(9)
بقلم :نهال عبد الواحد
وجم وليد وتجمد مكانه، نظر نظرة طويلة لأمه ثم جرى مسرعًا إلى غرفته وأغلق عليه بابه، جلس في الأرض يبكي بشدة ويرتفع نحيبه مثلما كان صغيرًا وتضربه أو تعنفه أمه.
وبعد بكاءٍ طويل دخل الحمام وفتح الماء فوق رأسه ولازالت دموعه تنهمر وبعد فترة أغلق الماء وجفف شعره ثم خرج ونظر إلى ساعته وقد قارب الفجر على الأذان فذهب وتوضأ وصلى العشاء وبكى كثيرًا لكن هذه الدموع مختلفة، هذه المرة هي دموع التوبة و الخشية من الله -رزقنا الله وإياكم حلاوة الخشوع وخشية الله-
ثم نهض واتجه إلى المسجد الذي كان قد اعتاد الذهاب إليه ثم انقطع ودخل المسجد ولم يكن هناك غير الإمام جالسًا يقرأ القرآن.
فدخل وصلى ركعتين ثم اقترب من الإمام ومد يده مصافحًا له وكان الإمام يعرفه.
فبشّ الإمام وسأله برفق: إيه يابني غيبتك طولت! روحت فين؟
فرد وليد على استحياء: الدنيا بتخبط في يا شيخنا!
- وإيه الجديد ماهي دنيا!
فسكت وليد ونظر إلى الأرض في حرجٍ شديد فلا يجد ما يقوله، فأكمل الإمام: شكلك رجعت!
فهز وليد رأسه بأن نعم على استحياء، فتابع الإمام: أول التوبة يا بني الشعور بالندم وإنك تحس إنك مخطئ وده أنا شايفه، كمّل بأه، وإوعى ترجع للذنب تاني.
- أنا حاسس إن ربنا ما قبلش توبتي عشان كده رجعت تاني.
- حاشاه! ربنا رحمته واسعة، ده بيتوب على الكافر إذا تاب ويبدل سيئاته حسنات، لكن الشيطان مش هيسيبك بسهولة تروح منه لازم يغويك كل شوية ولازم انت تقاوم وتفضل تستعين بالله وتدعيه يثبتك لأنه كل شوية هيدخلك من مدخل، بس إوعى يدخلك ويشكك في توبتك لربنا وإنت تصدقه فتيأس إنك تتوب تاني، إجمد وخليك قوي واستعين بالله وكمل في طريق الله حتى لو زاحف على بطنك بس إوعى ترجع.
وأذن أذان الفجر ثم قام المصلون وصلوا جماعة وجلسوا جميعًا في مقرأة للقرآن حتى شروق الشمس وعاد وليد يشعر بخفة في نفسه وأنه أحسن حالًا.
أتيت بذنبي يا نور فؤادي
فهل ترضي عني وقد فني زادي
هل للمسئ رجاء في رحمة وعطاء؟
هل تقبل الأعذار من مثلي يا غفار؟
هل للعيون تنام ندما على الأيام ؟
يا صاحب الإحسان إلهي يا منان!
جئت يا كريم عدت يا رحيم تبت يا إلهي
نام وليد واستيقظ قبيل الظهر ونزل فوجد أمه على وشك الخروج ذاهبة لشفق فناداها وليد: ماما!
فتوقفت في مكانها دون أن تلتفت نحوه فجرى عليها وأخذ يقبل رأسها كثيرًا ويديها قائلًا بندم: خلاص يا أمي، خلاص والله، حقك عليّ، أنا رجعت وتبت والحمد لله ويارب يثبتني! بس إنتِ سامحيني، كله إلا زعلك!
فربتت على كتفه واحتضنته بحنانٍ وقالت: الحمد لله ياابني كله فضل ونعمة من الله.
فنظر إليها متسآلًا: انتوا رايحين على فين كده؟
- ماانت مش عايش معانا، إحنا كل يوم بنروح نقعد معاها ونرجع بليل.
- لسه تعبانة!
- لا إتحسنت كتير الحمد لله.
- عرفتِ سبب اللي حصلها؟
فربتت على كتفه وابتسمت وقالت: شفق ما تعرفش إنك ابني، مش كده؟
فأومأ وليد: لا ما تعرفش.
وهنا نادته شفق: يا بابي! إيه هوا أنا ولا إيه! ولا بصتلي ولا عبرتني! مش وحشتك يعني!
فنظر نحوها ثم وجم مكانه ونظر لأمه فهزت برأسها أن نعم فكأنه لم يراها من قبل! ذلك الوجه الذي صار أكثر شحوبًا والشفاه المائلة للإزرقاق فاحتضنها وقبلها ثم وقف يحاول الابتسامة لابنته قائلًا: باي باي يافوفي.
ثم وجه حديثه لأمه هامسًا: هتصرف ف أسرع وقت إن شاء الله.
مرت الأيام ولازالت هالة وشفق يوميًا عند شفق ووليد بين عمله ومراسلاته للأطباء حتى وجد الطبيب المناسب وبدأت الإستعدادات للسفر.
وذات يوم بينما كانت هالة عند شفق في شقتها.
قالت هالة لشفق: كنت عايزة أتكلم معاكِ ف حاجة حبيبتي.
