الفصل | 15

هايز خفافيشي 😈

يما بيقولو انو الخفاش هو سبب الكورونا يعني المفروض ناديكم كوروناتي الحين وببقى أنا أم الكورونا 😂

الله يرفع هذا البلاء عنا ويحمينا كلنا، كيف صايرة الاوضاع عندكم!!😭

لما بفكر انو احسن شي بالنسبة للبعض هو القعدة بالبيت والاستراحة من المدراس بعدين بتذكر اني شخص ماكث بالبيت وعاطل عن العمل بيرتفع عني هرمون الحسد 😂

البارت بمناسبة عيد ميلاد ست الكل ميرسي 🎆 كل عام وانتي قلبي 🎉🎉😭😭
ParkMercyAriana

الجنرال بيون

Enjoy 💕

-

Inna - in your eyes

ألفُ ظلٍّ للأزرق يرقُص في مُقلتيك. ≫

لم نعرِف قطُّ توقيتًا، بل كُنَّا صُدفًا عشوائيَّة تُخلقُ بينَ أصقاعِ الوقت ومِن شقوقِه تربو، فنقِف كُثبَ بعضِنا حيرى بينَ العُزوف والأزوف.

أنا، هُو، والوقتُ ثالِثُنا، ما يُخرِّبُه عمدًا أخيطُه بلِساني، ورغمَ أنَّا نئِنُّ بعدَ كُلِّ غرزَة تخترِقُنا إلَّا أنِّ الوِصالَ مُنتهانا ولو طال، وما يفوقُ سُلطاننا يخترِع لهُ الوقتُ تِرياقًا، أصعَبُ خُطوةٍ هِي الأولى، كثيرًا ما اختَصرها الوقتُ علينا، وحدَه الوقتُ مَن تلاعَب بِنا كأنَّا أحجارُ نردٍ في رقعتِه الخادِعة، وإذا ما اجتبينا الفُراق بينَ الزُّقاق والآخر لمَّنا.

لكلينا كِبرياءٌ عنيد ومراسٌ عتيد لا يرتدُّ، ولولا صِداماتِنا العفويَّة لما علِقنا ببعضِنا، ولوما كُنت مِن بنِي النَّدمِ، لتعسَّر علينا أن نكون!

يحِلُّ الماضِي كملكِ الموتِ ليقبِض روحَ الحُبورِ مِن الحاضِر، فيسيرَ بعرجٍ كأنَّه يتحشرَج، لكِنَّه يحِلُّ أحيانًا كلهفةٍ ذوت بينَ الصُّدور، في ساعةِ انكِسارٍ شجيَّة ما شهِدت مِن بعدها شِفاءً، ومهمَا أغرقَها الوقتُ بعِزَّتِه ما وثَبت كالأزَل.

كذلِك بيكهيون، إذ أتَى وبينَ كفِّ حُضورِه باقةٌ أنيقةٌ مِن اللَّهفة، مُتضرِّجةٌ بالحُمرة، أقسمتُ حينَ رأيتُها أنَّ القدَر لن يكتِب لها شُحوبًا ولا ذُبولا، لستُ أدري كيفَ لقفتُها عنه، ولا كيفَ أولجتُها مِزهريَّة قلبي المُترعَة بالدُّموع!

هُو يترعرعَ بينَ دموعي المالِحة، يستَقي مِنها حدَّ الارتِواء، ويلهَم مِن بقايا أوجاعي وخشاشِ الخيبَة الَّذي يُدنِّس روحي، وشيئًا فشيئًا يكشِف عن صورَتي المخفيَّة سُفلاها. أعلَم، لو أنِّا سويَّان لما عقفتُ عُنقي لأنظُر إليه، ولما عثَر فيَّ على قوتٍ ليحيى، وما كُنت لأحجِز في مُقلتيه مأوًى يصدُّ عنِّي كُلّ هولٍ يُحدِق بي، وكُلَّ رزيَّة.

هُو الَّذي فتَّق غِشاءَ الأمسِ السَّميك وانسلَّ إلى أيَّامي رُويدًا رويدا حتَّى غزاها، خِلتُ أنَّ الحياةَ قد شاءَت مُضاعفة عِيار الأذيَّة بربطِي إلى جِذع الماضي، وجلدِي بذكرياتٍ مفتولةِ الغُصص، حينَما لم أتزعزع رغمَ كُلِّ ما سكبته عليَّ مِن آلام، سلَبت مِنِّي الإشراق فعِشت بانطِفاء، لم أشكَّ ولو للحظَة أنَّ الرَّجُل الَّذي رجمتُه بالحِقد خطأً سيُتوَّجُ بملكي مِن قبلي، وأنِّي ذاتُ المرأةِ الَّتي تنبُذ العلاقات سأفرِش كامِل دربَه إليَّ ورودًا.

في ثراهُ كُنت عِمارةً عجوزًا نخرَت الويلاتُ ضُلوعَها فكادَت تتهاوى، لكِنِّي قاومت، كُلَّما أمالَتني شمالًا أعدتُني إلى استِوائِي لعلِّي أُفلِح في الصُّمود، لم أدرِ أنَّ الحياةَ قد أعدَّت لِي يومًا أعودُ فيه إلى الحافِرة، إلى مسحوقٍ يأبَى أن يتعاضَد ثانيةً لبِنائي، وأنَّه الَّذي سيضمُّ رُكامي، كما أضُمُّ رُكامَ مُقلتيه كُلَّما دكَّتهُما أمواجُ الرَّغبة.

اصطافَ في أرضِ الغِيابِ ليومين مديدين، وها هُو عود الثَّالِث يتآكَل دونَ أن يبزُغ في آفاقي، ويغسِل عن أنحائِي سوادَ اللَّيلِ المُستبدّ.

ليتَ لي المُكنة على التنبُّؤ بسيماءِ الجوِّ في سَمائه، فرغم أنَّها ذاتُها سمائِي قد لا يُضارِعها، لأنَّ السَّماء مفصومة كألبابِ الحوامِض، وربَّما محكومةٌ مِن قِبل عدَّةِ نساءٍ يؤيِّدن التَّميُّز، ما لإحداهنَّ وشاحٌ مِن طِرازِ الأخرى، كأنثى لا تهوى التَّقليد، أتساءَل ما إذا كانَ بشوشًا كالأمل، أم عابِسًا كالخَسارة، أتساءَل عن حالِه دوني، أكدِر أم طهِر؟ أرسَم فيه الشَّوقُ تجاعيدَ الشِّتاء رغمَ أنَّنا في عِزِّ الرَّبيع، أم أنَّ الرَّبيعَ قد غلب؟

صبوتُ للتوِّ منزِل بيكهيون الصَّامِت في بُعدِه عنه مِثله، كأنَّه يأبى إلَّا أن يتَّسِم بخِصالِ مالكه دون الاكتِراثِ لضيفِه الوحِيد وما قد تُلحِقه الوحشَة بصدرِه مِن ضيق، حتَّى أنِّي ما أزال لم أخلَع عنِّي زيّي المَدرسيّ، لطالَما صبَّحتُ الحياةِ بتبرُّم، وأمسيتُ عليها بتشاؤُم، لكِنِّي مُنذ الأمسِ أُحفِر الدَّقائِق بقلقٍ حُلو، بحثًا عن جوهرِ اللِّقاء الكامِن بينَ أحشاءِ هذا اليوم، فاليوم تنتَهي المُهلةِ الَّتي قطَعها لنفسِه ويفيء، لو أنَّ ما قالَه حقّ!

بالأريكَة أودعتُ حقيبَة ظهري الَّتي لا يقطُنها سِوى دفترٌ قاحِل يكادُ الكلِم ينعَدِم بينَ رُبوعِه، وبِضعةِ أقلامٍ توشِك على النَّفاذ، وقبل أن أُتبِعها بجسدِي المُرهَق مِن الجُلوس على كُرسيٍّ صلب مُنذ البُكرة، سمِعتُ قرعًا على الجرس.

ما فكَّرتُ ولو لثانِيةٍ في دراسةِ الاحتِمالات المُرتبِطة بهويَّة الوافِد، إذ غرَّني الشًّوق بأنَّه بيكهيون، فاندَفعتُ نحوَ البابِ كالطَّلقة، لقد صارَ لي نوبةً وجدانيَّة أفقِد فيها فتيلَ العقلِ وأهوِي في حُفرةِ الجُنون، أنا الَّتي أقسَمتُ أن أكتُم عِلَّتي عنه وأنَّه قرَّتُها.

فتَحتُه بثغرٍ يرتَدي ابتِسامَةً أكبَر مِن حجمِه، وعينانِ خَرساوَين تتمنَّيانِ الحديث، وما إن انحَسرَ على طلعةٍ غير طلعتِه الدَّامِغة، وهالةٍ غير هالتِه السَّوداء الَّتي تُعدِم الألوان، حتَّى مزَّقت أغصانُ الخيبَة حُلَّة وجهي، ونفَخت الصَّدمةُ عينيّ، وتبعثَرت خرزاتُ الشَّوقِ في صدرِي، فمَا انسدَل مِنِّي إلَّا خيطُها.

" بانغ تشان؟"

تكتَّلت الدَّهشةُ كالغُصَّة في حلقِي، تُعيقُ رُسُلي عن المُرور.

" ما الَّذي تفعلُه هُنا؟ كيف علِمت عن مُستقرِّي؟."

لم تقلّ شَظايا الخيبَة طريحَة أرضِه عن شظايايَ حينَما تبيَّنتُ هويَّة الزَّائِر، رمَّم نظراتِه الَّتي انكَسرت لوهلةٍ غارِقةً بالأرضِ مُعيدًا وصلَها بمينائي، وأطلقَ زفرةً مُكتظَّة بالغضَبِ كأنَّه بدِلاءِ النَّفسِ يُزيحُ أحمالَ دواخِله.

" قصدتُ الميتَم بحثًا عنكِ لعلَّنا نُصوِّب علاقَتنا بعدَما انحَنت. "

تعاظَم وسعُ عينيه بينَما يسألُ بدراميَّة.

" واحزري ما عثرتُ عليه؟ "

ركنتُ عدستيَّ بحافَّتيّ جفنيّ مُجيرةً نفسي مِن عذابِ النَّظرِ إليهِ، ليسَ أسًى على حالِه بل سأمًا مِن نشوبِه عِند قدميَّ ومُحاولتِه لسعي.

" لقد عثرتُ على جديدٍ جعَل القديم الَّذي علِمتُه عنكِ خلفَه بأميال! "

انهارت ابتِسامتُه المُحقِّرة وإيَّاها فنيت حضارةُ السُّخريَة فيه، ونابت عنها غلواءٌ أهولُ مِنها، إذ أماطَني عن طريقِه بيُسرٍ، واقتَحم المنزِل. لم يخطُر لي آنذاكَ إلَّا ما قد يحدثُ لو أنَّ القدَر قد دسَّه بيني وبين بيكهيون كفَخّ.

هرَعتُ أردَعه دون أن أُسقِط جثَّة وقتٍ في ساحةِ الانتِظار، وقد طفَح الارتِباكُ في مُحيَّاي بوضوح، وعدَى صوتِي الَّذي اختَلّ.

