الفصل السادس: صراع داخلي
- لأجل دراسة الطب..
- من أجل المال..
- كي أصبح غنيا..
- للحصول على وظيفة مرموقة..
كانت تقلب تلك الأوراق بين يديها واحدة واحدة وتقرأ مافيها بعناية. لم تكن لتميز أصحابها بشكل جازم فقد كانت رغباتهم في نظرها متشابهة بشكل كبير وقد فضل معظمهم إخفاء أسمائهم عنها. توقفت بعدها بلحظات عند ورقة منهم جعلتها تجزم هذه المرة صاحبها وقد ظهرت ابتسامة صغيرة على ثغرها.
- أريد النجاح لأنه أُرِيدَ مني ذلك..
لم يكن أي شخص آخر ليتمكن من معرفة صاحب تلك الورقة من عبارة واحدة فقط كتلك. لكن الأستاذة هتون كانت شخصية استثنائية في ذلك، فقد كانت تعرف عن طلابها أكثر مما تريده منهم، ولم يكن ذلك الخط الفوضوي ليغيب عنها صاحبه. ميزته من بين الجميع وقد اعتادت عليه ضمن أوراق الامتحانات التي لطالما بذلت جهدا في محاولة قراءته من بينهم جميعا. حافظت على ابتسامتها تلك ووضعت الورقة جانبا فوق البقية وهي تهمس بينها وبين نفسها :
- ذلك وحده كافٍ..
واستمرت بقراءة ما تبقى من أفكار طلابها الثمينة في نظرها. كانت أغلبها تتحدث عن النجاح لأجل وظيفة تجلب لهم السمعة الجيدة والدخل الممتاز. لم يكن أمرا غريبا فهذا ماقد يريده أي إنسان. لكن الاختلاف الذي يميزنا عن بعضنا يكمن في المنظور الذي ينظر إليه كل واحد منا، فقد نراه هدفا وقد نراه وسيلة، ومما لا شك فيه أن لكل واحد منهم سببا أو أسبابا وظروفا كونت لديهم منظورهم الخاص الذي لا يمكننا بجهلنا بهم أن ننتقص منه. كانت الأستاذة هتون تتفهم ذلك بشكل عميق، وكانت تقدر كل هدف وكل فكرة كتبت على تلك الأوراق حتى ولو بدت تافهة في نظر الآخرين.
ورقة أخرى لفتت انتباهها مجددا:
- لا شأن لكِ بذلك..
ابتسمت تلقائيا وهي تقرأ تلك الكلمات الجريئة التي لم تتوقعها على الإطلاق. نظرت إلى أسفل الورقة لتتسع ابتسامتها أكثر وهي لا تكاد تصدق بأن صاحب الورقة قرر بالفعل كشف نفسه بكتابة اسمه كتوقيع في نهاية الورقة.
- يبدو أنك شخص شجاع ووقح.. أسافو..
كان ذلك الطالب المنتقل حديثا، همست بينها وبين نفسها وكأنها تخاطبه. لم تشعر بالغضب بالرغم من أسلوبه ذاك. لكنها فكرت للحظات بمشاكل عديدة قد تنهال عليه بسببه. تنهدت بقوة وهي لا تزال محافظة على ابتسامتها التي جاءت كردة فعل قوية على تصرفه غير المتوقع ذاك. لكنها سرعان ما تلاشت فجأة وهي تقرأ تلك الأسطر لورقة أخرى بين تلك الأوراق المرتبة بعناية. قطبت حاجبيها بقوة وأخذت تكرر قراءتها عدة مرات متفاجئة مما تقرؤه. رفعت بصرها إلى النافذة بجانبها وأخذت تحدق في السماء للحظات ثم أعادت بصرها إلى الورقة محاولة معرفة صاحبها.
- إن أردتِ المجاملة فسأقول المال كما يقول الأغلبية وإن أردتِ الحقيقة فأنا أرغب بتغيير نظام هذا العالم.. وتحطيم هذا النظام الخانق للأبد..
لم تكن تلك مزحة. هي لم تعتقد ذلك على الإطلاق. أدركت هتون منذ البداية أن صاحب الورقة يعني ذلك حقا، وتعمد كتابته لها. لقد أخفى هويته كما فعل الأغلبية. لكنها كانت مصرة على معرفتها هي بالذات من دون الجميع. أخذت تتأمل الخط المكتوب وتقارنه بأوراق واجباتهم المدرسية لعلها تجد تشابها بين إحداها. استغرقت الكثير من الوقت، لكن دون جدوى.
