الفصل الرّابع 🎨

بقلم نهال عبد الواحد

ظلّت بُشرى واقفةً مكانها ناظرةً إلى نقطة فراغ... أغمضت عينَيها؛ داخلها ألمٌ جليّ متصاعدٌ وجعه... قاطعها صوت الممرضة المساعدة بإشفاق: وبعدين يا دكتور!

أجابتها دون أن تلتفت: مش هشتغل تاني انهاردة.
قالتها ثمّ جلست بتباطؤٍ فتابعت الممرضة: بتفق معاك إنك متاخديش حالاتهم... وإن كنتِ اتأخّرت أوي لكن المهم إنك عملتيها، بس هم حاليا مشو بجد والمرضى طالبينك بالاسم يا دكتور.

تنهّدت بُشرى قائلة: بس أنا حقيقي تعبانة.

تحدّثت الممرضة بمرحٍ: بسيطة يا ست البنات، أجيب لك كام سندوتش على شوية...

فقاطعتها بصرامة: مش عايزة حاجة.

اقتربت منها الممرضة وسألتها بإشفاق: مالك يا حبيبتي! ايه اللي قاهرك كده؟ هي زودتها صحيح، بس انت شكلك كنتِ على تكة.

-خلاص دخلي الحالات حالة حالة خلينا نخلص.

-مش بتقولي مش قادرة!

-مش قادرة أناهد على فكرة...

فطاوعتها الممرضة لكن إشفاقها عليها يزيد لحظة بعد أخرى، خاصّةً وأنّها مستمرة في عملها على أكمل وجه، لكنّها ترى صراعًا عميقًا قاسيًّا داخلها لا تعرف سببه...

وأخيرًا انتهت بُشرى من حالات المرضى فبادرتها الممرضة محاولةً المزاح معها، لكن فجأة أمسكت بُشرى ببطنها وانطلقت مسرعةً نحو الحمّام فتبعتها الممرضة مسرعةً وبدهشة!

لكن بمجرد وصول بُشرى إلى الحمام وقد زاد شعورها بليةٍ في معدتها لأول مرّة في حياتها، انحنت متقيّئةٍ كل ما تناولته مع ألمٍ شديدٍ لم تعهده من قبل!

تساقطت دموعها بغزارةٍ باكيةً بحرقةٍ شديدة! مهما حاولت مساعدتها أن تخفّف عنها لم تفلح البتة!

نهضت بُشرى رغم حالتها مصرّةً على المغادرة وحدها رافضةً تمامًا اصطحاب أحد!

سارت في الطّرقات وحدها جارّةً ساقَيها، عيناها تزرفان بالدّمع، تعاني من ألم شديد غزا معدتها فجأة لأول مرّة، كانت شاردةً بشدة إلى أن سمعت مَن يناديها بصراخٍ أفزعها: حاسبي!

وما أن التفتت نحو مصدر الصّوت حتى جذبها بقوةٍ ثمّ مرّت سيارة لتوّها كانت على وشك أن تصدمها! جحظت عيناها وفرغت فاها وبعدها بلحظاتٍ قليلة انتحبت بشدة!

ترك ذلك الشّاب ساعدَيها وقد كان ممسكهما بقوةٍ وسألها بلهفة: أقدر أساعدك إزاي يا آنسة؟

صاحت فيه بين شهقاتها: سيبني في حالي! سيبني في حالي!

قالتها وغادرته منصرفةً دون أن تحدد وجهتها، تحرّكت من شارعٍ لآخرٍ ولا تزال على نفس تِيهها ومعاناتها، لكن قد خفت حديثها الدّاخلي.

لكنّ قد حملتها قدمَيها إلى هنا! أمام محل لبيع وتأجير فساتين للسّهرة والزّفاف، فدفعها فضولها بالدّخول... وبالفعل فعلت!

كانت تطيش عيناها مشدوهة في كلّ ثوبٍ معلّقٍ في كلّ إنشٍ بالمكان، وكأنّها ما كانت فيه منذ لحيظاتٍ فقط!

وقفت أمام أحد فساتين الزّفاف، نظرت إليه بحالميةٍ كأنّما التقت بحبيبٍ كان غائبًا وأخيرًا قد أتى.
لكن قاطعها صوت: ده مش مقاسك يا آنسة.

فعاد لبُشرى ألمها مجدّدًا؛ فتلك الفتاة قد ضغطت على الجرح، لكن قاطعها صوت أنثوي رقيق: وبعدين يا إيمان!

فابتعدت الفتاة بينما اقتربت تلك المرأة قادمةً بترحابٍ: يا أهلا يا أهلا يا ست العرايس!

التفتت نحوها بُشرى بدهشةٍ، بينما تابعت المرأة بودٍ شديد: مش عايزاكِ تزعلي منها؛ هي ما تقصدش يا حبيبتي.

فأومأت بُشرى: حصل خير ما جراش حاجة.

-يا ترى فرحك امتى؟

-فرح ايه!

-مش انت بتلفي على فستان الزفاف، يبقى فرحك قرب... ولا ايه؟

تنهّدت بُشرى ولم تعقّب وراحت تكمل مشاهدة الثّياب بينما تبعتها تلك المرأة السّتينية البشوشة وقد أدركت ما تعاني منه تلك الفتاة.

قطعت المرأة ذلك الهدوء قائلة: اسمك ايه يا حلوة؟

أجابتها بتردّد: بُشرى... طبيبة أسنان.