" إلى أينَ تظنُّ نفسَك ذاهِبًا؟ فلُتغادِر مِن هُنا على الفَور. "

تابَع التوغُّل متَّجِهًا إلى جُفرِ المنزِل، حاجِباهُ متصافِحان بإصرار، وذراعاه تتأرجحان جيئةً ورواحًا، كأنَّ رفضِي لم يعنِ لهُ شيئًا.

" لقد أتيتُ لأرَى ذلِك العاهِر المدعوِّ بالجِنرال، والَّذي يحوم حولَ مُراهِقة أرجِّح أنَّها بعُمرِ ابنتِه، مُستغلًّا نقائِصَها الماديَّة والعاطفيَّة، مُقابِلها. "

ابتُليتُ بصبرٍ مخرومِ القاعِ كُلّ ما أكبُّه فيه يضيعُ سُدًى شيئًا فشيئًا، كالرَّجُل الَّذي بُليتُ بمُقاسمتِه ذاتَ الضَّمير، رغم أنَّه رجُل الأَنا، لا يرضى بشريك، وما يزالُ ديكتاتورًا، مُحجِمًا عن الاعتِرافِ بِنا، رغمَ سقوطِ مذاهبه على يديّ واحتِجازي لهكتاراتٍ مِن كونِه، مُنعزِلًا في حِصن ما بقيَ لهُ مِنه بعدَما طغيت عليه.

عدا أنَّ لا قاعَ لصبرِه قد يُماطِل انفلاته فمَتى ما دعاهُ الغَضب لبَّى، لذا فتلتُ أنامِلي حولَ مِعصمِه وبخُشونةٍ زجرت.

" هل أنتَ تُلاحِقني؟ "

اجتثَّ ما بينَ يدِي بعداء، وسوَّى قِبلَته بي.

" وهل عليَّ الوقوفُ متفرِّجًا بينَما تنقعينَ حياتكِ في الضَّلالِ بيديكِ؟ كُلّ همِّي مصلحتك، والَّتي أدري أنَّها ليسَت هُنا، ولن تكون. "

نزَفتُ ضِحكةً سوداويَّة، على أعقابِها ارتقت الكلِمات نبرِي المُتصاعِد كالدَّرج، حافِلةً بالغِلّ، مُرادُها سلخ شغافه، ورشَقته مُقلتاي بنظراتٍ مُلتهبة، كما يُرشقُ الخطَّاءون، فالاشتِباه بمشاعِر امرأة جريمَة تستحِقُّ القصاص.

" ما الَّذي تعلمُه أنتَ بخُصوص حياتِي لتحكُم عليها بالضَّلالَة، أو لتُفكِّر فيما يصبُّ لصالِحي وما لا يصبُّ لصالِحي؟ أخبرتُك أنَّك لست مؤهَّلًا للتدخُّل في شُؤوني، وهذِه المرَّة لن أكتفي بمُخاصمتِك! "

مضَغت أسنانُه الكلِم بتلكُّؤ كأنَّ الصَّدأ يعيبُها.

" ما فُهت بِه ليسَ حُكمًا، بل واقِعًا، فلو حكمتُ عليهِ بلِساني لجرحتُك. "

فوَّتُ أكثَر مِن محطَّة للردّ ليسَ لأنَّي هفوت، بل لأنِّي خادعتُ الغضَب القاعِد بجانِبي، عسى أن يهفوَ فأتملَّص مِن جِدالٍ محتوم... بعدَ أن لفَظ الزَّمن عِدَّة أنفاسٍ مِن فمِه، نزلتُ عن الصَّمت، وارتدت خِلقَته المُغبِرة.

" أشخاصٌ منبوذونَ حتَّى مِن الحياةِ مثلنا لا تسعهُم الطُّرق السَّويَّة، بالأصحِّ لا تَفتَح مصارِعها أمامَهم ولو رضَّت أركابُهم لفرطِ السُّجود والتضرُّع، لذلِك يسلكونَ المُنعرجات لمُجرَّد العيش، هل مِن الخطأ الرَّغبةُ في العيش؟ "

" ليسَت الرَّغبةُ في العيشِ خطأً، بل التَّظاهُر أنَّ لا سبيلَ إلى الخلاصِ سِوى الخطأ لمُجرَّد أنَّه مُختصَر هُو الخطأ بعينِه. "

لمحتُ أسوارَه تخِرُّ كاشفةً عما توارى خلفَها مِن لين، كأنَّه ما بناها إلَّا ليخفِيَ مشاعِره المَيؤوسِ منها عن العيان، تآلفت أصابِعه فوقَ كتِفيّ، ضاغطة ببنانِها عليهما، وولِفت حقيقَة قلقِه في غياهِب فضائيه.

" لا أريدُ لكِ نهايةً تعيسَة جرداءَ مِن العاطِفة، أنتِ تستحِقِّينَها، ورجلٌ مِثله لا يسعى سِوى خلفَ أهوائِه الكامِنة في أغوارِك، لن يشقَى ولو قليلًا مِن أجلِ إسعادِك، وإذا ما فوَّضه الموقِف على تركِك تركَك دونَ رشفَة تفكير. "

وجدَ الصِّدقُ الَّذي أمطَرني بِه ثغورًا مِنها تسلَّل إلى لُبِّي، فتغرغَرت مُقلتيَّ بالأَسى حِيالَه، وهجَدت أعصابي.

" لقد تشعَّبت عواطِفكَ على مُحيَّاك تشان، لكِنّي لا أضمِر أيَّة رغبةٍ في أن أسلُكك، يبدو وأنِّي عالقةٌ في أقاصيه... أنا أُحبُّه. "

تهالَكت نبرتِي مِن وقعِ الحقيقة، حقيقةٌ ما اعترفتُ بِها بل وكِدتُ لها، ووأدتُها لعلَّها تموتُ بجوفي لكِنَّها وحيثُما نفيتُها تكيَّفت...

انتهزتُ ارتِخاءَ أصابِعه لإزالتِها عن كتِفي، والتحرُّر مِن زنزانَة الذَّنب في جفنيه.

" فهمِي بعيدٌ عن مُتناوَل جهلِك، تحتاجُ إلى سنين سحيقة مِن المعرِفة بي حتَّى تصير مُخضرمًا بمقدورِه الحُكم عليّ."

ظننتُ أنَّه سيتفهَّمُني على الأقلّ، وينسحِب مِن هذِه المعركةِ الَّتي لن يكونَ يومًا طرفًا فيها، لكِنَّه حبَر خُطوةً عريضة ناحِيتي، ونغمَة الرَّجاء الَّتي ألَّفتها أوتارُ قلبِه، أوشت لي بأنَّ الحديثَ معه لن يُثمِر، ليسَ وكأنِّي أجهلُ عن عِنادِه.

" مينِّي، توقَّفي عن الهذَيان."

أخليتُ وفاضي مِن زفرةٍ لأخِفّ، لكِنَّ نفَسِي ما يفتأ مُتثاقِلًا.

" تشان أمرتُك أن تُغادر، أنتَ ستتسبَّب لي بمُشكلةٍ معَ المالِك... لقد استقرَّت علاقتُنا للتوّ، لن أسمَح لكَ بهزِّها. "

قال بتصميم:

" لن أغادِر قبل أن أرى العاهِر الَّذي بِعته نفسَك. "

سجَدت أطرافُ أصابِعي وسَط كفيّ، كمُحاولةٍ لعصمَتي عن وساوِس الغضَب، ولأنِّي ضِقتُ بِنعوتِه ذرعًا إلى الحدِّ الَّذي باتَت فيه تؤُذيني رغمَ أنَّها لا تمتُّ لسيرَتي بصلة، ولو متَّت لها لَما حرَّكتُ ساكِنة، صرخت بألَم.

"لِم يخالُ الجميعُ أنِّي أبيعُه نفسي كأنِّي المرأة الوحيدة الَّتي تُقابِل رجُلًا خارِج الإطارِ المشروع؟ أم أنَّها في حالاتٍ غيري تُسمَّى حُبّا، وفي حالتَي تُسمَّى دعارة؟ هل مِن غير المَسموح ليتيمَة بالدُّخول في تِجارةً عاطِفيَّة؟ هل مِن غيرِ المسموحِ لي بأن أُحبّ؟ "

ربَّما مشاعِري أعظَم مِن أن يستَوعبَها أحد، وربَّما هِي شفَّافَة لا تُرى بالعينِ المُجرَّدة، لذلِك يتخيَّلُها الجميعُ وفقَ ما تُهيِّئه لهُم أهواءُهم!

" ما الَّذي يحدُث هُنا؟ "

داهَمت شُرطة بيكهيون النَّاقِمة مِنبَر صمتِنا اللَّحظيّ، حيثُ ارتَقى كُلّ فردٍ مِن أفرادِها سورةً أعلى مِن الآخر، في تنافسٍ حولَ من يدقُّ الرّعب في أوصالي، ولاقيتُ عيناه الفيروزيَّتين اللَّتين دكنَتا، كأنَّ سوادَ مُهجتِه يُخامِرهما.

مجالي البصريّ ضاق، مُقتصرًا على هيئتِه، إذ خضَّب دخَّانُه حُدودي فما عُدت قادِرةً إلَّا على رصدِ ما هُو واثبٌ أمامي. ولثقلِ الدَّهشة الَّتي نزلَت على كياني، حتَّى لِساني لم يقوَى على استِلالِ نفسِه مِن تحتِها والتَّبرير، كابدتُ لإرسالِ الخِطابات له، لكِنَّ أنفاسي المقطَّعة تعترِضُني في كلِّ مرَّة وتسرِق الغِلَّة مِنها.

أعظَم مخاوِفي أن يُفسِّر انفِرادي برجلٌ في دارِه وهُو غائِب مِن عينِ الغضَب، فيُدينَني بالخيانَة مُباشرةً رغم أنِّي قرينة الإخلاص، مرهونةٌ له، ويَستكبِر عن إلقاءِ نظرةٍ على الكواليس، ويسنَّ بحقِّي ظُلمًا مُبينًا لا رِدَّة فيه.

" إذًا فأنتَ هُو الرَّجُل الَّذي يُفضِّل اللُّحومَ الطريَّة. "

تدخَّل تشان واضِعًا حدًّا لاشتِباكِنا البصريّ بكلماتٍ غيرِ راجِحة، أثارَت أعصابي.

" تشان! "

قلَّصَ المسافةَ بينَه وبينَ بيكهيون بجسارة، حيثُ مالَ خطُّ ثغرِه.

" ألا تشعُر بالعارِ لتلقّيك خدماتٍ جنسيَّة مِن طالِبةٍ في الثَّانويَّة حضرةَ الجِنرال المُوقَّر؟ "

ما كِدتُ أردعه حتَّى انفَلَت مِنِّي وفحَّ بحِقد.

" هل تستمتِع باللَّعِب في جسدِ مُراهِقة لا ولِيَ لها ليسألُ عنها، أو يبحَث خلفَ سرِّ العلاماتِ الطَّافِحة عليه؟ "

ورغم أنّه رجلٌ يعتنِق الصَّمت، لكنَّ لا حيلةَ له حينَما يصرخُ الغَضب في أوداجِه، مُهدِّدًا بالانفِجار، فها قد نتأت عظمتا فكِّه السُّفلي مِن النَّاحيَتين، مُفشيتين عمَّا يُحاوِل دفنَه بينهُما. حينَما أوشكتُ على التَّوسُّط أنجَب ابتِسامةً.

