المزرعة

خرجت الشمس مِن مضجعها ببطء كأنَّها عروس خجلة تُزَف إلى النهار مزيلة معها ستار الليل المظلم، واِلتمعت مِن خلف الأفق بلون أشعتها الذهبي الَّذي تسلل برقة وانسكب على الأرض بهدوء ناشرًا معه الدفء، فتساقط ضوئها كتساقط أوراق الشجر في الخريف معلنًا بداية جديدة جعلت مِن كلِّ شيءٍ على الأرض مشرق.

تأمل «رويد» السماء الزرقاء الصافية المُرصعة بسحابات بيضاء بسيطة نقية انعكس بها ضوء الشمس بهدوء في صباح هادىء، فأسره لونها الَّذي نتج عن تشتت ضوء الشمس حينما وصل إلى الأرض مكونًا ألوان الطيف السبع، فإذا به يشعر كأنَّه ينظر إلى لوحة فنية رسمها فنان مبدع حيث تتناغم الألوان مع بعضها.

تنَّهد «رويد» بعمق حينما سمع صوت زِهاد المشاكس ينتشله مِن تأمله، ليشد انتباهه له بعنف ولكن رغم ذلك ابتسم له بحب، وأدار رأسه نحوه، فتقابلت أعينه بأعين
«زهاد» الحاسدة الممزوجة بحب نقي مثله، ثمَّ قال بنبرة تحمل اللوم:
"أنت دائمًا أول مَن تُرتب فراشك، إن كنت جيدًا إلى هذا الحد فلِمَ لا تساعدني؟!"

اقترب «رويد» منه بخطوات هادئة، ثمَّ مدَّ يده برفق ليملس على شعره بحنان؛  فهو يدرك جيدًا أنَّ "زِهاد" يفضل هذا الفِعل، ويجعله يشعر معه بالراحة كأنَّ تلك اللمسة تخبره بأنَّه ما زال يحبه ويهتم به.

نظر إليه «رويد» بابتسامة دافئة، ثمَّ تحدث بصوت منخفض لكنَّه مسموع:
"حسنًا، سأفعلها مِن أجلك؛ فأنت الشخص المفضل لي هنا."

اندلعت ضحكة سعيدة من "زِهاد"، كان قلبه يفيض بالسعادة، لكن في تلك اللحظة قاطع صوت ضحكه الحُرّ صوت «سيف» المزعج الَّذي وقف بالقرب منهم، فألقى ذراعه على كتف «زِهاد» بحركة عفوية، وتحدث بصوت ساخر محاولًا إغاظته:
"لقد استيقظنا للتو، وها أنت تثير الضوضاء!"

وفي تلك اللحظة اختلطت الضحكات مع الأجواء الدافئة حولهم، اشتدت ملامح «زِهاد»، وقطب جبينه بغضب وهو يحدّق في «سيف» بنظرات نارية، وكم ودَّ لو أنَّ نظراته وحدها قادرة على إحراقه.

وبحركة سريعة مفاجئة، أزاح يده عن كتفه بعنف كأنَّها حِمل ثقيل أراد التخلص منه، ثمَّ صرخ بصوت غليظ لا يناسبه مِن بين شفتيه فبدى صوته كزئير مفترس:
"اخرس أيها الأحمق! ما دخلك في هذا؟ ثمَّ لا تلمسني بإهمال هكذا!"

لكن «سيف»، كعادته لم يبدُ عليه أي انزعاج، بل على العكس تمامًا، ازداد اتساع ابتسامته الساخرة، وكأنه يستمتع برؤية «زِهاد» وهو يشتعل غضبًا.

وضع يده على صدره بتصنع، ثمَّ قال بنبرة درامية مبالغ فيها، وكأنه اكتشف أمرًا مريبًا:
"يا للهول! لقد أصبح «زِهاد» خاصتنا سليط اللسان! هل ينبغي لي أن أسرع إلى المشرفة وأخبرها بما فعلت الآن؟"

ثمَّ أخرج تنهيدة طويلة، ورفع يده إلى جبهته متظاهرًا بالتعب، وقال بنبرة مرحة مليئة بالاستهزاء:
"عندما أراك أشعر أنَّك مسند مريح للغاية، لذا أحب أن أضع يدي عليك."

