الفصل الثالث: تساؤلات لا تنتهي

نظرت إلى الهاتف بين يديها و هي لاتزال غير مصدقة لما سمعته قبل قليل. هي ليست المرة الأولى التي يغادر فيها والداها في رحلة عمل مطولة، لقد اعتادت  على سفرهم بالفعلضض بل و كانت ترافقهم في الكثير من الأحيان. لكن في كل تلك المرات كان كل شيء يبدو منطقيا، كانوا يتجهزون للسفر مسبقا و يطَّلعون على كل صغيرة و كبيرة تخصه، و لم يسبق و أن سافرا دون إخبارها أبدا.

بدأت أفكارها تسود شيئا فشيئا و قد وضعت لها ألف توقع أخذ يضاعف شعورها بالقلق لا غير. نفضت رأسها مبعدة تلك الأفكار التي لا تزيد الطين إلا بلة و أخذت تُطمئن نفسها بأن كل شيء سيصبح منطقيا حين يتصل والداها ليشرحا لها كل شيء فيما بعد. لاشك في أن انشغالهما بالتحضير للسفر المفاجىء قد منعهما من الاتصال لإخبارها، ولاشك أن والدها هو من طلب من رئيس المعهد ان يتصل بها بنفسه. هو عذر واهن، وهي تدرك ذلك، لكن هذا ما استطاعت التوصل إليه لتبرير سبب اتصال الرئيس بدلا عنهما. تنهدت بقوة لتترك كل شيء خلفها ريثما يأتيها التفسير لاحقا و رفعت الهاتف من جديد لتكمل مابدأته قبل أن يقاطعها ذلك الاتصال الغريب.

دخلت إلى حساب توناروز و أخذت تكتب رسالة طويلة أضافت عليها مقاطع صوتية لتتأكد من وصول أفكارها بشكل صحيح، فبالرغم من أن توناروز لم تكن بذلك القرب منها إلا أنها لم تمنع نفسها من إخبارها بكل شيء. أخبرتها عن أخيها و عن قصة ولادته حاملاً الصفة المتنحية وعن عودته أخيرا بعد عشرين سنة قضاها بعيدا عن أهله، ثم شرحت لها مافعلته مع عائلتها لاستقباله و كيف كانوا جميعا ينتظرون رده على أحر من الجمر، لكنه لم يقم بذلك ولم يقم بتناول اي من الوجبات التي حُضرت خصيصا له بالرغم من اطلاعه على محتويات الفيديو. توقفت للحظات عند وصولها إلى هذه النقطة ثم أكملت الرسالة طالبة منها معروفا، أخبرتها فيه عن دراسة أخيها و تخصصه في نفس الجامعة التي تدرس فيها و طلبت منها لوكان باستطاعتها أن تتحرى أخباره و أن تراقبه من بعيد لمعرفة شخصيته، فلربما تتمكن من فهم عدم رغبته في التواصل معهم حينها، لتختم رسالتها أخيرا بامتنانها الشديد إن تمكنت من تحقيق ذلك لها.
كانت فكرتها هذه وقحة نوعا ما، فأن تتجسس على حياة شخص دون علمه ليس من الأدب في شيء و لو علم آنزا بذلك فسيغضب بشدة و لن يزداد حينها إلا بعدا عنهم، ناهيك عن أنها بطلبها هذا ستجعل من توناروز شريكة لها في جريمة لن يعذرها آنزا عليها أبدا حتى و إن لم تكن هي صاحبة الفكرة. كانت نورسين مدركة لكل ذلك لكن فضولها لمعرفة حياته و سبب تصرفه الفظ معهم اليوم دفع بها للمخاطرة في سبيل ذلك.
نظرت إلى الساعة بجانبها قبل أن تدرك أنها متأخرة بالفعل بالرغم من استيقاظها المبكر اليوم. شعرت للحظة أن آنزا هو السبب ثم ابتسمت ساخرة من شعورها ذاك و ركضت مغادرة المنزل و لايزال أمر والديها يشغل أعماقها رغم تجاهلها إياه.
لم تكن أجوان بانتظارها كما تفعل عادة، فقد طلبت منها نورسين ذلك البارحة و يبدو أنها كانت محقة في ذلك نظرا لتأخرها الشديد اليوم. وصلت للمدرسة و كما كان متوقع فقد دخلت إلى الفصل وسط شرح الأستاذة بعد أن طلبت إذنها في ذلك، و لحسن حظها أن تأخرها اليوم كان مع الأستاذة هتون التي لم تكن لتطرد أحدا من الفصل لمجرد تأخره. جلست نورسين في مكانها المعتاد أول الصف ثم نظرت لأجوان للحظة بادلتها فيها نفس النظرة لتنغمس الفتاتان بعدها في شرح الدرس.