" لا أمانِع اللَّعِب معك أنتَ أيضًا، فيداي بارِعتان في حصدِ المُتعةِ مِن الجِنسين... يسعُني منحُك علاماتٍ مِن شأنِها أن تُفقِدكَ النُّطق. "

أقامَ يدَه المدسوسةِ بقفَّازٍ عن مرفئِها، ولامَس وجهه نُزولًا، لا أحدَ يدري عمَّا يدورُ بخُلدِه، لكنَّه مُنكرٌ حتمًا، لأنَّ أساريرَه لا تعوجُّ فرحًا.

" ولكِنَّ وجهك جميل على أن تُعرِّضَه للَّكمات وأنتَ في كامِل عقلِك، أليسَ كذلِك يا صغيري؟ "

" أيُّها الوغد.. "

لم أصدِّق عيناي حينَما بثَّتا لي مُحاولة ضربِ تشان للجِنرال، لكنَّه تفاداه بيُسر، ثُمَّ لَوى ذِراعَه وراءَ ظهرهِ، فتألَّم بحجمِ ما استخدمه مِن قوَّة ضِدَّه.

" أنا رجلٌ لا يُجيد ضبطَ أعصابِه، وها أنتَ ذا تقترِف في نِطاقي عددًا لا يُغتفرُ مِن الجرائِم، داهَمت منزلي في غِيابي، وأهنتَني شخصيَّا، ثُمَّ سوَّلت لكَ نفسُك لمسي، فلتشكُر سنَّك الصَّغيرة الَّتي تشفعُ لكَ عِندي، وإلَّا لكُنت في عِداد الموتى. "

حالَما تجرَّأ تشانَ على كدمِ يدِه بمِرفقِه، نويتُ أن أضَع نُقطة النِّهاية لهذا الجِدال الَّذي نشبَ بسببي، وما كادَت قدميّ تتجشَّآن خُطوةً واحِدة صوبَهُما حتَّى قفزت مِن ثغرِ تشان آهةُ موجوعَة، لحظتها دريتُ أنَّه قد هاجَم ذِراعَه الآليَّة.

أوهَمه بيكهيون بأنَّه يُحرَّره لكنَّه استَبدل ذراَعه بقلنسوتِه، وهروَل بِه إلى الخارِج، تهدَّج صوتُه على إثرِ الجُهد الَّذي كان يبذُله في سبيلِ جرِّه مُذ أنَّه أبى الانصياع، ليسَ الوقت المُناسِب للغزَل، ولكِنَّه بدا مُغريًّا ورُجوليًّا!

" لو أنَّ بحوزَتي بعضَ الوقتِ الرَّخيص لأخضعتُك لإعادةِ التأهيل قبل إرسالِك لبيتِك، لكِنَّ وقتِي أثمَن مِن أن أسخِّره لمُراهِق. "

استرَقتُ النَّظر إليهما مِن مدخَل غُرفةِ الجُلوس، واهتديتُ إلى أنَّه قد تخلَّص مِنه خارِجًا.

" إن لم تنصرِف مِلء إرادَتك فسأضطرُّ لمُناداةِ الأمن، إيَّاك أن تعودَ إلى هُنا ثانيةً. "

لم أرَ تعابيرَه آنذاك، لكنِّ فَراشي ذِهني صوَّرته لي مقبوضَ الجبين، وها هُو ذا يُشرِك البابَ بإطارِه بعصبيَّة كما تخيَّلتُه.

" لا أصدِّق أنِّي بسببِها أتعارَك مع مُراهِق في الرُّبع الأخير مِن عُمري! "

سمِعتُه يُتمتِم وهُو يقترِب مِن موقفي، وكما لو أنَّ عيناهُ تغليان لم أستطِع أن أنظُر فيهما، خشيتُ أنَّه سيؤصِد جميعَ أبوابِ الإصغاءِ في وجهي، ويُؤمِن بما ألَّفته ظُنونِه، لذلِك لفظتُ ما سَاورني تِباعًا قبل أن يصبُوني.

" أنا لم أستغلَّ غيابَك لأدعُو رجُلًا إلى المنزِل، لقد لحِق بي دونَ علمِي، صدِّقني. "

كُلّ الجسارةِ الَّتي لطالَما انتعلتُها ومشيتُ بِها على جُسورِه المُعلَّقة رغمَ الحُطمَة المُتوعِّدة سُفلاها ثُلِمت، ولأنِّي حافيةٌ توجَّستُ أن أُجرَح لو اقتَحمتُ مُقلتيه، حتَّى عمامةُ الأنفَة الَّتي ما فارَقت رأسي في كُلِّ جِدالٍ أبسطُ حُلولِه التَّنازُل رثَّت، لم أكُ نِدًّا للصَّهد المُنبثِق مِن مسامِ جسدِه، ولم يُزهر جفنيّ حتَّى سقَاني بُعده عنِّي بعضَ الحياة.

انتظرتُه على الأريكَة في غُرفةِ الجلوس، مطويَّة القامَة، تكادُ رُكبتايَ تُلامِسان ذقني، بينَما يرقُد جِهاز التحكُّم في إحدَى يديّ، لا يعرِض التِّلفاز أيَّ برنامجٍ مُثير، كما أنِّي أنبُذ البرامِج التَّرفيهيَّة، إذ أنَّها تغرقُ في السُّخف بمُرورِ السِّنين، لكِنِّي ثبتُّ أحدَها على الشَّاشة، فتَركيزي تائِه، ما خِلتُ أنَّه سيُبالِغ في التَّأخير، وربَّما هُو لا ينوي الحُضور!

مُنذ أن زحفتُ إلى دارِه كالمهزومَة في صِراع، أعتِل أشتاتًا مِن ذاتِي في حقيبَة سفَر، أعلنتُ تبرُّئي مِن الكبرياء، ورغمَ أنّه ما يفتأ ينسلُّ إليّ بينَ النَّكبة والأُخرى، لم أُعِره أيَّ انتبِاه، لأنَّ بيكهيون رجُلٌ مُتوطِّنٌ بقِمَّته، يستَحرم مُبارَحتها مهما كان الدَّاعي إليها مُلحًّا، ولولا أنِّي الَّتي تسلَّقته لما تكلَّلت نِهايتُنا بنُقطةِ الوِصال.

وكسالِف مُشاجراتنا التَّافِهة تطوَّعت للإصلاح، وعبرتُ الحائِط الَّذي يحول بيني وبينَ رؤُيته إلى غُرفتِه، حيثُ تبوّأتُ جانِبي المُعتادِ من السَّرير، بجوارِ جِرمه المُنكبِّ على وجهِه بهمود، كأنَّه مُعدمٌ مِن الرُّوح... موقنةٌ أنَّه يقِظ.

تخطَّت يدِي الحواجِز الَّتي شيَّدها الحَرجُ في مِضمارٍ نهايتُه كتفه، حيثُ حطَّت عليهِ بأمان، ورغمَ أنِّي توسَّمتُ بالانتِصارِ حادَثتُه كخاسِر:

" أعلَم أنَّك غاضِب بسببِ اصطِدامِك برجلٍ في عُقر منزِلك الَّذي ائتمَنتني عليه، ولأنَّ ما تفوَّه به دون أن يحسِب لمشاعِرك أيَّ حِساب يستحقُّ الغضَب، ربَّما تشكُّ في إخلاصي لكَ، حتَّى وإن كُنت نزوة، وربَّما تُشكِّك في ما يجولُ بذِهني. "

لا تزالُ جُعبَتي مُكتظَّةَ بالأقاويل، مُذ أنِّي بالكادِ صرفتُ مِنها قِرشًا أو اثنين في اليومين المُنصرمين، لكِنِّي استقيتُ بالسُّكوت لوهلة.

" لكِنَّ أفكارِي لا تُشابِهه أفكارُه، كِلانا يعلَم أنَّك لست تستغِلُّني. "

طلا الشُّرود بريشتِه الابتِسامة على بوَّابَتي.

" أرى أنَّ الفارق العُمريَّ بينَنا لطيف، مُجرّد تذكُّره يجعلُ الدِّفء يُندي أضلُعي. "

مالَت نظراتِي الَّتي سفَحت مِن جُرحِ الخيبَة وتراكَمت على ظهرِه، حتَّى دفَعني سُكوتُه إلى الانصِراف، وعلى مسافةٍ مِن إطارِ الرَّحيل قُلت:

" ألم تشبَع مِن الغياب، ومِن الصَّمت؟ "

أُبت إلى مُنطلَقي السَّابِق وأرسيتُ رأسي بخيبةٍ على ذِراعِ الأريكَة، مُتمنِّيةً لو أنَّها ذِراعُه الَّتي أتوسَّدُها، يجهلُ كم اشتقتُ إليه في الفترةِ الَّتي قضاها بعيدًا عن المنزِل، وكميَّة الهواجِس الَّتي تراكَمت برأسي، حدَّاها هُو وزوجتُه.

لم أسترجِع رُشدي إلَّا حينَما جسستُ حركةً على يساري، بالكادِ صدَّقتُ أنَّه قد فكَّ صفد العِناد حولَ كاحليه وقدِم إليَّ طواعية. ما تمالَكتُ الابتِسامَة الَّتي شجَّت ثغري، ولا جررتُها إلى شاطِئها ثانية، أمَّا بيكهيون فظلَّ مُتمسِّكًا بغُصنِ الصَّمت، كأنَّه طيرٌ جريح، يخشى على قدميه مِن السَّير في بِساطٍ لم يسبق وأن خاضَه مِن قبل.

تناوَل جِهازَ التحكُّم وغيَّر سحلَ التِّلفازِ إلى قناةٍ إخباريَّة، وعقِبَ خسارةٍ فادِحةٍ في صُفوفِ الزَّمن، غيَّر إستراتيجيته دون قِبلتِه.

" أليست لديك واجبات مدرسيَّة؟"

هُروبُه مِن صمتِه إليَّ أربَكني وأسعَدني في ذاتِ الوقت، أي أنَه لم يعُد غاضِبًا، لكنَّ انتِبَاهه لم يبرَح مُستقرَّه، ما سهَّل عليَّ النُّطق.

" لديَّ واجبٌ في الكيمياء وآخر في الرِّياضيَّات، ولكِنِّي أشدُّ كسلًا مِن أفتحَ الدَّفتر حتَّى في المدرسة، مِن سابِع المُستحيلات أن أخرِجَه مِن مدفنِه في المنزِل."

كانت يدُه الآليَّة ممدودَة على سورَة الأريكَة، كجناحٍ أبيتُ إلَّا أن أزحَف تحتَه، مُنتزِعةً جُلَّ ما بخَل عليَّ بِه مِن التَّركيز.

" لا داعِيَ لإرهاقِ نفسي فيما لا ينفَع، لأنَّ ورائي جنِرال، أليسَ كذلِك؟ "

شحَذني ببصرِه، كأنِّ الَّذي صغتُه أبعَد ما يكونُ عمَّا اشتَهى سماعَه.

" فلتقومي بحلِّها أمامي، والآن... "

قبل أن أفتَتِح فصلًا جديدًا مِن التذمُّر حسَم النِّهاية.