ظل "زِهاد" يحدّق فيه بغضبٍ مشتعل بين عينيه، بينما ازدادت ابتسامة "سيف" اتساعًا كأنَّه يستمتع بإشعال فتيل انفعاله.

ارتفع صوت «زِهاد» بغتةً، وهتف بنبرة اِمتزج فيها التحدي بالاستهزاء، وقد تأججت عيناه بوميض ساخر:
"أوه، هكذا إذًا؟ أترغب بأن أسرع إلى المشرفة كذلك، وأزفّ إليها خبرًا عظيمًا مفاده أنَّك تتنمّر عليّ؟"

توقّف للحظة كمن يتلذّذ بإطالة المشهد، ثمَّ أطلق زفرة خفيفة، رافعًا يده إلى صدره في حركة دقيقة مقلدًا "سيف" بأسلوب يفيض بالسخرية، لكنَّه لم يكتفِ بتقليده فحسب، بل أضاف إليها نبرة مختنقة مِن ادعاءه البكاء كأنَّما يؤدي دورًا مأسويًا في مسرحية:
"يا للهول! "سيف" ذلك الفتى الوديع الذي شارف على بلوغ الثامنة عشرة، يشنّ غاراته على ضعيف لم يكد يتمّ الحادية عشرة! أي نقيصة وخلة مذمومة حملتُها لأكون خصمًا له؟ وأي مجدٍ يرتجيه مِن مغالبتي؟"

ثمَّ أرخى رأسه قليلًا متصنّعًا الانكسار، بعدها رفع نظراته المشحونة بالدهاء مجددًا كأنَّه يُلقي كلماته بدقة كما يلقي الصياد المُحنّك شبكته في عرض البحر.

أما "سيف"، فظلّ يتفرّس في ملامحه، وقد تراقصت على شفتيه ابتسامة سعيدة مترددة بين الاستمتاع بالمشهد والبحث عن ردّ يوازي هذه المسرحية الهزلية التي نُصبت ليقع هو في الفخ.

علا صوت قهقهاته كأصداء رياح عاتية تضرب قمة الجبال، لكن رغم هذا الضحك الذي ملأ أرجاء المكان حتَّى كادت أن تهتز الجدران، تراجعا عن تهكمهما، ثمَّ مدَّ يده ليملس على شعر «زِهاد» برفقٍ كأنَّه يحاول أن يُطفئ جذور الغضب المتقدة الَّتي أوقدها بنفسه، ثمَّ قال بصوتٍ دافئ:
"حسنًا، لا تحزن، سأعطيك البعض مِن حصتي في اللحوم اليوم."

حين سمع "زِهاد" كلمة اللحوم تغيَّر وجهه فجأة كأنَّ عينيه اِشتعلت مِن الإثارة والحماس، فأضاءت ملامحه الساكنة، وانتشر على وجهه ابتسامة عميقة كأنَّه تلقَّى هدية ثمينة مِن شخص يحبه ويعتز به.

فورًا ملأت السعادة قلبه الحنون، واِنتشرت ضحكته في ثنايا المكان كأنَّ الفرح قد اِجتمع في لحظةٍ واحدة، فاندفع نحو "سيف" ليعانقه بحبٍ خالص، وكأنَّ هذه اللحظة هي أسمى ما في الوجود حيث تفيض منها مشاعر الصداقة الحقيقية.

على الرغم مِن أنَّهم جميعًا غرباء عن بعضهم، ولا يعرفون شيئًا عن أصولهم أو من أين جاؤوا، إلا أنَّهم جميعًا تمَّ إنقاذهم مِن دمار العالم الخارجي المكتظ بالأمراض ليعيشوا معًا في هذه المزرعة الواسعة كأنهم أسرة واحدة تربطهم روابط قوية كالأخوة، وذلك بفضل مشرفتهم «ميساء!»

وهنا، في هذه البقعة البعيدة عن العالم وسط فضاء شاسع محاط بالأسوار مِن كل جانب، عملوا جميعًا كخيوط متشابكة في نسيج واحد، فالمزرعة الَّتي تحتضنهم كحضن أمٍ حنون مكتفية ذاتيًا، فكلٌّ منهم يعمل عمله الخاص الَّذي اختاره بيده.

البعض منهم يفلح الأرض ويزرعها، ويهتم الآخرون بالعناية بالطيور والحيوانات حيث يقدمون لهم الطعام والماء كما يقدمون الدواء لروحهم،  وهنالك مَن يتقن فن الطهي حيث يعد الطعام بلذةٍ  كأنه يمزج بين البهارات المختلفة في وجبةٍ كأنَّه يصنع لوحة.