***
- لا تقلقي.. سيأتي يوم ويشاهدهم جميعا..
ربتت على كتفها بحنان وكأنها تواسيها. وضعت نورسين تلك الورقة الصغيرة بجانب الكاميرا بعناية ثم التفتت إلى خالتها وقالت بابتسامة:
- نعم.. أعلم ذلك.. ولهذا لا أتوقف عن التصوير..
صمتت قليلا ثم أكملت بهدوء:
- فيديو اليوم مميز حقا.. فقد أضفتِ إليه الكثير بأسلوبكِ المرح.. أتمنى حقا أن يراه هذه المرة..
ابتسمت أريام دون أن تعقب شيئا، ثم ذهبت كلتاهما للاستعداد للنوم. جهزت نورسين سرير خالتها في الجانب الآخر من غرفتها الواسعة وهي تشعر بالدفء والسعادة لمشاركتها غرفتها التي اعتادت على الوحدة فيها، لتستلقي بعدها وخالتها أريام في فراشيهما منتظرتين شروق أول شعاع من أشعة الشمس حتى تستسلمان للنوم بعد أن أبى النوم أن يلامس جفنيهما.
لاحظت نورسين ارتباك خالتها وشرودها المتواصل وهي تتفقد بين الحين والآخر هاتفها بجانبها على السرير. لم تكن تلك المرة الأولى التي تتصرف فيها بتلك الطريقة فقد بدت كذلك منذ مجيئها اليوم إلى المنزل. كانت في كل مرة تبتعد عنها نورسين تجدها على هاتفها وكأنها تنتظر أحدهم بشغف، وقد شعرت بأنها تحاول إخفاء قلقلها ذاك أمامها. تساءلت كثيرا عما تتنظره لكنها تجاهلت ذلك الفضول طيلة اليوم تجنبا لإزعاجها.
- خالة أريام.. هل تنتظرين مكالمة من أحدهم ؟
شعرت نورسين وكأنها قد فاجأتها بسؤالها ذاك وقد بدا الارتباك جليا على ملامحها، لتجيبها محاولة طمأنتها بهدوء:
- لا تزالين مستيقظة نورسين.. لا تقلقي بشأن ذلك.. كان يفترض أن يتصل بي أحدهم لكن ربما نسي ذلك أو أنه مشغول اليوم.. لكن لا تقلقي ليس بتلك الأهمية على كل حال..
نظرت نورسين إلى ملامحها تحت ذلك الشعاع الخافت من الضوء بجانبها. ثم استدارت على جانبها الأيمن لتقابلها وقد قررت ترك كل شيء خلفها والاستسلام للنوم.
ابتسمت أريام بلطف وهي تراها تغلق عيناها. استدارت هي الأخرى لتقابل السقف من فوقها، تأملته للحظات بشرود. تفقدت هاتفها بعدها للمرة الألف وهي تردد بينها وبين نفسها بتوتر:
- رن رجاءً.. رن رجاءً.. رن رجاءً..
استيقظت نورسين في اليوم الموالي على رائحة القهوة التي تسللت لغرفتها بالرغم من أن بابها كان مغلقا. تذكرت حينها قدوم خالتها ليلة أمس. لتنهض بحماس من فراشها وتغادر غرفتها بعد أن لاحظت أن خالتها قد استيقظت بالفعل قبل مدة.
- مساء الخير خالتي.. استيقظتِ باكرا اليوم..
نظرت إليها أريام وهي تقوم بسكب قهوتها في الفنجان ثم أجابت بحماس:
- مساء الخير.. نعم استيقظت مع غروب الشمس.. لم يتوقف عقلي عن التفكير إطلاقا اليوم..
جلست على الطاولة ثم أكملت:
- لقد كنت في انتظارك.. لم أشأ الذهاب لغرفة آنزا وتفقد الكاميرا قبلك.. هيا أسرعي وتناولي فطورك لنتفقدها معا هذه المرة..
ابتسمت نورسين وقد شعرت بالسعادة تلفها، لتنضم إليها على الفطور بسرعة.
