الفصل السابع : صدمة
في اليوم الثاني لعطلة نهاية ذلك الاسبوع، كانت نورسين جالسة على سريرها تتفقد رسائل توناروز لليوم. لم يكن فيها شيئا جديدا فقد فشل صديق آنزا ذاك في استدراجه لمعرفة الأسباب التي تمنعه عنهم، وبغض النظر عن ذلك لم تكن هناك أي إضافات جديدة بشأن شخصية آنزا فقد أخبرتها توناروز أن صديقه راني كان مشغولا يومها ولم تستطع خوض محادثة مطولة معه. تنهدت نورسين لذلك ثم أكملت قراءة ما تبقى من كلماتها:
- نورسين.. أردت إخبارك بأمر قد يكون سببا ولو بسيطا في ابتعاده عنكم..
اعتدلت نورسين في جلستها وقد ازداد تركيزها أكثر عند قراءتها لتلك الكلمات لتستعد جيدا لما هو آتٍ:
- في الحقيقة.. هناك الكثير من الحكايات والإشاعات المنتشرة هنا في هيرو عن معاملة عائلات ديجور لأبنائهم ذوي الصفات المتنحية الذين قرروا العودة للعيش معهم بعد بلوغهم العشرين.. وتلك الحكايات مخيفة نوعا ما ولطالما كانت سببا في رفض الكثيرين العودة لعائلاتهم.. فقد شيع أنهم يعاملونهم بطريقة سيئة لمحاولة جعلهم يغادرون.. فمنهم من تم نفيه للعيش في الحديقة أو في المخزن لأنهم يعتبرونهم عارا على العائلة.. ويتم معاملتهم بوحشية فلا يقدمون لهم الطعام ولا 1يوفرون لهم أبسط مستلزمات العيش وقد يصل بهم الأمر إلى حبسهم بداخل غرفهم لأيام دون طعام إلى حد الموت.. قد يبدو لكِ كلامي هذا مبالغا فيه.. لكن الكثير هنا في هيرو يؤمن به نظرا لتصريحات العديد منهم.. لست أدري ماهو الوضع عندكم بشأن هذا الموضوع لكن ربما يكون آنزا رافضا للتواصل معكم بسبب ما يسمعه من حكايات.. ربما يخشاكم ويخشى أن يحدث معه ما حدث مع الكثيرين مثله إن هو تواصل معكم.. ولربما تفاجأ في البداية كيف أنكم منحتموه غرفة مريحة وقدمتم له الطعام وقد جعله ذلك يشك بكم أكثر وبأنكم تدبرون له شيئا سيئا أو مكيدة ما.. فكري في الأمر جيدا فهو محتمل بشكل كبير..
شعرت نورسين بصدمة لما أشارت إليه توناروز، فهي لم تكن تعلم بشأن تلك الشائعات وإن كانت قادرة على تبريرها. تذكرت للحظة قصة قرأتها على الأنترنت عن هذا الموضوع لكنها لم تعرها اهتماما كبيرا يومها كونها اعتقدت أنها مجرد حوادث شاذة لا يقاس عليها. لم تعتقد يوما أن تكون تلك القصص منتشرة في هيرو بشكل يجعل سكانه يؤمنون بهم، وما جعل ضربات قلبها تتضاعف بقوة هو فكرة أن يكون آنزا خائفا منهم ولا يشعر بالآمان في هذا المنزل وهذا يعني أنه من الصعب جدا عليها أن تتمكن من كسب ثقته بعدها. وضعت هاتفها جانبا وأخذت تفكر في حلول لتلك المشكلة وكأنها قد أيقنت أنه بالفعل السبب الحقيقي الذي يمنعه من التواصل معهم.
كانت نورسين بكونها فردا من سكان ديجور تدرك جيدا ماذا يعني أن ينتشر خبر ولادة طفل ذو صفة متنحية عند عائلة معينة في المجتمع. كانت ولادة كتلك كفيلة بتدمير سمعة تلك العائلة وبقطع نسلها كليا، فلن يرضَ أحد أن يتزوج منها ويخاطر بنقل تلك الصفة إلى أولاده فيصبحون من سكان هيرو ويعيشون بعيدا عنه، لذلك لطالما أخفت العائلات ولادات كتلك وكلها خوف في أن يعود ابنها يوما ما ليكشف سرهم ويدمر حياتهم، ولهذه الأسباب لا يُستبعد أن تكون تلك الحكايات والشائعات صحيحة.
كانت نورسين تتفهم ذلك جيدا وإن كانت لا تؤيده، وبالمثل قامت أسرتها بإخفاء أمر آنزا يوم ولادته لكنها وعلى عكس الآخرين كانت تنتظر عودته على أحر من الجمر، وكانت تنوي مصارحته بالأمر وطلب تعاونه في إخفاء هويته، بالرغم من أن نورسين كانت ترفض ذلك، فقد كانت تكره تلك الأفكار وتَهَرُّب الناس من الحقيقة، فحتى وإن لم يتم كشف أمر آنزا فهي لن ترضَ بخداع شخص في المستقبل لأجل أن تتزوج، ولفكرتها هذه لطالما نهرتها والدتها وحذرتها من كشف حقيقة آنزا، وقد تفهمت نورسين شعور والدتها وخضعت لكلامها بالرغم من ذلك.
مرت لحظات عديدة وهي على حالها تلك تفكر بعمق لتدخل عليها خالتها أريام وتجلس بجانبها بهدوء. نظرت إليها نورسين بتفحص وقد بدا لها توتر أريام جليا في ملامحها.
- خيرا خالتي.. ماذا بك ؟
التفتت أريام إليها لتقابلها ثم أمسكت يدها بعناية وقالت بهدوء:
- اسمعيني جيدا نورسين فلدي ماأخبركِ به..
