب لهُ بحُمرة، لكِنَّ جُنحتي ما ردَعتني عن انتِشالِ سبَّابتي في وجهِها، حيثُ غمغمتُ بنبرةٍ متلكِّئة.
" لا تستخدمي تِلك اللّكنة في مُخاطَبتي مرَّة أُخرى. "
ولفرطِ الوصب الَّذي سكَنها انحَنى عودُها بينَما تُلقيه خارِج صدرِها، ملمومًا في صرخةٍ مُتحشرِجة.
" لِم لا تخلعُ الصَّمت الَّذي يُكمِّم فمَك، وتقول أنَّك لستَ مَن أقلَّها إلى هُنا؟ أقسِم لك أنِّي سأصدِّقك. "
ما إن طفوتُ في مجرَّتيها حتَّى ساحَت أنفاسي، لطالَما خِلتُني كوكبًا لعظمةِ حجمِي، لكنَّها تُثبِت لي في كُلِّ مرَّة أنِّي محضُ جُرمٍ محكوم عليه بالدَّورانِ في مدارِها!
بعدَ أن تجرَّدتُ مِن ضعفِي اللَّحظيّ أمسكتُ بذقنها، واعتَكزتُ الكِبرياء أنا الَّذي احدودَب ظهرُ مُقاوَمتي، وغاصَت إحدى قدميَّ في حُفرةِ الموت.
" أتعلمين مَتى يضيعُ الشَّغفُ مِن العلاقات ويكلُّ بريقُها؟ "
ما بقِيَ بجيوبي إلَّا شُذور طاقةٍ قايضتُها بالجفاء.
" حينَها تُلاحِقها المُساءَلات مِن كلِّ حدبٍ وصوب، وتُحاصِرها الشُّكوك مِن كُلِّ زُقاق كأنَّها دوريَّة شُرطَة. "
بلينٍ نبَست:
" ظننتُ أنَّ الإهمالَ عدوُّ الشَّغف، متَّى صارَ الاهتِمامُ مُجرمًا؟ "
رغمَ أنِّي رجلٌ مِن معدن، في حضرتِها أغدو هُيامًا تحكُمه الأهواء، فها أنا ذا أذوبُ بالحُمَّى الَّتي لقطتها مُقلتيَّ مِن مُقلتيها السَّوداوين كالسِّحر... وبينَما أنا في أوجِّ السَّقم، امتدَّت يدي حتَّى صبَت جنَّتيها اللَّتين أندتهُما بكوةٌ آسية، وبإبهامي جفَّفتُهما.
" لا تُحاولي امتِلاكِي لأنَّك ستُجرحين في نِهايةِ المطاف، أنا رجلٌ غيرُ ملموسٍ يستحيل أن يعزِله كفَّان. "
حينَما أدركَ إبهامِي شفتَها السُّفلى وجرفَها وإيَّاه لبعضِ المسافَة، وقعَ جفناها كالمِقصلة، عقرت رؤوس دمعِها فثوَت خدَّيها.
" مَن قالَ أنِّي أريدُ امتِلاكَك بينَ كفيّ؟ "
شفطت قبضتاها رقعتين مِن قميصي قبل أن تتوسَّط ناصيتُها صدري. ترقَّبت صفاءَ حُنجُرتِها مِن الغُصصِ الَّتي تتوعَّد كلِماتِها بالتهدُّج، وما لبِثت وأن تلتها على مسامِعي بفُتور؛ كانت تفقِدُ نفوذَها كُلَّما ارتَطمت بي.
" سأسكُن عقلك، وأكونُ كالصُّداع في رأسِك. "
ضِحكتُ ليسَ لأنَّ ما تفوَّهت به هُراءٌ مُطلق، بل لأنَّ سينَ التَّسويف لا محلَّ لَها مِن الإعراب، أو بالأصحِّ فقدت محلَّها مُنذ زمنٍ بعيد، إذ سبَق لها وأن استعمَرت عقلي، حتَّى افتَقرتُ إلى مساحةٍ خاويةٍ أقعُدها بينَ الفِكرة والفِكرة!
أذنتُ لذراعيَّ باحتِوائِها، حيثُ رسَا كفَّاي على ظهرهِا، بخفَّة كقاربٍ ورقيّ يطفو على الماءِ كأنَّ لا وزن له، كُلّ ما أريدُه أن أضمِّد خيباتِي المُنصرِمة بِها، فلسببٍ ما لمساتُها تُحاكِي النِّسيان، لا بل تحيكُه حتَّى لرجلٍ ذا ذاكرةٍ مِن نارٍ تأبى إلَّا المشيَ على الماضي حافِيَة.
ولكنَّها تتصرَّف بعاطفيَّة مُفرطَة هذا اليوم، لا أدرِي ما السَّبب تحديدًا!
بعدَ لحظاتٍ مُحتدِمة أقامَت رأسَها عنِّي، وأقلَّت بصرَها إليّ؛ كانت عيناها مُفعمَتان بالعبَرات، كأنَّهُما لُؤلؤتين غاويتين.
" أظنُّ أنِّي طريحةُ حبِّك! "
أنفقتُ ثروةً مِن الغُرور للامتِناعِ عن التأثُّر باعتِرافِها، مُقنِعًا ذاتِي أنَّ كِلانا نزوةٌ وضيعَة في حياةِ الآخر، وجَب علينا ألَّا نُلبِسَها الحَرير، رغم أنَّها لم تتوسَّل يومًا أن نَدعَّها، بل استَوطنت بُنيتينا غنيَّةً لتُعرِّينَا مِن المبادِئ!
بينَ هذَا وذاك نفَذتُ بأعجوبَة بارِدًا كما أردت.
" فلتأتي بجديد، سبَق وأن شخَّصتُك."
ما تزالُ كلِماتُها ترنُّ بدواخِلي الفارِغَة، وتتشعَّبُ بينَ تضاريسي الشَّامِخة، تُشعِرني بالامتِلاء كالصَّدى بين القِمم!
" رغم أنّ تِلك العاطِفة نشأت بينَ جوارِحي وطعِمت مِن وَتينِ فُؤادي خفقاتِه، ما اكتشفتُها إلَّا حديثًا، بعدَما بلَغت في رحِمه وزنًا مُنهكًا، وحجمًا بدينًا لا تسعُه أبوابُه، وبرزَت أمام العيَان، كيفَ علِمت أنت؟ "
كانت كالحِمم تصهَر دُروعِي حتَّى كِدت أغدو عاريًا على حقيقَتي، لا أدري لِم أستميتُ لإخفاءِ أنَّ حبَّها لي يُطريني، ولو أنَّها امرأةٌ غيرُها لفسختُ عقودِي اللَّيليَّة معها في الآنِ الَذي تميلُ فيه إليّ، لكنَّا بدأنا للتوِّ، وما لي سُلطانٌ لمُحاسَبتِها على خطيئتِها، أو الفصلِ في قضيَّتِها... لأنِّي لا أزالُ مُولعًا بمُواعدتِها على سرير.
في لحظةٍ طيَّرت اللَّهفةُ عقلي، لاطَفَ أنفي أنفَها.
" لأنَّك كالقطَط كُلَّما راق لها مضجعُها أصدَرت خرخرة، كأنَّها بذلِك تُعربُ عن حُبِّها بطريقةٍ مُشفَّرة، عصيٌّ فهمُها. "
حينَما طفَّ وزنُ الارتِباكِ فيها تحرَّر لِسانُها، وعبست.
أنتَ مُمثِّل بارع، فلتتَظاهر بالصَّدمة على الأقلّ.."
لطالَما كانت شفَّافَة بنظري مهمَا استَماتت في الإسرار، لذلِك أبصرتُ عاطِفتها لكِنّي ظننتُني موهومًا، ولعلَّها إحدى المرَّاتِ النَّادِرة الَّتي أقِفُ فيها بصمتٍ لأنَّ اللُّغَة شمتت بِي، والكلِمات عصتني، لا لأنِّي راغبٌ في أن أصمُت، كأنَّها باعتِرافٍ شهِدت مُقلتاها على صدقِه، نسفَت بوعيي، وزعزعت توجُّهاتِي.
