الفصل الأخير 🎨
بقلم نهال عبد الواحد
وخلال رحلة العلاج والتّنقّل بين الأطباء دون جنيّ أي ثمار، لا زالت تعاني وتتألّم، لكنّها أيقنت أنّ لها دور في دفع نفسها إلى التّهلكة...
حين لغت العقل واعتمدت على القلب وحده، على مجرد عاطفة تتحكّم فيها مشاعرها وانطباعاتها دون الرّجوع إلى العقل، عقلها الّذي يتصرّف بحكمة في كثيرٍ من الأمور... خالفته رغمًا عنه!
وصِدقًا عندما يريد العقل ما يرفضه القلب، أو يريد القلب ما يأبى العقل، عندها تبدأ حربًا ضَروسًا بين عقلها وقلبها، حربًا دارت رحاها في نفوسها، حربًا لا ينتصر بها أحدًا! تأذّى قلبها وتعطّل بعض عقلها، نهمت نفسها واضطربت فانطفأت روحها وكادت تغدو جثّةً متحرّكةً كلّ شيءٍ فيها بات وأصبح ينزف! فما السّبيل إذًا؟
وكيف يتصالح العقل والقلب؟ فلا يصح أن تقودنا عقولنا بمعزلٍ عن قلوبنا فنغدو جمادًا مجرّدين من الإحساس! كما لا يصحّ أن تقودنا قلوبنا فنغدو كتلة من العاطفة تقذفنا مشاعرنا في كلّ وادٍ! فلا تستقيم حياتنا إلّا بوضع كلّ منهما في مكانه الصّحيح ليؤدّي دوره الّذي خُلق من أجله، فيجب أن ندرّب أنفسنا على التّحكم بكليهما.
فبالعقل وحده قد نستطيع السّيطرة على كلّ شيءٍ، لكن لن نرضى بشيءٍ، وبالقلب وحده قد يستطيع أي شيء السّيطرة علينا ولن نسعد بشيء!
ليظهر بوضوح أهمية التّوسّط، فنحن أمّةً وسطًا، وسطٌ في كلّ الأمور بلا تفريط ولا إفراط، حتى ولو بدا الأمر ساذجًا، العقل يعمل ويدقّق ويختار أو يرفض مع التّقييم المستمر أمّا القلب لإضفاء الرّوح للحياة دون أخذ أي قرارات انفعالية لا أساس لها سوى بعض المشاعر الفارغة...
هكذا أدركت وفهمت حقيقة أي علاقة وإن كانت لا تزال تعاني من توابع ما حدث، لكن الحقيقة لم تكن حزينة لأنّها فقدت ما ظنّته حبًّا لكن حزنت على نفسها الّتي تسبّبت في إيذائها وظلمها دون وجه حق.
صحيح أنّها تبلي في عملها بلاءًا حسنًا، وضعت حدًّا لاستغلال زميلتها لها في العمل، وإن كانت مهارتها في عملها تتحدّث عنها دومًا، فصار المرضى يجيؤن المركز ويطلبونها باسمها دون غيرها، ممّا أسعدها وزاد من ثقتها بنفسها، فزادت من تطوير ذاتها لتستحق تلك الثّقة.
ربما قد ترتّب على ذلك زيادة العمل، لكن كثرة العمل في حد ذاتها لا تؤلم خاصّةً وهي تُعامل معاملة جديرة وتستحقّها، زاد معها راتبها كما زاد شوق ذاك المعجب الخفي، والّذي لاحظت في رسومه الأخيرة أنّه رسمها بعد أن فقدت من وزنها ما فقدته...
ليتكرّر نفس السّؤال، مَن أنت أيّها المعجب الخفيّ؟ ولماذا تطيل الوقوف خلف الكواليس رغم استشعارها أنّ الأمر ليس مجرد إعجابًا...
هل هو جبانٌ إلى هذا الحدّ؟! أم متابعًا لها بدقّةٍ لدرجة أنّه يدري باضطراباتها الحالية عقب ما تعرضت له؟
لكن قاطع كلّ شيء هجوم حاد دون توقّف للألم ممّا أسفر عن إقامة في المستشفى مع إجراء المزيد من الفحوص لمحاولة السّيطرة على ذلك الألم أو حتى معرفة سببه!
