الفصل الرابع : المهمة
صوت رنين قوي أخذ ينبعث من تلك الشقة في تلك البناية الشاهقة. استمر للحظات ثم توقف.
فتح عينيه بتكاسل مقاوما رغبته في النوم. طالع السقف فوقه للحظات. ثم انتقل ببصره إلى تلك المكتبة بجانبه محاولا استيعاب مكانه. بدا المكان جميلا أشبه بغرفة أحلامه التي لطالما تمنى أن يحظى بواحدة في طفولته. سرير مريح يتسع لشخصين يمنح صاحبه فرصة تأمل السماء عبر ذلك الجدار الزجاجي بجانبه والذي يمتد بشكل أنيق ليشكل نافذة صغيرة في الجدار الآخر المقابل للسرير. مكتبة بيضاء تمتلئ رفوفها بالعديد من الكتب التي رتبت على حسب تدرجات ألوانها وفي جزئها السفلي يلتصق بها ذلك المكتب بكرسيه مع حاسوب محمول حديث على سطحه. خزانة ملابس واسعة لكنها خالية من ملابسه التي تركها متكدسة في حقيبته الضخمة.
ربما لم يعد يحلم أحلاما طفولية كهذه الآن لكنه تذكر ذلك فجأة وهو يتأمل تفاصيل الغرفة التي كان نائما فيها. ثوان مرت على شروده ذاك ليتذكر بعدها كل شيء. ارتجف قلبه لحظة عند ارتسام صورة والديه أمامه وتمنى لو أن كل ذلك كان حلما جميلا لا غير. نظر إلى الساعة أمامه التي كانت تشير إلى السابعة صباحا ثم أبعد عنه الغطاء ونهض مسرعا. لينتبه عند وقوفه إلى ملابسه التي لم يقم بتغييرها البارحة فابتسم لذلك دون اكتراث وتابع روتينه اليومي قبل الذهاب للجامعة.
أصبح شعوره اليوم مختلفا كثيرا عن مشاعره البارحة. فقد قرر بالفعل أن لا يتدخل في حياتهم كما فعل من قبل لعله يرتاح قليلا في هذا المنزل الجديد. كان قد لاحظ بالفعل أن الوجبات الثلاثة التي حُضرت لأجله البارحة قد اختفت من الثلاجة ولم يتم استبدالها بأي شيء فابتسم لذلك ابتسامة أخفت وراءها الكثير من المعاني وهو يعلم في قرارة نفسه أن هذا هو التصرف الصحيح الذي يجب اتباعه. أدرك بعدها بلحظات أن عائلته قد قامت بزيارته في غرفته ليلا عندما لاحظ ذلك الغطاء الإضافي على فراشه. فاقشعر جسده فجأة لإدراكه ذلك وشعر نوعا ما بالإحراج عندما رسمت له مخيلته صورته وهو نائم أمامهم. لكنه سرعان مانفض عنه كل تلك الأفكار ورفع حقيبته ثم هم خارجا قبل أن يلفت انتباهه ذلك الضوء الأحمر الصغير على المكتب. انتفض قلبه تلقائيا لرؤية الكاميرا وأخذ يطالعها باستغراب شديد. لم يصدق حقا مايراه. هل ينوون بالفعل تصوير فيديو يوميا له!! على الرغم من أنه لم يقم بالرد عليهم ولا حتى تناول الوجبات التي حضرت لأجله. أبعد عن ذهنه كل تلك التساؤلات التي أخذت تتدفق إليه بسرعة ثم استدار منصرفا وهو يعاهد نفسه بأن لا يتدخل في حياتهم مجددا.
وصل إلى الجامعة بعد نصف ساعة قضاها في الحافلة ليبدأ بعدها دوامه لليوم الذي بدا أنه لن ينتهي أبدا.
في جهة أخرى من تلك الجامعة الضخمة. كانت تلك الفتاة جالسة في إحدى طاولات ذلك المقهى الأنيق وهي تنتظر قدوم صديقاتها لتناول الفطور كما اعتادت أن تفعل. كانت تطالع قائمة الطعام أمامها بذهن شارد و قد أخذتها أفكارها بعيدا عن ذلك المكان وضجيجه. استخرجت هاتفها بعدها بلحظات وكأنها تحاول التأكد من شيء ما. تفقدته لدقائق بعدها ثم توقفت لتحدق في قائمة الطعام مجددا. لقد تعمدت القدوم إلى المقهى مبكرا اليوم لتمنح نفسها فرصة أكبر للتفكير في ذلك الطلب الغريب الذي تلقته صباحا بين رسائلها.
مر الكثير من الوقت منذ آخر مرة تحدثت فيها مع نورسين، هذه الأخيرة التي لم تكن تتحدث عن نفسها كثيرا، فكان أغلب حديثهما عن مدى اختلاف البلدين أو عن أحداث حصرية بينهما ولم تكن توناروز لتمنع نفسها من سرد بعض الحكايا عن حياتها الشخصية التي لم تكن نورسين لتسألها عنها أبدا لولا رغبة توناروز.
لكن اليوم، وبشكل مفاجىء، تفصح لها نورسين ولأول مرة عن تفصيل في حياتها لم تكن لتتوقعه على الإطلاق لتطلب منها بعدها طلبا بدا غريبا ومنطقيا في الوقت ذاته. لا شك في كونها مخاطرة كبيرة إن قامت بقبول طلبها ذاك، وإن اكتشف أخو نورسين أمرها فقد يسوء الأمر أكثر بينه وبين عائلته وستكون هي الأخرى متورطة في ذلك. كانت تعلم بالفعل لماذا طلبت منها هي بالذات هذا الطلب الغريب. فلطالما حدثتها توناروز عن أشياء مجنونة فعلتها قبل دخولها للجامعة، فقد كانت فتاة كثيرا ماقادها فضولها إلى مواقف لا تحسد عليها. ابتسمت توناروز عند تذكرها بعضا من مغامراتها الطفولية في المرحلة الثانوية ثم همست بينها وبين نفسها:
"لن يكون تنفيذ هذا الطلب صعبا علي، سأفعلها ولن أدعه يكتشف ذلك"
رفعت هاتفها مجددا وأخذت تكتب لها ردا قصيرا:
- حاضر سيدتي سأقوم بهذه المهمة الخطرة.. لكني أعلمكِ بأني سأوقف كل شيء في حال شعرتُ بأي خطر من طرفه.