ورغمَ ما نحنُ فيه ما تفتأ فصيحَة، ومُؤذِيَة.
" أدري أيّ صنفٍ مِن الرِّجالِ تكون؛ رجُلٌ مُنتقِّل ما يرسو على برِّ طوالَ العُمر، لأنَّه ذاقَ غدرَ الوطَن يومَ ضحَّى بِه لمُجرَّدِ أنَّه معطوب، أدري أيّ الدِّيانات الحياتيَّة تعتنِق، مُذ تخرَّجت مِن مدرسةِ الخيبَة مُحنَّكًا، ولأنَّ الحُبَّ طعنَك ذاتَ حينٍ فلن تُعيرَه ظهرَك ثانية ليعيث فيه النُّدوب، أدري أنَّك لفرطِ ما تكلَّمت بينَما الجميعُ مُلجَمون، تكتَّمتَ حينَما طاحَت قيمَة الكلِمة، ولأنَّ الكلِم مُجرَّد وهم فالصَّمتُ أصدَق مَقال. "
لفظَت أنامِلها قميصِي مُنكمشًا وتمدَّدت على صدري، لم أعِ كيفَ أُلتُ إلى هذَا المَدى القريبِ مِنها، ولا كيفَ ثمِلت بنظراتِها اللَّذيذَة... معرِفتُها البسيطةُ عن شخصي أبهرتني، كأنَّها تحومُ حولَ وعدٍ وحيد، أنَّها ستُحبُّني بِلا شُروط!
" خشيتُ كثيرًا أن تنبُذنِي، حينَما تفتضِح مشاعري نفسَها أمامَك، لأنَّها لم تعُد طوعَ إشارَتي... ألن تُخبِرني ألَّا أُحبَّك؟ "
كُنَّا قريبين على وشكِ الوقوعِ في قُبلَة، أنفاسُنَا تقتتِل، ونظراتُنا تتقَلقل.
" لاشكَّ وأنَّكِ تعينَ مدَى صعوبَتي، وصلابَتي، وأنَّك وحدَك مَن ستدفعين الضَّريبةَ للألَم حينَما لا يبقَى لكِ مِن أوقاتِنا سِوى الأطلال. "
" فاجأتني، لم أكُ أعلَم أنَّك رجُلٌ لا يرفُض الحبّ! "
انزلَقت ضِحكةُ مُهتزَّة مِنّي سُخرية.
" لكِنَّه لا يمنَحُه... "
ربَّما لأنَّها مُميَّزةٌ رحَّبتُ بمشاعِرها، وربَّما لأنَّها كشَفت أوراقَ عُيوبي على طاوِلتها، فغَدت الفُسحة الوحيدَة الَّتي أخلعُ فيه تُروسيَ الثَّقيلَة.
أهواها، هِي هوايَتي، وسأؤدِّيها لوقتٍ طويل.
افتتحتُ الطَّريقَ إلى السيَّارة، وما لبِثت وأن تعرَّت مِن عنادِها واقتَفت آثاري، شغلتُ مقعَدي مُترقّبًا وُصولَها، حيثُ تعمَّدت المُماطَلة، كما لو أنَّها تستهدِف الإطاحَة بأعصابي عمدًا، لحُسن الحظِّ أنِّي وبالفترةِ الَّتي اقتسَمتُها وإيَّاها رفعتُ سقفَ صبري درجاتٍ، وأعليتُ بُرجَه لئلَّا يسهُلَ عليها استِنزافُ موارِده.
لا يزالُ دخَّان اعتِرافِها الَّذي اندَلع في مسامِعي يغشَى دواخِلي كضبابٍ بارِد، ويداعِب زُغبَ صدري كدفءٍ مُنبعثٍ مِن خشبٍ يحترِق. عجيبةٌ هِي هذِه الصَّغيرة تُسايرني كخِلّ، ثُمَّ تُشاحِنني كعدوّ، تَلدغُ شِغافي بنظراتِها كأنثى، وترقُد في حُضني كطِفلة، مِن أيِّ مضيقٍ تسرَّبت إلى عُقرِ داري، وكيفَ غفلتُ عن غوغاء جيشِها؟
ها هِي ذا رائِحتُها العبِقة تقترِن بالسيَّارة، حيثُ ولجَت بمُحاذاتي بكماءَ الملامِح، تُزوِّر الاستِياء، ما كانَ عليَّ المُجازَفة بتجاوُز مسافةِ الأمانِ لأجلِ ربطِ حِزامِه حولَها، فبِمجرَّد ما حبَت نظراتِي على أهدابِها المُمتدَّةِ بأناقةٍ نحوَ الهاوِية، حتَّى فغَر الهلاكُ فمَه الواسِع مُتأهِّبًا لابتِلاعي... كُنت أهتزّ كُلَّما أطرَفت، أو تنفَّست.
أيُّ الأكوانِ حُبِس في إطاريها لأُضيِّع سبيلِي إليَّ كُلَّما تجوَّلتُ فيهما رغمَ أنَّهُما يصغُرانِ حُدودي؟ قلَّما عثَرتُ على بابِ الخُروجِ رغم أنَّه أمامِي، واسِعين كالفِكر، كالدُّنيا بما رحبت. لِم أشعُر وأنَّهُما خطَّ البِدايةِ لنِهايةٌ لسُلطانِي؟
لطالَما كانت أنفاسُها حِبالًا تشدُّني إليها، ما إن تلتفَّ حولَ جيدي كالحيَّة، وكلَّما تراجَعتُ بخُطوةٍ ردَّتني إليها باثنتين، حتَّى علقتُ بينَ شفتيها... لم يدُم كِفاحِي في فجرِ الانهيارِ هذا إلَّا لُطرفةٍ مِن أنامِل الكِبرياء، بعدَها سلَّمتُ لمصيري المحتومِ بفقدانِ وعيي في آفاقِها العتيدة، والتَّقوقُع في صدفةِ الخُضوعِ لأمد حُلو.
تصفَّحت شفتيها ككتابٍ شيِّق، كُلُّ نقطةٍ تختم فصلًا مِن فُصولِه تجرِفُني إلى المُوالِي، كمُضغةٍ سائغةٍ لا أسأمُ تقليبَها بينَ جُدرانِ فمِي.
كالحياةِ هِي، ملأى بالمصايِد، وكُلَّما نهشَت قدميَّ نزَفتُ لها رضوخًا مُذلًّا بحقِّ رجلٍ قضى نِصفَ عُمرِه بينَ ناطحاتِ الكِبر، يتوسَّدُ نُمرق الجَفاء، ومِن منافِذه الواسِعة يَرى الجميعَ بعينيه أقزامًا، مهما ارتَفع بهم الجاه لن يحقِّقوا ذاتَ شموخه، فالجاهُ لا يصنَع العُظماء، بل تصنَعُ المآسي رِجالًا أكفّاءَ لاعتِمارِ الجاه.
كانت إحدى يديَّ مُغتربةً على خدِّها، بينَما الأُخرى تُصارعُ أمواجَ الغِواية على فخذِها المتعريّة، أمَّا عمودي الفقريّ فمُعوجٌّ بطريقةٍ غيرِ مُريحَة، تُلوِّث مُتعتِي الطَّاهِرة بالعومِ في سواحِلها الَّتي لا يحرُسها أحد، سِوى منارتيها المُنطَفئين، ومتَى ما أضاءَتا هدتاني إلى أعماقِها، كالضالِّ الَّذي لا وليَّ لهُ غير الموت، لكنَّها سوَّتها حينما ثوَت حُضني، ووشّحت عُنقي ذراعيها النَّاعِستين، كأنَّها تُعلِن انتِماءَها إليّ، على حِسابِها!
لِسانُها كالأفعَى، بيدَ أنَّه لنايِ قُبلاتِي مُطيع، ووحدَها مجالِسُنا العاطفيَّة هِي الَّتي ينطِق فيها بدُرّ، ويستميلُني إلى جانِبه كحليف.