دخلت نورسين غرفة آنزا أولا بكل ثقة وقد بدا أنها قد اعتادت على شعور الخيبة الذي كان يراودها في كل مرة تدخل فيها تلك الغرفة. أما أريام فقد بدا عليها الارتباك أكثر.
اقتربت نورسين من الكاميرا التي كانت لا تزال في مكانها التي وضعتها فيه وقد لاحظت اختفاء تلك الورقة الصغيرة التي وضعتها بجانبها. شعور الأمل أخذ يتسلل إليها فجأة وقد رفعت الكاميرا بحماس. لكنه سرعان ما تلاشى بقوة بعد أن تفقدتها للحظات. التفتت نحو أريام وقد وضعت الكاميرا جانبا ثم قالت:
- يبدو أنه مصر على تجاهلنا..
نظرت إليها أريام ثم قالت مواسية:
- لا شك في أن له أسبابا قوية..
تذكرت حينها نورسين توناروز ورسائلها. لتخبر خالتها عنها وتذهب كلتاهما إلى غرفة نورسين لتفقد هاتفها فقد تكون هناك معلومات جديدة عن آنزا منها.
شخص قد يبدو اجتماعي لكنه لا يحب مخالطة الناس أو التعرف على شخصيات جديدة. لا يتحدث عن نفسه إطلاقا إلا أمام قلة قليلة من الناس. مجتهد في دراسته ويساعد الكثير من زملائه عليها. يعمل بدوام جزئي مساءً كنادل في مطعم وسط المدينة. ملتزم بمبادئه، ولطيف في معاملته مع الجميع.
كان ذلك ملخص ماجاء في رسائل توناروز عن آنزا. نقلا عن صديقه المقرب ذاك الذي بدا أنه يرغب بقوة في مساعدتهم.
عرفت نورسين أيضا بأمر قدوم صديقه راني إلى منزلهم غدا. شعرت بالارتباك نوعا ما لدخول شخص غريب إلى منزلهم. لكنها سرعان ما طردت أفكارها تلك بعيدا.
أخبرت خالتها بكل شيء قرأته ثم قررت نسيان الموضوع ريثما تسمع أمورا جديدة بشأنه.
***
فتح عينيه على اتساعهما وشهق بإعجاب قائلا:
- غرفتك مذهلة يا رجل.. فاقت توقعاتي حقا.. أنت محظوظ بالفعل..
ابتسم آنزا ليكمل راني بحماس:
- انظر إلى ضخامة فراشك، ما شاء الله !!
جلس راني عليه ونظرة الإعجاب لا تزال بادية على ملامحه. لم يكن أمرا غريبا بالنسبة لآنزا فقد شعر بنفس الشعور يوم دخل أول مرة إليها إلا أنه لم يبدِ منه شيئا. كانت غرفته تختلف كل الاختلاف عن تلك الغرفة البسيطة التي كان يشاركها مع مجموعة من الفتيان في دار الرعاية، فقد كان كل شيء فيها يبدو فخما، مريحا وحديث الطراز، وهذا ما جعل كليهما يشعران بالدهشة عند رؤيتها لأول مرة.
جلس آنزا القرفصاء على الأرضية المفروشة بسجاد ناعم بجانب تلك الطاولة الزجاجية الصغيرة ليتبعه راني هو الآخر. فتح راني حقيبته ثم أخرج منها أكياسا عديدة قد مُلئت بأنواع مختلفة من الوجبات الخفيفة التي كان قد اشتراها في طريقه إلى هنا. وضعها فوق الطاولة وهو يقول بحماس:
- لقد أحضرت الطعام معي كي لا تُحَضِّر لي أي شيء..
ابتسم آنزا لتصرفه ذاك ثم أومأ موافقا والتقط بعضا من المكسرات بيده منتظرا صديقه ليفرغ من تفريغ الأكياس. لاحظ راني أن آنزا قد قام بإخفاء الكاميرا التي تحدثت بشأنها نورسين، فابتسم لذلك ثم قال:
- آنزا.. بما أن عائلتك حضَّرت لك غرفة رائعة كهذه فلا شك في انها تحبك على عكس ما كنا نسمع عنه..
توقف لينظر إليه مباشرة ثم يكمل:
- أخبرني.. هل حاولت التواصل معك ؟
رمقه آنزا بارتباك ثم أشاح بنظره بعيدا وهو يقول :
- مالذي تقوله.. الغرفة وحدها ليست دليلا على ذلك.. المنزل كله عبارة عن شقة.. أكيد أنهم سيقدمون لي غرفة لا يحتاجونها ليس إلا..
