الفصل الثالث 🎨

بقلم نهال عبد الواحد

ومَن يرد الشّفاء من العشق  فليشعر نفسه اليأس منه، فإنّ النّفس متى يئست من الشّيء استراحت منه ولم تلتفت إليه...

مرّت ليلة حزينة على بُشرى وتبعتها المزيد من الأيام واللّيالي... تكاد لا تتعلّم من مختلف المواقف فتذهب لتكرّرها، لا زالت تسعد برؤيته ولقائه أشدّ السّعادة! تتحدّث معه بودٍّ واهتمام وتضيف الكثير من الإقبال، لكنّها لا تجد منه إلّا سخافته وردودًا تفتقد الذّوق واللّياقة، لا يُعلم إن كان هكذا طبعه الرّئيس وقد نضح؛ فاللّسان ما هو إلّا مغرفة القلب.

أم قصد إبعادها عن حياته لكنّه أساء الأسلوب تمامًا، في الحقيقة جميعها مجرد افتراضات، ومع ذلك لم تلقى أي تغييرٍ منها، هل لذاك الحدّ بلغ العشق مبلغه في قلبها؟ أم أنّه لديها من العناد حد إيذاء النّفس، فتحبّ مَن يهينها؟!

وممّا زاد الطّين بلّة ذاك الصّراع الدّاخلي الّذي لا يتوقّف بين القلب والعقل، ومهما حاولت إخماده لا يخمد!

لكنّها استمرت في ابتلاع المزيد من كمّيات الطّعام، بل أكثر من ذي قبل! إضافة إلى عملها كطبيبة المجّدة فيه طوال الوقت وتلك الأشغال اليدوية الرّائعة، ثمّ حلّ عليها حالة غريبة من الشّعور بالتّرقّب دون أي مبرّر!

وذات صباح بينما كانت جالسة تلتهم الطّعام دلفت إليها أمّها قائلة: صباح الخيـ...

لكنّها سرعان ما بترت كلمتها وصاحت فيها وهي تنظر إلى كَمّ الطّعام الّذي تتناولها: يا صباح  الخراب المستعجل! ايه ده؟! هو...

فقاطعتها بُشرى على الفور: من فلوسي... جايبة الأكل ده على حسابي عشان الكلام الكتير...

-يا بت افهمي، صحتك هتتأذي، وبحالتك دي هتقعدي في أرابيزي!

-ومالها أرابيزك؟!
سكتت بعض الوقت ثمّ قالت بهجوم: ريحي نفسك مش هبطّل أكل ولا هخس ولا هعمل أي حاجة... واه هقعد جنبك...

نهضت متجهة خارج المطبخ فقابلها أبوها وسألها بقلقٍ مربّتًا على كتفَيها: في إيه يا آمال؟ ايه الزعيق ده!

فخرجت آمال من المطبخ وردّت عليه: بنتك المفجوعة يا عبده شغّالة دفس دفس وقال ايه على حسابي ومن فلوسي! جايبالنا الكلام على طول!

تنهّد الأب ثمّ قال بضيقٍ: طب ممكن تسكتي شوية يا آمال...

فصاحت آمال بغضبٍ مقاطعةً: يعني إيه أسكت! عجبك حالها ده! بدل ما الواحد يرفع راسه ببنته الدكتورة الشاطرة عرّانا وجايبالنا الكلام!

فصاح عبده: بنتك رافعة راسنا طول عمرها، بطّلي كلام فاضي...

ثمّ أخرج من جيبه محفظته مخرجًا بضع ورقات مالية وربّت على ابنته بحنانٍ وقال مبتسمًا: خدي حبيبتي وكلي براحتك واعملي اللي انت عايزاه، بس بلاش على حسابي دي، أبوك لسه على وش الدّنيا، خدي وعيشي واتمتعي بخيري يا حبيبة أبوك، وجهّزي نفسك عشان ما تتأخريش ع الشّعل يلا.

لم تعقّب واتّجهت نحو حجرتها بينما تتبعها آمال بناظريها ثمّ صاحت: بأه كده يا حاج تنصفها عليّ!

فضرب كفًّا بكفٍّ وردّ عليها: لا إله إلّا الله! هي ضرتك! دي بنتك يا ولية! وبعدين بدل ما تفكري تفكيرك الملخفن ده شوفيها مالها! بنتك مش متظبطة ربنا يستر عليها.

-ما هي اللي واكسة نفسها، حد قالها تمشي بدماغها وتعلّق نفسها بحبال دايبة!

-فاحنا نسيبها بأه لحد ما تقع على جدور رقبتها!

-يعني أعمل ايه يعني وهي هتنقطني طول الوقت!

-هو أنا اللي هعلّمك! ربنا يعدّيها على خير.

فتنهّدت بقلة حيلة قائلة: يا رب!