بعد مرور مدة ليست بطويلة. طُرق الباب فجأة طرقات سريعة. توجهت هتون نحوه و قامت بفتحه ليظهر من خلاله مراقب الصفوف و بيده دفتر ضخم. تحدث مع الأستاذة بضع كلمات لم يتمكن الطلاب من التقاط أحدها ثم فتح الدفتر لتكتب فيه الأستاذة شيئا بدا أقرب لتوقيع على أمر ما.. التفت بعدها لشخص كان يقف خلفه و أشار له بالدخول. نظرت الأستاذة نحوه و ابتسمت مرحبة ليدخل ذلك الشخص للقاعة دون أن يرفع نظره إلى كل تلك الوجوه التي أخذت تحدق فيه بفضول و بقي واقفا لثوان منتظرا إذن الأستاذة. أغلقت هذه الأخيرة الباب خلفه ثم أشارت إليه ليجلس في ذلك المكان الشاغر في الزاوية. توجه الفتى بهدوء إلى مقعده المقصود وسط نظرات الطلاب الفضولية. كان واضحا انه طالب منتقل لكن الأستاذة لم تقل شيئا بشانه وعادت تكمل درسها دون أن تشبع فضولهم.

مرت بعدها حصة الأستاذة هتون بسرعة وارتفع صوت الجرس عاليا معلنا نهايتها و بداية حصة جديدة. بدأت أصوات الطلاب تعلوا مع خروج الأستاذة مستغلين كل ثانية تمر قبل وصول الأستاذ التالي.
الفتت أجوان إلى نورسين وقد بدا عليها الحماس على غير عادتها. أوشكت أن تبادر بأسئلتها التي بدت و كأنها لن تنتهي أبدا لكن نورسين سبقتها بالكلام لتطفئ تلك الشرارة قبل انتشارها.

-لا تتحمسي كثيرا أجوان.

رمقتها هذه الأخيرة مستغربة ثم قالت بخيبة أمل:

-لا تخبريني بأنه لم يأتِ.

أشارت نورسين برأسها نافية.

-إذن لِم كل هذا الإحباط.

نظرت لها نورسين وأجابت بتحسر:

-رأيناه أثناء نومه فقط. فهو لم يقم بالرد على الفيديو خاصتنا بالرغم من أنه قد شاهده بالفعل.

رفعت أجوان أحد حاجبيها مستنكرة. ثم أخذت نورسين تقص عليها كل ماحدث معها هذا المساء. وضعت أجوان رأسها على الطاولة كرد فعل على ماسمعته منها و أخذت تتمدد و تتثاءب ببطء ثم قالت:

-لا أذكر متى آخر مرة تحمست فيها هكذا. لكن، لاشك في أن لديه أشغالا لايمكن تأجيلها فنحن بعد كل شيء لانعلم شيئا عن حياته.

أشارت نورسين برأسها موافقة وقد تذكرت فجأة توناروز و تلك الرسالة الطويلة التي كانت سببا في تأخرها قبل قليل. لم تشأ أن تخبر صديقتها بشأنها فقد كانت تعلم بأنه تصرف غير لائق ولن تشجعها أجوان عليه إطلاقا. أكملت هذه الأخيرة كلامها لتخرج نورسين من فوضى أفكارها تلك:

-لا تقلقي على والديكِ فأنتِ معتادة على سفرهم ولاشك في أن الأمر مستعجل هذه المرة. واثقة أنهما سيشرحان لكِ كل شيء فيما بعد.