ونتيجة الفحص زيادة تضرّر جزء من جدار المعدة لدرجة حتمية التّدخّل الجراحي لاستئصال ذاك الجزء الصّغير وما ترتّب عليه من توابع تلك العملية الجراحية...
مرّ شهران من توابع العملية الجراحية والالتزام بالتّعليمات والنّظام الغذائي المحدّد بالإضافة إلى المزيد من فقد وزنها لتتحوّل إلى هيئة أنثوية محدّدة المنحنيات دون أن تصبح نحيفة... وهذا في حدّ ذاته إنجازًا كبيرًا!
لتفاجئها أختها بإنجازٍ آخرٍ، حيث جمعت مشغولاتها اليدوية وقامت بحملة ترويج كبيرة لها على صفحات التّواصل الاجتماعي ومنها إلى معرض مفتوح في إحدى النّوادي محقّقةً نجاحًا كبيرًا سعدت به كثيرًا مسجّلةً أسعد يوم في حياتها.
عادت يومئذٍ بصحبة والدَيها إلى المنزل في سعادة غامرة كاد أن يعكّرها لقاء لم يكن بالحسبان...
بينما كانت تصعد درجات السّلام إذ قابلت ذاك المسمّى بعصام! تجاهلته وتابعت صعودها لكنّه ناداها فالتفتت إليه على مضض وردّت: أفندم... يلزم خدمة!
فاستاء لردّها غير المعتاد له وسبّب له حرجًا فسألها: إيه يا بُشرى الطّريقة دي؟ مش متعوّد منك على كده!
عقّدت حاجبَيها بتعجّب وقالت بتهكّم: ده انت مصدّق نفسك بأه!
-مش فاهم، جرى إيه يا بنتي! ده أنا عصام!
-الاسم ده رميته ورا ضهري من زمان أوي وأنا مش ببص ورايا.
قالتها وهمّت بالصّعود لولا أن أمسك بساعدها يوقفها فرمقته بحدّة جاذبةً ذراعها بقوةٍ، فتابع: آسف آسف، بس الكلام أخد وعطا، واحنا ولاد انهاردة، دي المصارين في البطن بتتعارك.
فعقدت ساعدَيها أمام صدرها متسائلةً بضيق: خير! عايز إيه بالظبط؟
-أولًا تبطّلي حدّتك دي معايا، وبعدين محتاجك نرجع زي زمان.
-قول للزمان ارجع يا زمان، وأنا مش موافقة...
-ليه بس؟ ما تديني فرصة!
-جرى إيه! انت نسيت نفسك ولا إيه! مش فاهمة إيه العشم اللي قاتلك أوي ده!
-إيه المشكلة! خلينا صحاب.
فأومأت رافضة باستنكار وتابعت: شكل حصل لك حاجة ف عقلك، أنا مش بتصاحب مع ولاد، وبعدين انت صفحة قطعتها ورميتها من حياتي، ترضى لي أمد إيدي في الزّبالة عشان آخد حاجة رميتها! أكيد لأ، ما هو لو كان لها عازة ما كنتش أفكّر أرميها أبدًا...
-احفظي أدبك طيب!
قالها منفعلًا، فابتسمت ساخرة وقالت: اللي أدامك واحدة تعافت وتخطت مرحلة من حياتها خلاص، تقدر تقول اعتزلت ما يؤذيني وأصبحت بس مع اللي يرضيني ويسعدني ويبهجني، أمّا اللي هيكمّلوا معايا حياتي إن شاء الله فدول اللي شاركوني طريقي ورحلتي في التّغيير لأنّهم أصلًا كانوا شايفيني ومقدّرنّي طول عمرهم وسندوني بطريقتهم لحد ما عديت، أما اللي سابني في نص الطّريق فده انتهى أصلًا، سراب أول ما الشّمس بتطلع بكامل قوتها بيتلاشى وينتهي أمره...
قالتها وتركته مكملةً طريقها بصمودٍ وثقّةٍ دون أن يطرف جفنها أو تلتفت خلفها، بينما وقف هو مكانه محدقًا طيفها بعد أن رحلت مخلّفةً خلفها شعور بالنّدم يتسلّل إليه تدريجيًّا إلى تمام الاحتلال!