بدّلت بُشرى ملابسها في شرودٍ تام، لدرجة أنّها لم تأبه لما دار بين والدَيها! فلم يتوقّف بعد صراع القلب والعقل، ومهما سارعت في إخماده لا يتوقّف بل يشتعل أكثر وأكثر، إضافة إلى تلك الغصّة الغير مبرّرة الّتي تشعر بها دون سببٍ واضح!

لا زال يصيح العقل: أيّها القلب الشّقيّ، كم سامك من التّوهّم دون موعظةٍ تليق! لا أدري لماذا تصرّ أن تحيا وسط أوهامٍ لا تنتهي، ستختنق وترديك في العشق غريق! ليتك تنتبه أن لم يأبه لك أحدٌ ليتك تنهض قبل أن تُترك وحدك وسط الطّريق...

بينما القلب يجيبه: أنا أمير الجسد وما شأنك؟ هل رأيتَ أميرًا يأخذ أوامرًا من رعيته؟!

فيجيبه العقل: أرى أنّ الأسلم لنا هو الاتحاد، اتحاد العقل والقلب، فلن أقود بمعزلٍ عنك، فلا يصح أن تقودنا عقولنا بمعزلٍ عن قلوبنا فنغدو جمادًا مجرّدين من الإحساس، وكذلك أنت، لا تقودنا رجاءً! إن تغدو كتلةً من العاطفة سنتفاجأ بأنفسنا تتقاذفها مشاعرنا في كلّ وادٍ بلا هوادة!

لكن رغم كلّ شيءٍ لا زالت تكنّ مشاعرها رافضةً التّراجع مهما حدث! ستمضي في طريق قلبها ولو زادت التّحذيرات!

كانت تعمل في صمتٍ شديد، مركّزة على ما تفعله في فكّ المريضة المستلقية أمامها فقط، حتى قاطعتها صوت إحدى زميلاتها: بشرى يا حلوة عاملة إيه؟

أومأت بُشرى تحييَها محاولةً التّبسّم، وقد خلعت قفّازيَها وها هي تعقّم يديها، بينما تابعت زميلتها: بصراحة يا بُشرى، كنت عايزة أطلب منك حاجة كده.

فتأففت بُشرى: قولي على طول...

سكتت زميلتها فاركةً يديَها ببعضهما البعض وقالت: بصراحة باقي كم حالة برة وكنّا عايزين نباصيها لك.

فتابعت بُشرى بسعادة: هنخرج مع بعض ولا إيه!

-أكيد كان نفسي ده، لكن خليكِ بعدين.

-طب ما نقسّم الحالات على بعض ونخلّص بدري ونخرج...

-لا يا حبيبتي انت مش هينفع تيجي معانا، مش عايزين نضايقك، أصل في موضوعات خاصة هنتكلّم فيها، مواضيع مشاعر وارتباط، وانت مش مرتبطة ولا حاجة فهتتأذي... فبلاها إحراج.

سمعت بُشرى كلماتها الأخيرة كأنّها طُعنت لتوّها، ترقرقت عيناها ثمّ أومأت برأسها رافضة ذاك العرض...

تذمّرت الأخرى وخرجت بخطواتٍ تضرب الأرض من الغضب، بينما بُشرى تتابعها بناظرَيها المترقرقتَين، كانت تعلم أنّهنّ تقمن باستغلالها في العمل لكفاءتها ورحابة صدرها لكن كثيرًا ما كذّبت نفسها وأقنعتها رغمًا عنها أنّهنّ صديقاتٍ ولا بأس من التّعاون... أجل هكذا سمّتها تعاونًا.

ثمّ تساءلت هل الجميع بهذا السّوء؟! أم أنا هي الحمقاء؟! كأنّي كنتُ عمياء وفجأة أبصرت! لقد أحببتهم جميعًا بصدق، لم أتمنّى إلّا أن يظلّوا معي، يجاوروني، يدعمونني، كنتُ أزعم دومًا أنّي أثق بنفسي  ولا يهمّني رأي الآخرين أو نظرتهم لي، لكنّي كنتُ كاذبة... أجل كاذبة، كذبتُ على نفسي وخدعتها، فأنا ضعيفة، هشّة، بل هشّة للغاية، لدرجة أنّي لم أرى نفسي أو ربما لم أراها يومًا من الأساس!

الجميع يكرهونني رغم كلّ شيء ومهما أفعل سيكرهونني... حتى أمّي...

كانت ثابتة مكانها لا تتحرّك أو تطرف عيناها، لم تشعر بأي شيءٍ حولها، فقط كانت غارقة في أفكارها المحبِطة السّلبية، لم تشعر بفيض الدّمع الّذي فاض على شطئي وجنتَيها ولا حتى بتلك الجالسة الّتي تتأمّلها بأسى!