ابتسمت نورسين لكلامها وقد أسرت في نفسها حسرتها على والديها الذين سافرا دون أن يتمكنا من رؤية ملامح ابنهما و قد كانا ينتظران هذا اليوم منذ ولادته.

رمقتها أجوان للحظات ثم قالت :

-اعذريني على كلامي هذا، لكن، يبدو ان أخاك آنزا هذا أناني أو أنه لا يجيد تحديد أولوياته و في كلتا الحالتين هو لايشبهكِ على الإطلاق. كان عليه الاهتمام بعائلته قبل كل شيء.

ضحكت نورسين على استنتاجها ذاك من أعماقها. فبالرغم من أن كلامها هذا يناسب شخصيتها إلا أنها لم تتوقعه على الإطلاق.

-أتفق معكِ في كونه لايشبهني من هذه الناحية لكني لا أعتقد بأنه أناني.

-ليس هناك خيار ثالث.

ابتسمت نورسين مجددا واعتدلت في جلستها وهي تنظر إلى الأستاذ يدخل القاعة مهرولا، لتدخل بعدها في شرودها المعتاد محاولة وضع تفسير لكل سؤال أخذ ينهش تفكيرها.

انتهت الحصة مجددا و أخذ خروج الطلاب يشكل فوضى عارمة في الفصل. كانت فترة استراحة استغلها معظمهم في الابتعاد قدر الإمكان عن فصولهم الدراسية. وعلى عكسهم رفضت نورسين الخروج هذه المرة و آثرت البقاء لتحاول الاتصال بوالديها بعيدا عن ضوضاء الطلاب في الخارج. تفهمت أجوان موقفها و خرجت لتجلب لها مشروبا تاركة إياها في الفصل مع بعض الطلاب الذين فضلوا البقاء كذلك لأسباب مختلفة. أخذت نورسين تتصل مرارا و تكرارا على هاتف كل من أمها و أبيها دون أن يصل اتصالها إلى أحدهما فيبدو أن كلا الهاتفين مغلقان. الأمر لايدعو للقلق فمن الواضح أنهما على متن الطائرة الآن وهذا سبب إغلاق هاتفيهما. ابتسمت عند وصولها إلى هذه النتيجة ووضعت هاتفها جانبا قبل أن تظهر أمامها فتاة و تباغتها بالجلوس بجانبها وقد أخذت تطلب منها الانضمام إلى زميلاتها في آخر القاعة لمناقشة موضوع خاص بحفلة تخرجهم لهذا العام. ابتسمت نورسين ووقفت استجابة لطلبها ثم توجهت الفتاتان نحو تلك المجموعة التي بدت صاخبة نوعا ما بكلام أصحابها المتفرق. انتبهت نورسين فجأة لذلك الفتى المنتقل وهو يقف من مكانه قاصدا الخروج من القاعة وقد بدا عليه الانزعاج من كلام الفتيات الصاخب هناك، ثم جلست بأحد الكراسي لتمنح نفسها فرصة للاندماج في حديثهن محاولة تجاهل مارأته خلفها.


كانت خطواته الواسعة تتثاقل شيئا فشيئا في ذلك الرواق الضخم وهو يحمل بيده كوب قهوة يرتشف منه رشفات بين الحين والآخر، نظر أمامه إلى ذلك الفتى الغريب يخرج من الصف بوجهه العبوس فرفع حاجبه بفضول ليلتفت بعدها بشكل تلقائي إلى من خرج خلفه مباشرة محاولا اللحاق به. ازداد فضول أويس وهو يرى صديقه بيجاد يلحق بالفتى الغريب مسرعا ليغير هو الآخر وجهته و يتبعهما دون تفكير. سار خلفهما لدقيقة غير كاملة وتوقف بعدها على إثر توقف كليهما. استدار الفتى الغريب إلى صاحبه ذاك وقد بدا أن هذا الأخير قد ناداه.

