(9)
بقلم :نهال عبد الواحد
لا زال علاء دائم الزيارة لقصر حشمت باشا ربما يرى فريال ويتقرب منها، لكن لم يحدث وحتى وإن رآها تكون للحظات وهذا لم يعتاد عليه من قبل الفتيات، فكنّ دائمًا تتهافتن عليه للتقرب منه وهو من لا يكترث بهن،لكن تلك المرة قد حدث العكس وذلك قد أشعره بالإهانة.
وذات يوم بينما كان علاء في القصر خارجًا من غرفة مكتب حشمت لمح فريال تهبط من الدرج وتخرج من الباب فتبعها.
كانت فريال منذ آخر لقاء لها بفؤاد لم تخرج للقاءه لكنها كانت تذهب إلى الإسطبل وتجلس بين الخيول تحكي معهم وتبوح بما في قلبها.
وبينما ذهبت فريال وجلست في الإسطبل جوار كل حصانٍ منهم قليلًا على حدا، تمسح على رأسه برفق وتطعمه مزيدًا من السكر وقطع الجزر وتهمس قليلًا في أذنه ثم تنتقل ألى الآخر.
كان علاء يتابع فريال ويتعجب مما تفعله ويرى في ذلك تفاهة وسذاجة، لكن فريال بطَلَّتها الرائعة تلك وسحرها الجذّاب تستحق أن يلهث خلفها هكذا، لكن نظراته لم تكن بريئة على الإطلاق فكانت عيناه كعينا ذئبٍ يتابع فريسته لينقض عليها في الوقت المناسب.
وكانت فريال تجلس مع ريحانتها وتطيل الجلوس معها ربما طيلة اليوم، وبينما هي جالسة إذ ظهر أمامها علاء فجأة فانتفضت!
فصاحت بفجأة: علاء، ماذا أتى بك إلى هنا؟!
أجاب علاء بعينَين جريئتَين: أود لقاءك.
أجابته على مضض: شكرًا، لكني الآن مشغولة، إذهب إلى أبي فهو بالداخل فالحق به!
فاقترب وجلس جوارها مما أثار ريبتها فقال: لقد خرج الباشا منذ وقت، وقد أنهيتُ لقائي منه، لكني الآن أريدك أنت.
قال الأخيرة بنبرة مختلفة، همّت لتقف وتطرده أم ربما تجري منه فقد استشعرت خبث نواياه لكنه أمسك بساعدها لألا تذهب وأجلسها وإقترب منها فدفعته وصاحت: ابتعد أيها الوقح!
لكن قواها لا شيءٍ جانبه فلم تؤثر فيه إطلاقًا، فأمسك بساعديها وهجم عليها يحاول الاعتداء عليها وهي تصرخ وتركله برجلها وتلتفت بوجهها بعيدًا عن أنفاسه وشفاهه التي لا تطيقها، حتى أطبق يداه على ساعديها شل حركتهما ولا زالت تصرخ وشل حركة رأسها تلك حين أسند برأسه بقوة فالتفتت بوجهها عنه فوجد عنقها أمامه فقبّلها بعنف.
كانت تبكي بشدة ولا تستطيع تلاقط أنفاسها من شدة رعبها ومن هذا الذي يطبق أنفاسها يعتليها، فنظرت نحو ريحانة فجاة ونادت عليها بصراخ! وما أحن الحيوان عن ابن آدم!
كأنما قد فهمتها فصهلت فجأة بقوة وبدأت تتحرك بركلاتٍ نحوه، ففزع ونهض وفرّ هاربًا قبل أن يتم فعلته الخبيثة، ربما لو كان انتبه للحبل المربوطة فيه الفرسة لما نهض أو فر.
نهضت فريال جالسة وهي تبكي بشدة واحتضنت ركبتيها تبكي بشدة مرتفعًا نحيبها، بينما هي في حالتها تلك إذ دخلت عليها عايدة وكانت تبحث عنها لتتناول الغداء وتفاجئت بهيئتها المنهارة المتبعثرة وشعرها الممتلئ بذلك القش والتبن من أثر سقوطها أرضًا.