نظرت إليها نورسين بارتباك وقد لاحظت تلك البرودة تتسلل إليها من يدي خالتها لكنها لم تعقب بشيء لتكمل خالتها بصوت خافت:
- هلا منحتني هاتفك..
نفذت نورسين ما طلبته منها أريام وقد ازداد توترها أكثر لترفعه هذه الأخيرة وتخرجه من الغرفة ثم تعود إليها وقد أغلقت الباب خلفها بشكل جعل قلب نورسين يرتعش تلقائيا.
- نورسين.. لقد سألتني قبل البارحة إن كنت أنتظر اتصالا بعد أن لاحظتِ ارتباكي يومها صحيح..
أومأت نورسين برأسها لتكمل أريام:
- في الحقيقة لقد كنت أنتظر اتصالا من سيلا.. فهي من طلبت مني المجيء والبقاء معك.. وقد قدَّمتُ إجازتي قبل وقتها لأجل ذلك..
- أمي فعلت ذلك ؟! لماذا؟
- نعم.. اهدئي نورسين وسأخبركِ بكل شيء..
ابتلعت نورسين ريقها وقد شعرت بخطر يقترب إليها فجأة لتكمل أريام:
- قبل عدة أيام.. اتصلت بي والدتك لتخبرني بشأن سفرهما المفاجئ وطلبت مني شيئا غريبا للغاية.. لقد طلبت مني أن أخبرك بشيء معين إن هي لم تتصل بي خلال الثلاثة أيام القادمة.. وقد مرت بالفعل ثلاثة أيام دون اتصال.. بل وقد انتظرت لليوم الرابع لعلها تتصل لكنها لم تفعل.. واليوم هو خامس يوم لذلك قررت بالفعل أن أخبرك بما طلبته مني..
كانت ضربات قلبها تزداد شيئا فشيئا مع كل كلمة تقولها خالتها، وشعرت بمدى خطورة ذلك الشيء الذي ستخبرها به بعد لحظات.
- انتظري خالة أريام.. ماذا تقصدين بأنها لم تتصل؟! أهذا يعني بأنها في خطر؟!!
- لست أدري نورسين لقد سألتها نفس السؤال وقد طمأنتني بأنها ستكون بخير وبأنها مستعجلة فلم تفسر لي الأمر جيدا.. فقد كانت تتصل من رقم غريب لا يخصها..
- مالذي طلبت منك إخباري عنه.. هيا أخبريني بسرعة فقد بدأت أشعر بالخوف..
أمسكت بيدها مجددا ثم قالت بهدوء:
- لقد طلبت مني أن أرافقكِ ونذهب إلى الجدة جوري لتخبرنا بكل شيء.. أنتِ تعرفينها صحيح؟!!
نظرت نورسين إليها باستغراب ثم أجابت بتلقائية:
- نعم.. إنها قريبة جدا من أمي وتزورها دائما فمنزلها قريب من هنا.. ثم إن حفيدها زميل لي في المدرسة..
ابتسمت أريام ابتسامة واهنة ثم قالت بهدوء:
- فلنذهب إليها الآن إذن.. فقد تأخرنا يوما كاملا عن الموعد الذي حددته سيلا.. لا شك في أن هنالك أمرا هاما يجعلها قلقة هكذا..
أومأت نورسين برأسها ثم وقفت مسرعة لتغير ملابسها وقد أخذت ضربات قلبها تتضاعف خوفا مما هو قادم.
***
- أشعر بالتوتر.. مر وقت طويل منذ آخر مرة أتيت فيها إلى هذا المنزل..
- لماذا.. ألم تقولي أنها قريبة من أمك؟!
- نعم.. لكن حفيدها ذاك أصبح مزعجا كثيرا..
قالت ذلك وهي تقف أمام الباب بارتباك جعلها تستصعب رفع يدها لتطرق عليه. ابتسمت أريام بلطف ثم رفعت يدها لتطرق عليه طرقات خفيفة خفيفة وهي تقول:
- لستِ لوحدكِ عزيزتي..
وعلى الجانب الآخر من الباب وقف أويس بعينين ناعستين ليتفقد الطارق. نظر من خلال تلك الشاشة الصغيرة بجانبه لتتسع عيناه بقوة وهو ينظر إلى نورسين وخالتها تنتظران خلف الباب. ركض مسرعا نحو جدته وقد أصابه الارتباك بقوة. نظر إليها وهي مستلقية على فراشها تحدق في الفراغ وسط تلك الفوضى التي عمت غرفتها بالكامل ثم قال بصوت أفزعها وأيقظها من خلوتها تلك:
- جدتي.. ابنة الخالة سيلا وفتاة أخرى لا أعرفها يطرقان الباب.. ماذا نفعل؟!
نظرت إليه وقد اتسعت نظرة عينيها الواهنة ثم قالت بصوتها المرتعش:
- افتح لهما الباب بسرعة..
- لكن جدتي.. أنتِ لا تزالين....
- لا بأس.. أدخلهما إلى الغرفة الأخرى وأخبرههما أن ينتظراني هناك..
نظر إليها بارتباك، ثم التفت مغادرا وهو يتذمر منزعجا:
- مالذي آتى بها إلى هنا.. لقد اعتقدت بأنها لن تأتي مجددا.. آآه.. الوقت لا يزال مبكرا..
وذهب إلى غرفته متذمرا ليقوم بتغيير ملابس النوم تلك. كان يتمنى في قرارة نفسه أن لا يجدهما عندما يصل إلى الباب بعد أن تأخر عليهما كثيرا. لكن لسوء حظه فقد كانتا لا تزالان هناك عندما وصل إليهما. نظر إليهما بانزعاج عبر تلك الشاشة بجانبه، تنهد بقوة ثم فتح الباب بهدوء.
