(14)&الأخير
بقلم :نهال عبد الواحد
خرجت الطيور الحبيسة من أقفاصها، بدأ يشعر المصريون بقدرٍ من الحرية والعدالة وأنهم مصريون ولهم الحق في وطنهم، بدؤا أخيرًا يتنفسون نسائم الحرية؛ فبعد رحيل الملك وتسليم السلطة للجيش ثم تحول الدولة إلى جمهورية قد اقترب موعد رحيل الاحتلال الغاشم ليتنفس المصريون حقًا.
وكانت فريال مثلها مثل المصريون قد خرجت أخيرًا من القفص ونالت حريتها بحق، ليس فقط بطلاقها من علاء بل أيضًا قد تحررت من قيود تلك العائلة التي لم تشعر يومًا معهم بالود والدفء الأسري رغم كل هذا الثراء.
وبكل بساطة أدلت فريال تفصيليًّا بكل أملاك أسرتها وبصدق، سلّمت كل ما قد صادروه وتبقّى لها جزء بقدرٍ كفاها لتعيش حياة كريمة وقد تركت لكل الخدم حرية قرار المكوث أو المغدرة فتركها الجميع سوى ورد وعايدة اللتان صارتا كل أهلها.
بالطبع ذلك الجزء اليسير الذي قد تُرك لها بعد مصادرة أموالها ما كانت لترضى به أمها على الإطلاق! وهاهي قد رحلت وتركتها مع من رحلوا.
كانت ورد وعايدة تحاولان إخراج فريال من حالة الاكتئاب التي تدفن نفسها فيها وقد ذهبوا جميعًا إلى بيت العزبة حيث جو الريف الرائع الهادئ.
سافر الثلاثة وكانت فريال منذ أن وصلت إلى قصرهم الذي في العزبة وهي لا تخرج من غرفتها سوى للمكوث في الاسطبل وسط الخيول وتقضي معهم معظم اليوم ثم تعود، ومرت أيام وأسابيع على هذا الحال.
وذات يوم قررت فريال الخروج بريحانتها كأنها كانت قد نسيت كل شيء، وبدأت تخرج بها يوميًّا فتدور بها حول الحقول القريبة بالقصر ثم تعود فلا زالت لا تعرف الطريق بمفردها.
حتى ذات يوم وجدت ريحانتها تتجه بها إلى طريقٍ ما وكانت فريال قد شردت قليلًا في بداية ركوبها وعندما انتبهت وجدت نفسها تسلك طريقًا غريبًا ليس ذلك الطريق الذي تسير فيه كل يوم.
لكن مهلًا! كأنها تعرف هذا الطريق وسارت فيه من قبل، أيضًا هناك شعورًا بدأ يغمرها ويجتاحها قد شعرت به من قبل بل وعاشته.
وفجأة وقفت ريحانة في مكان ما فترجّلت فريال تتلفت حولها وهي تضحك ودموعها منهمرة، أجل! هو ذلك المكان الذي قضيت فيه أجمل أيام حياتها وأسعد الأوقات واللحظات، وكم مرت لقاءاتٍ وأمسية قد جمعتها به وهو يضمها بين ذراعيه فأدفأها بصدق مشاعره، ذلك الدفء والراحة اللذان لم تجدهما سوى بين ذراعيه وعندما كانت تستند برأسها على صدره وتستمع لدقات قلبه التي تعزف مقطوعةٍ تتغنى بحبها وعشقها الأبديّ، تشعر كأنها تغوص في بحر ذلك العشق وتسبح فيه بلا تعبٍ ولا ملل ولا تريد الخروج منه أبدًا.
فعاشت بقدر ما عاشت مع زوجها ومهما ضمها إليه ما شعرت يومًا بكل ذلك بل كانت تعد الدقائق لتنتهي لحظة لقاءه بها.
كم جلسا هنا كثيرًا على الأرض وسط الزرع وفوق الحشائش ولم تكترث يومًا بتلك الجلسة وهي ربيبة القصور .
ثم التفتت بعينيها لتجد تلك الأرجوحة التي صنعها لها يومًا بالحبال بين أغصان الشجر فجلست فيها ودفعها... كم كان إحساسًا رائعًا!