-ما شاء الله ما شاء الله! طب ليه بأه عاملة في نفسك كده؟

فلم تعقّب بُشرى ثم تحدّثت المرأة بنفس مرحها: أنا عرفت مالك، بس ما تزعليش نفسك يا روحي بالشكل ده! انت جميلة وزي القمر، وما فيهاش حاجة لو مليانة شوية، عندي فساتين كتير تنفعك وف منتهى الرّوعة، واوعي تكوني فاهمة بقول كده عشان عايزة أبيع والسلام...

ثمّ مدّت يدها نحو بُشرى قائلة: اتفضلي اقعدي، أنا حبيتك وقررت أحكي لك قصة حياتي.

ابتسمت بُشرى بصعوبة وإن كانت لم تفهم شيئًا حتى بدأت المرأة: أنا اسمي صابرين، وسبحان الله كأن لي من اسمي نصيب!

لما شفتك فكرتيني بنفسي أوي، أنا كنت ف شبابي مليانة زيك، لا وأكتر منك كمان! المهم الأخلاق والطّباع والروح الحلوة، لكن كل الناس كانت بتضغط عليّ، خصوصًا إن سني كبر وعديت ال35 وده زمان كان مصيبة سودا، المهم شاء الله إن أختي تتجوز وتحمل على طول، وهي بتولد ماتت يا حبيبتي، الله يرحمك يا سميحة!

قالت الأخيرة وترقرقت عيناها، ابتلعت ريقها  بينما أسرعت بُشرى تواسيها فابتسمت  قائلة: تعيشي وتفتكري، ربنا يرحمها يا رب.

أومأت صابرين وأكملت: أخدت ابنها ربيته من وهو لحمة حمرا وعديته ابني اللي مخلفتوش ولا هخلّفه، ما أنا سني كبير ولسه مطولة...

المهم ربيته وكبرته ودخل المدرسة، عشان أروح المدرسة ف يوم وأقابل والد بنوتة زميلته، مفيش حاجة وجه اتقدم لي، طبعا اشترطت إن ابني ده يعيش معانا، وهو اشترط كمان إن بنته تفضل معانا، وف يوم وليلة اتجوزت وبأه عندي ولد وبنت والراجل ده بيحبني ومتيّم بي ويتمنى لي الرضا أرضى، وكنت لسه وزن تقيل زي ما أنا، وعمره ما اتريق علي ولا اتكلم ف الحكاية دي أبدا، وأمه كمان الله يرحمها كانت جميلة أوي، عمرها ما ضايقتني، عمره ما قالي عملت ده ليه ولا ما عملتيش ده ليه، عوض الله اللي مفيش أحسن من كده، وجيت تعبت بعدها ولف بي ع الدكاترة وماحدش عرف عندي ايه... الطب زمان كان على أده أوي... تحسي إن الدكاترة كانوا محششين ولا ايه!

فضحكت بُشرى، فسُرّت صابرين بذلك وأكملت: عشان أتاريني كنت حامل ولا حد عرف يشخّص! شفت كرم الله أد إيه! أحمل في توأم! ولا عل بال ولا عل خاطر، وف يوم وليلة بأه معايا ولدين وبنتين، أحلى عيشة مع أحلى راجل، حتى لما بدأت أخس عشان ضهري كان فيه مشكلة، كان كل يوم يأكد لي إنه بيحبني في كل حالاتي واني حلوة ف عينه بس الأهم صحتي، كان دائما بيعرف يخليني أسمع كلامه، ما أنا كمان كنت شبيك لبيك له، ولو أطول أديله عيني أديله... يااه يا حاج! ربنا يديه الصحة والعافية وما يحرمنيش منه أبدا.

واهو جوزنا بنته لابن أختي وبعد كده جوزنا الولد والبنت، وكنت طول عمري غاوية خياطة وتطريز بس كنت شغالة ف الحكومة، جه قعدني م الشغل بعد ما اتجوزنا، ولما الولاد كبروا فتح لي مشغل صغير والمشغل كبر وبأه أتيليه زي ما انت شايفة...

فما تحطيش في نفسك أبدا ولا تخلي كلام حد يأثر فيك، وعيشي حياتك وهتلاقي كرم الله وعوضه وأجر كبير في انتظارك...

ابتسمت بُشرى وتنهّدت براحة قائلة: حضرتك جميلة أوي...

فقاطعتها: وانت سكرة خالص ربنا يسعدك ويعوض عليك... المهم قومي معايا عندي حتة فستان هياكل منك حتة...

فقاطعتها بُشرى: حضرتك أنا مش هشتري حاجة...

-عارفة يا روحي، زمان وأنا لسه بنت، اتمنيت كتير ألبس فستان واعيش اللحظة، وأنا حابة أفرحك...

-بس...

-ما بسش، قومي معايا يلا!

قالتها صابرين بحماس ممسكةً بيد بُشرى وجذبتها نحو مكان ذلك الفستان، ارتدته بُشرى بسعادة بالغة، وقد قامت صابرين بضبط حجابها وذاك الوشاح... حتى بدت بُشرى في صورة بهية أسعدتها بشدة، كانت تتطلّع لنفسها في المرآة بإعجابٍ وسعادة، ولسان حالها يتساءل: هل يا ترى سيجئ اليوم الّذي أرتدي فيه هذا الثّوب بحقٍّ؟ وسأزف على إيقاعات الفرح، وسيُشهد لي أنّي أجمل عروس! هل سأتألّق بفستاني وسأفرح؟

وبينما كانت على هذا الحال إذ جحظت عيناها فجأة حين التفتت لتجد أمامها...

تتبع....

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top