ابتسم راني للحظة ثم أجاب:
- معك حق..
وضع الأكياس الفارغة جانبا ثم استوى في جلسته وأكمل:
- أخبرتني أن لك أختا صحيح.. كيف عرفت بشأنها؟!
- رأيتها في غرفتها..
- أهي أصغر منك أم أكبر؟!
- هي أصغر مني بسنتين..
ابتسم راني ابتسامة واسعة ثم ثبت نظره على عيني آنزا يحدق فيه بحدة. نظر إليه آنزا باستغراب ليقول راني بسرعة محافظا على ابتسامة النصر تلك:
- قلت أنك عرفت بشأنها عندما رأيتها في غرفتها.. لكن كيف تمكنت من معرفة عمرها؟!
ارتبك آنزا فجأة لكلامه غير المتوقع، ليكمل راني قبل أن يمنحه فرصة للتعبير:
- أراهن على أنك تعرف اسمها أيضا.. آنزا، لقد حاولت عائلتك التواصل معك.. صحيح.. لكنك تخفي الأمر عني الآن..
قال آنزا مبررا:
- بإمكاني معرفة هذه المعلومات بسهولة إن أنا تفقدت أغراضها وكتبها المدرسية..
- إذن، هل فعلت ذلك؟!
صمت آنزا مرتبكا دون رد، لم يكن شخصا يسمح لنفسه بالكذب. كان راني يعرف ذلك عنه فتعمد وضعه ضمن خطته الصغيرة تلك لكي لا يترك له عذرا يتهرب به.
- آنزا، لماذا تخفي الأمر عني؟!
صمت مجددا، فصمت راني هو الآخر وعم الهدوء المكان للحظات، ليقطعه أخيرا آنزا بنبرة حادة :
- لماذا تحاول أن تجعلهم عائلة مثالية؟!
قطب راني حاجبيه ثم أجاب:
- أنا لم أقل أن عائلتك مثالية.. لكني قلت بأنها ليست كما ظننا.. إنها تهتم لأمرك.. وقد بت واثقا الآن بأن هناك شيء حدث بينك وبينهم تخفيه عني..
- لماذا تبدو واثقا هكذا؟! ليس من المنطق أن يحاولوا التواصل معي.. ما فائدة ذلك أصلا..
لم يكن آنزا متقبلا فكرة محاولتهم التواصل معه، بل والاهتمام به وبتفاصيل حياته بتلك الطريقة. كان ذلك غريبا بشكل جعله ينفر منهم أو حتى الاعتراف بذلك. شعر راني بمشاعر الرفض تلك التي تعتريه فابتسم قائلا:
- آنزا.. كن صريحا معي وأخبرني بأنك لا ترغب في إخباري وسأخرس حينها..
وبنظرة خالية من أي تعبير أجاب آنزا بصوت مهتز:
- أنت محق.. لقد حاولوا التواصل معي.. أهذا ما تريد سماعه..
نظر إليه راني غير متوقع اعترافه ذاك ليكمل آنزا دون أن يرفع نظره إليه:
- لقد اشترو كاميرا خصيصا لأجل ذلك وقاموا بتصوير فيديو تعريفي كامل عن كل فرد منهم وقد رحبوا بي بشكل مبالغ فيه..
ابتسم راني لكلامه ثم قال بهدوء:
- أخبرتك بأنها تحبك.. أليس ذلك رائعا.. لماذا نبرة صوتك توحي بالعكس؟
صمت آنزا دون إجابة ليكمل راني مصطنعا الحماس:
- دعك من ذلك.. أخبرني، هل قمت بالرد عليهم؟! لقد استطاعت عائلتك كسر الحواجز التي بينكم بذكاء.. أنت محظوظ حقا لامتلاكك عائلة كهذه..
صمت آنزا مجددا دون أن يرفع نظره، ليرمقه راني بحزن وهو مدرك لما يعنيه صمته ذاك. تكلم راني من جديد متسائلا:
- آنزا.. لِم لست سعيدا بذل....
- لم أفعل..
قاطعه آنزا بصوت عالٍ ثم توقف. رفع نظره إليه ثم أكمل بهدوء:
- لم أقم بالرد عليهم.. وتوقفت عن مشاهدة فيديوهاتهم..