رمقهما بنظرته المنزعجة للحظات سرعان ما قطعتها عليه أريام بقولها:
- مرحبا أويس.. هل يمكننا رؤية الجدة جوري.. نحتاجها في أمر مهم..
نظرت نورسين إلى خالتها مستغربة من كلامها الصريح ذاك ثم التفتت نحو أويس الذي بدت عليه هو الآخر نظرات الدهشة جلية على وجهه، ليتدارك نفسه بعدها ويقول بصوته المنزعج:
- من تكونين أنتِ ؟
التفت نحو نورسين ليرمقها بنظرة ثاقبة ثم أعاد نظره إلى أريام منتظرا ردها. ابتسمت هذه الأخيرة ثم أجابت مشيرة إلى نورسين:
- أنا خالتها الصغرى.. سررت بلقائك أويس..
ابتسم ساخرا لقولها ثم تنحى جانبا وهو يقول بجفاء متجاهلا كلامها:
- أدخلا وسأنادي عليها..
دخلت أريام بثقة وتبعتها نورسين بارتباك أكثر بعد أن شعرت بأنه غير مرحب بهما هناك. قادهما أويس إلى غرفة جانبية ثم غادر بعد أن قال بنفس النبرة:
- انتظراها هنا...
بعد ذهاب أويس التفتت نورسين نحو خالتها بسرعة ثم قالت هامسة:
- لماذا ناديته باسمه وهو لا يعرفك.. لقد بدا الأمر غريبا..
- ومالغريب في مناداته باسمه.. لقد سألتكِ عن اسمه قبل قليل كي استعمله..
نظرت إليها نورسين نظرة تذمر، لتكمل أريام بدلا منها:
- لقد بدا لي فتا مؤدبا على عكس ما وصفته لي..
- أجل.. قمة في الأدب.. لم تري شيئا بعد..
علقت نورسين وقد أخذ هذا الموضوع يشعرها بالانزعاج، لتقول مغيرة إياه بصوت خافت:
- سننتظر كثيرا هنا..
- لماذا ؟!
دون أن تلتفت إليها أجابت نورسين:
- لأن الجدة جوري عاجزة تماما عن الحركة..
تفاجأت أريام من كلام نورسين. التفتت إليها هذه الأخيرة ثم أكملت:
- إنهما يعيشان وحيدين في هذا المنزل الكبير.. ووحده أويس من يقوم برعايتها وتلبية كل احتياجاتها.. لذلك.. لا شك في أنه سيستغرق كثيرا ليعدها لاستقبالنا في هذا الوقت المبكر..
نظرت إليها أريام بصدمة أكبر ثم قالت بهدوء:
- ماذا عن أبنائها.. لا تقولي أنها لا تملك أبناءً.. أليس أويس حفيدها!!!
ابتسمت نورسين ابتسامة حسرة ثم أجابت:
- بلى.. لديها ثلاثة أبناء وبنت واحدة.. الرجال لم تسمح زوجاتهم بأخذها ورعايتها والابنة يمنعها زوجها من ذلك أيضا، وبسبب عملهم فهم لا يتمكنون من البقاء معها في منزلها، هذا ما يتحججون به. لذلك أخذوها إلى دار العجزة سابقا.. وقد بقيت هناك أسبوعا كاملا إلى أن اكتشف أويس أمرها بعد أن أخفى والده أمر جدته عنه لتعلقه بها.. فقد أخبرتني أمي أن أويس كان قريبا جدا من جدته منذ أن كان صغيرا وقد ساهمت كثيرا في تربيته قبل أن تصبح طريحة الفراش.. لذلك.. عندما علم بأمر أخذها إلى دار العجزة غضب كثيرا وقام بإرجاعها بنفسه إلى منزلها وقد أقسم أن يعيش معها دائما ويرعاها لوحده بالرغم من رفض والديه لذلك إلا أنه قد فعلها.. ومنذ ذلك الحين وهو يعيش هنا ولم يعد إلى منزل والديه أبدا إلا للزيارة...
- لكن.. كيف تمكنوا من ترك والدتهم هكذا ببساطة.. ثم كيف استطاعوا تركه يرعاها لوحده وهو لا يزال في المدرسة..
قالت أريام ذلك وقد رق قلبها لقصتهما. لم تكن تدري أتشفق على تلك الأم التي تركها أولادها وهي طريحة الفراش أم على حفيدها الذي ترك كل شيء خلفه ليبقى معها ويرعاها.
نظرت نورسين إليها ثم قالت بصوتها الخافت:
- أخبرتني أمي أنه يستيقظ كل يوم باكرا ليلبي احتياجات جدته من غسيل وطعام قبل ذهابه للمدرسة ثم يعود في فترة الغذاء بسرعة ليجهز الغذاء ويطعمها ويطعم نفسه في الوقت ذاته قبل أن يعود للمدرسة فجرا.. ونفس الشيء يتكرر كل يوم.. إنه ليس أمرا سهلا على الإطلاق...
أومأت أريام وقد ازداد تقديرها لذلك الفتى الذي رأته قبل قليل. وقفت بعدها بلحظات ثم قالت بحماس:
- حسنا.. لقد قررت أن أساعده..
التفتت نحو نورسين التي بدت عليها الصدمة من كلامها ذاك ثم أكملت:
- هيا نورسين.. لنذهب لنحل مكانه ونمنحه بعض الراحة..
- مالذي تقولينه خالتي.. لا يمكننا التطفل عليهم أكثر مما نفعله الآن.. سنزعجهم بذلك...
ردت عليها نورسين وقد ازداد توترها فجأة من طلب خالتها الغريب ذاك. ليس وكأنها لم تكن ترغب في المساعدة لكنها كانت تعرف أويس حق المعرفة في موقف كهذا، فهو لن يسمح على الإطلاق بذلك بل وسيتصرف معهما بشكل وقح للغاية، لذلك ما كانت لتسمح بحدوث ذلك على الإطلاق.
