Sixteen.


ألا تشعُرُ يومًا أنكَ تتخِذُ أكثَرَ القراراتِ صرامة بحقِ قلبِك, في أشدِ الأوقاتِ إيلامًا؟


كيف لهُ أن يصِف حالَ ذاتِه راهِنًا؟

تائِه؟ مُتألِم؟ مَكسور؟ أم كُل ذلِك جميعًا مع شيءٍ مِن المزيد؟

أباحَ لعينيهِ بهطلِ الكثيرِ مِن الدموعِ في اليومِ الذي وصلَ بهِ إلى الحاضِرِ ثانية, وقتٌ طويل مِن البُكاءِ في حِضنِ والدتِهِ على أرضِ القبوِ اللئيمة, كانَت بارِدة و قاسية كما لَم يعهَد يومًا.

لَم يقدِر حتى على النظَرِ في عيني والدِه, ماذا هُناك ليقال؟

هو نجَحَ, أنقذَ روحًا بريئة, حمَل بِها إلى بَرِ الأمان.

لماذا إذاً يشعُرُ أن جميعَ أفكارِهِم التي تحومُ بينَ جُدرانِ القبوِ رثاءٌ مِن نوعٍ ما؟

التاسِعة وخمسٌ وأربعونَ دقيقة.

كانَت جميعُ أيامِهِ تِلك ساعة واحِدة في حاضِرِ أبويه.

ساعة واحِدة, قرَرَت فيها الحياةُ وهبهُ مِن تجارِب العيشِ مالَم يعرِف طوالَ سنواتِ مُكوثِهِ على هِذِهِ الارض.

ارتعبَ أكثَرَ مِما فعَل طولَ حياتِه, أحسَ بحنوٍ لا مثيلَ لَه, شعرَ بأخوةٍ صادِقة, وبأملٍ فعلي.

والأهم, تورّدَت داخِل قلبِه زهورٌ باهية, مشاعِر مُعقدة, مُركبة كأحجية دونَ معالِم ظاهِرة.

أتكونُ تِلك أطايبُ الهيام؟

أيحِقُ لهُ حتى تسميةُ تِلك المشاعِر بهذا؟ كلِمة واحِدة صلبة, هيام؟

ألَم تكُن ماتيلدا قَد أحيَّت في صميمة قلبِه أنواعًا مِن المشاعِرِ لَم يكُن بشرٌ قَد سبق بإحيائِها فيه؟

أيًا ما تكونُ تِلك الأحاسيس, إلى أي ثورانٍ قد وصلَت, في أي جمالٍ قّد أصبحَت, جميعُها انتهَت.

ولا سبيلَ لَها مِن عودة.

حتى الحِقدُ الوليد داخِل قلبِهِ اتجاهَ والدِهِ عرفَ إلى الفناءِ سبيلاً.

كيفَ لهُ أن يلومَه؟ لَم يكُن هذا بأي طريقةٍ خطأه, كانَت تِلك مُهمة أخرى, عملٌ مِن أعمالِ العائِلة, أكمَلَ هو وظيفتهُ بإرشادِهِ على أحسنِ وجهٍ, وطلبَ مِنهُ العودة إلى الحاضِرِ عِندما استَطاعَ خَتمَ الطريقِ وإكمالِ المُهِمة.

كانَ جميعُ هذا مما هو فيهِ مِن بؤسٍ خطأهُ هو, هو مَن سمحَ لقلبِهِ بأن يطيشَ, هو مَن أذِنَ لنِفسِهِ بأن يتعلَقَ بهِم, هو مَن رضيَ أن يدخُل في هواها, ليسَ لهُ مِن حقٍ أن يلومَ أباه, أو أي أنسيٍ أخَر, لا يجبُ أن يلومَ شيئًا سوى ذاتَهُ وقلبَهُ الفتي.

ولأنَ كُل تِلك المشاعِر لا تبدو سوى مهزلة عظيمة, وتفاهة شديدة, لا طريقَ لها أبدًا مِن واقِع.