بوجه متفاجئ بشكل مقصود رد عليه راني:
- لماذا؟
- تفاجأت عندما رأيت أول فيديو وعاهدت نفسي بعدها أن لا أشاهد أي فيديو لهم مجددا..
- هل قالوا لك شيئا أزعجك ؟
أومأ برأسه نافيا دون أن يعقب ليكمل عنه راني بهدوء:
- لماذا إذن تتجاهلهم هكذا؟!.. تصرفاتك غير منطقية..
صمت مجددا ليضيف راني:
- ألا يزالون يصورون لك فيديوهات بالرغم من رفضك الرد عليهم ؟
- نعم..
رد آنزا بصوت خافت ليكمل راني بهدوء:
- ألا يؤلمك ذلك.. ماهو شعورهم الآن وقد تجاهلتهم كليا بعد أن خصصوا لك كل هذا.. آنزا.. أعطني سببا مقنعا يمنعك عنهم..
أجاب آنزا وقد رفع هاتفه لينشغل به محاولا إنهاء الموضوع:
- ليس وكأنه أمر مهم، دعك من هذا الموضوع الآن وأنه هذا الطعام بسرعة، فقد فقدت شهيتي..
تأمل راني ملامحه المرتبكة للحظات ثم قال بصوت متردد:
- آنزا.. هل تلومهم في انفصال حياتك عنهم؟!
- لا..
أجاب آنزا متظاهرا بالهدوء وبداخله بركان ثائر، ليكمل راني بعدها منفعلا:
- لماذا ترفض التواصل معهم إذن؟! ولماذا قررت العودة إليهم أصلا؟!
- راني توقف!!
انفجر آنزا أخيرا ولم يستطع إمساك نفسه أكثر من ذلك. اتسعت عينا راني وهو ينظر إلى ملامح آنزا ونظراته التي حملت حزنا عميقا بداخلها وهي تنظر إليه مباشرة. صمت راني تلقائيا بعد كلامه ذاك، ليكمل آنزا وقد ارتفع صوته أكثر:
- أنت لا تتوقف عن طرح الأسئلة، وهذا يزيد الأمر سوءً.. لست ألوم أحدا.. بل ألوم نفسي.. أنا المخطىء في كل شيء.. أخطأت في قراري بالعودة إليهم. كانت نيتي العيش بمفردي بعيدا عن عالمهم.. لم أكن أتوقع أن يحاولوا الاتصال بي هكذا بشكل غريب.. ولم أكن لأرغب بذلك حتى.. اعتقدت أنهم سيكونون كعائلتك..
الكلمات كالرصاص، إن خرجت لن تعود أبدا. لحظات غضب قد تكلفنا خسران العديد ممن نعزهم دون قصد. وقف آنزا بعد كلامه الحاد ذاك وأدار ظهره لراني، أراد أن يصرخ بقوة وتمنى لو كان وحده بالغرفة ليخرج ما بداخله على نفسه. خرج من الغرفة بعدها دون ان ينتبه لمدى وقع كلماته تلك على راني الذي بدت الصدمة جلية في ملامحه. لم يكن يعلم هل صدمته كلماته تلك أم ردة فعله الصارخة. لكن الشيء الأكيد أن كلامه الأخير ذاك ذهب بذاكرته إلى مشهد من الماضي، ليتذكر الكثير من الأشياء بعدها ارتبط بعضها ببعض وتكونت في ذهنه صورة مشوشة لآنزا.
عاد آنزا بعدها بلحظات ليجد راني واقفا مستعدا للذهاب أمام باب الغرفة. رمقه آنزا دون كلام ليتحدث راني مبتسما وكأن شيئا لم يكن:
- يجب أن أذهب الآن آنزا.. موعد تمريني بعد نصف ساعة والطريق بعيدة من هنا..
وخرج من الغرفة غير منتظر رده. تبعه آنزا إلى باب الخروج دون أن ينطق بكلمة ليغادر راني بعدها تاركا آنزا في دوامة جديدة هو في غنا عنها.