كثيرًا ما انزلَقت خُصلاتُها القصيرة مِن مستقرِّها، وتبعثَرت في طريقي كالعَقبات، بصبرٍ كُنت أزيحُها، لكنَّها بدونِ كللٍ تُعاوِد الارتِماء عليَّ عابِثة، وبينَ العثرة والأخرى أنزِف أنفاسًا ثخينَة، تشتبِك بأنفاسِها قبل أن يبيدَا سويًّا...
لَم أتساءَل من قبل لِم كُلُّ هذا الشَّغفِ المُتراكِم حولَنا؟ ومِن أين لنا به؟ معَ أنَّنا كقاعٍ شهِدت الويلات، حرَّرت أسرابًا مِن الأُمنيات، ما رجَعت إليها إلَّا رُفات على مرِّ العُصور، حتَّى نسيت كيفَ تُنبِتُ مَرجانَ الأمل.
أتساءَل لِم أقبِّلُها كُلَّما ردَمت الغُمَّة كامِل سُبلي، وما أبقَت لِي سِوى على مجرًى يتيم يعبُره الهواءُ بعدَ أن تُصادَر مِنه الحياة؛ كأنَّ في تناحُرِنا الوديّ مغنمٌ لا يشحنُ أكفُفَنا إلَّا ساعَة الخسارة، وفي تشافُهِنا رغمَ الكدَماتِ الَّتي ينقُشها في أفئِدتِنا، كندوبٍ تُحبِّبُنا في العودةِ ومُطالَعة ذات الصَّفحةِ مِرارًا، إرثٌ عريق مِن الأنس. نُضرب في المواقِف الحاسِمة كأنَّنا مثلٌ شعبيّ، وميقاتٌ عفويّ يحجِزُ لهُ موعِدًا في كُلِّ ليلةٍ مِن ليالِ الجُنون، الَّتي نُضِدَ بينَ أرفُفها ساعاتٌ مِن أنامِل الحاجة، حاجَتِنا إلى بعضِنا البعض!
عاقرتُها بظمأ، وسبَحت يدايَ في أعماقِ ثِيابِها بتيه، حينَما أهلَكني الانتِظار، واستنفدتُ كلَّ ذرَّة صبرٍ بينَ نواجِدي، هممتُ بسرقةِ قميصِها مِن جسدِها، لا بأسَ إن كانَت السيَّارةُ مسرحًا لجريمَتِنا التَّاليَة، ما دامَت في منأًى عن جميعِ الأنظار.
لكنَّها أمسكت بمعصميّ، واقتصَّت سلسلةَ قُبلاتِنا، ثُمَّ ناظَرتني بإنهاك.
" يكفي. "
قطَّبتُ حاجبيَّ مُطالِبًا بتفسير مُقنع، عِندها حرَّر كفَّيها أسيريهما وتمشَّيا على صدرِي، وبينَ مُقلتينا جسرٌ مُعلَّقٌ يتأرجَح.
. " أنتَ مُعاقَبٌ لمدَّة أسبوع. "
دَنت مِن أُذني في حينِ لاطفت أنامِلها رقَبتي، تُبقيني مُقيَّدًا بِها. وكأنَّها تعمَّدت أن تُشعلَ فيَّ الأزمَات، همست بنبرةٍ مُشبعةِ بأنفاسِها الحارَّة، فأضعتُ آهةً بوزنِ الاشتِهاء.
" عقوبةٌ ربَّانيَّة. "
ابتسمت بعبثيَّةٍ رغمَ أنَّها تقعُد على مُشكلة، كالحياةِ يومَ تبني على كواهِلِنا أعشاشًا للمصائِب، بينما أصارِع مِن أجلِ التنفُّس، وبينَ الشَّهقةِ والشَّهقة أضيِّع ثروة.... كانَ مُحيَّاها كطاوِلةِ قمار وعينايَ رهنُها.
استَغرقتُ وقتًا طويلًا لأفهَم المَغزى مِن كلامِها، لوهلةٍ نسيتُ أنَّها تخضعُ لقوانين الطَّبيعَة البشريَّة كغيرِها مِن النِّساء، كما تطلَّبَ مِنِّي حشدُ ما يكفي للاستِقلالِ عنها وخلقِ إمارَتي مِن رمادِها بعدَ أن أحرقتها عن بِكرةِ أبيهَا شرارةٌ إخلائي مِن نفسي. رمَّمتُ ثُقوبَ رئتيَّ الَّتي حكَمت عليَّ بالتَّبعيةِ لبساتينِها الزَّاخِرة بالانتِعاش، ونصبتُ أعمِدة جفنيَّ الوهميَّة الَّتي انحَنت وكادَ سقُفها يهوي على قاعِها، ثُمَّ فصلتُ ذراعيها عنِّي.
حينئذٍ أدركت أنِّي استطعتُ تمالُك نفسي، فآبت إلى مقعدِها وراياتُ الانتِصار تُرفرِف على شفتيها؛ تدرِي أنَّ خلايايَ ستتناقَل ذِكراها جيلًا عن جيل، وأنَّ آثارَها فيَّ تُرهِّب النِّسيان. كذلِك نذوقُ الهزيمَة في مأدُبةِ النَّصر كُلَّما قهَرْنا خيبة، لأنَّها سلَبت مِنَّا ما لن يعود، وغرسَت فينا ضُرًّا لن ينقرِض، بينَ ساعاتِنا دسَّت أفخاخًا نجهَل مدفنَها لنتفاداها، وتحتَ أسِرَّة الحُبور قنابِل موقوتَة، لأنَّ الخيبَة لا تموت، هِي الماضي الحاضِر.
فسَخنا عقد المسافَة بغضونٍ دقائِق مِن جنسِ الصَّمت، ثُمَّ خطونا جنبًا إلى جنبٍ نحوَ المنزِل دونَ أن نصنَع تغيرًا، كُنت غارِقًا في التَّفكير بما عليَّ فِعلهُ لتأديبِها، في حين بدَت مُطمئِنَّة تظُنُّ أنَّ اللَّيلَة هُدنَة، فممرَّي إليها مسدود!
ترَكتُ مسؤوليَّة إيصادِ الباب لها لأنَّها كانت ورائي، وبالتَّالي آخر من سيجتازُه، ومِن فوقِ كتفيَّ ألقيتُ لها أمرًا مُبهمًا.
" الحَقي بِي. "
كانَ مُنتهانا غُرفةِ الإثم الَّتي احتَضنت جُمَّةً مِن محافِله، ما ولَجتها امرأةٌ إلَّا ولقمت طبَقه الرَّئيسيّ؛ ألا وهُو الألَم.
" أجاشِّي، أخبرتُك أنَّنا في عُطلةٍ إجباريّة عُمرها أسبوع، ما الَّذي تُخطِّط لهُ بإحضارِي إلى هُنا؟ "
صُمت عن الإجابَة لمجالٍ مِن الزَّمن، حيثُ أفرَجت عن خِزانَة ذخيرتي الساديَّة الَّتي تراها اليوم للمرَّة الثَّالِثة، اكتفيتُ باستِخراجِ عصًا، ثُمَّ أغلقتُها وانعطفتُ نحوَها، مُصطبغًا بالبُرود، وطُفتُ حولَ مدَارَها بعبث.
" تعلمين أنِّي لستُ رجُلًا كريمًا يسخو في المُماطَلة، ويوزِّع الغُفرانَ بغيرِ حِساب هُنا وهُناك، وإن كُنت قد تغاضيتُ عن انتِهاكاتِك السَّالِفة فلأنَّك حديثةُ العهدِ بي، مُستجدَّة بينَ صُفوفِي، لم أُهمِلها بل أمهَلتُك وقتًا للتأقلُم، لكنَّ ذلِك لا يعنِي أنَّك مأذونةٌ بالتَّمادي في الشَّغب... واليوم ستنالين عِقابَك. "
حينَما أخذَت رياحُ الاستيعاب تُداعِب عقلَها انعكَس على جفنيها، إذ حبَلا بالارتِياب... أمَّا أنا فلجمتُ قدميَّ على مشارِفها، وقُلت:
" قدماكِ اللَّتان حالفَتاكِ في العصيان مُنذ قليل، ستَذوقانِ طعمَ العصا الآن. "
دفَعت بضحكةٍ ساخِرة، قطَّعها الخوف.