جلست أرضًا كما كانت تجلس قديمًا وأغمضت عينيها ترى كل تلك الذكريات داخل ذاكرتها فتضم نفسها بذراعيها مثلما كانت تضمه ربما شعرت بدفء ذراعيه مثلما شعرت من قبل أو شعرت بدقات قلبه ودفء أنفاسه التي عندما تلمس عنقها تشعر كأنها قد تخللت سائر جسدها... حتى وصلت إلى ذلك اللقاء الأخير ومهما كانت تتحدث بأملٍ كبيرٍ وقتها فلم تنكر إحساسها بالفراق، شعرت بضمته الأخيرة وقبلاته الحارة لها التي لم ترد الابتعاد عنه وقتها وبمجرد الابتعاد عنه لم تنكر أبدًا تلك الوخزة التي وخزت قلبها كأنها أنذرتها بالفراق!
ظلت جالسة هكذا لكن مهما حاولت أن تتذكر وتستعيد ذكرياتها وحتى لو استعادت إحساسها فماذا سيحدث ويجدّ، فالنتيجة واحدة في النهاية فهي وحدها الآن وستعود وحدها.
بدأت تنهض من مكانها لتعود من جديد فمكوثها هنا لم يعد له أي داعٍ سوي إيقاظ كل القديم لتشعر بلحظة الفراق من جديد مثلما شعرت بها من قبل.
لكن قلبها الآن ينبض بقوة لدرجة تشعر أنه يكاد يُقتلع من مكانه ويخرج من بين ضلوعها فوضعت يدها على قلبها وهي تنهض تريد أن تهدئه فقد استيقظ كل شيءٍ فجأة.
لكنها ما أن سارت بضع خطوات حتى وجدته واقفًا أمامها يتطلع إليها بعينيه العاشقتين كأنما كان اللقاء السابق بالأمس ولم يمر أي أعوام!
فهو كما هو لم يتغير في ملامحه، هيئته ولا حتى في نظرة عينيه المتيمتين بها ولا حتى ذلك الإحساس الجارف الذي تشعر به الآن.
ودت أن تقترب نحوه بخطوات لكن كأنما التصقت قدميها في الأرض ولا تقوى على اقتلاعهما من الأرض، بل قد تجمد جسدها بالكامل ولم تقوى على التحرك ولا النطق وربما التنفس.
وفجأة سقطت أرضًا على ركبتيها فأسرع نحوها جاثيًّا أمامها بنفس لهفته وأشواقه ممسكًا بيديها ولا زالت عينيه تحتضن عينيها.
كانت تغمض عينيها وتفتحهما مجددًا ربما تحلم أو ربما لا زالت تحت تأثير تلك الذكريات فنزعت يديها من يده وتلمست وجهه بهدوء ثم خللت بأصابعها بين خصلات شعره ثم تلمست وجهه من جديد... إنه حقيقة!
أمسك بذراعيها فهبطت بيديها من وجهه على كتفيه ولا زالت دموعها تنهمر لاإراديا فمسح بيديه دموعها فأغمضت عينيها لتشعر بيديه على خديها وتستنشق رائحة عطره الرجولي التي قد اشتاقت إليها.
ثم فجأة تحول اللقاء لعناقٍ شديد بل التحام فكان يضغط بقوة عليها كأنه يريد أن يدخلها داخل ضلوعه ولا تخرج أبدًا... وارتفع صوت نحيبها تشكو إليه عذاب الأيام الطويلة الماضية.
ومر بعض الوقت وقد جلست بين أحضانه كما اعتادا من قبل وقصت كل ما حدث من زواجها ومرض أبيها ثم وفاته وحتى قيام الثورة ثم هروب علاء وكل من حولها لكنها أخيرًا قد طُلقت وصارت حرة.
فهتف فؤاد بسعادة: إذن أنت حرة الآن!
فأومأت: أجل! و وحيدة أيضًا لقد سأمت من تلك الحياة وإخترتُ العزلة منذ زمن.
- لا تقولي هذا الكلام أبدًا وأنا معك وجوارك.
- كأنك لن تتركني!
-بل هي حقيقة مؤكدة فأنا لن أتركك أبدًا ما حييت.