أرسلت الرسالة ثم رفعت نظرها وأخذت تطالع صديقاتها وهن قادمات من بعيد وقد بدأت ضربات قلبها تتضاعف استعدادا لتلك المهمة الصغيرة التي عزمت على إتمامها على أكمل وجه.
بعدها بثلاث ساعات، كانت توناروز تطالع تلك اللافتة الضخمة على تلك البناية الشاهقة أمامها "كلية التكنولوجيا" ابتسمت وقد تضاعفت ضربات قلبها فجأة ثم سارت باتجاهها مسرعة. أخذ الأمر يبدو أصعب مما كانت تتوقعه، فالبحث عن شخص لا تعرف منه سوى اسمه في مكان ضخم كهذا يحوي الآلاف من الطلاب كان أشبه بمهمة لن تنتهي أبدا. توجهت مباشرة إلى قاعة القوائم التي بها أسماء الطلاب و تخصصاتهم المتفرعة لعلها تجد اسمه هناك. ولحسن حظها كانت أسماء الطلاب معروضة تحت ترتيب أبجدي فلم يأخذ منها الكثير من الوقت لتجد اسمه وبرنامجه لليوم. ابتسمت لسهولة ذلك ثم أخذت تطلع على برنامجه، لتنتبه بعدها بلحظات أن حصته الدراسية التالية ستبدأ بعد ربع ساعة، نظرت إلى رقم القاعة ثم خرجت مسرعة للبحث عنها.
كان كل شيء مرتب و منظم في تلك الجامعة. ولضخامتها تلك فقد كان بوسع جميع الطلاب أن يتصفحوا خريطتها الإلكترونية وأن يتمكنوا من الوصول بسهولة إلى أي مكان يريدونه تحت إرشادها. وهذا ماجعل توناروز تصل بسرعة إلى القاعة المقصودة.
دخلت القاعة دون تردد وأخذت تطالع المكان بمن فيه للحظات محاولة أن تجد شخصا ربما يلفت انتباهها يحمل الصفات التي أطلقتها عليه نورسين. كانت القاعة ضخمة ينتشر فيها العديد من الطلاب في أماكن مختلفة، جلست في أحد الصفوف وأخذت تراقب كل من يدخل من أبواب القاعة القريبة منها. كان أمرا صعبا لكنها استمتعت به.
أخذ عدد الطلاب في القاعة يتزايد شيئا فشيئا مع اقتراب موعد الحصة وأصبح من الصعب جدا تمييز كل شخص يدخل من أبوابها، فالتفتت أمامها وقد أرهقها التركيز في ذلك، لتقرر بعدها الانضمام إليهم في هذه الحصة لعل ذلك يمنحها وقتا أطول لإيجاده.
بعدها بلحظات، دخلت مجموعة من الفتيان لتلفت انتباهها وانتباه العديد من الطلاب المتواجدين بالقرب من البوابة بسبب تصرفاتهم وكلامهم الصاخب، نظرت إليهم للحظات منزعجة ثم أشاحت بنظرها عنهم دون أن تمنح نفسها فرصة للبحث عن آنزا بينهم. كانت تعرف أن أخا نورسين لن يكون من هذا النوع من الشباب إطلاقا. لذلك، التفتت إلى الطلاب الجالسين في الصفوف الأمامية لعلها تجد ولو صفة من صفات آنزا بينهم.
- آنزا، انتظر..
دق قلبها بقوة عند سماع اسمه ينادى عليه بجانبها.
- سأجلس معك في الصفوف الأمامية هذه المرة.
التفتت بسرعة محاولة إيجاد صاحب الصوت. كان الصوت قادما من تلك المجموعة الصاخبة التي تفادتها قبل قليل مما جعلها تسحب استنتاجاتها فورا وهي تطالع ذلك الفتى الذي غادر المجموعة مسرعا ليلحق بصديقه الذي تقدم إلى الصفوف الأمامية بعيدا عنها. ابتسمت عند رؤية ذلك الموقف وقد أدركت حينها أنها قد وجدت ماتبحث عنه أخيرا. لم تتمكن توناروز من رؤية ملامحه حينها إلا أن رؤية ملابسه وتذكرها كان كافيا بالنسبة لها لتجده بعد الحصة.
وقفت بعد جلوسه هو وصديقه في أحد الصفوف في المقدمة ثم اقتربت هي الأخرى منهم وجلست خلفهما على بعد صفين منهما بحيث تتمكن من مراقبته دون أن يشعر بذلك. أخرجت أدواتها وقد قررت استغلال هذه الحصة في اكتشافه أكثر.
دخل الأستاذ بعدها بلحظات ليسيطر الهدوء على المكان عند بداية الدرس. تابعت توناروز شرح الأستاذ لدقائق إشباعا لفضولها بشأن هذا التخصص لكنها سرعان مالتفتت إلى آنزا بعد استسلامها في فهم أي شيء من كلام الأستاذ المحاضر. لاحظت حينها انتباه آنزا الشديد للدرس وانغماسه في كتابة الملاحظات على خلاف صديقه الجالس بجانبه الذي كان يتصفح هاتفه سرا محاولا إخفاءه عن الأستاذ، ابتسمت لذلك المنظر المناقض لبعضه ثم رفعت قلمها هي الأخرى وأخذت تكتب ملاحظات بعيدة كل البعد عما يقوله الأستاذ.
مر الوقت بعدها ثقيلا فلم يتغير أي شيء منذ بداية الدرس ولم يعد هناك شيء قد تلاحظه بشأن آنزا بل وحتى كلمات ذلك الأستاذ لم تكن ضمن مجال فهمها لتشغل بها المزيد من الوقت مما جعلها تدخل في شرود عميق بعيدا عن ذلك المكان.
انتهى الدرس بعدها بنصف ساعة بدت في نفسها سنين عديدة فتنفست الصعداء وهي تقف مراقبة آنزا خوفا من يختفي فجأة دون أن تلاحظه.