" لستَ جادًّا! "
جلستُ على حافَّة السَّرير أناظِر ما تمركَز قُبالَتي بجُمود.
" استَديري. "
لابدَّ وأنَّ صمتِي قد أبادَ كُلَّ الأملِ الَّذي عمَّر في مجرَّتيها الحالِكتين، كالنُّجومِ الوهّاجَة، حتَّى عادَت إلى طبيعتِها المُتشائِمة، ونفَّذت أمري.
سُرعانَ ما حرَّضت يدي العصا على فخذيها، فانهالت عليهِما محمَّلةً بصاعين مِن الوجيعَة، أحدُهمَا لأنَّها غادَرت المنزِل بلبسٍ فاضِح، أجزِم أنَّه استقطَب الذُّبابَ مِن كلِّ فجّ، والآخرُ لأنَّها لاذَت مِنّي بالفَرار رغم أنِّي نهيتُها.
جمَعتُ مِن ثغرِها ضريبةَ التمرُّد الَّتي أشبَعت حاجَتي لأن أكونَ مُطاعًا، رغم أنِّي لمحتُ أنامِلها وهي تنكمِش مُضمرةً بجوفِها أطرافَ سِروالِها القصير، كأنَّها تشكوني لها، كما أفشَت لي المرآة الَّتي كفَلت لي رؤية واجِهتِها الأماميَّة عن الفيضانِ الَّذي أغرقَ خدَّيها... كَم كان عليها أن تذرِف مِن دمعةٍ لأرأفَ بِها وأكفّ؟
حينَما جنيتُ كِفايَتي مِن الألمِ في بُستانيها، تبرَّأتُ مِن العَصا، وبوَّأتُها مكانًا عشوائيًّا على المُلاءَة. توقَّعتُ أنَّها لن تُخفِض سيوفَ الحِنق أمامِي بيُسر، ولن تُبيحَ لي دخولَها كالأزَل بِلا تأشيرَة عفو يستحيل أن أطلبَها، لذلِك أوقعتُها في حِجري، وزحَفت أنامِلي على رُقعتِها المكشوفَة، رغم إعراضِها عنِّي.
" لو أنَّك ترتَدين ثيابًا مُحتشمة لما شعرتِ بمثل هذا الألَم..."
أرجَحت فكَّها السُّفليّ جيئةً ورواحًا بطريقةٍ صِبيانيَّة، أنسى في كثيرٍ مِن الأحيانِ أنَّها مُراهِقة لولَا أنَّ الحقيقةَ تُعاوِد مُراجَعتي على شاكِلةِ تصرُّفاتٍ ظريفة، لن تختزِنها إلَّا امرأةٌ مِن عدَّة طوابِق عُمريَّة، يتقاسمُها عدَّة أشخاص.
اضطِررتُ في الأخير لعقدِ موعِدٍ بينَنا على مائِدتي المُعدَّة بأقسى أطباقِ الجَفاء، كأنِّي مِن معدنٍ لا درجةَ لانصِهاره، حيثُ أحلتُ وجهَها إليّ بسبَّابَتي؛ مهمَا كانَت الكلِماتُ طاغية، لن تُساوِيَ شيئًا دونَ نظراتٍ حادَّة.
" ربَّما كانَ عليكِ أن تدفعي ثَمن الاعتِداءِ على قوانيني لتَعي أنَّ تغطِيَته تفوق رصيدِك، ولكِن لا بأس، ستَكون عِبرةً توصيكِ بالحَذَر في المرَّة القادِمة، فالصبيُّ الَّذي اختَبر الصَّعقة الكهرابيَّة لن يقربَ المِقبس ثانيةً. "
اهتزَّ ذقنها كأنَّها دفنت تحتَه بكوة على قيدِ الحياة، قبل أن تذرِف شفتاها عتبًا، دونَ أن تتزَحزَح عدستاها مِن موطِنهما ولو بدَرجة.
" وسِعكَ أن تكونَ ألطَف مَعي، لا يُعقَل أن تُؤذيَ جسدًا قد اعتَكفت بين حجراتِه لليالٍ عديدَة كأنَّه لا يهمُّك. "
أخليتُ جانِبَ عُنقها مِن سُكَّانِه الأصليِّين لأستَوطِنه، إذ حططتُ رِحالي عليه، ونهبت ما طابَ لي مِن رائِحتِها.
" سبقَ وأن أمرتُك ألَّا تُبالِغي في فضحِ ما تكتنزينَه، وأنِّي المُتفرِّج الوحيد بينَ مُدرَّجاتِك، لما يعرِضُه مسرَحُك... تخيَّلي كيف ستَكون مشاعِري وأنتِ توزِّعين على الملأ تذاكِر مجَّانيَّة لحُضورِ ساقيكِ؟ "
" ليسَ الجميعُ بمِثل شهوانيَّتِك أيُّها الجِنرال. "
لا تستخدِم رُتبَتي لمُخاطَبتي إلَّا حينَما يُلثِّم الغَضب روحَها، واختِباءَ نظراتِها مِنِّي بالنَّافِذة يكسو شُكوكِي باليَقين.
قُربها يُحرِقني، كشفتين ولُفافَة تبغ، وما قاوَمتُ التَّناثُر كرَمادٍ طائِش على كتِفها، مُفتِّشًا عن مساحةٍ عاريةٍ لأستُرَها.
" لستُ الشَّهوانيّ، بل أنتِ الشهيَّة كالآثام، صدِّقيني لا رجُلَ في مأمنٍ مِن غوايتِك مهمَا بلَغ مِن الاتِّزان، حتَّى وإن كانَ قِسِّيسًا، كذلِك لستِ في مأمنٍ مِن نظراتِهم، وما قد يحيكونَه مِن رغباتٍ تِجاهَك. "
كُنت مُنغمِسًا في الافتِتان وشفتاي تتمرَّغانِ في عُنقِها، حينَما سكَبت حُفنةَ كلماتٍ مغليَّة بأذني.
" بحوزتي أسبوعٌ لأنتقِم مِنك على ما صنَعته بي يداكَ اليوم، أقسِم أنِّي سأحرِقك حيًّا... ليسَ وعيدًا فارِغًا، بل وعدًا. "
رفعتُ رأسي عنها فإذا بِها صافيةٌ مِن الأحقاد، كأنِّي ما ألحقتُ بِها الأذيَّة للتوِّ، تتوعَّدُني بالويلِ كامرأة غيور. لم أحبِّذ تهديدَها لِي علانية، كأنِّي رعيّةٌ مِن رعاياها، لكنَّ اللَّحن الَّذي ركبته كلِماتُها راقَني حدّ الانتِشاء!
مهَّدتُ بإبهامِي إربًا مِن فكِّها الَّذي يدعونِي إلى وجبةٍ مِن الإثم، ما راوغتُ سغبي لها لأكثَر مِن ذلِك، ولثَّمتُها بلهفة.
" ثمَة الكثيرُ مِن النِّساء الفاتِنات بالخارِج ينتظِرن التِفاتةً مِنّي، لو جعَلتِني أعانِي مِن أوقاتٍ عصيبَة."
وكم سرَّتني رُؤيتُها خائفة مهزومة مِن تهديدي، خانعة لقُبلاتِي الضَّائِعة.
" الضَّرورات تُبيحُ المحظورات صغيرَتي، فلا تلعَبي معي، حسنًا؟ "
ما انسَحبت مِن ساحةِ المعركة، بل فرَّقت قدميها اللَّتين كانتا مُجتمعتين في ذاتِ الاتِّجاه، وحبستني بينَهُما، ثُمَّ شدَّت تلابيبِ قميصي.
