(5)

بقلم:نهال عبد الواحد

وإذا بصوتٍ يقطع إنسجامهما هذا: ماذا يجري؟ ما الخطب؟

فالتفت الاثنان لمصدر الصوت فجأة فأكمل صاحب الصوت: من هذه؟

زين باقتضاب: معذرةً أبي! لكنها جميلة ابنة عمي.

فنهضت واقفة وقالت: مرحبًا عمي! لم نكن نعلم أنك في مصر، فلم أسمع بحضورك جنازة أبي!

محمد بتبلد: مرحبًا!

نظرت جميلة بينهما ثم قالت: سأذهب لصنع كوبًا من القهوة لزين، هل تريد عمي؟

فأجاب بنفس تبلده: حسنًا! لا بأس!

حملت جميلة الصينية فتبعها محمد بعينه حتى اختفت من أمامه ثم قال: كيف حالك ابني؟

أجاب بهدوء: في أحسن حال والحمد لله.

فتابع بمكر: ما أجمل هذه الفتاة إنها فاتنة حقًا! ترى كيف تقبّلت هيئتك؟! أراها تتعامل معك بأريحية وتلقائية! فلم تفزع من هيئتك مثلًا!

وقعت كلماته بداخل قلبه قبل سمعه، فتابع يخفي ألمه: لا لم تفزع من هيئتي ولا عاهتي كما ترى، بل تُسعدني وتُدخل السرور لقلبي بشتى الطرق، ترسم ضحكتي على وجهي المشوه ضحكة من القلب، تشعرني بقوتي لا بعجزي، حتى إني كنت قد نسيت هذه الهيئة.

فقال محمد بخبث وهو يؤكد على الكلمات: تسعدك بشتى الطرق!

فصاح زين بانفعال: لا لا، ليس الأمر كما تقصد إطلاقًا، ولن أسمح لمثل هذه الأفكار أن تغزو عقلك هذا، هي إنسانة نقية وطاهرة لا يمكن أن ترتكب الفاحشة حتى و لو أُجبرت، لها عِناد وقوة وعزة نفس لا يعرفها كثير من الرجال.

فأومأ والده برأسه يهزها قائلًا: أجل! فهي ابنة أحمد زين الدين، كتلة العناد والصلابة، المهم هي وقّعت على التنازل أم خدعتك ولم تفعل أي شيء؟

فأجاب بصرامة: هي لم تخدعني ، ولن توقع على شيء، ولن أسمح لها أن توقع على أي ورقة تنازل، معذرةً أبي! لكنه ليس حقك كما تزعم.

فأهدر الأب بغضب: إذن فقد خدعتك وغسلت عقلك.

فتابع زين وتلألأت عيناه بلمعة العشق: أجل هي غسلت عقلي بالفعل، لكن من ذلك الكره والضغينة التي حشوتني بها.

فقال محمد بسخرية: إذن فقد فشلت كما هو المعتاد، ستعيش فاشلًا وعاجزًا أبد الدهر، كم تضيع من فرص لتصبح شيء! لكنك تصر أن تكون لا شيء.

فتابع زين: إن كنت ترى هذا فشلًا، فهذا أعتز به.

فصاح فيه: ماذا تقصد بلامبالاتك هذه؟! هذا لم يكن اتفاقنا، ماذا دهاك؟

- قلت لك أبي أني في أحسن حال، وسأظل في أحسن حال مادامت جميلة معي.

- كأني أرى عشقًا دفينًا!

فتنهد زين بعشق شديد: أجل! فقد أحبتني وأحببتها، أحيت قلبي من سباتٍ عميق أشبه بسبات أهل الكهف، صار لقلبي فائدة غير وظيفته في ضخ الدم لسائر الجسد.