" جونغ إن صديقي كما تعلمين، ولن أتردَّد في سُؤالِه مُتعذِّرًا بسُمعة الميتم، وإذا ما شكاكِ لي، فلتُجهِّزي نفسكِ لمُواجهةِ عِقابي. "

على مضَضٍ قُمت، وركلتُ الأرضيَّة بقدميَّ مُعبِّرةً عن انزِعاجِي مِن أمرِه الجائِر ذاكَ، بينَما أسيرُ نحوَ غُرفتِه، أم عليَّ مُناداتها غُرفتِنا فنحنُ نتقاسَمُها؟

تغرغرت بعضَ الحُروفِ في فمِي سِرّا.

" لدينَا كومةٌ مِن الواجِبات العاطفيَّة المُعلَّقة والشَّوقُ ليسَ بأستاذٍ رحيم... ما الَّذي ينوي عليه بشغلي عنه؟. "

انتشلتُ مِن حقيبَتي المدرسيَّة دفترًا يشتَمل على جميع المَواد؛ مُذ أنِّي مُشتَّتةُ في غالبيَّة الأحيان، علاوةً على قلمٍ أزرَق، ثُمَّ انسحبتُ أدراجي، على الطّاوِلة الزُّجاجيَّة أمامَه فردتُ أغراضي، وبينَ قدميه المُنهمرتين مِن الأريكَة ربَّعت.

بأنامِلي أزَحتُ الصَّفحاتِ الجَرداء على مهلٍ أماطِل للوُصول، حتَّى تهيّأت الصَّفحة المَنشودَة لناظِريَّ؛ وتحتَ مُنشأةِ السُّؤالِ رُحت أصمِّم الجوابَ، مِن ركيزةٍ مشكوكٍ في أمرِها، وعواميدَ ما أدركتُ أنَّها مائِلةٌ إلَّا حينَما تريَّثتُ لأدقِّقَه.

" لماذا جميعُ المواد الدِّراسيَّة صعبة، ولِماذا ينبَغي علينا إهدارُ نِصف حياتِنا في ارتِشاف علمٍ لا ينفَع؟ ما الَّذي سأفعلُه بالمُتتاليات مُستقبلًا هاه؟ "

لاطَفت نغماتُه الرائِقة أذنيّ، يركبُها الاهتِمام.

" هل تُواجهين صُعوبَة في حلِّها؟ "

استَدرتُ ناحيتَه ألتحِف العُبوس، إذ انكمَش ذقني وتدافَعت شفتاي. سُرعان ما أخَذ الدَّفتر مِن يدي، وألقى على المكتوبِ نظرةً خاطِفة.

لا يُعقلُ أنَّها ألهمته بالحلِّ!

نزلَ عن الأريكة وجلسَ القُرفصاء بجواري، مُستوليًا على القلَم، ثُمَّ راح يشرحُ بجديَّة، لكنِّي لم التقِط كلمةً مِمَّا قالَه، لأنِّي جثمتُ أتربَّصُ بشفتيه، خدِّي طريحُ كفِّي، وجسدِي مُعتمدٌ عليه. بدوت كالبَلهاء بينما أغبِرة الذِّكرى مُلتصقةٌ بفَمي.

" هل فهِمت؟ "

انحدَرت شفتي السُّفلى في مضيقِ فكيَّ دونَ سُلطانٍ مِنِّي، وإلّا لردَعت أمارات الغِواية مِن أن تتجلَّى على مُحيَّاي.

ما لبِثت وأن همَست له بخُمول.

" أريد أن أفهَمك، أنتَ أكثَر جاذبيَّة مِن الرِّياضيَّات. "

ولعلَّه غفَل عمَّا أضمَرتُه في رِحالِي مِن شوق، إذ ما يفتأ ناشِبًا بذاتِ الموضوع، يطرقُ على الدَّفتر بقفا القلمِ حتَّى لا يُدنِّسَه.

" بربِّك أينَ العُسر في الرِّياضيَّات، لقد أخَذت هذا الدَّرس مُنذ سنواتٍ سحيقة وما أزال أذكُره. "

وهذِه المرَّة كانَ صدغي مهبطًا للقَلم الَّذي تسبَّبَ في انجِراف ذقنِي خارِج كفِّي.

" الخَطبُ في خلاياكِ العقليَّة... عليكِ إجراء فحصٍ إشعاعيّ، لاشكّ وأن بِها تلفًا ما. "

في عينيه أشعُر بالاختِناق الَّذي يشعُر بِه الغريقُ وهُو يُصارِع العُباب، هُو لصُّ أنفاسٍ ما عثَرتُ على وسيلةٍ لقمعِه بعد!

" ليست المسألةُ أنِّي لا أفهَم، بل لا أريد أن أفهَم، أيّ عقلٍ هذا الَّذي سيعمل في حضرتِك؟ "

اتَّكأت على الأريكَةِ ورائي، ونظَري مُسلَّطُ على هيئتِه الَّتي تلتحِف ثيابًا منزليَّة عاديَّة، قميصٌ أبيض، وسِروالٌ رماديّ، لكنَّه يبدو مُميَّزًا على طريقتِه الخاصَّة، ربَّما كتِفاهُ العريضان، صدرُه المُنبسِط، أو فكُّه الحادّ الَّداعي للإثم!

" أجاشِّي، حدِّثني عن مُراهقتِك، كيفَ أبليتَ بالثَّانويَّة؟ شخصيَّتُك آنذاك، وعلاقاتُك، الفُضول يُرهِقني. "

قبلَ أن يتسنَّى لهُ المجَال لتأنيبي على استِهتاري، حوَّطت أنامِلي خصلات شعرِه المُكتَّفَة على شاكِلة قبضة برباط أسود.

" هل كان شعرُكَ مُشابِهًا لذنبِ الأرنَب كالآن؟ "

ردَّت يدُه بالمِثل، حيثُ عاثَت الفوضى في أعالي رأسي.

" على الأقلِّ لم يكُن كالعُشّ. "

" ياه الشَّعرُ المُجعَّد مُوضَة القَرن. "

فركتُ لِسانِي بسقفِ فمِي بينَما أُهجِّر عينيَّ بعيدًا عنه هازِئة.

" لكِن معَ من أتحدَّث؟ عجوز قديم الطِّراز! "

أعي أنَّ في طلبِي وابلٌ مِن الحَرج عليه، فهُو رجلٌ لا يستطيبُ التحدُّث عن ماضيه لأيٍّ كان، ولستُ استِثناءً، لكِنِّي على قدِّ الفُضولِ الشَّامِخ في صدري فصَّلتُ نبرتي، بينَما أخضُّ ذِراعَه المُحاذيةَ لي بتوسُّل.

" هيَّا أخبِرني... أجاشِّي."

أضفى بعض التَّعديلات على جلستِه، حيثُ بسطَ إحدى ساقيه، وثنى الأخرى مُحمِّلًا رُكبتَها ثِقلَ ذِراعِه الآدميَّة، ثُمَّ شخَص إلى الحائِط الزُّجاجِيّ، وأردَى جميعَ توقُّعاتِي بخُصوصِه على ثَرى البُطلان، كما هُو معهودٌ عنه.

" لقد كُنت مِن المتفوِّقين، وصمة العارِ الوحيدة في سجلِّي الدراسيّ، هي الأدب الكوريّ."

مالَ رأسُه ناحِيتي، تتبعُه عدستاه.

" لطالَما شعرتُ أنَّ ميلادي هُنا عبارةٌ عن خطأ تقنيّ... "

تعثَّرتُ ببسمةٍ عفويَّة أجهلُ ما إذا كانَ منشؤُها بوحُه أم فحواه، وقعتُ على إثرِها في السَّهو، بينَما أُصغي إليه باهتِمام فائِق.

" بصراحة، لم أحبَّ الدِّراسَة يومًا، وما امتَلكتُ دافِعًا لها، لكنَّ ذكائِي الفطريّ كان يغدُر بي في كلِّ امتِحان، وضميرِي لا يخدِم الفشَل، رغمَ أنَّ سجلِّي أسود لدى الإدارة. خُضت العديد مِن المُشاجَرات، حتَّى مع الأساتِذة وكِدت أُطرد عدَّة مرَّات، لاشكَّ وأنَّ ذلِك النَّوع مِن الطُّلابِ المُتنمِّرين والمُدخِّنين لم ينقرِض مِن المُجتَمع بعد. "

شفطت قواطِعي شفتي السُّفلى على مهل دونَ أن تعيثَ فيها الألم ثُمَّ أعتقَتها، وما انفكَّت الابتِسامةُ مُتَّقدةً في فمِي، كُنت ثمِلةً برِوايتِه الشيِّقة، وربَّما بعينيه، لم يسبِق وأن رأيتُ شخصًا يُقدِّس خطاياه مِثله، ويفتخِر بِها!

" لن يليقَ بكَ ماضٍ غيره، لقد حملتَ بعضًا مِن تذكاراتِك القديمَة في حقيبةِ الحاضِر، لا تزالُ مُدخِّنًا، ومُتنمِّرًا، أضف عليه الخمر، وهوايتك اللَّيليَّة، وبعضَ العِبر. "

قضى العُطلَة الشَّفويَّة الَّتي وقَّعها صمِتي لهُ مُحدِقًا بي، كأنَّ ما قُلته لم يرقه، بالتَّحديد إدراجِي لهوايتِه اللَّيليَّة ضِمن ما اكتَسبه مِن عاداتٍ سيِّئة، فكَّرتُ في الاكتِفاء عِند هذا الحدّ، لكنِّي كُنت أكثَر جشعًا مِن أن أكبَح نفسي.

" لِم اخترتَ الانضِمام إلى الجيش رغمَ أنَّك كُنت قادِرًا على التألُّق خارِجه؟ وسِعك أن تشغَل منصِبًا أقلّ خُشونةً مِن منصِبك الحاليّ، وأكثَر أمانًا. "

بعدَما أزاَحني عن منصِبِه البصريّ ملأَه بمرأى السَّماء المَهجورَة إلَّا مِن لونِها.

" أنا شخصٌ عصبيّ مُنذ الصِّغر ولو أنَّ العُمر قد طفَّف في ميزانيَّتي قليلًا، كما أنَّ لي شخصيّةَ القِيادِيّة، وهوسٌ مُفرطٌ بالأسلِحَة، ولطالَما رجَّحتُ القبضَة على العقل، رأيتُ فيَّ جُنديًّا مُستقبليًّا صقلتُه، رغمَ أنِّي لم أطمَح لمنصبٍ كهذا. "

ذِراعُه السَّوداءُ المُستوليَةُ على حيِّزٍ فسيحٍ مِن بصري حرَّضت أنامِلي على إغداقِها بلمساتٍ لن يشعُر بِها، ولِساني على النُّطق.

" ألا تندَم على هذَا الخيار؟ لقد كلَّفَك قِطعة لا تُعوَّضُ مِنك. "

أودعتُ كامِل ما أعرِفه فيها، قبل أن أُودِّعَها وأستقِلَّ مُقلتيه مُرتبِكة السَّحنة.

" هل تسمَح لي بالتَّمادِي والسُّؤال عمَّ جرى؟ "

انفَلت انتِباهُه مِنِّي إلى بلدٍ بعيد، غيرُ موجودٍ في خارِطتي، وانتظَرتُ عودَته بهِبةٍ تنُمّ لي عن مكانَتي عِنده، لو كانت لديَّ حقًّا، وإلَّا فالخواء.