كانت تدرك أن تلك آخر حصة له في ذلك اليوم لذلك كانت ترغب في معرفة إن كان سيعود سريعا إلى المنزل أم أنه سيقضي مزيدا من وقته في الجامعة. انتظرته ليخرج مع رفقته الصاخبة تلك ثم سارت خلفهم بمسافة حاولت قدر الإمكان أن تجعلها بعيدة. توجه خمستهم إلى مقهى الجامعة فتبعتهم إلى هناك وانتظرت بعد دخولهم مدة خمس دقائق خارجا لتدخل بعدها وتجلس على إحدى الطاولات المقابلة لهم من بعيد. رفعت قائمة الطعام لتطالعها وعقلها يتابع مايقولونه بأصواتهم الصاخبة. استطاعت بعدها أن ترفع نظرها لثوانٍ باتجاههم لتتمكن أخيرا من رؤية وجه آنزا بينهم. كان يبدو هادئا تعلو وجهه ابتسامة صغيرة يتجاوب مع حديث أصحابه بجمل متقطعة ويفرك شعره بين الحين والآخر. لم يكن يشبه تلك المجموعة التي ترافقه على إطلاق وكان أقرب إلى شخصية نورسين منهم مما زاد يقين توناروز بأنه الشخص المقصود. ابتسمت لا شعوريا عند تمكنها من رؤية ملامحه بتلك السهولة وكأنه إنجاز عظيم استطاعت تحقيقه بينما حرمت منها عائلته لسنين عديدة و هي أحق منها بذلك. شعور غريب راودها أثناء تخيلها لمشاعر عائلته المحرومة منه لتتذكر فجأة صوت نورسين المنكسر وهي تخاطبها لتطلب منها هذا الطلب الذي بدا لها أنانيا في بداية الأمر. لكنها الآن وقد تفهمت شعورها وهي تجلس قريبة من أخيها تنظر إليه بكل بساطة أصبحت ترغب بقوة في أن تنقل إليهم الصورة التي تراها الآن أمامها.
ثوانٍ مرت على تفكيرها المتحسر ذاك لتخطر على بالها فجأة فكرة مجنونة جعلت ضربات قلبها تتضاعف لأقصاها وهي تنظر إلى هاتفها بين يديها. قلبت صفحاته بيد مرتعشة ثم رفعته قليلا بوضعية حاولت أن تجعلها طبيعية قدر الإمكان وهي توجهه باتجاه آنزا. كانت تحاول أن تنقل لأخته و لعائلته الصورة التي حرمت منها عشرين سنة كاملة والتي لم يستطع آنزا بنفسه أن يمنحها لهم. ولو أنه فعل. ماكانت لتضطر لعمل هذا العمل الخطير بنفسها.
قربت الهاتف أكثر إلى مجال نظرها لتبعد عنها الشكوك وقابلته من جهته الأخرى إلى حيث يجلس آنزا متابعا لكلام أصدقائه بابتسامته الصغيرة تلك. عدَّت بعدها لثلاثة في أعماقها ثم ضغطت على موضع التصوير دون أن تنتبه إلى أن ضوء الكاميرا الخلفي كان مشغلا.
لمع ضوء الكاميرا كالبرق في المقهى. ليلفت انتباه كل الجالسين بالقرب منها. ومن بينهم آنزا. ارتبكت توناروز فجأة عندما رأت نظراته المرتابة تخترقها من بعيد. ولم تجد ماتفعله حينها سوى أنها أخذت تقوم بتصوير قائمة الطعام وكوب القهوة البسيط الذي قامت بطلبه عند دخولها للمقهى. كانت تبدو كالحمقاء بتصرفها الغريب هذا، فمن ذا الذي قد يقوم بتصوير كوب قهوة بسيط بشكل مطول مثلها. ضربات قلبها القوية لم ترد أن تهدأ حتى بعد مرور عشر دقائق من ذلك الموقف. لم ترغب بالخروج من المقهى حينها كي لا تزيد من شكوكه التي لا تبدو بأنها قد اختفت بعد. فقد كان بين الحين والآخر ينظر باتجاهها مراقبا. بالرغم من أنها لم تجرأ على رفع نظرها باتجاهه مجددا إلا أنها كانت تشعر بنظراته المتكررة.
بعد ربع ساعة من تلك الحادثة نهضت توناروز من مكانها وقد قررت الخروج والابتعاد عن هذا المكان قبل أن يأتي إليها مباشرة ويواجهها بنفسه.
تنفست بعمق عند ابتعادها عن المكان بمسافة آمنة ثم رفعت هاتفها لتتحقق من الصورة التي كادت أن تتسبب لها بمشكلة كبيرة اليوم. ابتسمت عند رؤيتها بالرغم من أنها لم تكن واضحة بشكل كبير لكنها اعتبرتها انجازا وأهم شيء بالنسبة لها هو أن ترى عائلته وجهه حتى وإن لم تكن ملامحه بادية بوضوح.
أعادت هاتفها إلى حقيبتها وأخذت تتوجه إلى مكان إقامتها في السكن الجامعي بعد أن أنهت مهمتها بنجاح تام.
-المعذرة.. يا آنسة..
تجمدت في مكانها إثر ذلك الصوت القادم من خلفها وأخذت ضربات قلبها تتضاعف وهي تستدير إلى صاحب الصوت خوفا من أن يقابلها وجهه من بين كل الوجوه التي تعرفها. لم يكن ذلك مستبعدا بعد أن رأت نظراته المرتابة في المقهى، وبالفعل لم يكن توقعها خاطئا عندما رأته مع صديقه الذي أطلقت عليه صباحا صفة النقيض يقفان على بعد مترين منها. استجمعت شجاعتها ثم قالت بثقة حاولت قدر الإمكان أن تجعلها بادية على ملامحها:
- أتقصدني أنا ؟
كانت تدرك أنها المقصودة من كلامه لكنها استغلت حركة الطلاب من حولها في ذلك الممر الواسع لتبدي له جهلها بالموضوع.
- نعم.. أقصدكِ أنتِ.. لقد كنتِ قبل قليل في المقهى الغربي صحيح.