بالطّبع بعد ذلك عادت تباشر عملها في المركز الطّبي بكامل كفاءتها، ثقتها وأناقتها، لتتفاجأ بطرقات باب مكتبها فتأذن بالدّخول لامرأةٍ في عمر أمّها بمجرد دلوفها تحدّثت بطريقتها المعتاد: ما كانش العشم أبدًا! إيه الغيبة دي كلّها؟ قطعتِ بيّ وزمايلك اللي هنا دول ما بيفهموش حاجة...
بينما كانت بُشرى تسجّل بعض الأشياء في ملفٍ أمامها فالتفتت إلى مصدر الصّوت! فابتسمت مرحّبةً: يا أهلًا يا أهلًا! اتفضلي حضرتك، صدّقيني كان عندي ظروف.
فاتسعت ابتسامة المرأة وأكملت خطواتها حتى جلست أمامها قائلةً بإعجابٍ واضحٍ وصافحتها بحرارة: بس انت بسم الله ما شاء بآيتِ حاجة تانية خالص! انت كنت حلوة قبل كده صحيح، بس دلوقتي أحلى بكتير بدل ما كنتِ زي التريلة!
فابتسمت بُشرى دون أن تعقّب بينما أكملت المرأة: إيه يا بت أنتِ نستيني ولا إيه!
فأومأت بُشرى نافية: لا لا فاكرة حضرتك كويس، الحاجة صباح... الصبوحة!
فاتسعت ابتسامة المرأة قائلة بانتشاء: يا ختي عليكِ شاطرة ونبيهة ربنا يحميكِ! مش زي زملاتك الحرابيق اللي لا فالحين في شغل ولا عندهم فهم، أنا عارفة ما رفدهمش ليه!
فضحكت بُشرى دون أن تعقّب ثمّ سألتها: المهم طمنيني على صحتك!
-أنا زي الفل يا حبيبتي ولما شفتك بآيت أحسن وأحسن!
-يا رب دايما يا أحلى صبوحة.
-والله قلت البت دي نبيهة وأنا بحبك يا بت يا حلوة انت!
-أشكرك جدًا، طب مش هنبص بصّة على بؤك اللي بينقط شهد ده يا ست الكل!
-ايه يا خواتي الدكتورة المتفصّلة زي الكتاب ما قال دي!
ابتسمت بُشرى مجدّدًا بينما تفقّدت الملف الخاص بالمرأة، فقاطعتها قائلة: ما تكتبيش حاجة ما أنا قلت لك أنا زي الفل... الله أكبر عليّ! أنا الصراحة جاية لغرض تاني.
فأومأت بُشرى: اتفضلي.
فما كانت لحظات حتى طرق الباب فأذنت بالدّخول، وكان مصطفى، نفس الشّاب الأسمر الّذي قابلته ذات يوم فعقدت حاجبَيها بتعجّبٍ وقد تذكّرته، فهمّت أن تبتسم لولا سؤالها بجدّية: لو سمحت حضرتك مين أذن لك تدخل هنا؟!
فأجابت صباح: ده ابني يا حبيبتي...
فتابعت بُشرى بنفس جديّتها: بس حضرتك أنا مش بتعامل مع رجال، يا ستات يا أطفال، احجز حضرتك عند دكتور تاني، طلبك مش هنا...
فتابع بلطف: لا طلبي هنا.
فارتبكت وسألته: بس أنا ما فهمتش برضو حضرتك مين وعايز إيه؟
-أنا ابنها...
فقاطعته مكملةً: حضرتك أمك الصبوحة وخالتك مدام صابرين، عارفة، بس برضو ما فهمتش عايز إيه رغم إني وضّحت إني مش بشتغل مع حالات رجال... وازاي أصلا السكرتارية دخّلوك؟!
-السكرتارية ما يقدروش يمنعوني، بس اديني فرصة أكمّل كلامي بعد إذنك!
فتدخّلت صباح ضاحكةً: اسم الله عليها حمقية طالعالي.