كل واحد منهم كان يشغل دورًا مختلفًا، ولكن الكل كان يؤدي مهمته بتفانٍ، وكأنهم كالشمس والقمر حيث لا يكتمل اليوم إلا بوجودهم جميعًا، وعلى الرغم مِن أنَّهم يعيشون في تناغم وسعادة، فإن السكينة لا تدوم طويلًا، إذ كانت هناك بعض الفترات التي يدخل فيها الحراس لينشروا في الأرجاء وقع خطواتهم طالبين منهم الاستعجال للذهاب إلى الأعمال بشكل أسرع.

كان «زِهاد» يستحم في إحدى الحمامات الضيقة، حيث كانت المياه تتناثر حوله، بينما كان كل جدار مِن الجدران الضيقة يحتضن جسده كأنَّها تُقيّد حركته في تلك المساحة المحدودة.

وفي الحمام المجاور له، كان «رويد» يستحم هو الآخر، فهم في المزرعة يسيرون على نظام محدد بالوقت، يستيقظون السادسة صباحًا، ينتهون من الاستحمام وتناول طعام الإفطار الساعة ثمانية ونصف، ثمَّ بعدها يخضعون لفحوصات دورية لمدة نصف ساعة يوميًا.

وكل فئة منهم تخضع لفحص دقيق في أيام مختلقة حيث يقسمون أنفسهم على الأيام لكبر أعدادهم، وفي الساعة التاسعة يذهب كل فرد منهم إلى العمل.

وكانت كل فئة منهم تخضع لفحص دقيق في أيام متفرقة حيث يُقسّمو على الأيام المختلفة لكثرة أعدادهم كأنَّهم في توزيعٍ محكمٍ لا يُترك فيه أي مجالٍ للخطأ.

كانت تلك الأيام تُشبه حلقات متكاملة، تُوزّع فيها المهام بدقة متناهية بحيث لا يُضيّع الفرد نفسه بين الحشود.

وفي الساعة التاسعة من كل صباح، ومع بزوغ أولى خيوط الشمس، كان كل فرد منهم ينطلق إلى عمله المحدد دونما تأخير أو تردد كما لو أنهم مجموعة من السلاحف الخضراء تهاجر معًا عِبر المحيطات، يسبحون بتناسق متبعين التيار نفسه ولا تضل خطواتهم أبدًا، ولا يتأخرون ولا يترددون، بل يمضون في دربهم كما لو أن المزرعة هي وطنهم.

ولقد كانت الساعة التاسعة بمثابة لحظة التحول، ولكل شخص مسارًا لا يمكنه أن يضل عنه، فكلهم يتحركون كقطع من الشطرنج، كل واحد منهم يؤدي دوره ببراعة، دون أن يتأثر الآخرون بتصرفاته.

بينما هم في الحمامات الَّتي تتراصف بجانب بعضها البعض، كأنها زنزانة صغيرة لكل فرد حيث لا مجال للحركة إلا داخل هذا المحيط المقيَّد، وكان الجميع يقاوم هذا الضيق والتزاحم كأنهم قد اعتادوا على تلك الظروف.

أطلق «زِهاد» زفرة حارَّة، ثمَّ قال بصوتٍ مفعمٍ بالاستياء، وكأنَّ الكلمات تخرج من بين شفتيه بضيق:
"أرغب بالتخلص مِن هؤلاء الحُراس، إنهم مزعجون."

أجاب «رويد» بهدوءٍ وطمأنينة وكأنَّ صوته يحمل عبيرًا من السكينة في مواجهة تذمر "زِهاد":
"لا تنزعج يا فتى، فاليوم ما زال طويلاً أمامنا، والكثير من الأمور لم تأتِ بعد."

كانت كلماته بمثابة بلسمٍ يخفف من ضيق «زِهاد» الَّذي بدأ يشعر بالراحة شيئًا فشيئًا.

بعد لحظات، اجتمع الجميع في غرفة الطعام، مئات مِن الشباب يجتمعون معًا حيث تهافتوا على طعام الإفطار، ونسيم الصباح يتسلل برفق من خلال النوافذ.