" في إحدى نوباتِ الحِراسة بالحُدود ضبَط الجُنود عائِلةً تهمُّ بالنُّزوحِ مِن كوريا الشَّماليَّة إلى أراضينا، بعدَ التَّحقيقِ تبيَّن أنَّ ربَّها مِنَّا، لذلِك خطَّطنا لأن نُقلَّهم بأمانٍ صبيحَة اليومِ المُوالي، ولكنَّ الجناحَ الغربيّ حيثُ يمكثون تعرَّض للقصفِ ليلتَها... كُنت شُجاعًا كِفايةً لأجازِف بدُخولِه بعدَ أن سمِعتُ بُكاءَ طِفلة، وجدتُها سليمة، مُختبِئةً تحتَ الطَّاوِلة، وفي الطَّريقِ إلى الخُروج، انفَجر المُولِّد وحدَث ما حدَث."

اقتَتل الشَّجن والسُّرورُ على عرشِ صدري رغمَ أنَّه تالِف، في حين حُبِست وسطَ معمعتِهما، عاجِزةً عن انتِقاءِ حليفٍ مِن بينهما، أو الانحِياز لطرفٍ على حِسابِ الآخر، كِلاهُما مُحقَّان فيما يدعُوانِني إليه، ولو أنَّ الشَّجنَ أحقّ، إذ لهُ عُذرين دامِغين، ذِكرى والديّ الأليمَة، وحقيقةُ أنِّي قد حكمتُ على بيكهيون في غِيابِه ظُلمًا.

لقد كرهتُه كثيرًا لأنَّه أنقذني.

سماعُ الوقائِع مِنه مُغلَّفة بالحقيقة البشِعة الَّتي انحسَر ضبابُ الجهلِ عليها، الحقيقة الَّتي دهستني في إحدى المُنعرجاتِ الوعِرة لهذِه الحياة يمتلِك شفرات حادَّة، ذِكرياتُ خسارَتي لوالديّ بلا أيِّ حقّ احتلَّتني، كذلِك الذُّعر الَّذي عضَّني وأنا مُختبِئةٌ تحتَ الطَّاوِلة، غافِلةً عمَّا يدورُ حولي، حتَّى امتدَّت ذراعاهُ لي.

مُؤلمٌ اكتِشاف أنَّ الرَّجل الَّذي قضيتُ حياتِي في مقتِه قد خسِر نفسَه لينتزِعَها مِن بينِ براثِن الموت، أنا الَّتي ضحَّيتُ بِها نقمًا.

" ربَّما العتَب على عُنفوانِ الشَّباب، وربَّما على الإنسانيَّة. "

في زفرةٍ ثقيلةٍ واحِدة دسَّ طائِلًا مِن الغُصص، ثمَّ ناظَرني برقَّة.

" لهذا أخبرتُكِ أن تبتَعدي عن الأعمالَ البُطوليَّة، الحياةُ ليسَت كالكُتب المُصورَّة، وحتَّى إن كانت، فمَن يضمَنُ لكِ أنَّكِ البطَلة الَّتي لا تقومُ إلَّا بِها، لئلَّا تُضحِّيَ بكِ؟. "

شعرتُ أنَّ دموعي ستكشِفني لو واصلتُ التحدُّث عن الموضوع، لذلكَ استَعجلتُ في تغييرِه، بآخرَ أكثر مرحًا.

" ماذا عن الفتيات؟ هل حطَّمتَ قُلوبَ الكثيراتِ حينَها، كالآن؟ "

" يكفي تضييعًا للوقت، ولتَدرُسي. "

لعلَّه أدركَ وبعدَما أحصى ما أنفقَه عليَّ مِن كلمٍ أنَّه ثروةٌ لرجلٍ يدهُ مغلولةٌ إلى عُنقه، كذلِك لم أُصرَّ، وقنعتُ بِما كالَه لي، هذِه المرَّة الأولى الَّتي يحدِّثُني فيها عن ماضيه ولو أنَّه جانِبٌ لا يحتاجُ إلى التَّواري خلفَ السِّتار.

" تضييعُ الوقت هُو التَّعريف الحقيقيّ للدِّراسَة. "

أسدلتُ رأسِي على حافَّة الأريكَة مُنتحبة.

" لو أنَّهم يدرجون مادَّة تحت مسمَّى التربيَّة السَّريريَة مع أمثِلة تطبيقيَّة لأحرزتُ المرتبة الأولى حتمًا... "

لم أشكَّ ولو للحظةٍ في أنَّ شفتاه قد تنحسران لهيًا لا غضبًا.

أفضى يديه إلى الأرضيَّة المُعبَّدة بسجَّادٍ رماديّ، وتقفَّى آثارَ صوتِي إليّ.

" لم يسبِق وأن رأيتُ امرأة تتفاخَر بإنجازاتِها السَّريريَّة! "

" ربَّما لأنَّهنّ لم يُصادِفن رجُلًا بمراسِك ليشعُرن بالفَخر كُلَّما نِلنَ مِنه! "

لم يسبِق وأن فصَّلَ ثغره على قامَة ابتِسامة، فكيف سأصمُد أمامَ تمايُل ضحكة فاتِنة؟

رؤيتُه هكذا بعيدًا عن رقابَة الحَذر، مُنتهكًا لحميةِ الصَّمت الَّتي استَعبدته لدهرٍ مديد، ولَّدت بداخِلي شُعلة مِن الأُلفة، كسَرت عتمة ظُلمتي، فوعيتُ أنِّي مُتعطِّشةٌ لخفقاتِه، ومُتلهِّفةٌ لأن يُمسِك بيدي ويصطَحبني إلى سعيرِه.

شرِبت رفدا دهّاقًا مِن الأفكارِ السامَّة سهوًا، حتَّى ثمِلتُ مِن منظرِه المُنسكِب في مُقلتيّ، ما لبِثت وأن انسقتُ إلى رقبتِه، ثُمَّ حططتُ شفتيَّ عليها بدماثَة، وكأنَّ نُزولي بِه ضاهى الخطَر دقَّت نواقيسُه في جسَده، ورفَعت مسامُه راياتِها.

بعفويَّة سجَدت كفِّي على فخِذه، إذ لم أعثُر لي فيه على مسندٍ غيرها، رغم أنِّي بذلِك أهدِّد ركائِزه... تُقت لأن يصطدِم بي كأيَّامٍ خلَت، لكنَّه كلَّما شارَف عليَّ أحكَم قبضَته على مِقودِ الصَّبر، ولفَّ هيكلَه عنِّي، رغم أنَّه ليسَ الرَّجُل الَّذي قد تُقيِّده إشارات المُرور، كما أنَّه ليسَ رجُلًا يهابُ دهسَ الأرواحِ بعجلاتِه.

حينَما التَفت إليَّ قبضتُ على شفتيه، ونتفتُ مِنهما الكلِماتِ الَّتي كادَت تُزهِر فيهما، وأوَّلتُه إلى أصلِه الصَّامِت، لم ينجُ فيه ولو حرفٌ واحِد... كَم يحتاجُ مِن اعتِرافٍ صريحٍ حتَّى يُدرِك أنِّي جاهِزةٌ ليقعُد إليَّ ويحتَسيَ مِنِّي ما يشاء، ومتَى ما شاء، ليعيثَ التَّجاعيد في مُلاءَتي، بينَما يتدثَّر برغبةٍ حامية، وبِه يُدثِّرُني؟

ترفَّعتُ لمسافةٍ تُتيحُ لنا إنصافَ أعيُننِا التوَّاقَة للارتِماء في كنفِ أحدِها الآخر، لإشعالِ لُفافةِ الوعي، وتدخينِها بينَ ثغورِها.

تعثَّر بقافِلة الأنفاسِ السيَّارةِ مِن فمِي، فنفثَ تنهيدةَ مهزوزَة تنمُّ عن الشَّقاء الَّذي كالته لهُ قُبلة مُبتدئة، على إثرِها تهاوى جبينُه على جبيني، لطالَما كانت نظراتُه كلفَحاتِ الزَّمهريرِ قادرةً على اختِراق أثخَن الدُّروع، وثِيابي ليست استِثناءً!

ذررتُ القُبلَ على مُحيَّاه بفوضويَّة، جاهِلةً ما خطبي، ولِم أتوقُ إلى تأطيرِه بذراعيَّ كصورةٍ تِذكاريَّة، لِم أُعيلهُ عليّ رغَم دِرايَتي بمُنتهاي؟ ما إن خرَّ جفناهُ باستِسلامٍ حتَّى انتقلتُ بنفسي إلى حُضنه، فللحظةِ جشعٍ غدَت كُلُّ أنملةٍ تفصِلني عنه مُجهِدة جِدًا، شعرتُ بيديه تدبَّان على خصري، ورغم الدِّفء المُعشِّش فيهما ارتَعشت، تململه كُلَّما مِلتُ عليه أوحى لي أنِّي كالسَّقم في جوارِحه، أُعلِّقه بينَ النَّجوى والسَّلوى.

وبينَما أنا أترنَّح على متنِ مُحيطيه شدَّني إليه بخِفَّة نشَّال مُتمرِّسٍ في إخلاءِ الجُيوب ساعات الاكتِظاظ، وتلمَّس بِقاعَ الفِتنة المكشوفَة أمامَه بسطحيَّة، كأنَّه يُدوِّن بذاكِرته كُلَّ كمينٍ وقعت فيه مُقلتاه، قبل أن يرتَع في الفراغِ بينَ عُنقي وكتِفي مبتورَ الأنفاس... يستَمتِع بجعِلي راغِبةً بِه حدَّ الانتِحار مِن قمَّة الكِبرياءِ للمسةٍ مِنه.

" لا تجتنِبني كأنِّي أحدُ الحواجِز، مُرَّ مِن خِلالِي. "

غمغَم شارِدًا فيما يفعَله.

" توسَّليني. "

سُرعان ما نظرَ إليَّ وقد تخضَّب صوتُه بالجديَّة.

" توسَّلي ما دُمت أتحدَّثُ بلُطف. "

هذَّبتُ خصلات الضِّحكةِ الَّتي أرهقَته، مُحافظةً على بسمة.

" احضُرني، أنا أرجوك سيِّدي. "

لقيت ضِحكتي مصرَعها في مضيقِ ثغرِه المَحفوف بالويلات، والوعِر على امرأةٍ متيَّمة مِثلي، إذ جَرفني إليه كالجاذبيَّة، هُناكَ حيثُ ترقُد أرواحُ شكاويه الَّتي استَماتت للنَّجاةِ مِن وغرةِ التَّحامُل في ذاتِه، والارتِباطِ بصدًى مسموع.

دائِمًا ما أنسبه إلى المُحيط، فهُو الَّذي إذا اهتَاج ابتَلع كُلَّ سفينةٍ خشبيّةٍ تعبُره، ومضغَها حتَّى تصير حُطامًا في قعرِه، على مرِّ العُصور، وها أنا ذا فيه ككلامٍ مُذنِب، يهلِك خلفَ جُدرانِه، وبينَ كفَّيه ترقُد أنقاضه... وربَّما مذنَّبٌ لم تكُن له القُدرة يومًا على ردعِه، أو إحالتِه إلى غيرِ مكان كُلَّما اشتعَل وفارَق سماءَ السُّكون.

