(14)

بقلم: نهال عبد الواحد

ظلت شفق جالسة في فراشها تقرأ كتابها حتى سمعت صوت أقدام تصعد ثم تقترب فأدركت أنه وليد فأغلقت الكتاب ووضعته مسرعة ثم نامت على وسادتها.

دخل وليد فوجدها نائمة أو ربما شك في ذلك فاقترب ناحيتها وأمسك بالكتاب وتصفح فيه ثم وضعه مكانه جانب السرير على الكوميدون ثم نظر نحوها.

لاحظ وليد اضطراب تنفسها فتأكد أنها ليست بنائمة فذهب لتبديل ملابسه ثم جلس على أريكة مقابلة للفراش، ظل ناظرًا إليها لفترة ثم أخذ نفسًا عميقًا، أغلق النور، أخذ غطاءً ووسادة ثم دثّر نفسه ونام على الأريكة.

لم تكن شفق قد نامت بالفعل بل ظلت تنظر نحوه عبر ذلك الضوء الخافت المتسلل من زجاج الشرفة حتى غلبها النعاس.

استيقظت شفق نظرت في الساعة لتجده وقت صلاة الفجر وكانت المرة الأولى التي تنام فيها منذ سنواتٍ طويلة دون قلق ولا فزع فنهضت لتصلي فوجدت فراش وليد فارغًا فتأكدت أنه قد ذهب للصلاة.

توضأت وصلت ثم جلست في الشرفة تقرأ وردها القرآني، أمامها هذا المنظر البديع ورائحة الندي والزهور يبعثها الهواء إليها حتى انتهت ووضعت مصحفها جانبًا، رفعت رجلها على الكرسي المقابل ثم أغمضت عينيها مستنشقة النسيم العليل، لكنها سقطت في سِنةٍ من نوم ولم تشعر إلا بدفء أشعة الشمس فانتبهت لحالها ونظرت كم يكون الوقت! إنها العاشرة!

نهضت لتصلي الضحى فوجدت أن وليد ليس بالغرفة، لكن يبدو أنه قد جاء بعد صلاة الفجر دون أن تشعر به لأن منامته موضوعة جانب فراشه فرتبت الغرفة والفراش ثم أخذت ملابسه لتعلقها لكنها قربتها تشتمها، فيها رائحة عطره فاحتضنتها وابتسمت ولم تفهم لماذا هي سعيدة الآن!

خرجت شفق من الغرفة ولاتزال مرتدية حجابها بشكل تلقائي فوجدت وليد جالسًا مع أمه لتناول الإفطار وبدا وليد من هيئته أنه خارج.

هتفت شفق مبتسمة: صباح الخير.

أجابت هالة بنفس الابتسامة ووليد باضطرار: صباح النور.

ودت شفق لو تسأل وليد لأين سيذهب لكن قد سبقتها هالة: رايح فين يا وليد لوحدك وبدري كده؟!

- ورايا مشاوير.

- مشاوير إيه لعريس لوحده يوم صباحيته! ما تقولي حاجة لجوزك يا شفق!

قالت هالة الأخيرة باعتراض، فتابعت شفق بتوتر: هه! هو.. هو أدرى بمصلحته يا ماما.

- إيه الكلام ده! الناس تقول إيه!

نبس وليد من بين أسنانه على مضض: يقولوا اللي يقولوه ما يهمونيش.

- طب مسافرين إمتى عشان الهني مول؟

- بعدين يا ماما مش فاضي.

- الدراسة هتبدأ ومراتك هترجع شغلها.

- ربنا يسهل.

- كويس إنك وافقت إنها تشتغل.

- عادي براحتها، ثم أكمل بلهجة أمر: بس المدرسة وبس، حكاية الدروس طول اليوم دي فكرة مرفوضة تمامًا، ما تنسيش إنك حرم وليد عوني.

فأومأت شفق: حاضر تمام.

كان وليد ينظر إلى الطبق الذي أمامه رغم أنه كان لا يأكل يقلب فيه فقط.

نظرت هالة بينهما ثم قالت: خدي راحتك ياشفق ده بيتك، حبيبتي لابسة الحجاب كده ليه؟ مفيش رجالة هنا ولا حد غريب.

فتمتم وليد بصوتٍ خافت: غبية!
ثم أكمل بصوتٍ واضح: تقدري تاخدي راحتك عادي، الحرس اللي برة ما يقدروش يقربوا حتى م التراث اللي برة من غير ما يتصلوا أو حد يطلبهم.