تساءَلتُ وأنا ماثِلٌ في حضرةِ محكمتِها الَّتي لا تعرِفُ العدل ما إذَا كانت تبحث عن تسوية؛ غضَبي مُقابِل لحظاتٍ فاحِشة، أم أنَّها تُغويني للتَّنازُل عن القضيَّة، قضيَّة الكِبرياء!
" حاوِل أن تخونَني مرَّة أخرى، وستَرى كيفَ سأتعرَّى وأقدِّم للجيرانِ عرضًا لا يُنسَى في السَّاحَة الأماميَّة للمَبنى. "
فتلتُ أنامِلي حولَ خصريها قبل أن أجتذِبها إليَّ بخُشونة، والاستِنكارُ يضطجِع بينَ حاجبيّ.
" لِسانُكِ بحاجةٍ إلى التَّقليم. "
لمحتُ المَكر يصولُ ويجول في مُقلتيها مُبطِّنًا مآرِبه، بعضُه احتلَّ ضفَّتيّ شفتيها الخِصبتين لزرعِ الرَّذيلة، كما تمايلت يداها على رقبَتي، مُحيِّيةً خصلاتِي الَّتي تظاهَرت على قفاها بانتِظام، مُحتواةً بجوفِ ربطة.
" لا تستخفَّ بلِساني كثيرًا، صحيحٌ أنَّ عضلاته مفتولةٌ لا تتَوانَى في لكم الأسماع، لكنَّه قادرٌ على تولِّي مهمَّات لا تخطُر على عقلِك، لأنَّ لهُ الحُلول لجميعِ مشاكِل أمَّتِك في حالاتٍ استِثنائيَّة كهذِه، سيِّدي. "
ما إن اصطَدمتُ بالمَغزى الَّذي مهَّدت طريقَه بإيحاءاتٍ قذرة حتَّى عمَّت الدَّهشةُ وجهي، وانفَرجت مصارِع عينيّ لوهلة.
" أظهِري لي بعضَ الاحتِرام، أيَّتُها الشَّيطان الصَّغير. "
وثَبت أهدابُها بينَ حديّ جفنيها ببراءَة.
" sorry not sorry. "
كِدنا نقضِم سدَّ المسافَة الكامِنة بينَنا، ونفيضَ على أحدِنا الآخر، لولَا أنِّي أمسكتُ نفسي عنها.
" الآن وقد نِلت ما تستحقِّينَه لِقاء خطيئتك، فلنخلد إلى النَّوم. "
مدَّت ذراعيها والعُبوس طاغٍ على ثغرِها.
" احمِلني. "
قلبتُ عينيَّ مُستعِدًّا للتذمُّر لكنَّها قاطَعتني بأُنفَة.
" لن أرافِقكَ إلى غُرفتِك إن لم تحمِلني، كرامَتي لا تسمَحُ لِي باقتِفائي رجُلٍ ضَربني للتوّ، حتَّى أنَّ مُخلَّفاتِه ما تزالُ طازجة، وأرضُها لا تزالُ ساخِنة. "
كانَ لها ما أرادَت، إذ لقفتُها بينَ ذِراعيَّ على ذاتِ وضعيَّتِها المُربِكَة، خشيتُ أنَّ جوارِحها ستُحدِق بي طواَل الطَّريق، ولكِنَّ أنفاسَها اضمحَلَّت بكتفِي، بدَل أن تشفَه وجهِي، فتُحبِّبَني بالثَّأر لنَفسي الَّتي أهلكَها شِبه التِحام.
لم يدُم مِشوارُنا الوعِر هذا إلَّا لحظاتٍ معدودة، قطَّرتها الحياة بعُسرٍ كما لو أنَّها سنوات شديدَة، رغمَ أنَّ الوقتَ اعتادَ على عُبورِنا مُستعجلًا، كأنَّ ثانيةً مِن التَّأخير قد تحكُم عليه بالاحتِراقِ إلى الأبَد... ليسَت هِي الثَّقيلة، بل العجزُ الَّذي كدَّسته فيَّ الظُّروف؛ وُجودُها على قربٍ بليغٍ مِنِّي، دون إذنٍ بالدُّخول مُرهِق.
وهبَت البَصر لجفنِ غُرفتِي الَّتي كانَت مِن قبل مجيئِنا عمياء، ثُمَّ أنزلتُها على السَّريرِ بحذر، وبينَما أنا رهنُ لحظِها ما سمِعت لحاجَتي إلى الرَّحيلِ حسّ؛ هِي لم تُعطِني خيارًا آخر غيرَ البَقاء إلى أجلٍ لا أدري متَى يُسمَّى، لا يزالُ منظرُها على عُلوِّ لهفةٍ بديعًا لرجُلٍ يهوَى المُرتَفعات، وتبضُّع الهلاك في سوقِها السَّوداءِ مُتعة.
حينَما فكَّت أسرَ عُنقي أمليتُ على جسَدي أمرًا بالتَّنحِّي، نفَّذه بتلكُّؤٍ مُكرهًا. سحَبتُ مِن الخِزانةِ ملابِس نومِي، قميصٌ أسوَد ذا أكمام، وسِروالٌ رماديّ، ثُمَّ اغتَسلتُ مِن شوائِب هذَا اليوم مُتطهِّرًا مِن رائِحَة المَشروب الَّتي اندسَّت بينَ جنباتِي. حالَ انتِهائِي مثلتُ أمامَ المِرآة، لقد غزاها البُخار كونَها البِقاعَ الوحيدِ الَّذي يستَقبِله بِرحابة، بكفِّي أزلتُه عن مُحيَّاها حتَّى عكَست صورتِي النَّاقِصة؛ بعدَ محطَّةٍ ضيِّقة مِن التأمُّل استَعذتُ بالقميصِ هربًا مِن مرأى البترِ الَّذي يشوِّه مرسَمي، لكنِّي وخِلافًا لكُلِّ ليلةٍ استغنيتُ عن ذِراعِي الآليَّة.
حالما اكتِسيت ملابِسي انضَممتُ إلى السَّريرِ، حيثُ كانت مينِي مُتواريَة تحتَ الغِطاء، تُقاوِم غاراتِ النُّعاسِ في سبيل انتِظاري، بدَت آثارُه واضِحةً على جفنيها المُترهِّلين، ووجهها الشَّاحِب نتيجَة سقمِها الأنثويّ.
كانَ مِن السَّهل عليها أن تُلاحِظ ذِراعِيَ الأجوَف عِندما قعدتُ بجانِبها، فضلًا لنورِ السِّراج الفاضِح على المِنضدَة، وها هِي ذا تتخضَّبُ بالدَّهشة، ناتئِةً عن مرتعِها كما ينتأُ شعرُ الجِلد مِن مسامِه عندما تضرِبه القشعَريرة.
" لا أصدِّق، الكُمّ فارِغ، أينَ ذِراعُك؟ "
شخصتُ إلى الشُّرفة باعتِياديَّة رغمَ الارتِباك المُتكتِّل بداخِلي.
" النَّوم وهِي مُتَّصلةٌ بِي غير مُريح."
اجتَنبتُ ارتِيادَ فضائِها رغم أنَّ لي مِن الثِّقة ما يُخوِّلني القفز مِن مجرَّة إلى مجرَّة. لسببٍ ما اكتَسبت معاييرها في عيني جاذبيَّةَ مهولة، فشلَّ الحَرجُ خُطاي، بدَت كجمارِك لا تَرحم مَن تهافَت عليهَا دونَ جوازِ الكَمال، كعدسةٍ لا تلتقِط سِوى الفَضائِح وتدوِّنُها في صُحفِها اليوميّة ربَّما، وكَم كانَ مُذلَّا لرجلٍ مُتهوِّر أن يتَدهوَر.
زحَفت أنامِلها على مساحَة الكُمِّ الشَّاغِرة، كأنَّها تقيسُ ما انقطع مِنِّي، حتَّى زجرتُها بنبرةٍ يسكُنها الغيظ.
" توقَّفي عمَّا تفعلينَه. "
لابدَّ وأنَّ الحماسَ هُو مَن حملها على التطفُّل، إذ بدَت آسفة.
