Four.

لقد كانوا عائلة جيدة, طغت الطيبة على كل فعلٍ يقبلون عليه, بعدما ضمدوا جراحه الوهمية وأعطوه ملابس نظيفة ولكن واسعة قليلًا, قامت السيدة أردين بتقديم طبق دافئ من حساء الشوفان له, مؤكدة أنه سيساعده على الاسترخاء, كان بالفعل شهيًا, وقد قضى على جوعه كاملًا.

بدا أن جميعهم قد تقبلوه سريعًا في غضون وقتٍ لم يتجاوز الساعة والبضع دقائق, جميعهم إلا ماتيلدا, كانت رافضةً بأن تسري بنظرها على تفاصيل وجهه, وإن اضطرت في كل مرة طُلِب منها ان تحضر شيئًا ما له, تقوم سريعًا بسحب عينيها بعيدًا لتحدق بالفراغ وتعبيرٌ فارغ الصبر قد أكتسى وجهها, لم يفقه لماذا كانت غاضبة منه وكأنهُ قد نحر كل من تحب؟ ألم يكفي كل الإثبات الذي سلمها إياه عن كونه مسالمًا ولا علاقة له بالحرب؟ على كل حالٍ هو لم يرِد أن يقلق, فهو ما يزال في الخطوات البادئة من المهمة ومعه من الوقت ما يكفي ليكسب ثقتها.

عندما بدأت الشمسُ بالانسحاب منهكةَ إلى مسكنها وراء الافق, وبدأت السماء يطلى كل شبرٍ منها بألوان داكنة, حل هدوء غريب على المكان, فمنذ أن أدرك آل وايت كون المساء بدأ يحل, تركوه بالدور جالسًا في غرفة الجلوس وتفرقوا في أرجاء المنزل يفعلون ما جهِل, رأى السيد والتر يطلُعُ الدرَجَ ويعودُ حاملًا بين يديه ملاءة مطرزة بألوانٍ باهتة عديدة, ووسادة صغيرةً الحجم ولكن كافية ليسند عليها شخصٌ رأسه, قامت السيدة أردين بالتوجهِ إلى المطبخ ولحِقت بها الطفلة ذات الأعين الزرقاء الواسعة, وخرجا لاحقًا مع سلةٍ بنية لم يعلم ما وضعا فيها, هل كانوا يخططون لنزهة؟

"أنا حقًا أعتذر عن تركك لوحدِك, ولكن كان علينا تجهيز مستلزمات ليلة أخرى في الملجأ, أنت تعلم لم يبقى سوى القليل من الوقت حتى تنطلق صافرات الإنذار ويبدأ حضرُ التجوال, سنتوجه الأن إلى هناك, هل أنت قادرُ على المشي أم ستحتاجُ المساعدة؟"
استفسر والتر بأسارير مبتسمة عندما عاد له بعد أن وضع ما أحضر من الطابق العلوي بالقرب من السلةِ البنية أمام باب المنزل الخشبي.

كان سؤاله كفيًلًا بإعادة جزء من وعيه إلى رأسه, لقد كان على وشك جعل الفكرة تنساب من عقله, نسي أنه كان الأن قابعًا في لندن عام 1940, قصفُ جوي شنيع سيحِلُ على المدينةِ زائرًا طول ساعات الليل المُعتِم.

"لا, لا مشكلة أطلاقًا, أنا أتفهم وأعتذر من أنني لم أتمكن المساعدة بشيء, أعتقد أنني قادر تمامًا على المشي وحدي, قدمي ليست متضررة إلى تلك الدرجة."
أكد بينما وقف بطيئًا, أومأ الأكبر وأخذ يسير بمهل إلى مدخل المنزل منتظرًا بصبر أن يقوم هو بلحاقه مع خطواته التي حاول تزييف بعض العرَجِ فيها.

وقفت السيدة أردين وابنتها أوريانا التي تشبثت بطرف فستانها ذو اللون الذي يشبه الحليب عند المستلزماتِ ينتظرن, لم يكن هناك أثر لماتيدا, انقبضت عضلات قلبِه سريعًا, أيعقل أن لا تتجه إلى الملجأ معهم وتلقى حتفها بقذيفةِ قد تطال هيكل هذا المنزِل؟ ولكن والده لم يُعلمه بشيءٍ في المفكرة!