فهو, من بينَ جميعِ البشَر, قَد اكتسَحتهُ مشاعرُ ودادٍ لفتاةٍ لَم تسكُن أرضَهُ ولا حتى وقتَه, فتاةٍ لو حَسبَ على أنامِلِهِ المُرتجِفة الأنَ لوجدَ تكبُرُه بعقودٍ عديدة, فتاةٍ لَن يستطيعَ الوجودَ في أي مكانٍ قُربها حتى لو انطبقَتِ السماءُ على الأرض.

مكَثَ حياتَهُ بقلبٍ صافٍ إلا مِن أعجابٍ عابِر, كي يأتي يومٌ يفقِدُ فيهِ أقربَ أحاسيسِه إلى الواقِعِِ تتيمًا ِ, عندما كانَ على بُعد خطوةٍ مِن مشاعِرَ كامِلة, توجَب عليهِ إنهاءُ كُلِ شيءٍ يبديهِ الخاصتين.

أليسَ هذا محضُ تَرح؟

لأنَ استمرارَ هذا الشغفِ بينهُ وبينها دونَ أملٍ تمامًا, نوعًا ما كمحاولةِ حِفظِ حياةِ كلبٍ هَشمَت عُنقَهُ عجلاتُ سيارةٍ على طريقٍ سريع في النِصفِ الأخيرِ مِن الليل, فقط مُستحيل.

ليسَ هُناك أسوءُ مِن كُل هِذا, سوى حاجتَهُ لِلعودةِ إلى الحياةِ التقليدية كباقي البشَر, كانَ عليهِ في يومِ الأثنينِ العودة إلى مدرستِهِ وعيشَتِهِ الرتيبة, التصرفُ باعتيادية وكأنَه لَم يخُض أقسى أيامِ عُمرِهِ في إجازةِ الأسبوع, التفاعُلِ مع مُحيطِهِ وكأنَ قلَبَهُ لَم يُدكَ إلى حطامٍ أبدًا.

ألَم تكُن مُهمة أخرى بعدَ كُل شيءٍ؟

لذا قضى ما قاربَ الأسبوعَ طولًا , أسبوعٌ امتدَت أيامُهُ لِما بدا الأزَل, يحاوِلُ النسيانَ, يقاسي ليعيش, يتواصلُ بالقشورِ مع الباقين, بينما هو يشتاقُ لشخصٍ لن يكونَ مِن نصيبِهِ أبدًا.

اليومُ الجُمعة, غادَر المدرسةَ على عجلٍ ليسَ بقليل, لَم يكُن سوى يريدُ الهَربَ مِن مُلاحظاتِ أصدقائِه لتغييرِهِ المُفاجِئ, حتى لو حاولَ بأفضلِ طُرُقِهِ أن يبقى على ملامِحَ خيرَة أمامَهُم, يبقى هُناكَ البعضُ مِمن يستطيعونَ القراءةَ بينَ السطور, وكيف سيكونُ هو شارِحًا للأمرِ؟

وِجهاتٌ كثيرة في أرجاءِ حي المدرسة حيثُ يُمكِنُهُ سحبُ قدميهِ, الحديقة العامة المُكتظة بأطفالِ الابتدائية, عرباتُ الطعامِ فاقِعةِ الألوانِ بينَ مُحيطِها الباهِت, والمقهى الواسِعِ الذي دائِمًا ما يكونُ مُمتلِئًا بالمراهقينَ الذينَ يرونَ في إيجادِ مكانٍ فارِغٍ داخِل المكانِ فوزًا عظيمًا, هو في الواقِعِ إنجازٌ لا يستهانُ بِهِ، إذ أن الجميعَ يتجِهُ إلى هُناك, لأسبابٍ عديدة مِنها زُهدُ الأسعارِ وتوافُقُها مع ما تحمِلُهُ جيوبُهُم اليافِعة مِن أموال.