أسرعت نحوها وضمتها بصدمة وهي تسألها: ماذا بك؟! ما الخطب؟!
فأجابت فريال بانهيار وصوتٍ مختنق: ذلك الوغد الخسيس، حاول... حاول...
وانتحبت ثانيًّا.
فضمتها عايدة تربت عليها بحنان: من؟ علاء ابن منير باشا؟!
فأومأت فريال برأسها، فتابعت عايدة: أنتِ بخير، أليس كذلك؟
فأومأت فريال مرة أخرى، وبعد قليل أوقفتها، سارت بها إلى الداخل ثم نادت على ورد لتتولى إعداد حمام دافئ لها لتهدأ وتنام... وبالفعل قد فعلت وأعطتها حمامها ثم دثرتها بأغطيةٍ حتى نامت وهي تسب وتلعن ذلك العلاء من داخلها.
وبعدها بأيام استيقظت فريال متأهبةً لأن اليوم هو موعد مجئ فؤاد لخطبتها، ربما لم تكن على ما يرام تمامًا بسبب ما حدث منذ أيامٍ قلائل، لكن عليها أن تفرح اليوم... حقيقةً هي لم تُخبِر أبيها بسبب زيارة فؤاد لكن عليه أن يجلس معه أولًا.
طلبت من ورد إعداد فستانًا مميزًا وقد فعلت وارتدته، كان مائلًا للزرقة قليلًا، بنصف كُم مفرّغًا من الكتفين والصدر وضيقًا من الخصر هابطًا باتساع وجعلت ورد تصففه وتتركه منسدلًا جامعةً بعض الخصلات للجانب بوردة ثم وضعت بعض مساحيق التجميل من البودرة والكحل لتصير أروع ما يكون ومزجت من تلك البودرة الحمراء بذلك الذي يشبه الفازلين لتضعه كأحمر شفاه فتجعلها كالخمر تسكر عقل ذلك المحب إن اقترب ليرتوي منهما ظمأ اشتياقه، ثم نثرت عطرها المميز وصارت على أتم استعداد، جلست منتظرةً في توترٍ على أحرّ من الجمر.
وما أن لمحت تلك العربة الحنطور التي يركبها قد وصلت حتى حملت فستانها الطويل لتستطيع الركض دون تعثر، فلا تدري كيف هبطت ذلك الدرج ربما طارت فوقه حتى توقفت أمامه وهو جالسًا منتظرًا في قلقٍ ظاهر.
اقتربت فريال منه برقة، عيناها تعانق عينَيه وقد اشتاقت إليه فمنذ عدة أيام لم يلتقيا، بينما هو نهض واقفًا بمجرد أن رآها واضعًا طربوشه الذي كان يمسكه جانبًا على الأريكة.
وقفت أمامه مباشرةً يتطلعان لبعضهما البعض، وكيف لا يتطلع إليها وهي بهذا الجمال الرائع؟
فهمست برقة: مرحبًا!
- لقد اشتقتُ لك كث...
بتر كلمته إثر لمح بقعةٍ زرقاء في عنقها فضيّق بناظريه وضم حاجبيه وسألها بريبة: ماهذا؟!
مشيرًا بسبابته نحو عنقها.
ارتبكت فريال قليلًا ثم قالت بهدوء وهي تنزل خصلة من شعرها على ذلك الجانب لتخفي تلك البقعة: لا شيء، هي مجرد... مجرد كدمة.
فنظر لها غير مصدّق ثم قال: كدمة بالعنق! كيف صُدمتي فيها؟!
فقالت وهي تبعد بعينَيها عينه وتنظر حولها: بينما كنت في الإسطبل انحنيت فجأة فاصطدمت بشيءٍ ما.
فأومأ برأسه محاولًا أن يصدقها فبداخله إحساس أنها تخفي الحقيقة.