كان قد أستعد بلسانِه وعلى وشك السؤال عن مكان ماتيلدا, حتى سمِع صوت خطواتٍ يتردَدُ على درجاتِ السُلم, رفعَ مسار نظَره سريعًا حيثُ الصوت, ورآها تنزِلُ باتجاهِهم بهدوء, رمقَتهُ بنظرةٍ شديدة الجفاء عندما مرت من قربه, ولكِنهُ تنفس الصعداء على أية حال وقد انخفض مستوى نبضاتِ قلبه.

"لا تنسي الشاي عزيزتي."
أخبرتها السيدة أردين بينما تقوم بإبعاد يدِ ابنتها الصغيرة عن قُماشِ فستانها قبل أن تقوم بشبكِ أناملهما سويًا.

"لن أفعل."
ردت الشابة قبل أن تختفي في المطبخ.

"إن الماء مغليُ, فقط اضيفي أوراق الشاي والحقينا بالإبريق ولكن انتبهي من أن تحرقي نفسكِ."
حذرت والدتها بلطف قبل أن تُديرِ مقبض بابِ المنزل.

حملَت السلة وتوجهت خارجًا, لحقها السيد والتر بالملاءة والوسادة وأشار لهُ أن يتبِعه, ألقى بنظرةٍ أخيرة باتجاه بابِ المطبخِ ثم سارَ خارجًا إلى نسيمِ الغسقِ البارِد, لبِثَ واقفًا على عتبةِ المنزل لحظاتٍ يُحدِق بالأفق, منِ كلِ منازِل الشارِع كان عددٌ هائلٌ مِن البشرِ قد استنفروا خارجًا متجهينِ إلى الأمان, كلهُم قد حملوا العديد من الأشياء وباءوا يتجهونَ إلى ملاجِئهم في حِضن الأرض, تحت أضواء الشوارِع الخافتة التي أنيرت أبصر وجوههَم, هم لم يملكوا حتى ملامِحًا مُرتعبة, وكأنهم ببساطةٍ يتجهون إلى منزلٍ أخر مُرحبٍ وهانئ.

تأملهم صامتًا بينما نزِل الباقون إلى حديقةِ المنزِل الأمامية, لم يُرِد لحاقهم سريعًا, أراد أن تُبصِر عيناه ماتيلدا تلحقُ أقدامها بِهم, لذا أخذ خطواتٍ شديدة تَكلُفِ المعاناة ونزِل السلالِم القليلة , عندما وطأ حذاؤه العُشبَ المُنتعش سمِعَ صوتَ قُفلٍ من ورائِه, أستدار ليرى ماتيلدا تُغلِقُ باب المنزِل وقد حملَت في يدها اليسرى إبريق شايٍ كبيرًا جدًا, وجهها بدا خاليًا تمامًا من أي شيء, وانتظرته حتى وصِل إلى باب الملجأ ثم أردفَت بِهم, وكأنها تُريدُ إبقاء أكبر مسافةٍ مُمكِنة بينهما.

"خُذ حِذرَك, إن السُلَمَ طويل."
نبَهَه والتر سابقٍا إياهُ إلى أسفل السُلَم كثيرِ الدرجات, والذي قد كان قطعُه قد أمسى مهمة صعبة بسبِ ضُعفِ إنارةِ الضوء اليتيمِ المُعلَقِ فوقَ رؤوسِهم.

لم يكُن الملجأ سوى غرفة شاسعة واحدة, بِجُدرانٍ رمادية إسمنتية, تناثرَت بين ارجاءِه أشياءٌ عديدة, في مُحاولة يائسة للِقضاء على وحشته, لم تكن المراتِبُ والوسائِد والأغطية والكُتب وغيرها مِن الأشياء قد قتلَتِ كآبة المكان تمامًا, ولكِنها قدَرت على خنقِها قليلًا سامحة لبعض الدفءِ بالتحرر.

جَلس على أحد المراتِب أرضًا كما فعل ثلاثتُهم, وسَمِع صوتَ أقدام ماتيلدا التي تُشبِه الخاصةَ بالقطط قد لَحِقت بهم بعدَ أن أوصدت مَدخل الملجأ بصرامة.

"نحنُ من المحظوظين الذين امتلكوا ملاجئ تأويهم, بينما كثيرون من أصحابِ الأحياء الأفقر لا يمتلكون أماكِن تحميهم من القصفِ فيقومون بالاصطفافِ أمام ملاجئِ الدولةِ أو يتجهونَ إلى محطاتِ قطاراتِ الأنفاق فهي تفي بالغرض."
حكَت لهُ السيدة أردين مبتسمة وقد جلست على أحدِ المراتِب وقربها الصغيرة أوريانا.