وفجأة استعادت وعيها ماسحة دمعها بسرعة، اتّجهت نحو المكتب منفعلة مفتّشةً في أشياءها حتى وجدت بُغيتها... باكو من الشيكولاتة، وبسرعة بالغة فتحته والتهمته بينما تنهج بقوة كأنما كانت في سباق جريٍ لتوّها!

وفجأة انتبهت لتلك الجالسة أمامها تشاهدها بحزنٍ شديد، تنحنحت بُشرى بحرجٍ محاولةٍ استعادة وضعها، شربت كوبًا من الماء ثمّ سحبت محرمًا ورقيًّا تمسح به فمها بصورة مبالغ فيها لدرجة أن فتحت الكاميرا الخاصّة بهاتفها تعدّل هيئتها!

تنحنحت مرّة أخرى ناظرةً في ملف الحالة الّذي أمامها كي تستعيد حالها وتتذكّر بالضّبط الّذي كانت تفعله، أخذت نفَسًا عميقًا وأخرجته بهدوء ثمّ تحدّثت إليها: دلوقتي إحنا بعد ما فكّينا سلك التّقويم المرّة اللي فاتت وركّبت لك الجزء الثّابت في سنانك من جوة واتفقنا إن ده هيفضل معانا خمس سنين إن شاء الله بشرط لو حسيتِ إنه اتهز أو فك أو في بواقي أكل بينه وبين سنانك لازم تيجي ضروري، وشرحت لك كل ده وإن وارد بعد ما نفك سلك التّقويم السنة ترجع مكانها تاني فاحنا بنثبت شغلنا وده أوبشن مش كل الدكاترة بيعملوه، وعارفة إنه مكلّف هو والجزء المتحرّك اللي هنتكلّم عنه انهاردة، لكن دايما الفينش بتاع الشغل هو الأساس...

فأومأت المرأة الجالسة أمامها، فأكملت بُشرى ممسكة بعلبة بلاستيكية، فتحتها مخرجةً منها قطعتان: دول بنلبسهم واحنا نايمين، جزء للفك العلوي وجزء للفك السّفلي زي ما وريتك ع الكرسي وظبطت الحواف لحد ما ريّحتك، ايه مهمّتهم يا ترى! إن لو حصل والجزء الثابت انكسر أو اتحرّك ده يكون معاك يسند السنة لحد ما تيجي لأن كل لحظة السنة هتتحرّك فيها بترجّعنا من جديد، هتغسليه بالفرشاة بتاعته ومن غير معجون، وهتيجي متابعة كل تلات شهور إن شاء الله أو إذا جدت حاجة أو بدأتِ تشتكي أو تتعوري من الحواف بتاعته، وزي ما قلت لك المتابعة دي كلها وطول الخمس سنين فري إن شاء الله، مش هتدفعي حاجة تاني.

فقالت المرأة: بس أنا كان بآلي أربعة آلاف جنيه من سعر المثبّت ده.

أومأت بُشرى: أيوة عارفة، دول هتدفعيهم انهاردة، ده من سعر المثبّت نفسه، لكن المتابعة والزيارات الجاية كلها دي شغلي أنا، هتدخلي على طول من غير أي دفع ولو حد طلب منك حاجة كلّميني، المهم نكمّل التزام بكلّ التعليمات عشانك انتِ.

وقفت المرأة آخذة العلبة البلاستيكية من بُشرى وصافحتها بامتنانٍ ووجهٍ باشّ قائلة: والله يا دكتور حضرتك مفيش زيّك، غير شغلك المتقن لكن ذوق جدا وما بتزهقيش من شرح كل تفصيلة ربنا يبارك لك ويفرّح قلبك.

نهضت بُشرى وقد مسّتها تلك الأخيرة الّتي قالتها المرأة فارتجفت وترقرقت عيناها مجدّدًا لدرجة شعرت المرأة بارتجافتها من مصافحتها.

ثمّ قالت المرأة ببعض التّردد: والله تستاهلي كلّ الخير، واوعي تلتفتي لسخافة أي حد وثقي بنفسك كده، إنت جميلة وأخلاق وذوق وشطارة... ما تشمّتيش حد بيكرهلك الخير فيك، وما تخليش حد يستغل طيبة قلبك دي واوعي لنفسك يا حبيبتي... ما تأخذنيش على تدخّلي بس التانية دي مستفزة استفزاز... مش عايزة أغلط في حد، والشكل والهيئة ما يعيبوش حد يا غالية، لكن هيكونوا النّضّارة اللي تورّيكي عيوب اللي حواليكِ وتخلّيكِ تفلتريهم وتحطي كلّ حد في المكانة اللي يستحقها، وقبل كلّ حاجة تحطي نفسك في المكانة اللي تستحقيها.

شدّدت في مصافحتها وربّتت بيدها الأخرى على كفّها مومئةً برأسها تبتسم لها، بينما نظرت لها بُشرى ابتسامة حزينة وممتنّة في نفس الآن، وبعد لحظات استأذنت المريضة وغادرتها...

تتبع...

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top