فتابع محمد بشيطنة: يا لك من ماكر! حتى أكثر من أبيك، أوقعتها في حبك وصارت كالخاتم في إصبعك لتصبح كل أوامرك مطاعة، عظيم ابني عظيم! كيف لم تخطر على بالي هذه الفكرة؟! فهي أفضل وأوقع، حب ثم زواج ثم إنجاب أطفال يؤول لهم كل شيء، حقيقة فكرة رائعة وأرحب بشدة بل وأبارك هذه الزيجة.

وكانت جميلة قد سمعت تلك الفقرة الأخيرة من كلام محمد فسقطت فجأة صينية القهوة وبدت معالم الصدمة والوجوم على وجهها، وقفت قليلًا تنظر بينهما ثم انطلقت مسرعة لغرفتها.

وما أن انطلقت جميلة حتى قال زين بانفعال لوالده: لماذا؟ لماذا؟ كل حساباتك بالمال لا شعور لا مساحة للقلب، لماذا تصر على إفساد كل شيء؟! ربما طاوعتك في خطفها في البداية لكني الآن أحبها ولن أقبل بإيذائها وسأقف أمام من يحاول إيذائها أيًا كان.

ونهض من فراشه مسرعًا ليلحق بها متسندًا ثم قطع باقي المسافة حجلًا على قدمه السليمة حتى إنه لم يأبه لذلك الكسر المتناثر أرضًا، ذهب يطرق باب غرفتها يحاول استرضاءها وهو يسمع لصوت بكاءها الذي يؤلمه للغاية.

ويقول متوسلًا لها: أرجوكِ جميلة! صدقيني أنا! أقسم لك إني لم أتلاعب بمشاعرك لأصل لهدف كما قال أبي، ربما خطفتك بوسوسة منه لكني بمجرد اقتحامك قلبي لم أعد أفكر إلا فيكِ وكيف أرضيكِ وأسعدك، ربما لا علم لي بذلك فكيف لمثلي أن يسعدك فالكفتين غير متساويتين على الإطلاق، ما تقدميه وما أقدمه، صدقيني لم تخطر في بالي هذه الفكرة لسببٍ بسيط، لم أتوقع يومًا أن ينظر إليّ أي إنسان نظرة تخلو من الرعب والإشمئزاز وإن كان الحظ معي فستكون نظرة عطف وإشفاق... التي أرفضها بشدة، أرجوكِ صدقيني! كيف لي أن أتوقع أن جميلة ستعشق وحشًا.

ففتحت الباب وهي تشهق من أثر البكاء: كفاك وصف نفسك بهذه الدونية.

فهمس لها برجاء: هل تصدقيني؟
فهزت برأسها أن نعم فضمها إليه وهو يمسح على شعرها برفق ثم أبعدها قليلًا ونظر في عينيها نظرة طويلة ثم قال بحزن: إرحلي من هنا جميلة! إرحلي لحياتك وعملك! لقد صرتي حرة ولا أريد أي تنازل ولن أقبل لك أن تتنازلي ولو عن شبر فهذا حقك.

فصاحت بألم: لماذا؟! لكني أريدك أنت، أريد جوارك، يبدو أنكما قد نسيتما أن لكما حقًا شرعيًا في إرث أبي فأنا ابنة أنثى وليس له أولاد ذكور ولا زوجة، وأنا لا آكل حق غير حقي هكذا رباني أبي، لكن لا تدعني أتركك، لا تبعد عني.

فأهدر زين بألم: هكذا اقتضت نهاية أكثر حكايات العشق الملتهب إن لم تكن كلها، النهاية الحتمية، الفراق.

فوضعت يدها على فمه وقالت: أرجوك لا تقولها!

فقبّل يدها تلك ثم أبعدها بهدوء وقال: ابتعدي الآن حتى أشعر أنني قادرًا على حمايتك، حتى أشعر بوجود دور أقوم به، حتى ألملم نفسي، وقتها فقط ستجديني أمامك سندًا ترتكزين عليه وليس عبئًا جديدًا.

فهمست: زين...