- لستما متطفلتين نورسين.. فقد كنت أنتظركما منذ مدة...
التفتت نورسين وخالتها بسرعة إلى مصدر الصوت عند مدخل الغرفة لتنظرا إلى الجدة جوري وهي تدخل الغرفة يجرها أويس في ذلك الكرسي المتحرك. كان واضحا تقدمها في السن من تلك التجاعيد الكثيفة التي رسمت بدقة على بشرتها البيضاء المحمرة لتضفي عليها هبة ووقارا، وبالرغم من أن الشيب قد تمكن من شعرها كليا إلا أن ملامحها الشقراء كانت جلية عليها وقريبة بشكل كبير من ملامح حفيدها أويس. توقفت بعد أن قابلتهما لتقف نورسين بعدها وتتقدم إليها لتسلم عليها وبالمثل فعلت خالتها.
- أنا أريام خالة نورسين وأخت سيلا الصغرى.. وقد طلبت مني سيلا القدوم مع نورسين..
عرَّفت أريام بنفسها بلطف ثم جلست في مكانها لتبتسم الجدة جوري ثم تقول بهدوء:
- نعم.. أعرفكِ أريام فقد حدثتني سيلا عنكِ كثيرا..
التفتت بعدها نحو نورسين ثم أردفت:
- كيف حالك نورسين.. لقد كبرتِ كثيرا منذ آخر مرة رأيتكِ فيها..
- أنا بخير جدتي، سأدخل الجامعة السنة المقبلة بإذن الله..
ابتسمت الجدة ابتسامة تحمل الكثير من المعاني ثم أغمضت عينيها وقالت بعد أن شعرت بمغادرة أويس للغرفة:
- حفيدي كذلك سيدخل الجامعة قريبا بإذن الله.. سأدعوا لكما بالتوفيق والنجاح..
فتحت عينيها مجددا ثم نادت على أويس بصوت حاولت قدر الإمكان أن يكون مرتفعا، وماهي إلا لحظات حتى عاد أويس إليها.
- بني.. هلا حضَّرت للضيوف شايا..
نظر إليها أويس بصدمة ثم قال دون أن يبعد نظره عنها:
- مستحيل.. لن أفعل ذلك..
ابتسمت نورسين لكلامه ثم التفتت إلى خالتها وكأنها كانت تتوقع ذلك أما أريام فقد صُدمت لتصرفه الفظ ذاك و لم تجد أي كلمات تخرجها من ذلك الموقف المحرج.
ابتسمت الجدة جوري ثم قالت بصوتها المرتعش:
- لابأس أويس.. أنا أيضا أريد شرب الشاي فأنا لم أتناول فطوري بعد.. فهلا حضرته لأجلي...
رمقها أويس بنظرة مترددة ثم ذهب دون أن يعقب شيئا. التفتت الجدة إلى نورسين وأريام ثم قالت مبتسمة:
- أرجوا أن تعذراه.. فهو شاب طيب.. لكنه خجول قليلا..
خفضت بصرها ثم أردفت بصوت خافت:
- لم يكن هكذا عندما كان صغيرا..
ابتسمت نورسين لكلامها ثم قالت بلطف:
- لابأس جدتي.. لقد اعتدت طباعه هذه..
صمتت للحظات ثم أكملت بنبرة أكثر جدية :
- جدتي.. هل تعرفين شيئا عن سفر والديَّ ؟!
نظرت إليها الجدة نظرة حانية ثم قالت مطمئنة إياها:
- نعم.. لا تقلقي.. سأخبرك بكل شيء.. لكن قبل ذلك.. لننتظر الشاي أولا..
أومأت نورسين وقد استغربت لذلك، وعم هدوء بسيط على المكان سرعان ما قطعه دخول أويس بصينية الشاي. وضع هذه الأخيرة على الطاولة بجانبهم ثم أفرغ من الإبريق كأسا لجدته ورفعه باتجاه ثغرها متجاهلا وجود تلك الفتاتين خلفه.
ابتسمت الجدة لفعله ثم أوقفته بقولها :
- ضعه على الطاولة أويس لن أقوم بشربه الآن..
رمقها باستغراب للحظات ثم فعل ما طلبته منه ووقف مغادرا. لكنه توقف قبل أن يخطو أول خطوة ليلتفت إلى جدته التي أمسكت بمعصمه بصعوبة لتوقفه. نظر إليها باستغراب ثم قال :
- أتحتاجين شيئا آخر جدتي..
رفعت نظرها إليه بصعوبة ثم قالت بنبرة حانية:
- اجلس أويس.. فالموضوع يهمك أيضا..
ارتبك فجأة لطلبها ذاك وقد بدا له أمرا غريبا. شعر بتلك النظرات التي ترمقه من بعيد فجلس مستجيبا لطلبها لعلها تحتاجه فقط لشرب الشاي.
التفتت الجدة بعد جلوس أويس إلى نورسين وخالتها وقالت مشيرة إلى الشاي:
- أرجوا أن تتفضلا وتمنحا نفسيكما كوبا من الشاي..
شعرت أريام بالحرج فتقدمت بنفسها وقامت بسكب الشاي لها ولنورسين ووضعتهما بجانبها على الطاولة. نظرت نورسين لأويس لحظة من الزمن وقد أزعجها تصرفه ذاك بل وقد انزعجت أكثر من بقائه هناك بعد أن طلبت منه الجدة ذلك بشكل مفاجئ. تجاهلت وجوده بصعوبة والتفتت نحو أريام التي قالت بهدوء:
- لقد اتصلت بي سيلا قبل أربعة أيام من رقم غريب وطلبت مني القدوم إليكِ ومعي نورسين إن لم تعاود الاتصال بي خلال الثلاثة أيام القادمة.. لقد أخبرتني بأنكِ ستوضحين لنا كل شيء عند قدومنا.. ولهذا السبب نحن اليوم هنا فهي لم تتصل بعد كل شيء..