- وماذا عن زوجتك؟ ألم تتزوج؟!
- وكيف لي أن أرى امرأةً غيرك؟! بل هل هناك امرأةً غيرك؟! لا يا حبيبتي! في شرعي أنا لا توجد في الحياة امرأةٌ غيرك لأراها بعيني المجردة أصلًا، فكيف لي أن أشعر بها وأعيش معها؟ فأنا لم أنساكِ يومًا، كنتُ مريضًا بك لكن مريضًا بلا دواء بل لا يريد الدواء ولا يقتنع بأي علاج ليترك المرض ينهش فيه وكأن ذلك العناء والتعب هو أمتع ما في الكون عنده.
- إذن أنا الخائنة من تزوجتُ غيرك وسمحتُ لغيرك أن يقترب مني ويمسني.
- أبدًا! أعلم جيدًا أنه كان رغمًا عنكِ وقد أُجبرتِ عليه، أرى في عينيك كم تألمتي وعانيتي لتكوني لآخر لا تقبليه ولا تطيقيه! وأعلم أنك لم تفكري بي طوال ذلك الوقت لأنك بذلك كنتِ ستكونين الخائنة وأنت لست بذلك، فأنت الطاهرة النقية التي سكنت قلبي وفؤادي حتى وإن أسقطتني في هاوية العشق العميقة وتجرعت بسببها آلاماً وآلام، لكنك مثلما كنتِ الداء صرتِ الدواء، وها قد عدنا والتقينا بلا وداعٍ ولا فراق... قولي! هل فكرتِ؟
عقدت حاجبيها بدهشة وسألته: فكرتُ بماذا؟
- في تكوين إمبراطورية لحرف الفاء كما تمنيتِ، ألم تريدين أن ننجب الكثير بشرط أن تبدأ أسماءهم بحرف الفاء.
فصاحت بسعادة وعينين مترقرقتين: ماذا تقصد؟
- لقاء بلا فراق، لقاء داخل مملكتي وأوليكِ سلطانة عليها فتكوني سلطانتي، سلطانة قلبي وحياتي كلها، لكن سلطانة ملكي أنا واسمها مقترنًا باسمي أنا وتكون حقي أنا.
- كأنه حلم!
- لكن الأحلام صارت تتحقق، ألا تنظري للأوضاع من حولك؟ لم نكن لنستطيع أن نحلم حتى بذلك الوضع من بضع سنواتٍ فقط، لكن الآن صار حقيقة نعيشها ونلمسها.
فابتسمت وتعلقت في قميصه وهي تستند برأسها على صدره فقال وهو يمسح على شعرها: أعشقك سلطانتي.
- بل أنا أكثر يا أميري وسلطاني.
فقال وهو ينهض واقفًا ويجذبها معه لتقف: قد مضى زمن الكلام وهيا لنفعل!
وفجأة حملها وسار بها فتعلقت برقبته و وضعها على ريحانتها ثم ركب خلفها وسار بها يضمها إليه وهو راكبٌ فوق فرستها يدندن بصوتٍ هامس:
كان أجمل يوم ، يوم ما شكاني
قلبي من حبك وأنا خالي
كان لي قلبي نسيته من ظلم الناس وجفيته
في عينيك الحلوة لاقيته مرتاح وارتاحت معاه
شبكتني في حبك نظرة شغلتني من غير ما أدري
من يومعا حبيت بكرة وشهور وأنا بستناك
وماهي إلا بضع أيام وقد تم زواجهما في حفلٍ بسيط لم يحضره سوى المقربون، ليلتقيان أخيرًا بلا فراقٍ أو وداع ويسبحا معًا في بحر عشقٍ لا نهاية له وبعد تسعة أشهر شرّف أول فرد من إمبراطورية حرف الفاء...
تمت،
أبريل 2019
سعدت بمتابعتكم وأتمنى أن تكون قد نالت إعجابكم،
أنتظر آراءكم 😍🌷
ولقراءة المزيد من كتاباتي يمكنك متابعتي ،
أشكركم مجددًا،
وإلي اللقاء في مزيدٍ من الكتابات إن كان في العمر بقية،
تحياتي،
NoonaAbdElWahed
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top