ثم قالت تريد تغيير الموضوع: المهم الآن أبي في الطريق إليك سيخرج لك فورًا، وعليك أن تطلبني منه، حتمًا سيوافق فأنت طبيبٌ ماهر ولك مستقبل مشرق، كأني أرانا جالسين على تلك الأريكة متجاورين وقد تمت خطبتنا، ثم نتزوج وسأظل معك مرافقة أينما تذهب سواء هنا أو في المحروسة، لكن عليك تحملي فأنا لا أجيد صنع أي شيء من أعمال البيت والطبخ لكني سأتعلم، لكن عليك تحمل تجاربي فيك دون غضب، أرى نفسي وأنا انتظرك كل يومٍ وأنت آتٍ من عملك فأستقبلك أحسن استقبال وأنزع عنك كل تعبك وإرهاقك بين ذراعيّ وأحضاني، أرى أبناءنا فأنا أريد إنجاب الكثير من الأولاد والبنات لا أريده وحيدٌ مثلي ولا مثلك، لكن بما أن اسمي واسمك يبدءان بحرف الفاء، إذن فنكوّن إمبراطورية من حرف الفاء، لكني لا أذكر الكثير من الأسماء الآن، أريدهم يشبهوك حتى عندما تكون في عملك تكون معي في قلبي وأمام عينيّ.
كانت تتحدث بابتسامة حالمة وهي تصف حياتهما معًا وما سيفعلان معًا بكل تفصيلة، كان ينظر إليها ويبتسم لكن داخله لا يصدّق وينتظر أن يمر من تلك المرحلة أولًا، مرحلة الموافقة.
وها هو قد جاء أبيها الباشا فدخل وجلس على الأريكة المقابلة وقد وضع ساقًا فوق الأخرى وأشار لفؤاد بالجلوس فجلس وظلت فريال واقفة فرمقها أبيها بتعجبٍ.
وسألها: لماذا تقفين هكذا؟!
قالت فريال بتوتر: أنا!
ثم جلست.
التفت حشمت إلى فؤاد وسأله: من أنت وماذا تريد؟!
فهتفت فريال: ماذا بك أبي؟ هل نسيته؟! إنه الدكتور فؤاد أفندي، ذلك الطبيب الذي أنقذني وعالجني عندما سقطت من فوق الفرس منذ مدة.
فأومأ حشمت برأسه، ثم تابع: هلا تذكرتك وماذا تريد فؤاد أفندي؟ أذكر أنك يومها رفضت أخذ أي مالية!
تحدثت فريال: لكنه لم يجئ لهذا السبب أبي.
زفر حشمت قائلًا: أظنك تجيد الكلام أيها الأفندي!
فأومأ فؤاد: أجل سيدي الباشا، أنا أعمل كطبيب في مستشفى بالمحروسة وأجئ في القرية هنا كل فترة كإجازة لزيارة أمي، أجتهد وأجدُّ في عملي وأكمل دراستي لتزداد مكانتي وأصبح طبيبًا مرموقًا.
فسأله حشمت بتعالي: وماذا تريد أيها الطبيب المرموق؟
- حقيقةً، أنا جئت اليوم، من أجل... من أجل...
هكذا تلعثم فؤاد فتابع حشمت باستهزاء: ما لك تتلعثم يا هذا! ليس لديّ وقت لذلك الهراء، إن لم تستطع الكلام فاذهب وتعلّم الكلام أولًا!
- حسنًا سيدي، لقد جئتُ اليوم أتقدم خاطبًا لحضرتكم، وأطمع بالزواج من...
وهنا دخلت شويكار أمها وخلفها وصيفتها وبعض الخدم يحملون الحقائب واتجهت لتجلس متأففة وفي يدها مروحتها اليدوية، جلست وخلعت قبعتها جانبًا وبدأت تخلع قفازيها، فاقتربت فريال فسلمت عليها وهي تشعر بخصة في حلقها وضيقٌ في نفسها ووخزةٌ في قلبها، ثم سلم عليها حشمت.
فرمقت فؤاد بتكبر وهي ترفع إحدى خصلاتها من جبهتها بغرور: من أنت يا هذا؟!
فعاد حشمت جالسًا ثم وجّه كلامه لفؤاد وقال: ماذا كنت تقول؟
NoonaAbdElWahed
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top