مِلء إرادَتي اغتلتُ النُّورَ الجاثِم في عينيّ، رغم أنَّه كان يضمن لي الإشرافَ على هيئتِه المُخدَّرة، كناكرٍ للجميل، إذ اختَزل عليَّ المُتعة الكامِنة في الظَّلام، والتَّسليمِ لمَلكوته بثقةٍ، رغم أنَّ لمساتِه الهوجاء تغدُر بوعيي، وسرحتُ في أجواءِ العاطِفة الَّتي غمَرت جوهَري بحُنوّ، أُدندِن معزوفاتٍ مُتذبذِبة، تتضارب ومعزوفاته بملحميَّة. لم يكسِر وِصالَنا الحميم إلَّا قميصُه حينَما سرقتُه مِن جسدِه، فاضطرّ للمُرور مِن خِلالِه.

بيدينا اللَّيلُ بطولِه وحتَّى الغدّ، لذلِك سمحتُ لأنامِلي بالتَّجوِّل بينَ حناياه؛ كانت عيناه تزدادان خُمولًا، وأحيانًا تنزلقُ عدستاهُ بملاسةِ الرَّغبةِ تحتَ جفنيه، كأنِّي أستنزِف طاقَته، وربَّما هِي تتسرَّب مِن أطرافِ أصابِعه المغروسة في ثراي.

لم تدُم عُهدةُ حُكمي له إلَّا دقائِق شحيحَة، فهُو رجلٌ مهووسٌ بالسَّيطرة، لاسيَما لو ارتَبط النِّزاعُ بِامرأة، أو مشاريع ليليَّة على سرير، وها هُو ذا ينصِب قامَته، متأهِّبًا لخطوةِ اللَّاعودة، قبل يهبِط بي على الأريكَة، ونظراتُه مُنشبةٌ على أهدابي بضراوَة، كالأمواجِ على الغَريق، وربَّما كالغريقِ على الحياة، قبل أن يُواريني بصدرِه.

أطلقتُ سراحَ خُصلاِتِه، أسيرة الرَّبطة، فوخَزت مُحيَّاي حينَما انحنى ناحِيتي حتَّى أدركَ أذُني، هُناكَ حيثُ نطقت شفتاه بقبلاتٍ مُربكَة، مُلتهبة، كنقراتِ على ألغامٍ لم أعِ أنَّها مدفونةُ تحتَ أديمِي إلى أن تفجَّرَت آهاتي فجأة، كالفونوغراف هُو، وما أنا إلَّا أسطوانَتُه، إذا ما حطَّت ذراعُه عليَّ، رنَّمت ولو لم أشَأ.

غسلتُ أنامِلي الَّتي دنَّسها البُعد بملمسِه دون أن آذن للحياء بكبحي، كذلِك لم يكترِث للورود الَّتي تفتَّحت بخديَّ حينَما اختلست يداهُ مِن جسدي كامِل أثاثِه، ولم يُقسِّط في النَّظر، بل جاهَرَ بِه كأنَّه ماثِلٌ أمامَ لوحةٍ عاريةٍ مِن الأسرار، لا أمامَ امرأةٍ عاريةٍ مِن الجُرأة، كالجُنديِّ الأعزلِ في ساحةِ الوغى لا يسعُه إلَّا تلقِّي الضَّربات!

أردتُ أن يلهُوَ بِي، وينالَ مِنِّي ما يشاءُ مِن اللَّذائِذ، إذ صارَحني ذاتَ يومٍ أنَّه لا يعرِف القِسمة، هُو المُسيطِر وأنا الخاضِعة، لكنَّ كفَّاهُ تغمَّدتاني برفقِ صانِع الخزفِ مع آنيتِه، كالمرَّة الأولى تمامًا، وبينَ الخُطوة والأخرى يتروَّى، ويبني بينَ عينينا جِسرًا هشًّا، ينهارُ كُلَّما ثقُل، لنجِدَ أنفُسنا تتخبَّط في وِديانِ القُبلِ الجاريَة.

كانت خرزاتُ العرقِ تُخرِّم ناصيَته، كأنَّها الأحرُف الأولى مِن اسمي على منديل مُحتجزٍ بينَ يديّ. وعِندما غفِيَ كُلُّ حرسي، وطعِن الانتِظار في السنِّ طرَق جفنيّ باستِئذان؛ أن أُسرِّبه إليَّ رغم عِلمي أنَّه لن يهنأ قبل أن يُخلِيَني مِن كلِّ نفيسٍ أختزِنه، قد أبدو فارغةً لهُ في اليومِ المُوالي، لا أستهويه ليُخاطِر باقتِحامي ثانيةً!

لم أدرِ أنَّه هُو المُدجَّج بالألمِ يُجيد التَّخفيفَ عنه إلَّا حينَما كمَّمت شفتاهُ ثغري، مُواسيَتين خسائِري في ظِلّ غزوتِه، كيفَ يلحد آهاتي في مهدِها، وكيفَ يغتالُ صفاءَ جسدِي بقُبلاتِه كلَّما خدشت إحداها أُذنيه، فاشتَهاني أكثَر.

هُو الرَّجلُ الشَّاهق، يرتحِل مِن القِّمة إلى الأخرى، وما يعلمه عن السَّفح أنَّ أُناسَه أقلُّ حجمًا مِن كينونتِه، أستغرِب كُلَّما حطَّ على الحضيضِ مِن أجلي، وكُلَّما حفَره إلى أعماقي... يُروقُني كيفَ يفتعِل في عينيَّ الأزمات مِن نظرة، ثُمَّ يُصعِّدها درجاتٍ حتَّى يُسوِّل لنفسهِ شنَّ الحُروب بينَ جنباتي، والزَّحف بينَ معالمِي إليّ.

على حافَّة هذِه اللَّيلَة الَّتي تثاءَبت بتعب، حزَّم خصري بذِراعيه المتينتين، بينَما يتوارى جرمانا المُجرمين بغِطاءٍ أبيض رفيع، أمَّا أنفاسُه الَّتي لا تعرِف كللًا ولا نومًا، فلعِبت بشغفٍ على عُنقي، توقِظُ ذاكِرتي كُلَّما نسيت ما جرى بينَنا.

رغمَ الظَّلامِ الَّذي لم يمسَح فُحامَه سِوى مناديل القمر الفضيَّة المُنبعِثة مِن الحائِط الزُّجاجيّ، انقلبتُ إليه، لعلِّي أنالُ مِن مرآه رغيفًا يسدُّ جوعي له، وتلمَّستُ خصلات شعرِه الاستِثنائيَّة بأناة مُتطيِّبةً بزفيرِه. ها هُو ذا يُفرج عن دُرَّتيه، حيثُ انعكَست صورتِي عليهما باهتة، معَ بصيصٍ لامِع توسَّط بُؤبؤيه، التَمستُ الحاجَة في أنينِ مُقلتيه الصَّامِت، وفي تشبُّث أنامِله بي، كأنَّهُما تُلحَّان عليَّ في السُّؤال، رغمَ صمتِه.

حينَما ألمَّ به الفقر شمَّر على ساعديه، ونشَل القُبلَ مِن شفتيَّ بخفَّة، رافِعًا رصيدَه مِن الآثام بعوني، أنا الَّتي احتَجزتُه بين قُضباني. كانَ دائِمًا يسبِقُني بخطوة رغمَ أنِّي مَن تُبادِر بالخُطوةِ الأولى غالِبًا، لكنَّه هذِه المرَّة لم يترُك لي أيَّ مُتنفَّس، بالكادِ لحقتُ بِه دونَ أن أضلَّ في الدَّهشة، أو يختطِفني السُّكون مِن لذَّة المُشاركَة!

في إحدى اللَّحظات داهَمه الوعيُ فجأة، فتناءى عنِّي، ورسَا على شطِّ وجهي، بينَما تُلاطِفُ أنفاسِي الواهِنة ملامِحه المُتزحزِحة، بدا وأنَّه يتحطَّم رغمَ أنَّه أبعدُ ما يكونُ عن الخَطر، يشهَقُ إكسير اللَّهفة، ويزفِر أكسيدَ الهلاك.

سيَّرتُ أصابِعي على خدّيه، وفي كُلِّ رُقعةٍ مِنه ضيَّعتُ قِطعًا مِنّي.

" بيكهيون، لا تُعامِلني كطِفلة عاجِزة عن استيعابِك، وتكظِم رغبتَك بالمزيد، هذا يجعلُك أنانيًّا... لو أنَّ القرارَ بيدي لورَّطتُك بحُضني إلى الأبد. "

بوهنٍ قال:

" لديكِ مدرسة غدًا. "

كان جفناه مُسبَّلان كأنَّهُما فقدَا جميعَ ركائِزهما، ولكنَّه نظرَ إليَّ مشدوهًا حينَما تسلَّقتُ جسدَه، ووخَزتُ أنفَه بسبَّابَتي.

" كُفَّ عن كونِك عجوزًا، ولنلعَب. "

لم يسبِق وأن شاهدتُه مِن هذَا العُلوّ، فلطالما كُنت القِمَّة الَّتي يهوى الهُبوطَ عليها، اليوم اختَبرتُ ذاتَ الفَخر الَّذي يُخامِر أضلُعَه كُلَّما صعِدني، وعلِمت السَّبب الَّذي يجعلُ معشَر الرِّجال يُعظِّمونَ إنجازاتِهم السَّريريَّة.

أماتَ الضِّحكة الغيرِ شرعيةّ الَّتي وُلدت مِن اصطِدامِ دهشةٍ وسُخرية في غياهِب الظَّلامِ، على يمينِه، قبل أن تحتشِد يداه في خصريّ مُترعتين بالرَّغبة.

" لقد نعتني بالشَّهوانيّ يومًا، مَن الشَّهوانيّ بينَنا الآن؟ "

قصصتُ المسافَة بينَنا حتَّى احتَضرت، إذ ناهزتُ سحنتَه الَّتي هانَت.

" تعلم، هرمونات المُراهقة لا ترحَم. "

لملمَ خصلاتِي الهارِبة وراءَ أُذني، وذرَف أنفاسًا مُلتهبة، بالكادِ شقَّتها كلِماتي.

" ما عُذرك أنت؟ "

تخوضَّ مُحيطاه، ولطمت لمساتُه أديمي، وسُرعان ما غمَر بريَّة النُّطق بلُثمة فما عادَت قادرةً على الإتيانِ بكلمة واحدة!

-

هل يشمتُ بِنا المُستقبل كُلَّما سمِعنا ونحنُ في عرض الحاضِر، على بُعدٍ قصيٍّ مِنه، مُحاطينَ بأسوارِ الغيبِ الشَّاهِقة، نُقسمُ بنبرةٍ حازمةٍ أنَّنا لن نحيد عن الصِّراط الَّذي حِكناه لأنفُسنا، لعلمه المُسبَق بأنَّنا سنحنِث؟

هل يطأ التهكُّم ثغر الحياة كُلَّما رهنَّا كرامَتنا لها، وشاركناها طاوِلة اللَّعبِ جاهلين أنَّها مُخادعَة، وربَّما نعلَم، لكِنَّا نُخادِع أنفُسنا، ظنًّا أنَّ الغلبَة قد تُحالِفها هذِه المرَّة، رغم أنَّ ما ملَّكته لأنامِلنا ليس سِوى حُثالة أوراقِها ككلّ مرَّة، أمَّا الرَّابِحة فبمُلكها، كأنَّنا نُماطِل مصيرًا واحِدا يستحيل أن يطرأ عليهِ تغيير، مهما تأمَّلنا؟

لاشكَّ وأنّها قد مسحَت بوعودي الغمَّ عن صدرِها، إذ درت مُنذ البِدايةِ أنَّ الأيَّام ستُبطِلها بيديّ، ولاشكَّ أنَّ كلِماتي الَّتي لم أدرِ أنَّها ستسلُك مسارًا كوميديّا مُثيرًا للسُّخرية، صارت نُكتًا لطَّفت المَلل الَّذي خيَّم على ثوانيها، وجمَّلت مِزاجَها.