نظرت إليها الجدة بملامحها المبتسمة ثم قالت بهدوء:
- نعم أعلم ذلك يا ابنتي.. فقد اتصلت بكِ من هاتف هذا المنزل وقد كنت معها يومها..
نظرت أريام إلى نورسين باستغراب لتبادلها هذه الأخيرة نفس النظرة ثم تقول وقد نفذ صبرها :
- مالذي تخفينه عنا جدتي؟! هل هو أمر سري إلى هذه الدرجة؟!
مررت نظرها بين الاثنتين ثم قالت بهدوء:
- نورسين.. أريام.. هلا منحتما هاتفيكما لأويس..
التفتت نحو أويس ثم أكملت:
- ضعهما في الغرفة المجاورة ولا تحضر هاتفك معك أيضا..
استجابت الفتاتان لطلب الجدة بشكل تلقائي كما فعل أويس كذلك وقد شعر جميعهم بمدى أهمية الموضوع الذي ستتحدث فيه الجدة بعد قليل.
قالت نورسين بعد لحظات من مغادرة أويس بصوت خافت:
- جدتي.. إن كان الموضوع سريا وحساسا إلى هذه الدرجة.. ألا يجب أن نبقيه بين ثلاثتنا فقط..
- ليس وكأني جالس هنا بإرادتي.. موضوعكِ هذا آخر اهتماماتي..
رد أويس وهو يدخل الغرفة وقد أزعجه كلامها ذاك الذي سمعه بالصدفة. رمقته نورسين بنظرة ثاقبة ثم نظرت إلى الجدة التي أخذت تضحك لمناوشتهما تلك.
- لا تقلقي عزيزتي فأويس شخص أمين..
التفتت نحو أويس ثم أكملت:
- ثم إن هذا الموضوع يهمك ونورسين معا..
صمتت نورسين وجلس أويس، ليعم الهدوء المكان للحظات قطعته بعدها الجدة وهي تقول مثبتة نظرها على نورسين:
- عزيزتي نورسين.. تعلمين أن والديك يعملان بالاشتراك مع المعهد رقم واحد المختص في الأبحاث التقنية..
أومأت نورسين بالإيجاب لتكمل الجدة بهدوء:
- لقد كان فريق والديك المختص في علم السموم يقوم مؤخرا بدراسة عينات لكوكب المريخ يحتاجها هذا المعهد في بحث معين.. وقد تم إعلامهم مؤخرا عن هدف ذلك البحث الرئيسي قبل الإعلان عنه بيوم.. إنه بخصوص الرحلة الطلابية..
رمقتها نورسين باستغراب كما فعلت أريام ثم قالت بتساؤل:
- أتقصدين الرحلة الطلابية التي يتم تنظيمها كل عام إلى المريخ؟!!!
أومأت الجدة بالإيجاب، لتتكئ نورسين بظهرها على الأريكة وقد ضاقت نظرة عينيها منتظرة من الجدة أن تكمل كلامها.
كانت الرحلات الاستكشافية للفضاء من أكثر الرحلات تمويلا واهتماما في العالم، فكانت ديجور تتنافس مع نظيرتها هيرو في هذا المجال، وكان المريخ الكوكب الأكثر قصدا من بين جميع الكواكب نظرا لكثرة أوجه التشابه بينه وبين الأرض، فبالرغم من أنه لم يكن سهلا وصول البشر إليه في البداية نظرا للمسافة الكونية الشاسعة التي تفصله عن الأرض إلا أنه استطاع فريق من البحث من هيرو الوصول إليه قبل سنوات قليلة بعد تصنيعهم لمركبة خاصة تعمل بتقنية سرية. انتشرت بعدها هذه الرحلات بين العلماء والمختصين وأحيانا بعض المتطوعين في حالات خاصة، لتصل بعد مدة كافية إلى تنظيم رحلات طلابية إليه بعد أن أصبح السفر إليه كأي سفر آخر على وجه الأرض، وأصبحت هذه الرحلات سهلة التنظيم، آمنة، ومتاحة لكل من يستطيع دفع تكاليفها. وكجزء من المنظومة التعليمية أدرجت رحلة إلى المريخ كل عام لطلاب السنة الأخيرة من الثانوية العامة تحت إشراف الحكومة.
أدركت نورسين أنه قد تم اختيار ذلك المعهد ليقوم بتنظيم رحلة هذا العام، ففي كل عام يتم اختيار معهد أو مؤسسة مرموقة لتقوم بالتنظيم، لذلك لم يكن اختياره أمرا غريبا بالنسبة لها لولا أن والديها قد أخفيا الأمر عنها.
أكملت الجدة كلامها وكأنها قد شعرت بما يدور في خلدها:
- لقد قام والداك بإخفاء الأمر عنكِ لأنهما اكتشفا في في نفس اليوم الذي تم الإعلان فيه عن الرحلة شيئا خطيرا بخصوصها..
نظرت نورسين إلى الجدة وقد ازداد توترها فجأة، لتبادلها الجدة نفس النظرات ثم تكمل بصوتها المرتعش:
- تعلمون أن هذه الرحلة يتم تنظيمها خصيصا لطلاب السنة الأخيرة من الثانوية العامة.. وكما نعلم جميعا فإنه يتم اختيار صف واحد عشوائيا من كل مدينة.. والشيء الأكيد والذي يحدث كل عام أن هذا الإختيار دائما ما يكون من صفوف المدارس الخاصة التي تستطيع دفع تكاليف الرحلة عن طلابها..