- ماذا تريد ؟!

ارتبك بيجاد فجأة لرده ذاك وقد بدا الاستغراب عليه جليا.

- أعتقدت بأنك لم ترني في الفصل، ولهذا أتيت إليك.

- بلى رأيتك، فأنا لست أعمى..

- أسافو، ماخطبك؟!

كان واضحا أن بيجاد على  معرفة بذلك الفتى الغريب وقد بدا ذلك جليا على ملامح وجهه المستغربة من ردة فعل اسافو اتجاهه، هناك فقط انتبه لملامحه الباردة التي لم يعرفه بها من قبل. لم يسمح له أسافو باستيعاب مايحدث أمامه أكثر فقد قال ببرود:

- بيجاد إن لم يكن لديك ماتقوله فلا تصرخ باسمي ولا تنادني مجددا فأنت تضيع وقتي بلا شيء.

كان أويس يراقبهما من الخلف وقد سمح لنفسه بالاقتراب كفاية لسماع حديثهما وهو يحتسي قهوته بهدوء دون أن يكلف نفسه عناء اخفاء نفسه عن مجال نظرهما ولولا أنه كان يقف خلف بيجاد لتمكن هذا الأخير من رؤيته بسهولة.
تفاجأ أويس كصديقه من جواب أسافو الوقح وبالرغم من أنه لم يكن يعرفه إلا أنه تفاجأ أكثر من هدوء بيجاد وبقائه على صمته المستفز ذاك. سار باتجاههما وهو ينظر إلى أسافو يلتفت مغادرا قبل أن يسمح لبيجاد باستيعاب كلامه.

- اسافو، انتظر لحظة.

نطق بيجاد في اللحظة التي وصل فيها أويس إليه فالتفت متفاجئا لرؤيته يقف بجانبه. نظر أويس إليه ليرى الارتباك جليا على ملامحه ثم استدار لصاحب الاسم الذي نادى عليه للتو والذي بدا وكأنه لم يهتم بندائه أصلا و استمر بالسير مبتعدا بلا مبالاة و كأن شيئا لم يحدث.. شعر بالغضب حينها يتأجج في صدره وهو يرى تصرفه المهين ذاك لينطق بنبرة مشحونة استطاع جميع من حوله سماعه:

- أيها الوقح.. إنه يناديك.. ألم تسمعه!


- فلتخبره إذن أن يتوقف عن مناداتي.

التفت أويس إلى بيجاد وقد بدا أن صبره قد نفد وهو يقول:

- بيجاد، كيف تتركه يتحدث معك هكذا؟!

لم يجبه بيجاد وبدلا منه وجه كلامه لأسافو وقد علت ملامحه الصدمة:

- مالذي حدث معك أسافو، لماذا تتحدث هكذا؟! أين كنت كل هذه المدة، لقد بحثنا عنك في كل مكان. أين تعيش الآن؟!

تفاجأ أويس من أسئلة بيجاد وهدأ روعه فجأة وقد أدرك بأن هذا المدعو أسافو هو ذلك الشخص الذي لطالما تحدث عنه بيجاد وكان كالأخ بالنسبة له. وبالرغم من أن ما يراه أمامه الآن لا ينطبق على تلك المواصفات التي كان يصفه بها بيجاد دوما، إلا أنه صمت مطولا وقد أدرك أن شيئا لا يعرفه قد حدث بينهما. توقف اسافو عن السير حينها ثم استدار إليه ليقول ساخرا:

- هل أنت جاد فيما تقوله !! تبحث عني ؟!! يبدو أنك لم تتغير على الإطلاق ولا تزال ساذجا كما عهدتك.. مالذي ستستفيده من معرفة مكان سكني الآن.. لا تقل بأنك ستأتي لزيارتي!!