في تلك الأثناء اقتحم طاولة الطعام «جُرير»، ذلك الفتى الذي لا يهدأ، إذ يميل دومًا إلى العنف والحماس وكأنَّ الأرض لا تحمل سكونه.

جلس «جرير» على الطاولة بقوة وقسوة، ثمَّ حدَّق في «رويد» بنظرات حماسية مشتعلة، وأردف بصوت عالٍ بعض الشيء كأنَّ صدره لا يطيق الكلمات الَّتي تسارعت للخروج وخرجت على عجل:
"رويد، هل لاحظت التغيير في الخضروات هذه المرة؟ أخبرني من فضلك، هل كان هناك شيء مختلف؟"

ابتسم «رويد» ابتسامة دافئة وكأنَّ تلك الابتسامة تُعلن عن علمه بما يحدث، ثمَّ ردَّ بهدوء ولكن بكلمات تحمل إعجابًا ودهشة:
"لقد كان التغيير جليًّا مِن قبل أن أتذوقها حتَّى، لقد رأيت الخضروات وهي تنمو في الأرض، وكان من الواضح أنَّ هذه الخضروات والفواكه قد تغيرت كأنَّها قد نضجت من جديد، لقد أصبحت أكبر حجمًا، وأعدادها ازدادت، أما الطعم فبات ألذ مِن ذي قبل، لا يمكنني أن أنكر ذلك، ماذا فعلتم هذه المرة؟"

ضحك «جرير» ضحكة مليئة بالفرح، ثمَّ ردَّ وهو يسرد كلماته بالتفصيل:
"لقد أجرينا تعديلات جينية دقيقة زادت مِن العناصر الغذائية بها، وأعدنا ضبط نمو الخلايا والأنسجة لتحصل على الحجم والكمية التي تليق بها، كذلك جعلناها أكثر مقاومة للتلف والأمراض، فلم تعد تلك الخضروات سهلة العطب، لكننا لم نكتفِ بهذا فقط، فقد قمنا أيضًا بتحسين معدل النمو والنكهة، من خلال تقليل المركبات غير المرغوب فيها، لا شكَّ أنَّ «ميساء» ستكون في قمة الفرح بهذا الإنجاز."

بهذه الكلمات، كان «جرير» ينثر بين الحروف أسرارًا علمية، بينما كان الجميع يتبادلون النظرات المملوءة بالسرور كأنَّهم يشهدون نتيجة الفكرة تتجسد أمام أعينهم.

انتهوا جميعًا مِن تناول الطعام، ثمَّ تفرَّقوا في مجموعات، بعضهم توجه صوب مقارّه، وبعضهم أعدَّ نفسه للفحص المعتاد، وعلى الرغم مِن أنَّ الجميع يخضع لهذا الفحص بانتظام، إلا أنهم مقسَّمون على ساعاتٍ متفاوتة خلال اليوم كأنهم يُساقون بنظام صارم ودقيق لا يقبل العشوائية، ولا يسمح بحدوث خطأ واحد.

كان «رويد» أحد الذين حان موعدهم، فخطا إلى غرفة الفحص بخطواتٍ لم تحمل شيئًا مِن التباطؤ أو الاستعجال، لكنه كان يستشعر ثِقلًا غير مألوف كأنَّ هذا الفحص اليومي هذه المرة سيكون مختلف عن كل مرة.

ما إن ولج إلى غرفة الفحص حتَّى استقبله الطبيب بإيماءةٍ مقتضبة، ثمَّ أشار إليه بالدخول إلى كبسولة مُعلَّقةٍ تتدلَّى منها أنابيب شفافة تلتفُّ حول بعضها كالأفعى.

أُغلق باب الكبسولة بإحكام، وسرت في أوردته نبضاتٌ كهربائية واهنة لم تؤلمة، لكنَّها حملت برودةً أصبح معتادًا عليها، مكث هنيهةً، ثمَّ انفتحت الكبسولة تلقائيًّا، وخرج منها بخطواتٍ مُرتابة.

رمقه الطبيب بنظرةٍ فاحصة، ثمَّ سأله بصوتٍ خفيض: "هل تشعر بأي ألم؟"

لم يفكر «رويد» كثيرًا، بل أجابه بجمودٍ:
"لا."

لمعت في عيني الطبيب ومضةٌ مستترة، ثمَّ ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ خافتة، لا تندرج في باب السرور بقدر ما هي إقرارٌ لحقيقةٍ مريبة.