ثم هب واقفًا وقال: أنا ماشي.

تابعت هالة بمكر: إيه يا وليد من أولها كده! مش تسلم على مراتك قبل ما تخرج! هي صحيح ف حضنك طول الليل بس أكيد مازهقتش منها.

فصاح بصدمة: نعم!

تابعت هالة بضحك: مالك يا واد! هو أنا غريبة! شكلك عايز بنتك تستلمك، سلم على مراتك وبوسها قبل ماتنزل وبطل بواخة.

فاضطرب كلًا من وليد وشفق من طلب هالة فصار وجه شفق شديد الحمرة وبصرها يزوغ في كل اتجاه بينما وليد يفرك تارة في رأسه وتارة في يديه فلم يحسب لتلك الورطة في حسبانه.

فاضطر في النهاية لتنفيذ طلب أمه حتى لا تكثر في حديثها وهَمّ بفعل ما طلبت أمه من باب أداء الواجب لكنه تفاجأ بنفسه ما أن إنحنى نحوها ليقبلها إذ شعر بشوقٍ ولهفة شديدة وإحساس جارف يجذبه فأغمضت عينيها وأغمض عينيه، أنفاس عميقة لم يعلم كم مضى من الوقت وهو يقبل خدها بعمقٍ وعشق انفلت منه لم يقدر على كتمه، لكنه ابتعد فجأة ولملم نفسه ماسحًا على شعره بيديه كأنه لم يحدث شيء وانصرف وهو يقرر بداخله ألا يعيدها مجددًا ولا يحتك بها على الإطلاق، فلن يقوى على تحمل ذلك.

وبعد أن انصرف.

سألتها هالة: طمنيني عليكِ حبيبتي.

- الحمد لله، إطمني يا ماما.

- أنا كده مش فاهمة حاجة ، هو......

فهزت شفق برأسها أن لا، فأكملت هالة: أمال أنا حاسة إن وشك رايق كده، حتى إمبارح الفرحة كانت باينة على وشكم وكأن الضحكة خارجة م القلب.

- مش قولتِ اللي بيمثل الفرحة بيفرح بجد، أنا أول ما لبست الفستان الأبيض وشوفت نفسي بيه وحطيت إيدي ف إيده وبدأت الزفة أنا فعلًا كنت سعيدة، حتى هو، رغم إنه كان ف الأول بيمثل دور العريس بس حسيت بعد كده إنه إندمج ف الفرح.

- بس أنا شوفته بليل ف الجنينة لوحده.

فهزت رأسها بأن نعم ثم قالت: بس لأول مرة أعرف أنام كام ساعة من غير ما أقلق ولا أبقى مرعوبة ولا مفزوعة، وجوده معايا ف نفس المكان يا ماما ده لوحده إحساس رائع.

- آه وبعدين.

- ربنا يسهل، لسه ما آنش الأوان يا ماما.

- مش فاهمة إزاي شافك وسكت عادي كده! انت كنتِ لابسة إيه؟

- عادي يا ماما، بيجامة بكم.

هالة:بيجامة بكم ليلة فرحك! لا لا ما ينفعش الكلام ده! طب إلبسي حاجة عدلة تبين جمالك، عايزاه لما يجي عل غدا يتفاجئ.

تنهدت شفق قائلة: مش هيجي عل غدا يا حبيبتي، يعني تفتكري العريس اللي ينزل ويسيب عروسته ف الصباحية ممكن يرجع يتغدي معاها!

- على رأيك، ده إيه الراجل ده! عمومًا ما تزعليش نفسك يا حبيبتي.

مرت الأيام ولم يتغير الحال وصار يتلاشى لقاءها تمامًا خاصةً وقد بدأ العام الدراسي ولم تعد مواعيدهما تتقابل إطلاقًا.

فهو يذهب لصلاة الفجر ولا يعود إلى المنزل إلا بعد موعد خروجها إلى المدرسة هي وشفق فيعود إلى البيت وينام حتى قبيل الظهر ثم يستيقظ ويخرج ولا يعود إلا ليلًا بعد تأكده أنها قد نامت أو متصنعة النوم.

مر شهر بعد شهر والحال هو الحال وقد نفذت كل حجج هالة التي تصبّر بها شفق حتى صارت لا تجد ما تقوله متحرجة منها ولا تملك إلا الدعاء لهما في سرها.