"شكرًا لإيوائي معَكم."
ردَ مبتسمًا أيضًا.

عندما توارت أمام عينيه ماتيلدا وضعت إبريق الشاي في المنتصفِ بينهم, ثم سارعت إلى مرتبَة وحيدة في الطرَف, احتوت كتابًا ذو غلاف أزرق رقدَ هناك بين يديها, واحتضنت قدميها وأخذت تقرأ صامتة.

أراد حقًا أن يتحدث معها ليُصبحا أصدقاء, شعر بأنه مكروه تمامًا مِن قبلها, ولكنه لم يكن ليفعل الأن, سيعطيها بعض الوقتِ.

قام السيد والتِر بسكبِ الشاي الدافئ في أكوابٍ زجاجية ذات ألون زاهية, وقدمها لهُم بالدور, شكرَه عندما أعطاه خاصته, أخذه واجترع القليل منه مُحدقًا بتفاصيل المكانِ من حولِه, كان ربما أفضل شايٍ تذوقته حلمات لسانِه يومًا, حلوًا جدًا كما يُفضِل ولَم يشُب طعمَه أية مُر, شعر بالسائل الأحمر يقطع الطريقَ على بلعومه و كل أجزاءِ جسده الداخلية بافتتان موقدًا كمًا هائلًا من الدفء.

بينما هو في أوج تركيزه على هيكل الكوب الزجاجي الهش, دوى من فوق سقف المكان صوت صفارات إنذار شديد, بدا مكتومًا جدًا بسبب انخفاضهم تحت مستوى الأرض, ولكنه كان رغم ذلك شنيعًا, ولحقته أصوات أخرى لإنفجارات متفرقة الرهبَة, قفزت عضلات قلبِه ذعرًا, ووصلت الاهتزازاتُ المفاجئة إلى أنامله حتى تحركت بطريقة مباغتة سببت باهتزاز المشروب الدافئ بين يديه.

بعد إيقاف العاصفة التي حلت على أطرافه جرى بعينيه بسرعة إلى وجوه من هم حوله, هم لم ترمُش أعينهم! حتى الطفلة ذات الأعين الزرقاء لم تبدي أي من معالِم الذُعر, كان ذلك بطريقة مجهولة مرعبًا.

أستمر في مهمة تهدئة نفسه, وبعدما فعل ابتسم باتجاه الصغيرة أوريانا, كانت منذ أن وطأ بقدمه المنزل مستمرة بالتحديق به أينما ذهب, وكأنه كائن خيالي نزل عليهم من السماء بأجنحة مُهيبة, لقد بدت مذهولة تمامًا من كل ما يفعل وكأنها لم ترى بشرًا يتنفس الأكسجين مثلها يومًا.

عندما رأته هو يحدق بها ايضًا, ابتعدت عن جانب والدتها, ثم سارت بخطوات متزنة إلى الأرض القاسية القابعة أمام مرتبته, واتخذت منها مجلسًا بينما عيناها التي حملت البحر فيهما أستمرت بتأمله مليًا.

"إذا جوكوك."
بدأت حديثها.
"أقصد جوغكوك, أه! أنا لا أعلم! اسمك طويل وأستمر بنسيانه!"
تذمرت وقد ذبُلت ملامحها إلى عبوسٍ طفولي.

"إنه جونغكوك."
صححها ضاحكًا.
"ويمكنك مناداتي بكوك أو كوكي لا بأس."
أعلمها وقد انحنت زاوية رأسه عفويًا كردة فعل للطافتها.

"كوكي مذهل!."
هتفت فرحة.
"إذًا كوكي, أخبرني عن الحياة في كوريا, هل هي جميلة؟"
سألت موسعةً مقلتيها ورأسها مُسند على كفيها الصغيرين.

"إنها كذلك."
أكد بأسارير مبتسمة قبل أن يقضي كثيرًا من ساعات الليل يحكي لها عن وطنِه بطريقة لم تُثر الشُبُهات إلى كلامه.

كانت ليلة مُلبسةً بكثيرٍ مِن الخوفِ, ولكنِ الحنُو في ذات الوقتِ.

____________________

إهداء إلى Rmjkfj كشكر على دعمها المستمر❤

شكرا على القراءة، لا تنسوا التعليق والتصويت💕

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top