كيفَ لا وفي مُنتصَف السَّطر الَّذي يسبِق الانتِصار، جفَّ حِبرُ مُقاوَمتي، وبكِبرياءٍ حفَر القلمُ البقيَّة على صفحَتي، كمجارٍ لن تملأَها السَّماءُ قطّ، ذنبُها أنَّها وُلِدت بالمكانِ الخطأ، فظلَّت آثارُه نُدوبًا تُذكِّرني بالفَشل؛ فشَلي في ردعِه.

لقد تفشَّى فيَّ كالاكتِئاب، أو ذلِك ما اعتقَدتُه قبل أن تُرمِّم أضواؤُه الشَّاحِبة عتمَتي العتيقَة، كأنَّه فانوس. بواسِطته تآلفت معَ نفسي بعدَما فرَّقت الأشجانُ بينَنا، لم أظنَّ أنَّها ستقَع كالعِبء عليّ، ولا أنَّها ستُوالي غيري رغمَ أنَّها في رِعايَتي، وها أنا ذا أتوسَّطُ بينَه وبينَ نفسِه الجريحَة، لعلَّها تغفِر للحياةِ وترجِع إلى قفصِه البارِد.

كَم كُنت ساذَجةً حينَما ظننتُ أنَّ ما بينَي وبينَه نِزاعٌ تاريخيّ نمَا في الماضِي واستَطال، انكشَف اللُّبس ووعيتُ أنَّه نزعَةٌ عاطفيَّة لن تخمَد فينا عمَّا قريب، لا بل متاع! والآن بالكادِ أستطيعُ قراءَة ما انطبَع على صفحاتِي القديمَة مِن مقت، كُلُّ ما أذكُره أنَّه كانَ كافيًا لتمويل سنوات، كيفَ أجلاهُ مِن فُؤادي واستَبدله بالحبّ في آن؟

وأيُّ لصٍّ هذا الَّذي يُخلِّف ذاتَه كامِلةً كدليل، كأنَّه لا يخشَى الاتِّهام، ورغمَ ذلِك يتعذَّرُ عليَّ القبضُ عليه؟ إلى أيِّ مدًى أضعَفني؟

اليوم أعترِف أنَّه هُو الرَّجُل الوحيد الَّذي لم أُخطِّط لأراهُ مِن نافِذَة الحُبّ، قد صارَ حُبِّيَ الأولّ، ولاشكّ في أنَّه الأخير.

حزَم نيسانُ أمتِعته مُخليًا نُزل الزّمن لأيَّار ما إن انتَهى حجزُه، وقد فرَغ مِن ترتيبِ أغراضِه بينَ أنحاءِ الكونِ، وإضفاءِ لمساتِه الدَّافِئة على الجوّ.

لا يزالُ بيكهيون يرتادُني كُلَّما سنَحت لهُ الفُرصةُ للتِّجوالِ بينَ أرفُفي، والاختِلاءِ بالكلِماتِ الآثمَة المُندسَّة تحتَ أغلِفة كُتبي، يُطالِعني بشغفٍ على سرجانِ اللَّيل، كأنَّه مِن علمي الأنثويِّ لا يشبَع، وما يرتشِفه يحثُّه على ارتِشافِ المزيد.

هل يا تُراه يحسُّ بِما أُضمِره في سريرَتي مِن ولعٍ، كثيرًا ما تسرِقه أساريري لتُحيِّيه؟ هل يرى الاعتِرافات تتساقَط مِن جفنيَّ كُلَّما اصطَدمنا بسريرِه؟ وهل سيسمَحُ لي بالعيشِ فيه لو علِم عمَّا حبلَ بِه فُؤادي مِنه في ظرفٍ ضرير؟ وسَط طوفان مِن التَّساؤُلاتِ تشوبه الشًّكوك، ارتأيتُ مُلازَمة قارِب الصَّمت، فهُو الآمَن لي.

مُنذ شهرِ والاستِقرار يعشِّشُ بينَنا كشِباكِ العنكبوتِ، هشُّ مِثلها، رغم ذلِك رجوتُ دوامَه، أريدُ أن أبقى فيه لأطولِ وقتٍ مُمكن حتَّى وإن كانَ قدرُنا التشتُّت، أريد أن أتفرَّج عليه إلى الأبد، وألفُ ظلٍّ للأزرق يرقُص في مُقلتيه.

لكنَّ الحياةَ كالثَّوبِ العتيق، عِندما تُرقَع مِن جهةٍ تتفتَّق مِن الأخرى؛ لقد عانيتُ الكثيرَ خِلال الشَّهرِ المُنصرم في علاقَتي المُعقَّدة مع تشان، فمُذ واجَه بيكهيون وُهو يُحاوِل أن يكيدَ لي في المدرسَة، صارَ الوحيدَ الَّذي يُهدِّد سُكونَ أيَّامي، ولا أزالُ أحاوِل التَّماسُك وعدَم التورُّط معه في مُشكلةٍ تستَدعي مُثولَه أمامه ثانية.

خاتِمةُ اليَوم حصَّة الرِّياضَة، انقَضى نِصفُها، وها نحنُ منتشرون في الملعَب، نُمارِس الكُرةَ الطَّائِرة، وبينَنا شبكة ترسم لكلِّ فريقٍ حُدودَه، كان الجميعَ مُرغمًا على المُشارَكة لذلِك انتقيتُ الفريقَ الأزرَق، ليسَ لأنَّه يخلو مِن تشان، بل لأنَّه لوني المُفضَّل، لم أدرِك أنَّه أسوأ قرارٍ اتَّخذته يومًا إلَّا حينَما لكمَت الكُرة وجهي.

لفرطِ ما اكتنزَته مِن قوَّة، ليسَت سِوى وليدة حِقد بليغ، اختلَّ توازُني والتقَطتني الأرض، وبينَما السَّماءُ الصَّافيةُ تُحلِّي ناظريَّ رصدتُ ضحكاتٍ شامِتة بما أصابني، ممتزِجة بشوشَرةٍ غير مفهومَة. خشيتُ أنِّي قد أصبت بارتِجاجٍ دِماغيّ، فالكونَ دارَ حولِي ما إن نجحتُ في الجُلوس، كما شعرتُ بالبَللِ أسفَل أنفي؛ رعاف.

جثا الأستاذ جونميون بمُحاذاةِ مصرَعي قلِقًا حِيالي بصِدق.

" هل أنتِ بخير؟ "

أطرقتُ برأسي مُذهبةً هواجِسَه كأستاذٍ مُراعٍ، ثمَّ نظرتُ إلى تشان بالجانِب الآخر للشَّبكة فخورًا بما صنعته يداه.

" أنفُكِ ينزِف بشدَّة، سأرافقُكِ إلى المغاسِل... هيَّا. "

لم أبالِي بالفَظاظَة الّتي حفَّت نغماتي في ردِّي على عرضِه النَّبيل.

" لا داعي، يُمكِنني الذَّهابُ بمُفرَدي، ليسَت قدماي اللّتين كُسِرتا على أيَّة حال. "

سُرعان ما صرخَ على المُذنِب مُوجِّهًا له إنذارًا صارِمًا.

" تشان فلتكُن حذرًا بالمرَّة القادِمة. "

منَحني الأُستاذُ مِنديلًا سددتُ بِه منفذيَّ قبل أن أرفَع رأسي، حينَها استَطعمتُ الدِّماء تجري في حلقي بدَلًا مِن أنفي، بمذاقِها الَّذي يُحاذي الصَّدأ عِندما يلتصِق بالأيادِي، ويقتحِم الأفواهَ بغتَة. عانقت خُطواتي الأرضيَّة بتخاذُل، حتَّى صبوتُ المغاسِل الكامِنة في المُنعطف، قُبالَة مُستودعِ الأدواتِ الرِّياضِيَّة تمامًا.

وضعتُ قدمي على رصيفِها، ومددتُ يديَّ أتسوَّل الماءِ مِن أحدِ صنابيرِها المُتجاورِة بعدَما كسرتُ عُنقَه، وكلَّما امتلأ كفَّاي بقدرٍ كافٍ مِن الماء ذررته على وجهِي. حالَ انتِهائِي مِن تنظيفِ سحنَتي المُعرَّضةِ للأنظار مزَّقتُ قِطعةً مِن المِنديلِ الورقيّ، لففتُها بأنامِلي حتَّى تضاءَل حجمُها، ثُمَّ أدغمتُها بفجوةِ أنفي النَّازِفة.

" هل توقَّف النَّزيف؟ "

داهَمني تشان مِن دُبر بصوتٍ ينضحُ بالشَّماتَة، كشفتُ أمرَ استيلاء الابتِسامةِ على مُحافظتيه، قبل أن ألتفِت ناحيتَه حتَّى.

ورغمَ أنَّ جُندَ الغضبِ ساطونَ على كافَّة تقاسيمي، حاوَلتُ التَّظاهُر بالعكَس، وراقبتُه بينَما يُنازَع الأرضيَّة التُّرابيَّة مِن أجلِ الاقتِراب مِنِّي.

" كانَ عليكِ الانضِمام إلى فريقي لتقليصِ تضاربَاتِنا البصريَّة المُحتَملة، وإلَّا الاندِساس بينَ الجماهير هكذَا حتَّى لا أراكِ، خجلًا مِمَّا أعلمُه عنكِ على الأقلّ... لم أستطِع كبحَ نفسي عن مُعاقَبتِك وأنتِ تتقافَزين أمامَ ناظريّ كبريئة. "

انحَدرت شفتي العُليا إذ طغَى أحدُ طرفيها على نظيرِه، قبل أن أميلَ بجسدِي ناحيةَ العينِ الدَّامِعة وأغلِقَها.

" مُثيرٌ للشَّفقة. "

في ثانيةٍ انقلبت مائِدةُ الاحتِفالِ بالنَّصر على غريمٍ لا يندُّ له، إلى خرابِ حيرة.

" ماذا؟ "

بغُرور تعاضَد ساعديَّ، وربَت شفتي العُليا باستِحقار.

" أتدرِي ما الَّذي يجعلُ الرَّجُل يفقِد اعتِباره بعينِ امرأة؟ "

استَرحتُ تحتَ سقفِ الصَّمت لبُرهةٍ متأزّمة، سُرعان ما تصاعَد الكلِم مِن فوهَتي مُحتقِنًا بالضَّغينَة.

" حينَما يُؤذيها لمجرَّد أنَّها عاجزةٌ عن مُبادلتِه الحُبّ، بحثًا عن انتِباهِها. "

وفي إحدَى المُنعرجاتِ الَّتي سلكَها بصري قبضتُ على يديه بطورِ التَّحوُّل إلى قبضتين مكينَتين... اجترأ على رشقي بكُرَة، لن أستَبعِد أن يضرِبني.