أومأت نورسين برأسها كما فعلت أريام، فقد كان كلام الجدة بديهيا ويدركه عامة الناس، فلن تستطيع أي مدرسة عادي أن تقوم بتسديد تكاليف الرحلة، لذلك لا يهتم أغلب الطلاب بمثل هذه الرحلات ولا يحلمون بها أصلا، ولمثل هذه الأسباب قل الحديث عنها بين عامة الناس.
أكملت الجدة :
- لكن هذا العام الأمر مختلف كليا.. ولا أحد يعلم بالحقيقة كاملة سوى أصحاب المعهد المنظمين للرحلة.. أو بكلمة أخرى الحكومة..
نظرت إليهم واحدا واحدا ثم أكملت بجدية بالغة:
- اسمعوني جيدا.. في نفس اليوم الذي تم فيه إبلاغ فريق سيلا عن الرحلة.. استطاعت سيلا بفضل زميلة لها من المعهد أن تطلع على قائمة الطلاب الذين سيتم أخذهم هذا العام والتي كانت سرية للغاية.. ولكن بحكم عملها معها وعلاقتهما الجيدة أطلعتها على القائمة بالرغم من أنه كان ممنوعا منعا باتا لأي شخص من خارج المعهد أن يطلع عليها..
صمتت للحظات أخذت فيها تمرر نظرها بين نورسين وأويس ثم أكملت بابتسامة واهنة:
- أويس.. نورسين.. لقد وَجَدَت سيلا اسميكما بين أسماء الطلاب المختارين..
رمقتها نورسين باستغراب ثم التفتت نحو أويس الذي رفع أحد حاجبيه مستنكرا ثم قال:
- مالذي تقولينه جدتي.. هذا غير منطقي..
ابتسمت الجدة ثم أكملت:
- لستما الوحيدين بل جميع زملائكم في الصف موجودون كذلك.. وهذا يعني أنه قد تم اختيار صفكم ومدرستكم بالفعل..
- لكن جدتي.. هذا أمر مستحيل.. لا يمكن لمدرستنا دفع التكاليف.. لاشك في أن هناك خطأ ما..
علق أويس لتعقب نورسين موافقة:
- صحيح.. لا شك بأنهم قد خلطوا بيننا وبين مدرسة أخرى..
قاطعتها الجدة بهدوء:
- لا.. الأمر مقصود بالفعل.. لقد بحثت سيلا في الموضوع وقد انضم إليها آصف في ذلك.. فقد بدا لهم الأمر غير منطقي كما يبدو لكم الآن.. وقد شككوا بالموضوع أكثر عندما لاحظت سيلا بعد تصفحها للقائمة من جديد أن اختيار الطلاب كان مصنفا على حسب العائلة.. فكانت أسماء العائلات التي تم اختيارها مشطوبة وتبقت عائلات دون شطب.. ومما فهمته بعد بحثها في الموضوع أن العائلات غير المشطوبة لم تكن تملك أبناءً في سنكم وصفكم.. لقد أخبرت سيلا زميلتها تلك بأن ابنتها في القائمة عندما تفاجأت برؤيتها حينها.. لكنها أبقت شكوكها تلك سرا عنها واستمرت بالبحث أكثر مع والدكِ آصف وقد تعمقا في ذلك إلى درجة أن قاما بزيارة بعض العائلات ليؤكدا شكوكهما.. وبالفعل بعد مدة توصلا إلى نتيجة مخيفة نوعا ما..
تنهدت بقوة وهي ترمق أويس بنظرات عميقة ثم أكملت بعد أن رفعت نظرها للأعلى:
- كل العائلات في القائمة هي عائلات غير نقية.. أي أنها تملك في حمضها النووي ذلك الجين المتنحي الذي قد يظهر في سلالتهم في أي وقت.. وأنتما تنتميان إليها..
قطبت نورسين حاجبيها وقد بدا لها أمرا غريبا، فأن يتم اختيار الطلاب من العائلات الهجينة فقط أمر لا معنى له. ابتلعت تساؤلها ذاك ثم التفتت إلى أويس وقد فاجأها كونه ينتمي إلى عائلة هجينة كذلك، لتتفاجأ أكثر بملامحه التي بدت الصدمة جلية عليها وقد أيقنت حينها أنه هو أيضا لم يكن يعلم بذلك.
كان يحدق في جدته غير مصدق ماقالته قبل قليل. صمت للحظات ثم وقف وقد انفعل بشدة وهو يقول:
- مالذي تقولينه جدتي؟! أي عائلة هجينة تتحدثين بشأنها؟! وما علاقتنا نحن بهم؟!
ابتسمت جدته ثم قالت بلطف:
- تمنيت أن لا تكتشف الأمر أبدا.. لكني مضطرة اليوم لإخبارك.. أويس.. لقد كان جد والدي من العرق السليم وقد تزوج بجدتي المصابة قبل حادثة الانقسام العظمى.. صحيح أنه لم تظهر الصفة المتنحية في أحفاده لليوم ولكن حقيقة كوننا من عائلة هجينة لا يمكن نفيها على الإطلاق..
- مستحيل!! لِم لم يخبرني أحد بذلك من قبل؟!
- لأنه لا أحد يعلم بالأمر غيري..
اتسعت عيناه بقوة ثم جلس من أثر الصدمة وبقي يحدق فيها بصمت لتكمل جدته بلطف:
- لقد أخفيت الأمر عن أبنائي حتى لا أدخل في حياتهم أي خوف من المستقبل.. ولقد تمنيت كثيرا أن يدفن هذا السر معي إلى الأبد.. لكن.. يجب أن تعلم اليوم أويس...
صمت أويس طويلا ولم يعقب وقد اختلطت عليه مشاعره فجأة. للحظة تمنى لو عاش حياته كوالديه يجهل حقيقته. نظرت نورسين إليه وقد شعرت بموقفه، فبالرغم من كونه أمرا لا يد لهم فيه إلا أن المجتمع قاسٍ بالفعل. تفهمت مشاعره وصمتت بدورها للحظات سرعان ما استنتجت خلالها أمرا زاد من صدمتها لتقول بتوتر:
- لحظة جدتي.. هل هذا يعني أن جميع زملائي في الصف ينتمون إلى عائلات هجينة؟!