أجاب آنزا بثقة. ليزيد ضربات قلبها عنفا. لكنها لم تسمح لارتباكها أن يغير من ملامحها شيئا. لتجيبه بدورها:
- نعم.. لقد كنت هناك.. لماذا تسأل.. هل نسيتُ شيئا هناك ؟
كان يبدو على صديق آنزا الإحراج من أسئلته وكأنه كان يحاول منعه من الإقدام على هذا فأخذ يحاول جره من ذراعه دون أن يستجيب له آنزا.
- آسف.. سأدخل في الموضوع مباشرة.. لقد صادف وأن كنت أنا وأصدقائي هناك في ذلك المقهى كذلك.. وقد رأيتكِ وأنتِ توجهين كاميرا هاتفك نحونا ويبدو أنكِ قد التقطتِ صورة حينها.. لذلك بشكل مؤدب أطلب منكِ أن تقومي بحذفها الآن أمامي وتخبريني سبب فعلتكِ تلك.
لم تتغير ملامحها فقد كانت متأكدة من وصوله إلى هذه النقطة. رفعت حاجبيها ثم أجابت بهدوء:
- لقد كنت أقوم بتصوير قائمة الطعام.. أعتقد بأن ذلك كان واضحا..
- إذن هلا سمحتِ لي بتفقد هاتفك لأتأكد من كلامكِ هذا.
ضربات قلبها وصلت إلى أقصاها لكنها لم تبدِ شيئا من ارتباكها ذاك:
- مستحيل.. لن أسمح لك بذلك ففيه العديد من الصور الشخصية.
- إن كنتِ تخشين على صورك مني فلم لا نذهب معا إلى مركز الشرطة ونتفقده.. أعتقد أن كلانا سيكون مرتاحا هناك أكثر.
تدخل صديقه أخيرا بعد أن رأى مدى جدية آنزا وخطورة مايرمي إليه. أمسكه من ذراعه وقال بتذمر:
- توقف آنزا.. أنت تجلب لنفسك المشاكل هكذا.. واضح أنها صادقة فيما تقول..
- لا.. أنا أرفض المجيء معك..
كانت تحاول مجاراته والإصرار على رأي واحد لعله يستسلم ويصدق كلامها.
- اعذراني الآن يجب أن أذهب فقد تأخرت.
أكملت كلامها وهمت بالرحيل لولا أن كلام انزا استوقفها مجددا.
- لقد لاحظتكِ أول مرة في قاعة المحاضرة، أمسكتكِ مرتان تنظرين باتجاهنا لكني لم أكترث حينها واعتقدت أن جلوسنا فقط كان في مجال نظرك. ثم بعد خروجنا أخذ وجهكِ يتكرر بين وجوه الطلاب في أي مكان نقصده. فبدأت شكوكي تزداد. لتتفاقم بعدها عند دخولك المفاجئ للمقهى مما جعلني أراقب تحركاتك بحذر إلى أن قرر هاتفك كشفكِ بقوة. لذلك أنا لست هنا لأجعلكِ تعترفين فأنا واثق من أنكِ قد التقطتِ صورة لنا حينها. وما أريده الآن هو أن تقومي بحذفها أمامي حالا. وإلا اضطررت إلى الاستعانة بالشرطة.
ابتسمت توناروز لدقة ملاحظته التي لم يكن لأي شخص آخر لينتبه لتلك التفاصيل الصغيرة مثله. باتت مدركة حينها أن خطتها كلها قد فشلت منذ بدايتها. ولم يعد هناك داعٍ للاستمرار في التهرب هكذا فأمرها كله مكشوف أمامه. وبدلا من ذلك كان عليها التفكير بسرعة في حل يخرجها مما هي فيه. شعرت بنبضات قلبها العنيفة تكاد تخرق قفصها الصدري وهي تخرج كلماتها بصعوبة :
- لاشك في أنك شخص حذر للغاية.. كنت أعتقد أنني أخفيتُ نفسي جيدا.. لكنك كشفتني بسهولة.. نعم.. معك حق.. لقد قمت بأخذ صورة لك بالفعل وكادت مهمتي أن تنجح لولا أني انتبهت لضوء الهاتف.
التفت إليها راني بصدمة وهو الذي كان يدافع عنها قبل قليل بكلامه. ترك ذراع آنزا على إثر ذلك مانحا إياه فرصة الحديث ليجيبها هذا الأخير بثقة :
- لماذا قمتِ بذلك ؟ مالذي ستفعلينه بها؟
أخرجت توناروز هاتفها ثم قالت بجدية:
- لستُ أنا من يريد الصورة.. وإنما شخص آخر.
ارتبك آنزا فجأة وكأنه لم يتوقع شيئا كهذا. قطب حاجبيه ثم قال بصرامة:
- من يكون هذا الشخص الذي قد يريد صورتي ؟
نظرت توناروز إلى هاتفها في يدها اليمنى ثم قالت بحسرة :
- إنها فتاة تهتم لأمرك كثيرا.
اتسعت عيناه فجأة وقد بدت الصدمة على وجهه، وكأنه لم يستوعب كلامها الأخير.. "فتاة!! تهتم لأمري!!" هذا آخر شيء قد يتخيل حدوثه على الإطلاق. فجأة انفجر راني ضاحكا بجانبه فهو الآخر لم يكن يتوقع كلاما كهذا. نظر إلى آنزا وقد راقته ملامحه المرتبكة وكأنه وجد أخيرا متعته في الموضوع. التفت إلى توناروز بابتسامة المستمتع ثم قال بفضول:
- من تكون هذه الفتاة ؟! هل أعرفها ؟!
- لا.. لكن آنزا يعرفها.
ازدادت حيرته أكثر وأصبح ارتباكه ظاهرا على ملامحه بقوة. استطاعت توناروز قراءة ذلك في وجهه مما شجعها على الاستمرار أكثر في خطتها التي خطرت لها للتو.
نطق آنزا بعدها بلحظات:
- من تكون.. أخبريني باسمها.. هل تدرس معنا في الفصل ؟
- هي أصغر منك..
رد آنزا رافعا صوته:
- لكني لا أعرف أي فتاة أصغر مني..
توقف مفكرا ليكمل:
- هي تدرس معي بالفصل صحيح.. لسنا جميعا في نفس العمر على الرغم من ذلك.
