(7)

  بقلم : نهال عبد الواحد

عدّل فؤاد من هيئته، ارتدى طربوشه وخرج من الغرفة ثم تبعته فريال، لكن ما أن خرجا حتى وجدا بالخارج علاء جالسًا بصحبة أبيها الباشا فتقدمت فريال نحو أبيها لتسلّم عليه فرغم وجودهما تحت سقفٍ واحد إلا أنهما يتقابلان كل فترة.

هتفت فريال مبتسمةً: مرحبًا أبي! قد اشتقتُ إليك كثيرًا.

كان حشمت جالسًا فانحنت فريال تعانق أبيها وكان جواره علاء فلما انحنت صارت أقرب له ولم يبعد عينَيه عنها منذ البداية وكان فؤاد يرى نظراته تلك نحوها ولا يدري كيف يتصرف معه!

وما أن اعتدلت فريال حتى نهض علاء واقفًا مادًّا يده  يصافحها، أمسك بطرف يدها وانحنى مقبّلًا يدها كما اعتاد النبلاء وقتئذ، لكنه انحنى ولا زال معلّقًا عينَيه عليها وقبّل يدها قبلة طويلة.

ثم اعتدل قائلًا: مرحبًا  آنستي! حمدًا لله على سلامتك، علمت من الباشا تلك الحادثة التي تعرضتِ لها.

أومأت فريال: أشكرك، لكني صرتُ الآن على ما يرام، وذلك بفضل الطبيب فؤاد.

فرمقه علاء باحتقار وأومأ برأسه له ولا زال ممسكًا بيد فريال فقال حشمت: مرحبًا فؤاد أفندي! كيف حال ابنتي الآن؟

أجاب فؤاد: هي بخير سيدي، وصارت أفضل وقد انتهت مهمتي.

فأومأ حشمت: عظيم! إذن يمكنك الانصراف.

للمرة الثانية تستاء فريال من أسلوب أبيها معه وقد رأت تغيّرًا ظاهرًا على وجهه وقد انصرف سريعًا.

جلس علاء واضعًا ساقه فوق الأخرى وقال: هناك أطباء كثيرون، ألم تجدي سوى ذلك الصعلوك ليعالجك؟!

صاحت فريال بانفعال: هو ليس صعلوكًا، هو من أنقذ حياتي ولولاه لكنت في تعداد الأموات بعد أن أُصفّى من كثرة النزف.

تابع علاء باستخفاف: كأنك تدافعين عن هذا الفلاح وتتحاملين عليّ أكثر من اللازم!

- أنا لا أعرفك لأتحامل عليك، وهذا الفلاح الذي لا يعجبك هو طبيبٌ ماهر قد أدى عمله على أكمل وجه.

فصاح حشمت: كل ما هنالك بني أن فريال ابنتي مرهفة الحس وتُشفق كثيرًا على فلاحين العزبة وتحب مساعدتهم... المهم الآن كفانا حديثًا عن ذلك الفلاح ولنتحدث عن المفيد.

فابتسم علاء بمكر: فلنتحدث عن العمل أفضل، خاصةً إن كان الكلام بخصوص صفقةً ما ترغب فيها.

فضحك حشمت وقال: إذن فلنذهب إلى غرفة المكتب لنكون على راحتنا في الحديث.

أومأ علاء: كما تشاء يا باشا.

نادى حشمت: إحضري الشاي في المكتب يا عايدة.

ثم دخل اثنانتهما غرفة المكتب، بينما ظلت فريال واقفة مكانها وهي في ضيقٍ شديد تود رؤية فؤاد فورًا، تود أن تلحق به قبل أن يسافر إلى المحروسة (القاهرة).

أسرعت فريال إلى غرفتها فقد صارت ساقها على ما يرام ثم ظلت تذهب وتغدو، تفكر كيف تخرج وتقابله الآن و ورد تراها وتلاحقها بعينها ذهابًا وإيابًا ثم قالت لها: لقد شُفيت ريحانة.

عقدت فريال حاجبيها وسألتها بعدم فهم: ماذا تعني؟

- أعني آنستي أنه يمكنك الخروج بها كما تشائي خاصةً وقد شُفيت ساقك أيضًا.

صاحت فريال بسعادةٍ: فعلًا.
ثم قالت بعدم فهم مصطنع: ماذا تقصدين بحديثك هذا؟

فابتسمت ورد وقالت: أظن أنك تريدين لقاء شخصٍ بعينِه ولا تدري كيف تخرجين!

فابتسمت فريال مهمهمة ثم سألتها: لكن ماذا لو علم أحد؟!

- لن ينتبه أحد لذلك؛ فأنت تعتادين ركوب ريحانتك والخروج بها خارج القصر، فما المشكلة؟

- حسنًا سأفعل، لكن...

فبترت فريال كلماتها بتردد فتابعت ورد: اطمأني آنستي فأنا سرك.