" هل تخالُ أنَّك بأفعالِك الصِّبيانيَّة ستُغيِّر قراري، أو تهزّ استِقراري؟ أنتَ مُخطِئ يا صاح، مُخطِئ للغايَة، إن أردت أن تنالَ مِنِّي نظرةَ اهتِمام فلتتصَرَّف كرجلٍ أوَّلًا، لأنَّ الأطفالُ لا يتماشونَ مع ذوقي، كما تعلَم. "

لم يستطِع الخوف اقتِحامَ حُصوني، وبقيتُ أُناظِره بثقةٍ استَهجَنها.

" مِن أينَ تأتينَ بكُلِّ ذلِك الفخرِ وأنتِ مُجرَّد وسيلةٍ للتَّسليَة، لنِصف رجل؟ "

كُنت أغضَب حينَما يمدَحونَه لأنَّهم يصِفون رجُلًا غيرَ ما هُو عليه، والآن أغضبُ لأنَّ الماثِل أمامِي يذمُّه!

" نصفُ رجلٍ يُعتَبر مكسبًا في مُجتمعٍ لا يضمّ سِوى الذُّكور، أليسَ كذلِك؟ "

مسحتُ قامَته بنظراتٍ دونيَّة.

" استِعراضُ عضلاتِ قُدرتِك المفتولة أمامَ كائنٍ ليسَ مِن حجمِك لا يجعلُ مِنكَ رجُلًا. "

ضحِكت، ليسَ بسبب ملامِح تشان المُهتاجَة، بل لأنِّي أنا الَّتي لطالَما ألصقت بسيرةِ ذلِك الرّجُل، الجِنرال، أو المدعوِّ بيون بيكهيون أبشَع النُّعوتِ أستميتُ لتزيين صورتِه، وربَّما أشوِّه غيرَه ليبدوَ الأجمَل بينَ الجميعِ بكُلِّ عيوبِه!

لا أدري متَى أُعجِبت بِه لأحبَّه؟ أم أنِّي تخطَّيتُ تِلك المَرحلة بالفِعل؟

وعيتُ على الواقِع، وقد خنَقت أصابِعه كتِفي.

" توقَّفي عن استِفزازي، لا أدري إلى متَى سأكونُ قادِرًا على تمالُك أعصابي، وإبقاء يدي بعيدةً عنكِ، فقد ألحقتُ بكِ ما يكفي مِن الأذى لهذا اليوم. "

صمتَ كأنَّه يُلملِم كلِماتِه قبل أن يلفِظَها بغيظٍ مُحتدم:

" ألا تعرِف وقاحتُك حُدودًا؟ في مواقيتِنا الغافِلة خِلتُ أنَّكِ بِها تحمين ذاتكِ، لكنِّي اليوم أعي أنَّها في ذاتِك... أظهِري بعضَ الحَرج كإنسانٍ على الأقلّ. "

ثنيتُ ذِراعي دافعةً كتِفي إلى الوراءِ بعصبيَّة.

" أنِّي في علاقةٍ مشبوهةٍ مع رجلٍ يكبُرني سِنًّا لا يُعطيكَ الحقَّ لازدِرائي كبائعةِ هوى، ولا بمُحاسَبتي كمُجرمَة، لم تربطنا سِوى أحاديثُ جانبيَّة، فلا تشعُرني وكأنِّي قد خُنتك بعدَما أغريتُك بوعودٍ زائِفة..."

انتَهكتُ الخُطوةَ الوحيدَة الَّتي أخلاها بينَنا، لعلَّ الرِّسالَة تصلُه كما ينبَغي، دونَ أن أُقتِّر في التَّهديد، والَّذي عنيتُه حقًّا.

" تشان، أحذِّرُك، لا تعبَث معي، فأنا لا أتغاضى كُلَّ يوم."

خسِر هُو المُبارَزة البصريَّة الَّتي ابتدأتُها، بالأصحِّ تنازَل عنها، فلا شرعيَّة فيما يُناشِده إلى الآن. تأهَّبتُ للرَّحيل بعدَما أعطيتُه بظهري، لكنَّ صُراخَه أعاقَني.

" لِماذا هُو؟ "

تمتمتُ بصوتٍ مسموع.

" لأنَّه هو. "

وربَّما لأنِّي يتيمَة، وهُو الرَّجُل الَّذي طردَ الحُبَّ مِن قلاعِه، يخفي بينَ عواميدِه الجليديَّة دِفئًا أبويًّا مُربِكًا، يستحيلُ أن يحوزَه لسان خطيب، ولا قلبٌ محبّ!

غرقتُ في النَّومِ ما إن لُذت إلى المنزِل في نِهايةِ هذا اليومِ المَرير، موقِنةً أنَّ بيكهيون لن يفِد في وقتٍ قريب؛ لقد أخبَرني أنَّه سيتأخَّر جاحِدًا بإخباري عن الدَّاعي، ولم أسأله عنه خشية تأويلِنا إلى خاتمةٍ مأساوِيَّة، كأن يظُنِّ أنِّي أتخطَّى الحُدودَ المسموحِ بِها، أو أتقمَّصُ دورَ الزَّوجةِ الأشبهِ بالأصفاد، لمُجرَّد أنَّه يُعاقِرني ليلًا.

تواربَ جفنايَ آذنين لوعيي بالطُّلوعِ مِن الدَّيجور إلى النُّور، بعدَ سفرٍ مُريح نفَّس عنِّي كُربَ النَّهار، قُرابَة السَّاعَة العاشِرة ليلًا. شعرتُ بالألمِ يطعنُ معِدتي، مُعلنًا عن الغزوةِ الشَّهريَّة الدَّميمَة، لم أحتج أن أتفقَّدَني لأتحقَّق مِنها، وقُمت مُباشرةً مُنتشلةً مِن الدُّرجِ عُلبةَ الفوطِ الصحيَّة، لحُسنِ الحظِّ عثرتُ على واحِدة، سيتوجَّب عليَّ الخُروجُ في الحال واقتِناء عُلبة جديدة. لأنَّها داهمتني بغتة، لم أكُن جاهِزةً لها.

" اللَّعنة عليك يا تشان، لقد أصبتَني بفيضانٍ دمويّ، وجلبت لعنَتي قبل موعِدها بأسبوعٍ كامِل!"

التحفتُ هودي أسود اللَّون ذا قُلنسوةٍ فضفاضَة غمرت رأسي، وسِروالًا قصيرًا يُضاهيه، دسستُ بِطاقَة الائتِمان الَّتي لطالَما اقتصدتُ في استِخدامِها بجيبه، ثُمّ استقللتُ المِصعَد إلى الأسفل، ثمَة طائفةٌ مِن المحلَّات تُحاصِر المبنى الَّذي أقطنُه.

عجيبٌ أنِّي ما أزالُ أخشى مُواجَهة البائِع حالَ اقتِناء عُلبة الفُوطِ الصحيَّة، وقد سبقَ لي التعرِّي مِن الخَجل أمامَ بيكهيون لاستِدراجِه إلى كمائِني! بدوتُ وكأنِّي أستميتُ لتخبِئة ملامِحي بواسطَة القُلنوسةِ المُنسدِلةِ على ناصيَتي، حتَّى أنَّ الابتِسامَة قد نشبت في فتيلِ الفَتى وهُو ينقُل الكيسَ إلى مدَاري، تليه بِطاقةُ الائتِمان!

حالَما لاطفت نسمات اللَّيل العليلةِ ما لا يفتأ مكشوفًا مِن أديمي، خلعتُ الحِجابَ عن رأسي مُستمتِعةً بلمساتِها... لم أظنّ قطّ أنِّي قد أرصُد بيكهيون في الباحَة الأماميَّة للمَبنى، معَ امرأةٍ ذات تصميمٍ فتَّان، شعرُها يركبُ الرِّيح ويختطِف الأبصار، وفجوتا خصريها كمصيدتين قادِرتين على ابتِلاعِ أيِّ رجُلٍ مهمَا كانَ مُستقيمًا، بينَما يصرُخ فُستانُها القصيرُ المُنحسِر على فخذيها أنَّها آتيةٌ مِن المَلهى... بالأصحِّ مُبتاعَة.

لماذا جميعُ نِسائِه حسناوات؟

عطب جسدي لوهلة مِن هولِ الأفكارِ الَّتي تدفَّقت في بالي، وأدمَى الأسى شِغافي فجرَت الدُّموع في مآقيّ كأنَّها في عجلةٍ لملأ جفنيّ، هل كلَّت رغبتُه بي وهُو يسعى لاستِبدالي بأُخرى؟ أما عُدت أرويه أم أنِّي فقدتُ طعمي؟

عجزت آهاتُ مُهجَتي عن الاقتِرانِ بصوت، كأنَّهُما في خِصامٍ مُريع، لكِنِّي لم أرتضِ بالمُكوثِ في الظِّلالِ ومُشاهدتِه يتعرَّضُ للإغراءِ مِن قبلِها طويلًا. وازيتُ رأسِي بالسَّماء وتواطأتُ معَ أهدابِي والهواء على ردِّ المِياهِ إلى منبعِها، ثُمَّ هببتُ ناحيتَه كالنَّجدة، بخطواتٍ مُرتجِفة، بينَما أنتعِل ابتِسامَةً زائِفة، خائِفة.

" لقد وصَلت أخيرًا، تأخَّرت، كُنت على وشكِ الاتِّصالِ بك. "

نهشت أنيابُه البصريَّة ملمَحي بدهشة، كأنِّي آخرُ شخصٍ توقَّع أن يُنجِبه العَدم نُصبَ عينيه في هذِه اللَّحظة.

" ما الَّذي تفعلينَه بالخارِج في مِثل هذا الوقت؟ "

شهِد الكيسُ لصالِحي بعدَما قدَّمتُه لناظريه كدليل، ثُمَّ تأبَّطتُ ذِراعَه دافنةً خيبَتي تحتَ الشَّجاعَة، وحدجتُها بعدائيَّة، ودِفاعيَّة، أنبِّئُها أنَّه مِلكي بالفِعل، لعلَّه يعدِل عن مُخطَّطاتِه اللَّيليَّة، ولو أنَّ صوتِي أبى الامتِثالَ لِما فرضتُه عليهِ مِن مرحٍ فاحتَدّ!

" ولكِن، مَن أنتِ آجومًّا؟ "

-

شو رايكم بالفصل!

أكثر جزء عجبكم وما عجبكم !

بيكهيون!

ميني الشهوانية!😂

تشان!

من المرأة التي ظهرت بالأخير!

لماذا كانت برفقة بيكهيون وهل حقا يخونها!

كيف ستكون افعال ميني!

وردود افعال بيكهيون!

ما هي توقعاتكم للفصل القادم!

اليوم ظاهر جانب جديد من الشخصيات بيكهيون المتفهم والجمرة ميني 😂

مع الحقير تشان 😆

طبيعي انو شخصية بيكهيون هون جايبة راسي وبتذوبني اكثر ما انا ذايبة بالاحداث والمومنتس يلي بينهم 😭😭😭

احنا لسا بالموجة العاطفية بنطلع منها بعد فصلين او ثلاث فصول 😎

الفصل القادم بعد:
200 فوت
و500 كومنت

دمتم في رعاية اللَّه وحفظه 🍀

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top