عاد آنزا إلى غرفته وقد نهشه شعوره الخانق ذاك. اتكأ بظهره للحائط ثم جلس على الأرض محدقا في كل أصناف الطعام التي تركها راني خلفه لتزيده سوءً، وقد أدرك للتو حجم الخطأ الذي اقترفه في حق صديقه الذي كان قلقا عليه ليس إلا. لحظات مرت عليه كذلك ليقف بعدها ويستلم هاتفه مسرعا.
بعيدا عنه كان راني جالسا في الحافلة يراقب الطريق من نافذته بوجه شارد. كان يشعر وكأنه تمادى كثيرا في تدخله لمساعدة نورسين وأهلها وللحظات طويلة شعر بالذنب لخداع صديقه الذي انفجر في وجهه قبل قليل لمجرد أنه حاول فقط معرفة مشاعره اتجاه عائلته، فماذا لو عرف بشأن تواصله معهم.
رن هاتفه بعدها بلحظات مشيرا إلى وصول رسالة. نظر إليه ليجدها توناروز تسأل عن أخبار جديدة بشأن آنزا. نظر راني إلى كلماتها بعمق وقد شعر لأول مرة في حياته برغبة كبيرة في الهرب من شخص ما. قرر بعدها أن لا يجيبها الآن ريثما يفكر جيدا في رد مناسب لموقفه ذاك. وضع هاتفه جانبا ليرن مجددا قبل أن يرفع يده عنه. نظر مجددا إليه وقد أيقن أنها توناروز مرة أخرى.
- راني.. أنا آسف..
اتسعت عيناه عندما وجد الرسالة من آنزا بدلا منها. تأملها للحظات جعلت شعوره بالذنب يتضاعف في داخله. لم يكن يشعر بالغضب من آنزا إطلاقا بالرغم من أن كلماته الأخيرة أثرت في نفسه عميقا. كان يعرف صديقه جيدا وكان موقنا أنه شيء عظيم ذاك الذي جعله يتصرف بتلك الطريقة وينفجر في وجهه. لذلك تقبل الأمر وانسحب بهدوء بعدما شعر برغبة آنزا في البقاء وحيدا. لكن اعتذاره هذا كان بمثابة الشوكة التي اخترقت صدره لتعظم شعوره بالذنب ذاك.
رن هاتفه مجددا وظهرت أمامه رسالة أخرى من آنزا:
- أنا آسف لأني صرخت بوجهك وقلت لك كلاما قاسيا وجعلتك تغادر بسرعة..
ابتسم راني بضعف وهمس مخاطبا إياه بعتب:
- توقف عن الاعتذار هكذا فأنت تزيدني شعورا بالذنب..
تناول هاتفه بسرعة وأرسل له رسالة يطمئنه فيها بأنه ليس غاضبا منه قبل أن تصله رسالة اعتذار أخرى، ثم نظر الى هاتفه للحظات وهو يبتسم مخاطبا إياه بينه وبين نفسه:
- لستُ أدري مالذي يجعلك حزينا هكذا وأنت تمتلك عائلة محبة.. لو كنت مكانك لكنت أسعد رجل في العالم..
وضع هاتفه في حقيبته الرياضية الصغيرة معلنا نهاية تلك المحادثة. رفع نظره إلى الغيوم وغاص بتفكيره بعيدا وقد أعادته كلمات آنزا الغاضبة إلى مكان بعيد.
كان ذلك قبل أربعة أشهر، يوم أكمل عامه العشرين. كان سعيدا جدا بذلك وكان ينتظر ذلك اليوم بفارغ الصبر. قام بحزم أمتعته قبل يوم من ذلك وقد قرر هو الآخر العودة لعائلته.
كان راني صديقا لآنزا منذ الطفولة، بل ومنذ أن كانا رضيعين. اشتركا نفس الجين الذي فصل حياتيهما عن عائلتيهما، نفس دار الرعاية ونفس الغرفة. كان يكبر آنزا بأربعة أشهر فقط فتربيا معا وكبرا معا كالإخوة. كان راني ينتظر عامه العشرين على أحر من الجمر منذ أن كان صغيرا وقد قرر بالفعل منذ ذلك الوقت أن يعود لأسرته ليحقق حلما طال انتظاره، وعندما جاء اليوم الموعود، ودع صديقه آنزا وباقي رفاقه في دار الرعاية وهو يحمل أمتعته الثقيلة على ظهره وقصد منزل عائلته.