" خلودُك إلى النَّوم بدونِها يعتبَر تقدُّمًا ملحوظًا، لكنِّي لن أعترِف بالنَّصر حتَّى تتخلَّى عنها برفقةِ قميصِك. "
سُرعان ما رمَت رأسَها على الوِسادَة، وانبَطحت على المُلاءَة.
" معِدتي تُؤلِمُني، هل يُمكِنُك أن تمنَحني تدليكًا؟ "
رغمَ الخَطرِ الكامِن في اقتِحامِ حُدودِها كشَفتُ عن معِدتها، وهدهدتُ عليها برفق، لعلَّ لمستي تُشيل الألَم عنها.
عيناها لا تُجيدان النَّظر بقدرِ ما تُجيدانِ التَّصويب، والهَدف فُؤادي على الدَّوام. جاذبيَّتُها فاقَتني، لم أشعُر بعودِي وهُو ينحني حتَّى أدركتُ شُرفَتها المُزدانَة بالملذَّات، وحينَما وطأتُها، وصادَفتُ الحبَّ فيها، ما اقتَدرت على العُبورِ دونَ أن أضمَّهُما، بشغفٍ كالشَّغف الَّذي دفعَ بأناملها لالتِماسِ الحُمَّى في خدِّي.
عقِبَ احتِراقٍ نهمٍ ما أبقى فينا ولو على سنبلةٍ مِن سنابِل الوعي، احتِراقٌ ما تجشَّأ الرِّضا رغم أنَّه كادَ يُجرِّدُنا مِن الثِّياب وحتَّى مِن الذَّات، خمَدت ألسِنته، وما نزالُ نحنُ كالجِمار الكاوِية، انقَطعت الحرَكة بينَ أزقَّتِنا، كأنَّها حملةُ تفتيشٍ أُخرى للموت... ولأنَّا في ميدانِ الشَّهوات، فإنَّ التغلُّب عليهَا يضاهي المُستحيل.
أتساءَل كَم بقي لي مِنِّي، وإلى مَتى سيصمُد، لأنِّي ما أزال أتهيَّلُ بعدَ كُلِّ اصطِدام، كتُربةٍ تسكُن مُنحدرًا حادًّا.
ردمتُ عُريَها بالقميصِ إذ أعَدته إلى موطنِه، ثُمَّ استَلقيتُ حذوَها مُشذَّبًا مِن الهواجِس الضارَّة الَّتي سبَق وأن نمَت على بَريّ، أمَّا الفَراغُ على يميني فملأه جسدُها، كأنِّي خسِرتُ شِلوًا لأحصُل على امرأةٍ فاحِشةِ الأنوثَة.
قبلَ أن يختطِفني النُّعاسُ مِن الواقِع سبَحت يدُها على صدري، واختَطفني صوتُها إلى سماواتٍ مُرصَّعَة بالجَمال.
" أجاشِّي، هل أنتَ مُستيقِظ؟ "
عزفتُ همهمةً طفيفة اختصَرت عليَّ الإجابَة.
" ثمَة سُؤالٌ يجولُ في رأسِي بلا هوادة، هل لي أن أطرَحه عليك؟ "
قبضتُ على الارتِباك مُتلبِّسًا في صمتِها اللَّحظيّ، الَّذي أخبَرني أنَّ ما بحوزتِها جديّ... لم أُبلِغها بقَراري لذلِك اتَّبعت إرادَتها.
" لقد بُحتَ لي مُنذ مدَّة، لا تزالُ سواعِد الزَّمن أبعَد مِن أن تستطيعَ ردمَها تحتَ النِّسيان، أنَّك قد دفعَت ذِراعَك ثمنًا لإنقاذِ طفلةٍ مِن المُوتِ... تِلك الطِّفلة هل تكرهُها؟ "
حفرتُ بينَ جفنيَّ نفقًا ذا وسعٍ كفيلٍ باحتِواءِ صورتِها، فإذا بِها تضجّ بالشَّجَن، كأنَّها وُلِدت مِن ريشَةِ الألمِ لتئِنّ.
كانَ الزَّمنُ ينساب مِن أنامِلي المثقوبة، كالرُّوح عِندما تنفد مِن الجسد وهو يُراقِب عاجِزًا عن إسعافها. سُرعانَ ما أخمدتُ صفَحاتِ الماضي الَّتي احتَرقت بينَ ناظريَّ فجأة، بزفرةٍ تسكُنها ألفُ آهَة، وأخطرتُها:
" ما سأشعُر بِه حيالَها، مُتعلِّق بمَدى رِعايتِها لحياتِها الَّتي كلَّفتني إربًا ثمينًا منِّي، لن أسامِحها لو أهدَرتها، أو سخَّرتها لأعمالٍ مُشينَة. "
أعطيتُها نظرةً حادَّة جعلتها تلفِظ جُرأتَها وتدفِن بصرَها بالفَراغ. اشتَعلت أحطابُ الوقت وبألسِنتها الحميدَة تدفَّأنا، حتَّى تخلَّل صوتُها المُتردِّد مسامِعي.
" ألم تُقابِلها؟ "
" بلا فعَلت. "
دفعت بصري نحوَها، فرأيتُها تتصفَّحُ سطورَ وجهِي بإمعان، بحثًا عن جُرعةٍ مِن الحقيقَة، ما بخلتُ في تزكيتِها عليها.
" في أوَّل لقاء لنا، ألصَقت بشعري الثَّمين عِلكةً مُشبعة بلُعابِها، وهِي الآن مُستلقية في حُضني بكلِّ وقاحَة، ما الَّذي عليَّ فِعله بِها يا تُرى؟ هل مِن اقتِراحات؟ "
لاذَت حدقتيَّ بالحائِط الَّذي لا ملامِح لهُ قُبالَتي، إذ تبرَّأ مِنه النُّور كَما تبرَّأ مِن مُعظَم بِقاع الغُرفة، قبل أن تستوعِب ما قُلته.
" ماذا؟ "
ترفَّعت عن السَّرير مُرتكِزةً على كفَّيها، ابتِغاءَ تغطيَة مِساحةٍ أوسَع مِن وجهي، بدا وأنَّ الصَّدمة رجَّت أوصالَها رجَّةً عنيفَة، اهتزَّت حِبالُها الصَّوتيَّة على إثرِها، وتعثَّرت حُروفُها بحِجارةِ الوَجل، وجل مِمَّا هُو آتٍ.
" كيف علِمت، مُنذ متَى وأنتَ تعلَم؟ "
وطأَت ابتِسامةٌ مُشرَّدة إحدى قارِعتيّ شفَتيّ مُنهكةً مِن طول المَسير.
" معي شهادة دكتورا في الحَذر، وخِبرة خمسٍ وأربعينَ سنةً في مُعاشَرة الحَياة، رغم أنِّي رسبتُ في أهمِّ امتِحاناتها، وخسِرتُ فرصتِي في الكمال، لا أحدَ يعرِف عن ألاعيبِها الماكِرة مِثلمَا أعرِفها أنا! "
تخطَّيتُ الفاصِلة تِلوى الأخرى برشاقة، دون أن أنظُرَ إليها، حينَما وصلتُ في البُعدِ عنها إلى نُقطةٍ عقيمةٍ راجعتُها مرَّة ثانية.
" أنا بالنِّهايةِ جِنرال، لستُ غبيًّا لئلَّا أتحرَّى عن فتاةٍ سأستضيفُها في مَنزِلي، وأطعِمها مِن وقتِي، حتَّى وإن كانَ ذلِك لأجلٍ مُقدَّر! "
صمتُّ لأمدٍ مُرتقِبًا سماعَ ما لديها، لكنَّها ظلَّت مفجوعَة غير قادرةٍ على الحراك. اكتَحل جفناي بالسُّخريَة مِن غبائِها الَّذي يزرعُ فيها خوفًا لا طائِل مِنه.