ابتسمت توناروز لردود فعله المرتبكة ثم قالت بهدوء:
- اسمع.. لايمكنني إخبارك من تكون لأنها لا تريد لك أن تعلم.. ولا يمكنني أن أطلب منك أن تثق بي وأنت لا تعرفني أصلا.. لذلك.. لدي لك اقتراح ربما قد يشعرك بالراحة أكثر..
نظر إليها آنزا للحظات قبل أن يجيب راني بدلا منه :
- حسنا أخبرينا باقتراحك..
التفت نحو آنزا وأكمل بابتسامة ماكرة:
- آنزا.. دعنا نسمع مالديها أولا.. قد تغير رأيك حينها..
رمقه آنزا بنظرة ثاقبة جعلته يتوقف عن الحديث سريعا. التفت نحو توناروز التي أخذت تبتسم لمواقفهما النقيضة لبعضها. ثم أشار إليها لتتحدث.
قالت توناروز محافظة على هدوئها:
- سأخبر صديقك عن الفتاة وعن أسبابها وعن كل شيء له علاقة بالموضوع.. وفي النهاية إن اقتنع بها وتأكد من حسن نيتها فسيسمح لي بالاحتفاظ بالصورة.. بالمقابل إن لم يقنعه كلامي فسأقوم بحذف الصورة أمامك ولن ترى وجهي مجددا بعدها.. مارأيك ؟
كانت ملامح راني تشير إلى أنه لم يستوعب كلامها جيدا.. فلم يتوقع إطلاقا أن تدخله في الموضوع هكذا فجأة. أما آنزا فقد بدا الانزعاج جليا على وجهه وكأنه قد سئم من هذه اللعبة الغبية.
- أنا أرفض.. لقد غيرت رأيي.. لا أريد معرفة الفتاة.. فقط احذفي الصورة الآن قبل أن أستدعي الشرطة.
أجابت توناروز وكأنها كانت تتوقع شيئا من كلامه:
- لم لا تقبل اقتراحي.. واضح أنك تثق في صديقك هذا.. وإلا ماكنت لتجلبه معك إلى هنا.
- لادخل لكِ.. احذفيها حالا.
تدخل راني أخيرا وقد أدرك ماترمي إليه :
- لابأس آنزا.. اقبل اقتراحها.. وكن واثقا أني سأحذف الصورة مهما كانت أسبابها مقنعة.. ولن أقبل بغير ذلك..
رمقه آنزا منزعجا ولم يرد إجابته.. ليكمل راني كلامه محاولا اقناعه:
- هيا يارجل.. لا تصعب الأمور هكذا.. لن يكون استدعاء الشرطة بإجراءاتها القانونية بالأمر السهل بل وسيأخذ من وقتك الكثير بينما يمكنك حلها الآن بسهولة.. تعلم أني لن أترك الصورة لديها..
نظر إليه راني بعدها ثم ابتسم بمكر واقترب منه هامسا في أذنه شيئا لم تستطع توناروز سماعه. ليلتفت آنزا بعدها إليها وكأن ماهمس له به راني قد تمكن من إقناعه ليجيب موافقا على اقتراحها. استغربت للحظات وتملكها الفضول لمعرفة ماقاله صديقه في أذنه قبل قليل.
أشارت لراني بعدها ليتبعها إلى تلك القاعة بجانبهم لتتمكن من الحديث بعيدا عن مسامع آنزا. دخلا القاعة وتوجها إلى أقصاها مبتعدين عن أصوات الطلاب فيها. كانت القاعة عبارة عن مكتبة جماعية يقضي فيها الطلاب أعمالهم وواجباتهم الجماعية فكانت أصوات حديثهم ونقاشاتهم صاخبة للغاية مما كان مستحيلا على آنزا الواقف بجانب بابها الرئيسي أن يسمع شيئا من كلامهما.
نظر إليها راني بابتسامة تدل على استمتاعه بالموضوع. ثم قال بفضول واضح:
- إذن.. من تكون هذه الفتاة التي تهتم لأمر آنزا إلى هذه الدرجة ؟!
وعلى عكس راني الذي كان يأخذ الموضوع بهزل واستمتاع كانت توناروز في قمة جديتها حين استخرجت هاتفها ورفعته باتجاهه وهي تقول :
- هذه رسائلها.. حين طلبت مني مراقبة آنزا.. أعتقد أن كلامها سيقنعك أكثر مني..
أخذ راني منها الهاتف ونظر إلى شاشته باحثا عن اسم المرسل ليقرأه بشكل تلقائي :
- نورسين.. لا أعرف أحدا بهذا الإسم.. من تكون وكيف تعرفت على آنزا ؟
ابتسمت توناروز لكلامه الصريح ثم أجابت بصوت هادئ جعل راني ينظر إليها بقوة :
- إنها أخته..
اتسعت عيناه بقوة وهو يحدق في ملامحها الهادئة غير مصدق ماقالته للتو. تذكر فجأة كلام آنزا يوم البارحة حين أخبره أن لديه أختا وكيف أنه لم يتمكن بعدها من سؤاله عن الموضوع إطلاقا. حاول قدر الإمكان أن يحافظ على نبرة صوته السابقة وهو يقول:
- أتطلبين مني أن أصدق بأن هذه الفتاة هي أخت آنزا وأنا لا أعرفكِ أصلا..
ابتسمت توناروز وقد ارتاحت لكلامه الأخير لتجيب بعدها بهدوء:
- جيد أنك تعلم بشأنها.. هذا يعني أن آنزا قد أخبرك عن موضوع عائلته.. وفَّرت علي أمر إقناعك بموضوع رجوعه إلى عائلته بعد عشرين سنة قضاها في دارٍ للرعاية..
أصبحت الصدمة جلية في وجهه هذه المرة مع كلامها هذا ولم يتمكن من إخفائها. كان يعلم أن آنزا لم يخبر أحدا غيره بأمر عائلته أو دار الرعاية التي كان يعيش فيها. فمالذي جعل هذه الفتاة الغريبة تعرف كل ذلك عنه. تمالك نفسه بعدها بلحظات وقال محاولا عدم تصديق ماقالته للتو:
- ماذا تقصدين ؟
ابتسمت توناروز مجددا لتجيب بثقة:
- حسنا.. أعلم أنه ليس من السهل عليك الوثوق بشخص قابلته للتو.. لكني سأعطيك كل الأدلة لتصدق بأن هذه الفتاة هي أخت آنزا حقا..