هو عادة يحصلُ على مشروبٍ قبلَ سيرِهِ في الأرجاءِ, لذ وقفَ في الطابورِ المديدِ ينتظِرُ دورَه في الطَلبِ, حصَلَ على قهوةٍ مُثلجة مِن العيارِ المُتوسِطِ وخرجَ مِن الطابورِ سامِحًا لمَن وراءَهُ بالتقدُمِ.

كانَ المكانُ مُزدحِمًا و فوضويًا أكثَرَ مِن المُعتادِ حتى, يبدو أن الجميعَ يتجِهونَ إلى هُنا عندَ افتتاحِ إجازةِ الأسبوعِ, لا بُد أن مَن سلمَهُ المشروبَ كانَ مُنسحِقًا تحتَ ضغطِ طلباتِ الطُلابِ كريهي الرائِحة لدرجةٍ نسي فيها إعطاءَهُ منادِيلًا أو حتى سُكر.

وضعَ مشروبَهُ على المِنضدة المتوهِجة تحتَ ضوءِ السقفِ الذهبيِ ليأخُذَ ظرفًا مِن السُكَرِ وبعضَ المناديلِ, بينما هو يحاولُ إمساكها جيدًا في يدِهِ كي لا يتعثَرَ بحملِ المشروبِ ثانية, شعرَ بأحدٍ يندفِعُ مِن الطابورِ خلفَهُ كي يلتحِم عنيفًا بظهرِهِ, تمنى أن لا يقعَ على مشروبِهِ, ولحسنِ الحظِ لَم يفعل, غيرَ أن جُزءً مِن مشروبِ ذاكَ الشخصِ وقعَ عليهِ, أدركَ شاعِرًا بدفءٍ ينتشِرُ على كتفِهِ الأيسَر.

"أنا أسفة بشِدة! يا إلهي! لَم أقصِد بتاتًا لقَد قامَ من في الطابورِ بدفعي! هَل أنتَ بخير؟ هَل احترقَ كتِفُك؟"
سبقَ التفاتَهُ صوتُ فتاةٍ تتَحدثُ , هو لَم يتأذى, والفضلُ يعودُ لسترتِهِ السوداءِ الوفية, والتي ارتداها فوقَ ملابِسِ المدرسةِ على أي حالٍ, طبقتينِ مِن الحماية, أتت بفائِدتِها أخيرًا.

"أنا بخير, لا بأس."
أكد مُلتفِتًا تارِكًا مشروبَهُ على المِنضدة.

وحمدًا لِلربِ فعَل, لأنهُ كانَ سيصبحُ مِن نصيبِ الأرضِ, كما أصبحَ قلبُه.

على بُعدِ خطواتٍ مِنه كانَت ماتيلدا, مِن المُستحيلِ أن لا تكونَ هي.

ربما لَم يكُن يزينُ جسدها فستانٌ مِن الكتانِ بعدَ الأن، وبدلاً كانَت ترتدي بنطالاً أسودَ وقميصًا بلونِ العسلِ, وصحيحٌ أن شعرها المُجعَدَ كانَ مرفوعًا كذيلِ حصانٍ هائِج, لكِنها كانَت هي.

كُلُ تفاصيلِها ذاتها, مِن طولِها إلى لونِ عينيها وحتى الهالاتِ المُزرقة حولهُما, بل إن كُل بُقعةِ نمشٍ في الموقِعِ ذاتَهُ على وجنتيها وأنفِها!

"هَل أنتَ بخيرٍ حقًا؟"
تكرَرَ صوتُها برقةٍ على أُذنيهِ مُجددًا بينما بمقلتيها حاولَت إيجادَ أي بُقعِ شايٍ أخرى قَد يقبُعُ تحتها حرقٌ ما.

لَم يتيقن بما على شعورِهِ في الوقتِ الراهِنِ أن يكونَ.

لكنهُ مذعورٌ بِشدة.

هَل هو مُشتاقٌ حدَ الهلوسة؟

__________________________

أكرهُ صالونات التجميل كثيرًا، حقًا حقًا أكرهُها.

فصل أخير لِلقصة، أنا سعيدة فوقَ الوصف 💕

شكرا على القراءة، لا تنسوا التعليق والتصويت 💕

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top