" لِم كُلُّ هذِه الدَّهشة؟ هل لأنِّي زحفتُ نحوَ أعماقِكِ خِلسة، وسطوتُ على مكنوناتِكِ دون إنذار مُسبق؟ أم ربَّما تخشين أن أنبُذَك لأنَّكِ المُلامَة فيما أصابَني... أليسَ ذلِك ما تُكفِّرين عنه بُواسِطة جسدِك؟ "
ربَّما لم تبُح لي بِما برَك على صدرِها، لكنِّي استطَعتُ تقديرَ وزنِه بعينيّ، كما التَمستُ الُّذعرَ يُطرِّز منادِيلَها النقيَّة رغم أنِّي أعمَى، لأنِّي صرتُ عليمًا بغيبيَّاتِها كالآلِهة، لا تغفَل عنَّا مهمَا ناوَرنا الاعتِراف، كُنت أراها عاريةً رغم أنَّها ترتَدي أسرارًا ثخينَة، خلعتُها عنها دونَ علمها، واليَوم عرَّتها الحياةُ مِن جميعِها رسميًّا.
ذِراعي الوحيدةُ الَّتي يسعُها النُّطقُ طمأنت قلقِها الثَّائِر في مُقلتيها بربتَة، بعدَما وازيتُ جنبي بالفِراش أدعوها لأن ترتَع على صدري كالسَّابِق.
" هل أنَّبتك نفسُكَ كُلَّما وقفت أمامَ ضريحِ الماضِي لأنَّك ضحَّيت بِها لإنقاذِي؟ "
لأوَّلِ وهلةٍ سيطَر عليَّ الغَضب مُذ أنَّها استَغفلتني لعُهدةٍ مِن الزَّمن، لكِنِّي رُحت أنحلُّ في قالبِها رويدًا رُويدا، ما حدَث أسقَط أقنعة الكثيرين مِن حولي، أحيانًا علينَا أن نُثقَب لنَصفوَ مِن المُنافقين، أولئِك الَّذين لطالَما كانوا صِغارًا كالفُتات لكنَّنا نفخنَا فيهم العظَمة، ولنعلم مَن لن ينسكِب خارِجنا لكِبر إخلاصِه.
" ربَّما نعَم وربَّما لا. "
اضطررتُ أن أجتزَّ علامَات الاستِفهامِ الضارَّة في سهلِها.
" كُنت شابًّا طائِشًا للغايَة، وقد تطلَّب مِنِّي إتقانُ الرَّزانةِ درسًا قاسيًا، الحياةُ لا تُعطِي الدُّروسَ الخصوصيَّة مجانًا، لا بدَّ مِن مُقابلٍ باهِظ. "
" هل ستهبُّ لإنقاذي ثانيةً لو أنَّ الحياةَ منحتكَ فُرصةً للتَّوبة؟ "
" على الأرجَح لا. "
قد تخالُ نفسَها النُّقطَة السَّوداءَ في ماضيَّ، لكنَّها مُخطئَة لأنَّها مِلكٌ لحُبٍّ وانٍ قاعِدته المَظاهِر، كأُنثَى تنجذِبُ لكلِّ ما هُو لامِع، وما إن يخبو حتَّى ينفضَّ اهتِمامُها مِن حولِه، وتُقدِّس كُلَّ ما تملِك، حتَّى وظلَّت تحبِسه في خِزانةٍ مُظلمةٍ لن تتنازلَ عنه، أمَّا هِي فغيمةٌ رماديَّة لا أزالُ أجهل ما إذا كانت نِعمةً أم نِقمة!
وبينما ذِهني مُرتبقٌ في مضيقٍ فارغ مِن كُلِّ شيء تمتمت:
" أتساءَل لِم لا تأذَن لنا الحياةُ بالرُّجوعِ إلى الورَاء بعدَ كُلِّ درسٍ لتصحِيح أخطائِنا الغير مقصودَة، كأن لا نُدمِن شخصًا! "
" لأنَّ الحياة تستمتِع برُؤيتِنا نادِمين، نتوسَّل فُرصةً لن نحظى بِها أبدًا. "
اقتفيتُ لحنها الرَّخيمَ إليها، رغمَ عِلمي أنِّي أتَّجِه إلى كمين، وبعدَ غاراتٍ بصريّةٍ فتَّاكَة، احتفيتُ بِها برحابة، دسَّت رأسَها بينَ ترائِبي.
" لقد كرِهتُكَ كثيرًا بالماضِي لأنَّك أنقذتني رغمَ هلاكِ عائِلتي، ظننتُ أنَّك منَحتني التَّعاسَة وجنيتَ المجد، لم أدرِ أنَّه كانَ ثمَرةً فاسِدة، يستَحيل عليكَ أن تتخطَّى قِشرَها الأنيقَ إلى لُبِّها لتستمتِع بِها، ندِمتُ لأنِّي تمنَّيتُ لو تنال المزيد مِن العَذاب، كما تعذَّبتُ، وعانيتُ مِن الوحدة طوال طريقي إليك. "
غفَت في كهفِ الصَّمتِ لمُدَّة ثُمَّ طلعَت مِنه بصوتٍ خامِل.
" لقد أعطيتَني حياةً لا أُريدُها، وها أنا ذا أعيدُها إليك."
تأمَّلتُ السَّقفَ بينَما أفرز ذكرياتِ ماضٍ آنف وآخر سالِف.
" أظنُّ أنِّي يومَها رميتُ نفسي بينَ أحضانِ الموتِ لأجلِ تذكرةٍ في الجحيم. "
أقعَدت ذقنها فوقَ صدري وهدَتني ابتِسامة رقيقَة.
" مكانُنا محفوظ ضِمن مقاعِد الشَّخصيَّات المُهمَّة جِدًّا. "
ما لبِثت وأن انقَلبت على جنبي، أحاصِرها بي.
-
حزَمَ الزَّمنُ في رِحالِه سبعَ أيَّامٍ وأدبَر بِلا عودة، في بادِئ الأمر تعسَّر عليَّ التأقلُم معَ الوضعِ الجديد، فهي امرأةٌ وغيَّة لا تكنُّ عن شنِّ حُروبِها بداخِلي، ولا عن إلقاءِ قنابِلها الموقوتةِ في أحشاء كُلِّ هُدنة نخوضُها، هِي الَّتي تهوَى الفوضَى، والكوارِث العاطفيَّة، ورائِحةَ الموتِ الَّتي تفوحُ مِن مُقلتيَّ كُلَّما سفَكت بصرَهُما.
ولعلَّه لصالِحها، فلو ظللنا مشغولين بتِجارتِنا الغريزيَّة لما اقتَدرت أن تُركِّز على دِراستِها، هي بالنِّهايةِ مُراهقةٌ ومُستقبلُها في طورِ البِناء، رغم أنِّي لبنةٌ فاسِدةٌ تمركَزت بينَ أعمدتِه، ولاشكَّ أنَّ اليومَ الَّذي أُهدِّده فيه أو حتَّى أهدُّه قادِمٌ لا محالَة!
مرَّت بفترةِ ضيقٍ تحفُّها الامتِحانات، استَمتعتُ برُؤيتِها تتخبَّط بينَ الأوراقِ، تُحاوِل اصطِيادَ المعلوماتِ مِن أجلِ النَّجاة، عليها ذلِك مُذ أنِّي التجأتُ إلى ذاتِ عُذرِها لترهيبِها؛ لو رسَبت فلن تزورَ سريرِي ثانيةً، رغم أنِّي سأكونُ الخاسِر الأعظَم حينَها.
اليَوم ارتأيتُ مُبارَحة الثَّكنةِ قُبيلَ الموعِد الروتينيّ، إذ احتضَنني التَّعبُ مِن كُلِّ جنب، صعبٌ أن أعيشَ حياتِي كشابٍّ في مِثلِ هذا العُمر، أعتقِد أنِّي هرمتُ كما يدَّعي سيهون، ويُفتَرض أن أتقاعَد عن منصِب كازانوفا القَرن.