أومأت الجدة بالإيجاب لتكمل نورسين بصدمة أكبر:
- مستحيل.. حتى أجوان صديقتي..
التفت أويس إليها وقد استيقظ من صدمته الأولى لتصفعه الصدمة الثانية بقوة أكثر. وقف وقد ازداد توتره أكثر وهو يقول:
- ماذا تقولين؟! الجميع؟!
أومأت الجدة مجددا لتنطق أريام أخيرا بصوت خافت وقد بدا عليها التوتر:
- لكن لماذا تم جمعهم جميعا في فصل واحد؟! مستحيل أن تكون هذه صدفة..
تنهدت الجدة ببطء ثم أجابت:
- معك حق يا ابنتي.. لقد كان الأمر مقصودا من البداية.. لقد خططوا لجعلكم في فصل واحد.. كما جمعوا البقية في صفوف لمدارس أخرى.. ليتم اختياركم عن قصد للذهاب في رحلة هذا العام..
- لكن لماذا يريدون أخذ أبناء العائلات الهجينة فقط هذا العام.. الأمر يدعو للشك..
سألت أريام لتجيب الجدة وقد ضاقت نظرة عينيها أكثر:
- نعم.. ولهذا ازدادت شكوك سيلا وآصف عندما علما بالأمر..
صمتت للحظة ثم أكملت:
- لطالما اعتبرت الحكومة هذه العائلات مشكلة لا بد من إيجاد حل لها، فأبناء من أهل ديجور يلدون بهذا الجين يتم منحهم لهيرو بكل بساطة وبدون مقابل، ولا شك في أن هناك أسبابا أخرى تجعلنا نبدو كالشوكة في حلق الحكومة..
نظرت إلى نورسين وأويس بضعف ثم أكملت:
- أويس.. نورسين.. وجميع زملائكم في الصف.. إنهم يكيدون لكم مكيدة ويجب ان لا تذهبو في هذه الرحلة مهما حدث..
شهقت أريام وقد اتسعت عيناها بصدمة. تراجعت نورسين واتكأت بظهرها على الأريكة وكأن قواها قد خارت فجأة. أما أويس فقد أخذ يصرخ بهمجية مكذبا:
- مالذي تقولينه جدتي ؟! إنه ليس الوقت المناسب للمزاح..
- ليته كان مزاحا بني.. إنها الحقيقة..
- مستحيل.. مالذي جعلكم تقفزون إلى هذه النتيجة غير المنطقية؟! مالذي جعلكم تعتقدون ان اختيار أبناء العائلات الهجينة يعني أنهم يخططون لأمر سيء بالفعل؟! قد يكون هناك سبب آخر..
نظرت الجدة إليه ثم التفتت نحو نورسين التي كان يبدو عليها الهدوء بشكل غريب. كانت متجمدة في مكانها تحدق في الجدة وكأنها لم تستوعب جيدا ماسمعته للتو. رفعت الجدة نظرها إلى أويس مجددا ثم قالت بجدية:
- هذا الأمر بالذات يدعو للقلق.. أن يتم جمعكم جميعا في فصل واحد واختياركم لرحلة هذا العام بالرغم من ان مدرستكم حكومية لا تستطيع تحمل تكاليفها أمر لا يبشر بالخير.. شعرت سيلا بالقلق وراودتها الوساويس بشان ذلك، فقامت مسرعة بالاتصال بزميلتها تلك لتطلب منها إخفاء أمر وجود ابنتها في قائمة الطلاب عن زملائها في المعهد حتى لا يكتشف أمرها.. لكنها تأخرت في ذلك فقد أخبرتهم زميلتها بالفعل وبعلمهم بذلك أخذوا يحققون معها حول تصرفات سيلا.. وماهي إلا أيام حتى اتصلوا بسيلا وآصف ليخبروهما بشأن السفر المفاجئ.. فأدركا بأن أمرهما قد كشف وهذا يعني أن استنتاجهما كان صحيحا.. لذلك أتت إلي سيلا حينها وأخبرتني بكل شيء و طلبت مني إعلامكم بعد أن أوصت أريام بجلب نورسيين إلي.. لقد أرادت التأكد أكثر من نواياهم فهي بعد كل شيء لا تملك دليلا على مخاوفها لذلك طلبت منك أريام الانتظار ثلاثة أيام قبل المجيء لعلها تكون مخطئة بشأنهم.. لكنها لم تتصل وهذا يعني أن هناك شيئا خطيرا بالفعل..
صمتت لوهلة أخذت فيها نفسا طويلا ثم أكملت بحزم:
- أويس.. نورسين.. لقد رسمت لكم سيلا خطة تمكنكم من التسلل والهرب قبل أن يحين موعد الرحلة بعد خمسة أشهر..
صمت كلاهما وعم الهدوء في الغرفة. وضع أويس رأسه بين كفيه وأخذ يفرك شعره بعصبية. أما نورسين فقد بقيت كما هي تحدق في الفراغ بنظرتها الشاردة. نظرت الجدة إليهما بشفقة ثم قالت بصوت حانٍ:
- لا يزال الوقت مبكرا لتنفيذ الخطة.. حاولا أن تُهدِّئا من روعكما.. أعلم أن الأمر صعب عليكما.. لكن.. يجب أن تخرجا من دائرة الخوف هذه حتى تتمكنا من النجاح في الهرب...