صمت راني ولم يعقب لتكمل توناروز بهدوء:
- لقد عاد آنزا صباح البارحة إلى منزل عائلته في ديجور بعد عشرين عاما قضاها بعيدا عنهم.. ولقد رأته عائلته لأول مرة منذ ولادته ليلة اليوم.. لقد كان نائما فوق غطائه بملابس الخروج لأسباب تجهلها عائلته و تعلمها أنت بلا شك..
ابتسم عند إدراكه ذلك ثم قال وهو يحك شعره بهدوء:
- لم أتوقع هذا على الإطلاق..
- أنت تصدقني الآن إذن..
صمت راني قليلا ينظر إلى هاتفها ثم قال متجاهلا كلامها :
- لكن لماذا طلبت صورته وهو يعيش معهم في نفس المنزل الآن؟!
ردت توناروز :
- في الحقيقة هي لم تطلب مني أخذ صورة له وإنما طلبت فقط مراقبته من بعيد لمعرفة شخصيته وأفكاره.. لكني أردت مفاجأتها بصورة له.. فعلى الرغم مما قلته إلا أنهم لم يتمكنوا من رؤية ملامحه كاملة بسبب الفارق الزمني بين البلدين.
تمتم راني منزعجا من القانون الذي يحكم البلدين دون أن يرد شيئا لتكمل توناروز بحسرة:
- لست أدري إن كنت تعلم، لكن صديقك هذا رفض أن يمنحهم صورته الكاملة أو حتى أن يتواصل معهم.. لقد حرم عائلته من رؤيته وهي التي كانت متشوقة لذلك منذ عشرين سنة..
رمقها راني باستغراب وقبل أن يعلق على كلامها أشارت إلى هاتفها بين يديه وهي تقول:
- إقرأ رسائلها وستفهم كل شيء بعدها..
استجاب راني لذلك وأخذ يقرؤ الرسائل ويستمع إليها دون أن يعقب بشيء.
توقف بعدها عندما ظن أنه قد استوعب كل شيء أخيرا. كانت لاتزال الصدمة واضحة على ملامحه وهو ينظر إلى توناروز بعد أن أخفض الهاتف للحظات. لم يتمكن من إخراج صوت نورسين من رأسه بعد سماع كلماتها الهادئة والتي بدت وكأن وراءها عاصفة هوجاء. لماذا تصرف آنزا هكذا معهم ؟!! كان هذا أكثر ماشغل تفكيره حينها. التفت خلفه ينظر لآنزا من بعيد وهو يقف متكئا بظهره إلى الحائط يراقبهما عن كثب. ثم نظر إلى توناروز أمامه وقال بهدوء غير معتاد:
- لماذا تصرف بتلك الطريقة معهم.. ربما فعلوا له شيئا أزعجه..
رمقته توناروز بنظرة حادة ثم أجابت:
- واضح أنهم لم يفعلوا شيئا.. ألم تسمع كلامها لقد كانوا ينتظرون عودته منذ عشرين عاما.. الخلل في آنزا.. وهذا مايجب عليك اكتشافه بنفسك.. فأنت أقرب شخص إليه حسب مارأيت..
صمت راني مفكرا وقد بدا عليه التأثر بعد سماع كلام نورسين عن شوق والديه وسفرهما قبل رؤيته. تحدثت توناروز من جديد لتذكره بكلامها الاول:
- والآن.. بعد ما قرأته وسمعته منها.. ماهو رأيك في الموضوع.. أليس حقا على عائلته رؤية ملامحه التي حرموا منها عشرين عاما !!!
صمت راني مجددا ولم يجد ردا مناسبا. أطرق مفكرا للحظات ثم أخرج هاتفه هو الآخر. راقبت توناروز حركاته وهو ينقر عليه نقرات عديدة. وقد أدركت أنه لا يزال يشك في الموضوع، فلا يمكن له أن يمنح ثقته لشخص لا يعرفه لمجرد غاية قد تبدو نبيلة في نظرها. شعرت بأنها قد خسرت المعركة والأسوء من ذلك هو أنها ستفسد كل مابنته عائلته بتهورها هذا. فشلت في إيصال الصورة إليهم لكنها بالتأكيد لن تسمح له بمعرفة من طلبت الصورة وستجد له عذرا يخرجها من هذه المشكلة دون أن تخبره بشأن أخته.
- لدي حل أفضل..
نطق راني أخيرا دون ان يرفع نظره من على الهاتف. رفعت توناروز أحد حاجبيها بدهشة ليكمل راني بارتباك وقد رفع نظره إليها :
- سأعطيكِ صورة له من الصور التي أملكها في هاتفي دون أن يعلم بذلك.. ثم سأتظاهر بأني رفضت طلبك وستحذفين الصورة التي التقطتها له في المقهى صباحا.. وبهذا سأرضي كلا الطرفين..
نظرت توناروز إلى الهاتف في يده وقد علت الدهشة ملامحها، لم تتوقع أن يقبل طلبها بهذه السهولة وهي التي التقت به للتو. كيف أمكنه أن يثق بعائلة صديقه هكذا ويقف بصفهم ضده. هل أثرت به كلمات نورسين إلى هذه الدرجة، أم أن له شقا آخر من الحكاية لا تعرفه توناروز. نفضت عنها هذه الأفكار وقد ابتسمت موافقة:
- سيكون ذلك أفضل بكثير لأن الصورة التي التقطتها لم تكن واضحة بشكل جيد..
- على الرغم من ذلك لا أملك صورة له لوحده كل الصور التي أملكها أتواجد أنا بها معه..
قال ذلك مبررا وهو يتفقد الصور في هاتفه.. لتجيبه توناروز مطمئنة:
- لابأس، المهم أن تكون ملامحه واضحة..