- إتفضلي يا ماما!
- إحنا خلاص ربنا كرمنا ووصلنا لدكتور مناسب هيعمل العملية لشفق.
فصاحت شفق بسعادة غامرة: بجد! ألف حمد وشكر ليك يارب!
- وطبعًا عارفة إن العمليات من النوع ده التعافي منها بيحتاج لوقت وكمان بتحتاج لفترة نقاهة.
- أيوة فعلًا، عمومًا لسه بدري على بداية العام الدراسي وحتى لو بدأ ما تقلقيش هتصرف.
- مش ده قصدي حبيبتي.
فنظرت نحوها شفق باستفهام، فأكملت هالة: شفق محتاجة لحد مهم يفضل جنبها طول الفترة دي وما يسيبهاش، حد بتحبه أوي ويكون قريب منها جدا، الحد ده يبقى إنتِ يا شفق.
- أنا مش فاهمة حاجة.
- عايزاكِ تسافري معانا وتقيمي معانا لحد ما شفق تخف تمامًا، انت عارفة إنها محرومة من أمها وانت الوحيدة اللي قدرتِ تملي الفراغ ده، والوحيدة اللي تقدري تسانديها الفترة الجاية، وبعدين أنا بصراحة ما قدرش أسافر وأسيبك لوحدك كل ده من غير ما أطمن عليكِ.
- بس حضرتك......
- أنا عارفة إنها حاجة مرهقة ليكِ حبيبتي وإنتِ مش ملزومة بيها.
- لا لا لا مش ده قصدي أبدًا، بس أقيم معاها! المنظر العام يعني، وبعدين باباها هيقول على إيه! لا لا دي صعبة أوي!
- لا هيقول ولا هيعيد، هو عارف ومرحب، مالكيش دعوة إنتِ وافقي وبس، ويا دوب عشان نلحق نجهز الأوراق وأنا معاكِ ف كل خطواتك ماتقلقيش والله! مش إنتِ بتعتبريني أمك!
- ربنا يعلم والله.
- يبقى خلاص وافقي.
وبالفعل وافقت شفق مع إلحاح من هالة وبدأت تخرج معها يوميًا لتجهيز الأوراق الخاصة بالسفر وشراء الملابس والمستلزمات وصار كل شيء على أتم استعداد.
لم تنسى شفق وليد طوال تلك الفترة، لكن عدم ذهابها إلى الفيلا جعلها لم تراه منذ زمن واستحت من السؤال عنه لكن لازال في قلبها ربما قد انشغلت عنه في فترة مرضها بسبب الحالة التي كانت فيها وما مرت به، لكنه الآن صار محتلًا لكل تفكيرها وتتسآل بداخلها هل لازال يذكرها! هل من لقاء يومًا؟
وجاء يوم السفر وذهبت شفق مع الطفلة وهالة إلى المطار ووقفن تنتظرن والد شفق وشفق في قمة توترها فلم يجمعها لقاء به سوى ذلك اليوم الذي صاح بوجهها عندما كانت شفق في المشفي.
لكن لماذا يدق قلبها بهذه الطريقة؟! مؤكد من التوتر والخوف.
إهدأ يا قلبي ! مالك صرت تدق بمناسبة وبدون مناسبة!
هكذا تحدث نفسها.
لكن فجأة إذا بصوتٍ تعرفه جيدًا يأتي من خلفها، صوتًا تعشقه واشتاقت إليه وإلى سماعه كثيرًا، لكنها ظنت أنها مجرد تهيؤات من شدة اشتياقها إليه.
لقد أُصبتِ بهلوسة سمعية يا شفق تسمعين كل الأصوات صوته، وربما لا أحد ينادي من الأساس.
هكذا تحدث نفسها مجددًا.
لكنها لاحظت نظر هالة مركزًا خلفها كما أن شفق اتجهت تجري خلفها فالتفتت إلى مصدر الصوت.
صاح وليد محتضنًا ابنته: حبيبة بابي!
نظرت شفق نحوه وأخفضت طرفها مسرعةً إنه حقًا وليد!
وليد والد شفق! يا لحماقتك! إن شفق تدعى شفق وليد عوني، وكيف لعاملٍ بسيط في رأيك أن يتجول داخل حديقة الفيلا بتلك الحرية؟!
لكنه لم يقل لك يومًا أنه عامل أنت من ظننتِ ذلك بحماقتك.
كانت شفق شاردة في أفكارها وأغمضت عينيها للحظات كأنها تحاول استعادة توزانها، وبالطبع كانت أعين وليد مسلطةً عليها.
قالت هالة: إتأخرت كده ليه ياوليد؟
- معلش يا ماما كنت بقفل شوية حاجات - ثم التفت نحو شفق مبتسمًا ابتسامة رائعة أظهرت طابع الحسن خاصته من بين لحيته الخفيفة وأكمل- إزيك يا ميس شفق؟
أجابت شفق بفجأة وقد تخافت صوتها: هه! ثم قالت: أهلًا وسهلًا.
تشعر الآن باضطرابٍ كبير فقد زادت المسافة أكثر وأكثر، بل بات الأمر مستحيلًا؛ في السابق كانت تحمل هم مصارحة وليد البسيط فما بال الآن وهو وليد عوني رجل الأعمال الثري.
NoonaAbdElWahed
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top