كانت أسرته تعيش في منزل ضخم للغاية تحيطه حديقة واسعة. شعر راني بالارتباك لرؤية ضخامته وقد أخذ يتخيل نفسه فردا من أفراده. لم يكن يصدق تلك الشائعات المخيفة المنتشرة عن أهل ديجور الذين يملكون أبناءً من هيرو بالرغم من تحذيرات أصحابه في دار الرعاية بشأنها. قد تكون حقيقية بالفعل، لكنه كان يؤمن بأن أسرته ستكون استثناءً لذلك. دخل من الباب الرئيسي وعبر الحديقة وهو يتأمل تفاصيلها ليصل بعدها إلى باب المنزل الخشبي. لفتت انتباهه ورقة صغيرة معلقة عليه كتبت عليها جملة صغيرة. اقترب من الباب أكثر ليقرأ محتواها.
- غادر رجاءً.. ستدمر حياتنا..
تراجع خطوتين للوراء وقد صُدم مما رآه للتو. تعالت ضربات قلبه فجأة وهو بالكاد يصدق ما تقرأه عيناه. بقي على حاله للحظات ينظر إليها وقد عصفت بذهنه أفكار عديدة، وأخذت تلك الشائعات التي كان يسمعها منذ صغره تتردد عليه دون توقف.
كان القرار بيده، فكان بإمكانه تجاهل تلك الورقة وفتح الباب بالمفتاح الذي تحصل عليه من الحكومة والدخول للعيش في منزلهم غصبا عنهم. لكنه لم يتمكن من ذلك، فقد كانت تلك الجملة الصغيرة وحدها كافية بإدخال الرعب إلى قلبه، ليتراجع ويخرج راكضا من المنزل بسرعة.
عاد في مساء ذلك اليوم إلى دار الرعاية بعد أن قضى اليوم بأكمله هائما في الشوارع وقد تغيب عن حصص جامعته لذلك اليوم.
صُدم آنزا عند رؤيته أمام الباب بعد أن رن الجرس وهو يحمل حقيبته بيده بشكل مهمل.
- راني!! مالذي حدث معك.. لماذا عدت ؟
قال آنزا ذلك وهو يراقبه داخلا يجر حقيبته جرا قاصدا غرفته. لم يرد عليه بشيء فتبعه آنزا إلى الغرفة وهو يقول بتوتر:
- مالذي يحدث راني.. لقد اتصلت بك كثيرا ولم ترد علي.. لماذا لم تأت إلى الجامعة اليوم.. ولماذا عدت إلى هنا.. أخبرني..
- أين البقية؟!
رد راني بصوت خافت ليجيبه آنزا بنفس النبرة:
- على طاولة العشاء..
أخذ راني يفتح حقيبته ويضع مابداخلها على سريره بإهمال. نزع معطفه ورماه أرضا ثم جلس يفتح أزرار قميصه و هو يقول بصوت عميق متقطع:
- لقد تم رفضي..
نظر إليه آنزا بشفقة دون أن يعقب شيئا ليكمل راني بعد أن رفع نظره إليه ويواجهه بابتسامته الخافتة:
- صدقتِ الشائعات آنزا.. هم لا يريدونني بينهم.. لقد طلبوا مني المغادرة..
كانت نظرته المنكسرة تلك كفيلة بإدخال الحزن إلى قلب آنزا. كان يخشى عليه ذلك بعد ان كان يحاول دوما إقناعه بأن تلك الشائعات حقيقية حتى لا يصطدم بعدها بالواقع، وقد حدث بالفعل ماكان يخشاه. اقترب إليه آنزا وجلس بجانبه ثم وضع يده على كتفه بلطف وهو يقول:
- انس أمرهم راني.. يكفيك أنهم كانوا سببا في وجودك الآن بيننا.. فبعد كل شيء نحن عائلتك الحقيقية..
كانت كلماته العميقة تلك سببا في انشراح صدره ذلك اليوم ولم يكن لينسى دعم آنزا له يوم خاب أمله من أناس تسري دماؤهم في عروقه، ولا زالت تلك الكلمات تتردد على ذهنه كلما تذكر تلك الجملة المعلقة على ذلك الباب الخشبي العتيق. ابتسم بلطف وهو ينظر إلى المحطة التي سينزل فيها تقترب من بعيد، ليقف بعدها وينزل من الحافلة التي أعادت له تلك الذكريات القاسية.
***
-نهاية الفصل السادس-
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top