فنظر إليها ابنها ثمّ فتح حقيبته مخرجًا ورقة كبيرة فتعلّقت عيناها بتلك الورقة وقد اضطربت كثيرًا حتى اقترب منها مقدّمًا لها تلك الورقة، ابتلعت ريقها بتوترٍ ومدّت يدها بارتعاشةٍ فأخذتها، وما أن وقعت عيناها عليها حتى خارت قواها فجأة لكنّها تمالكت نفسها حتى جلست لكنّها لم تفلح في إخفاء حالتها.
تحدّثت مصطفى بلهجة متيّم: أنا المعجب الخفي اللي أسرتيه من أول يوم شافك فيه، ومهما كان ردّك أنا هكمّل كلامي للآخر وأستأذنك تسمعيني...
فرفعت عينَيها إليه وقد ماجت داخلها مختلف المشاعر المختلطة دون أن تعقّب، فأكمل: أول ما استلمت إدارة المركز وشفتك وانا حسيت بإحساس غريب شدّني لك عمري ما حسيته...
فجحظت عيناها فأكمل مومئًا: أيوة أنا صاحب المركز، أنا اللي طول الوقت كنت متابعه كويس جدًا، عرفت عنّك كلّ حاجة وحفظتها وحفظتك، أعترف إني ما كنتش لاقي المدخل المناسب اللي أعترف لك به إلّا طريقة الصّور، حسيت إنّها ممكن تعبّر عن مشاعري، لكن الموضوع طوّل أكتر من اللّازم، شوفتك بتنهاري وتابعت حالتك مع والدك اللي اتفاجئ إني شاب مش راجل كبير في سن المرحوم أخويا، أنا مش جبان كل الحكاية إني ما رضتش أفرض نفسي عليك، ما رضتش أحسسك إنّك مجبرة تحبيني و...
فقاطعته قائلة: بس أنا عمري ما توقّعت إن اللي بيرسم الصور دي ويبعتها لي شخص جبان، بالعكس خالص، أنا كبنت حالمية حبيت الطريقة أوي ولمستني جدا وأثّرت فيّ، كلّ صورة مش مجرد صورة مرسومة وخلاص، لأ، حسيت إن فيها تفاصيل ورسائل عميقة جدًا كأن اللي رسمني ده فعلًا عارفني وحافظني كويس وحاسس بي أوي، لكن بسبب غرابة التوصيل وإني كنت دائما بلاقيها ف شنطتي فجأة بدون مقدمات فتوقعتها من الشخص الغلط وده سبّب لي مشكلة...
فقاطعها: بس ف نفس الوقت فتّح عينك وخلّاكِ تشوفي نفسك وحياتك بطريقة أفضل، دفعك لتغيير حقيقي ذاتك ورفع قدرك أكتر وأكثر، وإن كنتِ جميلة في الأساس، زي اللّؤلؤة جميلة وغالية بس مش أي حد يعرف يلاقيها.
فأطالت النّظر إليه ثمّ أخفضته متوتّرةً وقد تخضّبت وجنتَيها بحِمرة الحياء دون أن تعقّب، فتدخّلت صباح بسعادةٍ بالغة: هه يا عروستنا!
فانتفضت بُشرى وقالت بتفاجؤ: عروسة إيه؟
فتحدّث مصطفى: لحظة واحدة يا ست الكل، بالراحة عليها...
فردّت بُشرى بتوتّرٍ: مش قصدي حاجة، بس رغم كل ده أنا ما اعرفكش و...
-حقك يا ست البنات، وأنا معاك ومش مستعجل على حاجة واحب أعيش كل مرحلة على مهلي بكل تفاصيلها.
-بس أنا مش حرّة نفسي و...
-بالنسبة للحاج والدك فاحنا أصلا على تواصل من زمان، من أيام تعبك وصراحة قبل ما اجي لمّحت له... نيجي امتى نشرب القهوة معاه؟
لتتذكّر كلمات السّيدة صابرين لها: عيشي حياتك وهتلاقي كرم الله وعوضه وأجر كبير في انتظارك...
فردّت على استحياءٍ فاركةً يدَيها ببعضها البعض متوترة: كلّم بابا... وزي ما يقول...
تمت بحمد الله 💜
16/6/2024
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top