رفع هاتفه فجاة نحوها مشيرا إليها لتنظر إلى الصورة التي اختارها بعشوائية. ألقت نظرة سريعة عليها لمحته من خلالها وآنزا في مطعم مطل على الشاطئ الذي بدا جليا في خلفية الصورة. كانت الإضاءة في الصورة ممتازة مما جعلت ملامح آنزا المبتسمة واضحة بشكل رائع على خلاف الصورة التي التقطتها له اليوم في المقهى. كان واضحا بالنسبة لها بعد مراقبته لليوم ورؤية صورته هذه أن آنزا شخص كثير الابتسام و أن شخصيته تناسب ملامحه المبتسمة تلك إلا أنها بالكاد تصدق أنه نفس الشخص الواقف هناك بنظرته التي بدت أنها توشك أن تخترقهما من بعيد. ابتسمت لتفكيرها ذلك ثم ردت :
- رائع.. إنها مثالية ارسلها إلي الآن قبل أن يدركنا آنزا فقد تأخرنا عليه كثيرا.. وسأقوم بحذف صورتي بعدها أمامه ليطمئن..
أشار راني برأسه موافقا وأخذ يرسل لها تلك الصورة قبل أن يعود الإثنان إلى حيث كان آنزا ينتظرهما. لم يتمكن هذا الأخير من رؤية ماحدث بينهما فقد كان وقوف راني بجسده الطويل كافيا ليحجب عنه كل شيء.
قال آنزا بحزم عند وصولهما إليه:
- احذفي الصورة الآن أمامي..
ابتسمت توناروز لكلامه ثم أجابت:
- يفترض أن تسأل صديقك عن جوابه أولا..
- لن يجيب بغير ذلك.. مهما كانت أسبابكم..
رد آنزا وقد التفت بنظره إلى راني مشيرا إليه ليتحدث.. ابتسم راني لعناده ثم قال وهو يواجه توناروز بنظره :
- أعتذر، لكن يجب أن تحذفي الصورة الآن..
بدا الإحباط على وجهها حقيقيا وهي تتصفح هاتفها لتقول قبل أن تعطيه إياه:
- ألن تغير رأيك.. ستفرح كثيرا بهذه الصورة..
- أتريدين مني أن أتصل بالشرطة؟!
رفعت توناروز هاتفها إلى مجال نظره وقامت بحذف الصورة أمامه ليصدق. رمقها آنزا بنظرة ثاقبة ثم قال:
- إياكِ أن تعيدي هذا التصرف مجددا..
أومأت برأسها بخيبة، ليستدير آنزا مغادرا مع راني وقد اوقدت شرارة في صدره جعلته يلتفت مسرعا نحو راني لمجرد ابتعادهما عنها مسافة وجيزة ليقول بعدها بتوتر:
- من تكون تلك الفتاة ؟
- لقد طلبت مني ألا أخبرك..
رد راني بارتباك. ليرفع آنزا حاجبيه مصطنعا الدهشة ثم يقول:
- يبدو أنك نسيت ماهمست به في أذني قبل قليل، لم أكن لأوافق على اقتراحها لولا أنك أخبرتني بأنك ستعلمني بمن تكون تلك الفتاة التي طلبت صورتي.
صمت راني ليكمل آنزا:
- أخبرني من تكون ؟
- أنا لا أعرفها حقا..
- لست متأكدا من أني أعرف فتاة لا تعرفها أنت..
ابتسم راني بصعوبة ليردف آنزا مكملا:
- ما اسمها ؟
ازدادت ضربات قلب راني عند سؤاله هذا وبدا له أنه لن يستطيع الهروب أبدا أمام آنزا. بلع ريقه وأجاب مستسلما:
- نور..
لكنه توقف عند ذلك ولم يتمكن من إكمال بقية حروف اسمها بصوت عالٍ وإنما أخفاها بينه وبين نفسه المرتبكة.
- نور ؟!! لاأعتقد بأني أعرف فتاة بهذا الإسم..
استدرك راني موقفه ليجيب بثقة:
- لابد من أنك تعرفها من ملامحها فقط.. ولا تعرف اسمها..
أطرق آنزا مفكرا:
- لا شك في أنها فتاة تدرس معنا.. فأنا سيء في تذكر الأسماء على كل حال..
أومأ راني برأسه موافقا. ليكمل آنزا وقد التفت إليه:
- لماذا تريد صورتي ؟
ارتبك راني مجددا، و أخذ يحاول التفكير في أي سبب قد يكون مقنعا بالنسبة له.
- إنها تريد رؤية ملامحك عن كثب..
من بين كل الأسباب، كان هذا أغبى سبب قد يفكر فيه حينها. رمقه آنزا بنظرة منزعجة ثم أردف:
- راني.. لم تحاول إخفاء أمرها عني ؟! ألهذه الدرجة تمكنت تلك الفتاة من التأثير عليك!!!
لم يكن آنزا ليتوقع حجم التأثير الحقيقي الذي خلفته قصة عائلته على راني بالرغم من كلامه. إلا أن تصرفات راني الغريبة جعلته يدرك أن شيئا ما قد حصل بينه وبين تلك الفتاة جعله يخفي أمرها الآن.
لحظات صمت مرت بينهما ليجيب بعدها راني وقد التفت إليه بملامحه المرحة:
- حسنا مالذي تريد معرفته بالضبط..
أعاد آنزا سؤاله:
- مالذي تريده من صورتي ؟
- إنها تريد رؤية ملامحك عن كثب.. إنها الحقيقة آنزا..
- لماذا تريد رؤية ملامحي عن كثب ؟
أضاف:
- مالذي أخبرتك به تلك الفتاة عن المدعوة نور بالتفصيل ؟
نظر راني إلى عيني آنزا وقد شعر بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه ليجيبه بحذر:
- لقد أعطتني هاتفها لأقرأ رسائل نور إليها عندما طلبت منها هذا الطلب.. في الحقيقة هي لم تطلب منها أخذ صورة لك.. وإنما طلبت منها أن تراقبك من بعيد وتراقب شخصيتك وتصرفاتك..
قاطعه آنزا وقد ازداد توتره:
- ولماذا تريد معرفة شخصيتي ؟!!! مالذي دهاك؟!
- إنها تهتم لأمرك..
- لماذا تكرر كلامها.. هذا لا يفسر أي شيء..
- آنزا.. أنت تعرف هذه الفتاة..
صمت آنزا فجأة عند كلام راني الأخير وأخذ يطالع وجهه بنظرات محتارة. ثم قال بصوت هادئ أقرب للاستسلام:
- من تكون نور هذه.. أنا لا أتذكر فتاة بهذا الإسم..