لم ينبس بكلمةٍ أخرى، واكتفى بإشارةٍ تُبيح له الانصراف، فخرج «رويد» من الغرفة، وما إن أوصد الباب خلفه حتَّى اِمتدت يد الطبيب إلى هاتفٍ ثابتٍ على الجدار، ورفع السماعة بحركةٍ تنضح بتوترٍ مكبوت، ثمَّ انتظر لحظةً حتى جاءه الصوت من الطرف الآخر، فقال بصوتٍ متهدج، لكنَّه حاسم:
"الفتى المُدعى «رويد»، رقم 1656، من الدفعة 100... لقد تحققت من أمره."

توقف قليلًا، كأنما يستوعب وقع كلماته قبل أن يُتمّها: "إنه لا يشعر بالألم، رغم كل التعديلات الأخيرة، لقد وصل إلى الحالة المثالية!"

ابتلع لعابه، ثمَّ أضاف بصوتٍ أكثر خفوتًا:
"ينبغي أن يُحصد قريبًا."

ذهب «رويد» إلى المعمل؛ ليواصل أبحاثه حول الأمراض، وبينما كان يشقّ طريقه بين الممرات الطويلة، إذ به يصطدم بشخصٍ مرَّ بجواره دون أن يتنبّه إليه كأنّه وهم خاطف أو شبح فانٍ، أصبح «رويد» متعجّبًا؛ فهو لم يعتاد على أن تخذله حواسه قطّ، فكيف لم يشعر بها أو ينتبه لوجودها؟!

رفع بصره إليها، فإذا به يلتقي بعينين عسليتين يشعّ منهما بريقٌ متوهج، كانت قصيرة القامة، بالكاد تبلغ المئة وستين سنتيمترًا، ينسدل شعرها الأسود حتى خاصرتها، مما يزيدها غموضًا.

كسا وجه «رويد» شيئًا مِن الاضطراب، فوجه بصره إلى الأرض على عجل متذكّرًا ما قرأه في ذلك الكتاب، ذلك الكتاب الَّذي ألزمه بغضّ بصره وصون قلبه.

لم يكن هذا الكتاب من مقرّراتهم، بل هو مما ظفر به بعد طول انتظار، فقد طلب من «ميسان» المشرفة الأولى ورئيسة المزرعة أن تتيح له كتبًا عن الأديان، إذ لم يكن يُسمح لهم هنا بمعرفة شيءٍ عن تلك الأمور، فقط يمضون أعمارهم بين أروقة المزرعة عاكفين على العلم والعمل دون أن يُلقّنوا أي معتقد، لكنَّه حين أحرز إنجازًا فارقًا حيث أنشأ علاجًا يُسكن ويقلل مِن الأمراض الَّتي تفتك بالعالم خارجًا، هنا منحته ميسان تلك الكتب كمكافأة، ومنذ ذلك اليوم، وجد روحه تنجذب نحو الإسلام، فاختاره دينًا.

تطلّع هو إلى الشريط المثبّت أسفل كتفها، فانعقدت في ذهنه صورةٌ جلية، أجل، لقد عرفها! إنَّها ساجية! ذاك الاسم الذي يتردّد كثيرًا في أروقة المزرعة، فهي لم تكن شخصًا عاديًا، هي والفتى الَّذي يُدعى «رهاف» طوّرا نظام المراقبة الأمني، وساهما في التصدي لعدّة محاولات غزوٍ إلكتروني كادت تعصف بالمزرعة.

لم يجد «رويد» عناءً في التعرف عليها؛ فهي من الدفعة رقم مائة مثله تمامًا، كما «رهاف» «وجرير» وبعض الأفراد القلائل، فلقد كانت دفعتهم مختلفة حيث غُلِفت بالغموض، إذ كانت الأقل عددًا، والأكثر استثناءً، فمنذ أن شُيّدت المزرعة، كان المعتاد أن يغادرها الأفراد فور بلوغهم الثامنة عشرة حيث يكون نموّهم قد اكتمل، ويغدو جسدهم حصينًا ضدّ الأمراض الفتّاكة بفضل التعديلات الجينية التي أُجريت عليهم، لكنّ الدفعة مائة وحدها خارج عن هذا المصير، إذ ظلّ أفرادها هنا رغم تجاوزهم سن العشرين! ترى أي سرٍّ يُخبّئه بقاؤهم؟!






Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top