وبالفعل بدأت ورد تعد لباس الفروسية الخاص بفريال وقامت بمساعدتها في ارتدائها، خرجت فريال متجهة نحو اسطبل الخيل متجهةً نحو مكان ريحانتها وأخذتها وإنطلقت بها.

كانت لا تدري لأين تذهب لتقابله، سارت من عدة طرق تحاول الوصول إلى بيته بالتقريب حسب ذاكرتها، لكنها لم تصل إلى بيته بل لمحت عربة حنطور قادمة عن بعد فقررت أن تسأل قائدها عن طريق منزله فتوقفت جانب الطريق حتى اقتربت العربة ولمحت من بها فابتسمت ثم اعترضت الطريق بفرستها فرآها فؤاد وأمر بإيقاف العربة.

وقفت العربة على جانب الطريق وترجّل منها فؤاد وكذلك فعلت فريال حيث وقفت جانب الطريق وترجّلت من فرستها.

أتى إليها فؤاد وابتسم قائلًا: ما الذي أخرجك من البيت الآن؟

أجابت فريال بحب: وددت أن أراك قبل مغادرتك.

تنهد فؤاد قائلًا: مجنونة!

أجابته بعشق: مجنونة بحبك.

- لكن عليكِ العودة ولا ترهقي نفسك.

- أنا بخير وقد طمأنني طبيبي الخاص، أمهر طبيبٍ في العالم.

فاقترب فؤاد وكانت فريال تقف جوار الفرسة ممسكةً بإحدى يديها لجامها وبالأخرى تمسح وتعبث بشعرها فوضع فؤاد يده فوق يدها التي تمسك اللجام وسألها: هل ترِي ذلك؟

- أنت الأمهر في عينيّ وأنت الأفضل بالنسبة إليّ، لا تأبه لكلام أيهما! أتمنى ألا يكون كلام أبي قد أغضبك.

فتنهّد قائلًا: كلامٌ متوقّع، لكن... من ذلك الشاب الذي كان يحملق فيكِ؟!

رفعت كتفَيها أن لا تدري وأجابت: لا أعرفه، أعتقد أنه ابنٌ لأحد أصدقاء أبي، أو ربما بينهما عملٌ مشترك.

- فقط!

-هذا ما أعرفه، فأنا لم أراه إلا يوم حفل يوم ميلادي، دعك منه ولا تفسد اللحظة بيننا الآن.

- ليتني أستطيع البقاء معكِ مدةً أطول، لكن موعد القطار قد اقترب وعليّ الانصراف فورًا.

- سأشتاق إليك كثيرًا.

- بل أنا أكثر.

- سأجئ وأنتظرك هنا كل يوم حتى تعود ونلتقي هنا.

- إلى اللقاء يا مهجة قلبي وفؤادي.

- إلى اللقاء يا فؤادي.

ابتعدت الأيادي المتشابكة ثم ابتعد فؤاد، ركب العربة ملوّحًا لها، تحركت العربة حتى اختفت من الطريق، وكأنه رحل بقلبها وذهب بروحها فعاودت فريال الركوب ودموعها تنهمر وسارت بريحانتها حتى البيت فأدخلتها إلى بيتها في اسطبل الخيول ثم صعدت إلى غرفتها.

سافر فؤاد وظلت فريال وحدها تعاني وحدة كبيرة وأشواقٍ مؤلمة، دائمًا صامتة جالسةً وحدها في غرفتها تستمع إلى اسطوانات الأغاني أو أحيانًا تأخذ ريحانتها وتسير بها حتى تصل إلى ذلك المكان حيث اللقاء الأخير قبل سفره فتظل فيه بقدر ما تظل تنتظر ثم ترحل عائدةً إلى البيت بائسةً حزينة.

يامسافر وحدك... يا مسافر وحدك... وفايتني
ليه تبعد عني... ليه تبعد عني وتشغلني
ودّعني... من غير ماتسلّم..وكفاية قلبي أنا مسلّم
عينيّ دموعها... دموعها تتكلم
على نار الشوق أنا هستنى... واصبّر قلبي وأتمنى
على بال ما تجييني واتهنّى
طمعّني بقربك... آه واوعدني
خايف الغربة تحلالك... والبُعد يغيّر أحوالك
خليني دايمًا... دايمًا على بالك
مهما كان بعدك هيطوّل... أنا قلبي عمره ما يتحوّل
هفتكرك أكتر من الأول

ومضت أيام وأسابيع وفريال تنتظر، أما فؤاد فلم يكن حاله أفضل منها بكثير إلا أن العمل يلهي، أو ربما كان يقرّر من داخله البعد فعقله لا زال يحذره من هذا العشق ورأى في سفره فرصة للبعد والتريث وإعادة رؤية الأمور، لكن قلبه صار وسط بحرٍ عميق تتقاذف به أمواج العشق لأعلى عاليًّا وأسفل سافلًا ولم يرسي على برٍ بعد.

NoonaAbdElWahed

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top