رمقه راني بنظرة عميقة وقد اختلطت عليه مشاعره. تضامن مع صديقه الذي أخذ يوقعه بنفسه في متاهة لم يفهم منها شيئا، وفي الوقت ذاته كان يشفق على عائلته التي حرمت منه عشرين عاما دون رؤيته.
ابتسم بعدها بلطف ثم قال مطمئنا:
- لابأس.. آنزا.. لا شك في أنك ستتذكرها و ستعرفها قريبا.. لكن.. كن واثق أنها لا تريد بك شرا أبدا..
- كيف تجزم بذلك وأنت لا تعرفها على حسب قولك..
ابتسم راني مجددا وأجاب :
- لأن أمرك يهمها و يعني لها الكثير.. استطعت معرفة ذلك من رسائلها..
- مالذي قالته في رسائلها ؟
- لقد كان صوتها متوترا عندما كانت تتحدث عنك..
- وهل سمعت صوتها ؟
- أجل.. لقد كانت هناك مقاطع صوتية مرفقة مع الرسائل..
قال آنزا بارتباك:
- كيف يبدو ؟
- مثل أي فتاة تطلب معروفا.. ماهذا السؤال.. لن أستطيع وصف صوتها بحيث يجعلك تتذكرها..
صمت آنزا ولم يعقب. ليكمل بعدها راني :
- لقد طلبت من تلك الفتاة مراقبتك لمعرفة شخصيتك.. أي نوع من الأشخاص أنت.. مالذي تحبه ومالذي تكرهه.. كيف تعيش ومن ترافق..
- ألم تقل أنها تعرفني.. لابد لها من أن تعرف رفقائي على الأقل..
استدرك راني ليبرر:
- صحيح.. لكنها الآن بعيدة عنك نوعا ما.. لهذا أرادت صديقتها تلك إرسال لها صورة لك..
أردف آنزا بصدمة:
- أتريد مني ان أصدق بأن هناك فتاة مهووسة هكذا وإلى هذه الدرجة...
ولكنه توقف عند ذلك ولم يتمكن من إكمال جملته. ليكملها راني بدلا عنه بابتسامة على وجهه:
- نعم.. إلى هذه الدرجة تهتم لأمرك..
رمقه آنزا بصدمة أكبر وكأنه لم يتوقع أن يقول شيئا كهذا. صمت للحظات طويلة بعدها حتى ظن راني أن هذا الموضوع قد أغلق أخيرا. ليقول بعدها بوجه خالٍ من أي تعبير:
- راني.. هذا غير منطقي.. لا أعرف أي فتاة قد تكون قريبة مني ليتكون لديها هذا النوع من المشاعر.. بل وحتى وإن حدث أليس ماتفعله جنونا؟!!
صمت ليلتفت إليه ثم يكمل مستنتجا:
- لاشك في أنها تكذب..
ابتسم راني بمرارة. صمت للحظات مفكرا ثم أجاب بهدوء:
- اسمعني آنزا.. سأكون صريحا معك. لقد أخبرتني تلك الفتاة شيئا عن نور لايمكنني إخبارك به.. إنه الجزء الذي قد يجعل الصورة تكتمل.. ولهذا يبدو كل شيء غير منطقي بالنسبة لك..
قاطعه آنزا بصوت خائب دون أن يلتفت إليه:
- يبدو أنني كنت مخطئا إذن حين قبلت اقتراحها ذاك.. لم أكن أتوقع أن تؤثر عليك هكذا لدرجة أن تقف بصفها ضدي..
- لا.. آنزا.. رجاءً.. لاتسىء فهمي..
صمت بعدها وقد تبخرت الكلمات من لسانه فلم يعد يجد أي عذر قد يقنعه. لم يرد راني أن يكذب على صديقه ليخرج من هذه المشكلة بالرغم من أنه كان قادرا على اختلاق أي قصة من خياله يسكته بها. كان يوقن بأن آنزا سيعرف بشأن أخته عاجلا أم آجلا، وكان يأمل أن يكون هو الشخص الذي يصارحه بذلك يوما ما. إنها مسألة وقت فحسب. ليعرف سبب تصرفات آنزا مع عائلته ثم سيسمح لنفسه بأخذ أول خطوة في إخباره بكل شيء. كان فقط يريد التأكد من مشاعر آنزا اتجاه عائلته وبأن إخباره بشأن طلب أخته لن يزيد الطين بلة بينهما وإنما قد يعذرها على ذلك.
طال صمت راني وآنزا وقد قطعا شوطا لا بأس به خارج الجامعة. وصلا إلى مفترق الطرق أين يذهب كل واحد منهما في اتجاه مغاير، لينطق راني أخيرا بصوت جدي جعل من آنزا يطالع ملامحه تلقائيا:
- آنزا.. أعدك بأني سأخبرك بكل شيء قريبا.. فقط امنحني القليل من الوقت رجاءً..
صمت آنزا وبقي يحدق في ملامحه المرتبكة. لم يكن يذكر متى آخر مرة رأى فيها راني مرتبكا بهذا الشكل وهو الذي اعتاد على شخصيته المرحة دائما. لا شك في أن الأمر أكبر بكثير مما يتخيله.
تابع راني كلامه بعد صمت آنزا:
- آنزا.. لوكنت أنت مكاني الآن.. واثق بأنك كنت لتفعل ماأفعله أنا الآن.. وستعذرني عندما تعلم الحقيقة..
ابتسم آنزا نصف ابتسامة ثم استدار ملوحا بيده وهو يقول:
- لقد تأخرت عن العمل.. إلى اللقاء..
وانصرف مبتعدا دون أن يسمح لراني بالرد عليه. أخذ راني يراقبه للحظات وهو يبتعد وقد شعر برغبة قوية في الصراخ بقوة. استدار هو الآخر إلى طريقه وأخذ يسير مهرولا وهو يردد بحنق:
- لماذا أنا ؟! لماذا أدخلتني في أمر شائك كهذا وكأنها تعلم بأنها نقطة ضعفي؟!!
************
سؤال على الهامش:
كيف كان تصرف راني مع الموضوع ؟ هل تؤيدون موقفه ؟!
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top