بدت الصدمة واضحة على ملامح بيجاد على إثر ذلك الكلام الذي لم يكن ليصدقه لولا أنه سمعه بنفسه.

- أسافو، شيء ما قد حدث جعلك تتحدث بهذا الشكل صحيح؟! أخبرني، مالذي حدث ؟! هل استطعت الوصول إليهم؟!

رمقه أسافو بنظرة ثاقبة شعر بشرارتها أويس الذي كان بالكاد يتحكم في أعصابه من كلامه المستفز. ليقول دون أن يبعد نظره عن بيجاد:

-بيحاد، أنا أحذرك، ابتعد عني ولا تحاول التدخل في حياتي وإلا رأيت مني ما لا يسرك.

وقبل أن يمنح بيجاد فرصة لاستيعاب كلامه التفت مغادرا بوقاحة. لم يوقفه أحد وهو ينصرف مبتعدا فحتى أويس لم يكن قادرا على ذلك بعد ماسمعه من كلام بيجاد.. هذا الأخير الذي صمت هو الآخر وشرد بتفكيره بعيدا للحظات ثم رفع نظره إلى أويس بجانبه وكأنه قد تذكر وجوده للتو.. فابتسم كعادته وقال محافظا على هدوئه:

- هذا هو أخي الذي حدثتك عنه، لا أصدق بأني أراه أمامي مجددا. أويس، لا تأخذ عنه صورة سيئة لا شك في أن شيئا قد حدث جعله يتصرف بهذا الشكل.


رمقه أويس باستنكار ثم قال:

- أما أنا فلا أصدق بأنك لا زلت تدافع عنه بالرغم من انه قد مسح بك الأرض قبل قليل.

- أنت لا تعرفه أويس، ولو كنت كذلك لكنت منحته ألف عذر.

كانت كلماته الواثقة وتعابير وجهه المشرقة برؤية من بحث عنه طيلة سنوات تناقض ما احتواه قلبه من شعور خانق أخذ يزاحم ضربات قلبه ويتثاقل بداخله شيئا فشيئا. فبالرغم من عودة من طال انتظاره كثيرا إلا أنه بدا شخصا مختلفا تماما وقد أخذ القلق يساوره بشأن ماحدث له أثتاء غيابه. لم يكن ذلك ليظهر على ملامح وجهه المشرقة فلم يكن صعبا عليه رسم تلك التعابير الزائفة، فذلك أسلوبه في الحياة الذي أتقنه منذ الصغر. ولم يتمكن أحد من كشف تلك المشاعر الدفينة التي تختبىء خلف قناعه المشرق دائما.

***

نسيم الفجر العليل ورائحته العبقة أخذت تنتشر مع برودة ذلك الجو الشتوي في سماء كستها السواري وأخفت خلفها نور القمر مانعة تسلله لاستراق حكايا البشر التي لا تنتهي.

رفع بصره عاليا و أخذ يتأمل حركة الضباب البطيئة في السماء.. كان يسير بجانب ذلك النهر المظلم بخطواته الواسعة والمتباطئة في نفس الوقت وقد شغله أمر صديقه الذي غادره قبل قليل معتذرا على إثر ذلك الاتصال الذي وصله فجأة. كان أمرا مستعجلا وإلا ما كان ليسمح له بالمغادرة. تذكر كيف قابله بملامحه الباسمة تلك وهو يقف مغادرا للبحث عن أخته الصغرى بعد اتصال من مدرسيها يعلمونه فيه عن خروجها من المدرسة لوحدها. لم يكن خبرا جديدا ان يتم الاتصال به وإعلامه باختفاء أخته فلطالما فعلت ذلك كثيرا من قبل وهي تلعب مع زملائها وكان بيجاد ماهرا في إيجادها دائما. لكنه شعر بشيء مختلف في نبرة صوته هذه المرة. كان متذبذبا يخرج من بين أنفاسه التي بدت وكأنها تتسارع شيئا فشيئا، فكان واضحا له مقدار القلق الذي أخذ يدب في أعماقه مختبئا خلف تلك الابتسامة الواهنة. ليس أمرا جديدا عليه فقد اعتاد على ملامحه تلك وقد بات يعرف مشاعره من نبرات صوته المتغيرة. اقترح أويس عليه المساعدة لكن هذا الأخير رفضها إطلاقا متعللا بأنه بالفعل يعرف مكان أخته وأنه واثق من تواجدها هناك. فغادره راكضا وتلك الابتسامة الضعيفة لم تغادر محياه أبدا.
نفض عنه تلك الأفكار التي بدت غريبة عليه لوهلة ثم أخذ يسارع خطواته إلى المنزل وهو يطمئن نفسه بأن كل شيء سيكون على ما يرام.