نظر إليها أويس بنظرته الغاضبة ثم قال بانفعال:
- تريدين إقناعنا بانهم يريدون التخلص منا وتطلبين منا الهدوء؟! أخبريني هل تتوقعين منهم أن يتركوا نورسين وشأنها بعد أن اكتشف والداها ما يخططون له؟! إن كان كلامك صحيحا فهذا يعني أنهم قاموا باحتجازهما ليمنعاهما من كشف خطتهم.. ولا شك في أنهم سيبحثون عن نورسين كذلك ظنا منهم أنها تعرف عن الأمر.. يجب أن نجد حلا للهرب بسرعة..
رفعت نورسين نظرها أخيرا ونظرت إلى أويس دون أن تنطق بكلمة. أجابت الجدة بعدها وهي تنظر إليه:
- لا تقلق أويس فهم لن يقتربوا منها حتى لا يكونوا سببا في افشال خطتهم.. ولو أنهم أرادوا فعل ذلك حقا لكانوا طلبوا أخذها للسفر مع والديها.. لكنهم تركوها.. فحتى لو أرادت كشفهم فهي لن تقوم بذلك خوفا على والديها منهم.. لقد درسوا الأمر جيدا وتركوا كل شيء يسير حسب خطتهم..
نظر أويس إليها بارتباك ثم قال وقد هدأ فجأة:
- ماذا عن الآخرين.. زملاؤنا في المدرسة..
أغمضت الجدة عينيها ثم فتحتهما وقالت بضعف:
- أتمنى من كل قلبي أن تتمكنا من إقناع أكبر عدد منهم.. لكنه أمر صعب للغاية.. فأغلبهم لن يصدقوكما.. بل وحتى وإن صدقكما بعضهم فإنكما ستخاطران بانتشار الفكرة في الملأ لتصل بعدها إلى أصحاب المعهد.. فتقعون في مشكلة كبيرة حينها..
ضحك أويس بقوة ثم قال بارتباك واضح:
- هذا مضحك.. أتطلبين منا أن نخفي الأمر عنهم ونلقي بيهم إلى التهلكة؟!!
لم ترد الجدة فوقف أويس بعدها رمقها بنظرات عميقة وقد تجلت صورة بيجاد الباسمة أمامه ثم قال وهو يغادر الغرفة بحنق:
- أنا آسف جدتي لكني لن أستطيع فعل ذلك..
غادر أويس الغرفة ليعم الهدوء فيها للحظات. قطعته بعدها نورسين وقد تكلمت أخيرا بصوت خافت بشكل مبالغ فيه:
- جدتي.. هل والداي في خطر ؟
رمقتها الجدة بلطف ثم قالت:
- لا تقلقي عزيزتي لن يقوموا بذلك فهم يحتاجونهما لاستكمال البحث..
- ماذا عن آنزا.. هو لا يعلم شيئا..
- لايزال أمامكم الكثير من الوقت وسأخبركما بماعليكما فعله لتستعدا جيدا للهرب.. يمكنك إخبار الأشخاص الذين تثقين فيهم بذلك.. لكن كوني حذرة في الاختيار..
أومأت نورسين بهدوء دون أن تعقب شيئا بعدها. وقفت أريام وجلست بالقرب من نورسين أحاطتها بذراعها وهي تقول:
- لا تخافي نورسين.. من يدري.. قد تتصل سيلا في أي وقت وتخبرنا بأن كل تلك الشكوك مجرد وهم..
ابتسمت الجدة لمنظرهما بحسرة ثم أغمضت عينيها بوهن وهي تدعوا لهما من أعماقها بالخير.
***
فتح عينيه بتثاقل على صوت منبه الهاتف بجانبه. تذكر فجأة تصرفه الفظ البارحة مع راني فأخذ يفرك عينيه بقوة مبعدا إياه عن مخيلته ثم جلس على فراشه يتثاءب ببطء. انتبه فجأة لوجود شخص آخر معه في الغرفة. اتسعت عيناه بقوة لرؤيتها، كانت أخته نورسين نائمة على السجاد بالقرب من سريره وهي تمسك بالكاميرا بجانبها. استغرب بشدة لتصرفها ذاك وقد وقف بجانبها. انحنى إليها وقام يغطيها جيدا بالغطاء الذي كان مفروشا عليها بشكل فوضوي ثم أخذ منها الكاميرا ووضعها على سطح مكتبه وهو يهمس بينه وبين نفسه:
- أنا آسف حقا..
كان يدرك سبب مجيئها المفاجئ لغرفته وهي تمسك بالكاميرا، فيبدو أنها لم تستسلم بعد من محاولة إقناعه بالتواصل معهم. شعر بالحزن لإصرارها ذاك وقد تمنى من أعماقه أن تتوقف عن فعل ذلك وتبتعد عن حياته. إنها مسألة وقت فحسب لتسأم منه، كان يؤمن بذلك فكان عليه التحمل أكثر لأجله. رمقها للحظات ثم انصرف مبتعدا وقد قرر تجاهل إلحاحها ذاك مرة أخرى.
رن هاتفه فجأة قبل خروجه من الغرفة. عاد إليه ليجدها رسالة من راني. ارتبك للحظة قبل أن يفتحها بسرعة و يقرأ ما فيها:
- صباح الخير آنزا.. فلنتقابل في المطعم المجاور لمكان عملك بعد ساعة من الآن لأخبرك عن المدعوة نور كما وعدتك من قبل...
صُدم آنزا لذلك فهو لم يتوقع منه أن يبادر بالحديث عنها بنفسه وهو الذي تكبد الكثير ليخفيها عنه. ثم إنه لا يزال معه يوم كامل قبل أن يحين الموعد الذي حدده له آنزا من قبل. استغرب بشدة لموقفه المفاجئ هذا. لكن يبدو أن راني قد قرر بالفعل بعد تفكير طويل أن يخبره الحقيقة كاملة بشأن المدعوة نور.
***
-نهاية الفصل السابع-
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top