ورغم رضا وقبول شفق بهذع الحياة إلا أن طاقتها بدأت تنفذ وأحيانًا كثيرة تنهار وحدها من البكاء.

ووليد أيضًا صار لا يطيق هذا الوضع ولا يعرف كيف يتصرف! فهو يتعمد تجاهلها وتعنته بأوامره حيث يترك لها ورقة مكتوب فيها كل أوامره ربما كان ينتظر منها خطأ ما ليقنع نفسه بسوءها وأنها تستحق ظلمه لها أو ليريح قلبه بذلك.

لكن ما كان يحدث أنها تنفذ كل شيء ويجد نفسه يعشقها أكثر وأكثر ومهما ابتعد حتى لا يضعف أمامها كما يحدث نفسه أصبح لا يشعر بأي راحة وقلبه يصرخ فيه أن كفى!

وأكثر ما زاد غضبه أنها نفذت كل أوامره بالحرف فلم تحاول إطلاقًا الاقتراب منه بأي طريقة وذلك جعله لا يفهم هل تلك طاعة أم أنها قد ملت واكتفت منه!

وذات يوم عادت شفق والطفلة من المدرسة وجلستا معًا لكتابة الواجبات والمذاكرة كما هو المعتاد يوميًا ثم المفترض أن تجلس مع هالة قبل أن تذهب إلى غرفتها لتعد ملابسها وتحضر بعض الدروس أو تكتب بعض التقارير حتى تنتهي من عملها وتذهب لفراشها.

لكن لم تكن هذه الليلة على ما يرام فكانت تشعر بضيقٍ كبير وكانت في أسوأ أحوالها فاعتذرت لهالة بحجة أنها تعاني من صداعٍ شديد، لم تعترض هالة فهي تعذرها وتشفق عليها من جفاء ابنها وتجاهله لها بهذه الطريقة فلم تتصور أبدًا أن يستمر في معاقبته لها لكل تلك الأشهر.

دخلت شفق غرفتها، أخذت حمامًا دافئًا ربما تهدأ وتستطيع النوم واعتادت عدم عودة وليد إلا متأخرًا فخرجت من الحمام تلف نفسها بمنشفة فوق ركبتها وشعرها المبتل منسدل على ظهرها وكان شعر طويل لكنها كانت دائمًا تجمعه للخلف أو ترفعه لأعلى.

تذكرت الكثير من الخواطر التي تود كتابتها في مذكّراتها فجلست لتكتبها قبل أن تنساها وبذلك تنفس عن نفسها وتستطيع النوم.

وما أن جلست و بدأت في الكتابة حتى بكت بكاءً حارًّا وانهمرت دموعها وهي لا تزال تكتب.

وبينما هالة لا تزال جالسة تشاهد التلفاز حتى وجدت وليد قد جاء.

فهتف: السلام عليكم ورحمة الله.

- وعليكم السلام ورحمة الله، تتحسد إنهاردة! جاي بدري يعني!

- مصدع شوية.

- ارحم نفسك م الهدة اللي انت فيها، وارحم مراتك ولا عشان ما بتتكلمش سايق فيها.

فقال وهو يتلفت حوله ويبحث بعينيه عنها: أنا جاي بدري أهو كنت لاقيتها مستنياني يعني! أهي نامت ولا على بالها.

- يا أخي حرام عليك! هي كمان هلكانة ف شغلها وبتصحى م النجمة يادوب بتطلع تكتب شوية شغل وتحضيرات وتنام يا قلبي، وإنت عارف كده ومع ذلك لا عمرك جيت اتغديت ولا عمرك جيت بدري، قُل لي كده آخر مرة شوفت مراتك فيها ولا كلمتها! وأنا اللي كنت معشمة نفسي إني هشوفلك عيال!

صاح وليد بفجأة: عيال!

قوست هالة شفتيها بعدم رضا: بقول كلام غريب طبعًا عيال إيه! مش لما تشوف مراتك أصلًا ولا تتقابل معاها!

- ماما!

- يا أخي لا ماما ولا بابا، مش ناقصة فقع مرارة، أنا طالعة أنام تصبح على خير.

وتركته وانصرفت وهي تدعو له من داخلها أن يهديه الله ويسعده مع زوجته وينعم عليهما بالذرية الصالحة.

NoonaAbdElWahed

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top