وبالقرب من ذلك المكان وعاليا في إحدى شقق تلك البناية الشاهقة جلست تلك الفتاة تقابل التلفاز وتستمع للأخبار بذهن شارد. لم يكن مضمونها مهما بالنسبة لها ولم تكن تنتظر موعد الإعلان عن تلك الرحلة التي كان يتحدث بشأنها المذيع.. فكل ذلك بدا سخيفا في نظرها و لايستحق إدراجه ضمن الأخبار. لكنها كانت تنتظر وبقوة فقرة أخبار هيرو لعلها تجد فيها ما يشبع فضولها بشأن حياتهم أو بالأخص حياة أخيها فيها. وضعت هاتفها بجانبها على الأريكة وقد ملت من تصفحه وذهنها لا يزال مشغولا بسفر والديها وحياة أخيها في الجهة الأخرى. لحظات مرت على حالها تلك ليرن هاتفها أمامها بشكل مفاجئ. رفعته بحماس وسارت مبتعدة عن التلفاز وهي ترد عليه بلهفة:

-أمي.. أين أنتما. انتظرت اتصالكما كثيرا.

-آسفة نورسين لكن لم يكن لدينا وقت لنتصل بك فقد انشغلنا مع إجراءات السفر الطويلة وكان علينا جمع بعض العينات التي تلزمنا. وكان موعد الطائرة قريبا لذلك طلبت من رئيس المعهد أن يتصل بكِ بدلا منا.. آسفة إن أقلقناكِ بسبب ذلك.

تنهدت نورسين بارتياح عند سماع كلمات أمها ثم أردفت مخرجة كل تساؤل في ذهنها:

-لابأس. أخبريني إلى اين ذهبتما ؟! ومتى ستعودان ؟

-نحن في العاصمة و لا ندري إلى متى سنبقى هنا. يعتمد ذلك على نجاح فريقنا في الوصول إلى نتيجة مرضية للتجارب التي يُعمل عليها هنا. لكن لا تقلقي لا أعتقد بأننا سنتأخر ربما سنعود خلال أسبوعين.

-لماذا لم يتم إشعاركما بشأن السفر مسبقا؟

-في الواقع، كنا نعلم بشأن هذا العمل وقد تم إعلامنا به قبل أسبوع لكننا رفضناه لأجل أخيك، ثم اليوم فقط تم إخبارنا أن رفضنا هذا سيلغي خدمة الاشتراك لمخبرنا وبهذا اضطررنا للذهاب في آخر لحظة قبل بداية العمل غدا.

كانت سيلا تتحدث بصوت مرح كعادتها وقد أدخل ذلك الاطمئنان على قلب ابنتها بعد ان تمكن منه القلق. تحدثتا لبعض الوقت عن أشياء مختلفة ثم ناولت سيلا الهاتف لآصف ليحدث ابنته هو الآخر. وبعد دقائق من الزمن أغلقت نورسين الخط وقد اطمأن قلبها بالحديث معهما وأصبح كل شيء منطقيا الآن بفضل ذلك. بقي شيء واحد فقط لا يزال ينغص عليها اطمئنانها هذا. سفر والديها قبل رؤية آنزا بسبب تصرفه ذاك وهما اللذان رفضا عملهما لأجل رؤيته. شعرت بخيبة أمل كبيرة لتصرف أخيها وباتت شبه متأكدة أن الحق أصبح بجانبها فيما طلبته من توناروز مساءً. وضعت هاتفها جانبا وقابلت الكاميرا لتصور شريطا مصورا جديدا لآنزا تخبره فيه ماحدث معهم اليوم وقد عاهدت نفسها بأنها ستبقى ملتزمة بموعد التصوير يوميا حتى وإن لم تأتها منه أي استجابة.