رجعت إلى المنزِل مُباشَرة، حيثُ جهَّزتُ حوضَ الاستِحمامِ لاستِقبالي، عسى أن أظفَر ببعضِ الاستِرخاء، حشوتُ المُسجِّل بكاسيت فدَندَن إحدى سيمفونيَّات موزارت، ثُمَّ غَطستُ في عرضِ الماءِ السَّاخِن. كانت ذِراعِي متدلِّيةً خارِجَ حيِّز الحوض، وفي الوصبِ بينَ سبَّابَتي ووُسطاي كأسُ نبيذٍ عالِق، بينَما الأُخرى مفقودَة!
رغمَ أنِّي مُشارِفٌ على منظرٍ جذَّاب للمدينَة الإسمنتيّة، أوصَدتُ جفنيَّ مُتنعِّمًا بهذِه الخلوة، فبعدَ أن كانَت مسارًا محفوفًا بويلاتِ الذِّكرى، غدَت خيارًا أتَّخِذُه كلَّما احتَجتُ مساحةً شخصيَّة؛ بالأصحِّ منالًا يعصى عليَّ إدراكُه في حضرَتِها... لكنَّ السُّكون لم يدُم طويلًا، إذ اندَلعت فوضاها بالخارِج وأفسدته.
" أجاشِّي. "
واضحٌ أنَّها عادَت مِن المَدرسةِ للتوِّ، أمّا سرُّ الحماسةِ الَّتي شحنتها في لقبِي المُتداوَل بينَ شفتيها دونَما انقِطاع، فهُو انقِضاء فترةِ الامتِحانات... سُرعانَ ما اقتَحمت الحَمام بهمجيَّة، بينَما تحتضِنُ لوحتاها رسمةً دافِئة.
" أنتَ هُنا إذًا. "
شعرتُ بالتصلُّب في شراييني، كأنَّ دِمائِي في زحمةِ سيرٍ خانِقة، انحازَت عدستيَّ نحوَ جانِبي النَّاقِص المُتوارِي خلفَ ظِلالِ الآخر، فانقَبض جبيني كأنِّي كُسِرت، ثُمَّ دخلتُ محارِمَها مِن جديدٍ مرفوعًا بالغَضب.
" ألَم تتعلَّمي الاستئذان؟ "
طرَقت البابَ الَّذي ما تزالُ متمسِّكةً بمقبضِه مِن دواعِي المُزاح.
" أرضيتَ الآن؟ "
كُلُّ ما همَّني آنذاكَ هُو حجبُ ذِراعي، الأصحّ بقاياها، عن عينيها قبل أن تَبلغاها. اقتدتُ ذِراعي نحوَ صدرِي، على مسافةٍ مِنه رصفتُها، وتودَّدت نظراتِي إلى المشروبِ المحتجزِ في قاعِ الكوب... لقد اختَلفَ الموقِف عمَّا سَلف، فتعريضُ نفسي لنظراتِها طواعيَة، أهونُ مِن التعرُّض لها فجأة، كأنَّها مُداهَمة.
" ما الَّذي تُريدينَه؟ "
أسدَلت ذِراعَها بجوارِ فخِذها.
" أنتَ بالطَّبع. "
قطَعت قدماها الحُدودَ بينَنا، حيثُ جلسَت على رصيفِ الحوض، مُمتلِئةً بالطَّاقَة، وما فاضَ عنها آوته شفتاها العريضَتان.
" عليكَ مُكافأتِي، لأنٍّي ذاكرتُ باجتِهادٍ مِن أجلِ التَّفاهةِ المدعوَّة بالامتِحانات، لأوَّلِ مرَّة في حياتي. "
سُقت الكأسَ إلى فمِي بينَما أعتنِق العدَم، أنا العظيمُ الَّذي تجثوا الأبصارُ له إذعانًا أعجزُ أن أقرَب حُدودَها كأنَّها الهاوِية.
" تحثِّينَني على مُعاقبتِك لأنَّك عِشتِها باستِهتار. "
" أعِدُكَ أنِّي لن أضيِّع المزيدَ مِن وقتي في الحسرة. "
أخشَى أنِّي لستُ عِلمًا نافِعًا.
" سأنتِهي قريبًا، غادِري. "
وقتَها أحاطَت بالجُزءِ المبتور مِنِّي بصرًا للمرَّة الأولى، موقِنةً أنَّه الشَّوكَة الَّتي تخزُ أعصابِي. حطَّت كفَّها على كتِفي، وقَد تساقَطت كامِل وريقاتِها اليانِعة على رصيفِ الشَّفقة، أو ذلِك ما أنا راغبٌ في تصديقِه لمُجرَّد لومِها.
" لِم لا تقلق على خُلقك كما أنتَ قلقٌ على خِلقتِك؟ "
اصطكَّ فكَّاي ببعضِهما البعضِ، قبل أن تُفلِح جُمَّةُ مِن الكلِم في النَّفاذِ مِنهما.
" غادِري فحَسب. "
ظننتُ أنَّها ستكتشِفَ النَّجوى الَّتي خبَّأتُها في جيبِ أمري، كأيِّ رجلٍ فقيرٍ في الأدَب، توقَّف عن التحدُّثِ بشرفٍ مُنذ الأزَل، وتبنَّى صمتًا غير مشروع، فتُلبِّي دعوَتي لها إلى الرَّحيل، إذ أشاحَت بوجهِها عنِّي لوهلة محمومةٌ بالسُّكوت.
" لا تخشَى على مرسمِك مِن نظراتِي، لأنَّك كالفنِّ لا يستطيبُه الجميعُ إلَّا بعدَ فواتِ الأوان، وأنا كأقلامٍ يُكبِّلُها الحُبّ، لن تخطُّ يومًا مقالًا يذمُّك.."
وكأنَّها علِمت أنِّي قد خلدتُ إلى السُّكونِ وما سوفَ أسعُ حملةَ غضبٍ أُخرى، سيَّرت كواعِب يديها على خدِّي.
" أنتَ قمر، حتَّى ولو رأوكَ هِلالًا. "
هِي الوحيدَة الَّتي تُجيدُ ترويضَ غضَبي، وملأ فجواتِ النّقص في مُهجَتي بكلمٍ معسولٍ يلتصِق بالأفئِدة... ما لبِثت وأن واربتُ جفنيَّ مُطلًّا على الحُسنِ الأخَّاذ المدسوسِ في عينيها كالسِّحر، ودُست يدَها على خدِّي بكفِّي.
" تعرَيّ. "
-
كان معكم اطول فصل بالرواية 😍
من الفصول يلي كنت متحمسة لها عشان جانب ثاني من المراهقة انكشف، الجانب الشهواني شفناه بالسابق وهون الجانب الغيور 💃
شو رايكم بالفصل!
اكثر جزء عجبكم ومعجبكم!
بيكهيون!
ميني!
يورا!
شو بتتوقعو يصير بالفصل القادم!
خلوني احكيلكم فاني شورت ستوري 😂
قبلة السيارة موجودة بالمخطط من قبل ما ابدا اكتب الفصل بشهر يناير، طبعا كلو كان جاهز بالشهر الثاني خبرتكم قبل اني شريرة... لما وصلت للمقطع ترددت، وفكرت اذا الموقف مناسب لهيك شي أو لا سو سألت مستشاراتي 😂
والناس نوعان:
هيفا يلي صارت راهبة فجأة.
-طونوبيل هي سيارة بلهجتنا للتوضيح 😂-
ورسل بدون تردّد:
كامي بعد ما عملت الجريمة وخلص، تحت شعار الرجوع الى الأصل فضيلة:
مثل ما قالت ميني هرموناتي 🌚💔
متخيلين الفصل من متى جاهز!
من بداية الرواية منتهجة سياسة التخزين ومتقدمة بثلاث فصول من يومين خلصت الفصل 19، بس تاركة هالمسافة للطوارئ حتى ما اتأخر عن الموعد إذا صار شي وما قدرت اكتب.
شايفة بعض العيون الحمرة بتطلع علي وحابة تقتلني😂😂😂
الفصل القادم بعد
200 فوت
500كومنت
دُمتم في رعاية اللَّه وحِفظه 🍀
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top