***

أصوات أنفاس عالية اندمجت مع صوت وقع أقدامه السريعة وهي تركض بكل ما أوتيت من طاقة. كان يحرك رأسه في اتجاهات عديدة باحثا عنها. وهو يتوجه إلى مكان مقصود بدا بعيدا في مخيلته. توقف عند تلك البناية الضخمة للحظات مرت من خلالها ذكريات جميلة نُقشت في ذلك المكان. لم يسمح لنفسه بالغوص فيها أكثر فالتفت إلى تلك السلالم الضخمة على جوانب البناية وأخذ يبحث بعينيه بين تلك الأشجار العملاقة التي ارتصت حولها، وسرعان ما لمحها جالسة بين جذورها البارزة. اطمأن قلبه لرؤيتها فتنهد بقوة حامدا الله على ذلك ثم اقترب منها بخطوات سريعة. كانت تجلس بجسدها الصغير على الأرض وقد أخذت ترسم على التراب بقلم من أدواتها المدرسية مستعينة بضوء تلك البناية الذي يمتد بعيدا. ابتسم بيجاد عندما لم تشعر بوقوفه خلفها لانغماسها في الرسم ثم قال بصوت صارم :

-وانا.. ماذا تفعلين هنا ؟!

صرخت الفتاة صرخة مكتومة ثم التفتت خلفها بخوف لتطمئن بعدها عند رؤيته وتقول بصوت طفولي:

- بيجاد. لقد تهت مجددا و قد تأخرت علي كثيرا.

استدارت إليه وأكملت بحماس:

- بيجاد، لقد عاد أسافو، لقد رأيته اليوم.

- أسافو؟! أين رأيته؟!

- رايته مارا من امام منزلنا عندما كنت ذاهبة للمدرسة. ناديت عليه لكنه لم يسمعني ولم أستطع الذهاب خلفه لأنه كان يقود دراجة نارية.

نظر إليها بيجاد ولا تزال الصدمة على وجهه، لم يعقب شيئا فأكملت وانا كلامها بعفوية:

- اعتقدت بأني سأجده هنا في المكتبة كما اعتاد أن يكون ولهذا خرجت من المدرسة قبل الآخرين لأقابله. لكني لم أجده. هل يجب ان ننتظره اكثر؟!

قالتها ببراءتها الطفولية وبشكل عفوي لم تأخذ فيه وقتا للتفكير في كلامها. لكن كلماتها تلك كانت كفيلة بجعل قلبه ينتفض فجأة دون سابق إنذار. كان يعلم سبب رغبتها في زيارة تلك المكتبة الضخمة في كل مرة. فقد عودها أسافو من قبل على ذلك وكان يأخذها معه إليها ويعرفها في كل مرة على كتاب جديد وقصة جديدة يرويها لها هناك. ومع اختفائه المفاجىء ذاك أخذ بيجاد الدور عنه واستمر بأخذها لزيارتها بين الحين والآخر وكله أمل في ان يجده يوما هناك منغمسا بين الكتب.

ابتسم بيجاد لكلامها ذاك ولم يتمكن من إخبارها بأنه رآه هو الآخر بل وتحدث إليه كي يمنعها عنه لسبب يجهله. انحنى إليها ليحمل جسدها الصغير بين ذراعيه ثم ضمها إلى صدره بقوة وأخذ يركض مبتعدا وهو يقول:

- لقد تأخر الوقت، ستشرق الشمس قريبا.

__________________

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top