فقاطعها: ششش! هيا استعدي! سأتصل بهم يعدون سيارتك لتعودي لبيتك، لا بل سأرسل أحدهم معك لحراستك حتى أطمئن عليكِ.

فابتلعت ريقها وهي تقول بأمل: إذن فلنتحادث عبر الشات.

فأومأ برأسه أن لا قائلًا: لا، لا أحبه كما تعلمين، أحب أحدثك وعيناي في عينيك.

فأغمضت عينها فلا تجد أي سبب لتبقى لكنها لمحت بطرف عينها قدمه تنزف فصاحت فيه: زين! لقد جرحت قدماك، أنا السبب ليتني......

فقاطعها: ششش! لا يهم أنا بخير.

فهمست بتوسل: إسمحلي أضمدها لك، أرجوك!

فسارت معه تسنده وتتجه معه نحو غرفته، بالطبع كان كل شيء على مسمع ونظر أبيه.

دخلت معه غرفته حتى جلس في فراشه ومدد برجله فأحضرت علبة للإسعافات كانت موجودة فمسحت الدماء ولم يكن جرحًا غائرًا فمسحته بمطهر ووضعت كريمًا مضادًا ثم وضعت عليه لاصقة.

نهضت واقفة واتجهت لغرفتها تبدل ملابسها ولما انتهت عادت إليه لكنه امتنع عن لقاءها ثانيًا، طرقت بابه كثيرًا بلا فائدة ولا رد، فاضطرت للإنسحاب والذهاب ودموعها تنهمر دون توقف.

ركبت سيارتها بالخلف وتولى ذلك الحارس الأمين قيادة سيارتها وتوصيلها وحراستها كما طلب منه.

ركبت ولازالت تبكي طوال الطريق وتحدث نفسها:
أتحرمني منك؟ أتبعدني عنك؟!
رغم أن ليس لك حبيب غيري!
لماذا تحرمني من قلب ؟ ويظلمني حبك؟!
أتنسى الهوى؟! فبعدك هذا يؤلمني.
كأنك طير هرب من صاحبه وظل محلقًا لأعلى وصاحبك يرجوك ويتمنى أن تنزل إليه، وليس أمامي إلا أن أصبر عليك يا طيري رغم كل حيرتي وألمي، لكني لازلت أتسآل لمتى يطول ذلك البعاد الذي حكمت به علينا بلا مبرر؟!
وماذا يفيد؟!
لكن أعلم أنه مهما طال ذلك البعد فهواك قدري
و حبك وحده هو دوائي.

هكذا عادت جميلة لبيتها حزينة وبائسة، فقد كانت من سويعات فقط أسعد مخلوقة فهكذا الأحوال تتغير!

دخلت البيت و وجدت مربيتها في انتظارها، ربما لم تكن تعلم بموعد وصولها لكنها هكذا كل يوم تنتظرها، وما أن رأتها حتى تنحت من أمامها في غضبٍ واضح.

لم يكن لجميلة طاقة لمزيد من الألم، لكنها أسرعت نحوها.

تنادي عليها بوجع: دادة! ما هذه المقابلة؟! هكذا تقابليني بعد طول بعاد!

المربية بجمود: لقد نشأتي وترعرتي أمامي في بيت له من الآداب والأخلاق والقيم، لكنك وبكل أسف ضربتي بكل شيء عرض الحائط وظننتِ أنه بوفاة والديكي صار بإمكانك التسكع كما تشائين!

فصاحت تدافع عن نفسها: لا والله! أقسم لك ما فعلت ذلك قط، إنما هي ظروف اجتاحتني وارتطمت بي تحملني لأعلى وأسفل حتى ألقت بي كما ترين، لا إياك ونظرة الشك هذه! فلازلت بقيمي وأخلاقي، سأحكي لك كل شيء .

وجلست جميلة تقص عليها كل ما حدث منذ يوم اختطافها وحتى وقوفها تطرق باب زين بلا فائدة، كانت تحكي وتزيد بكاءها متألمة وتنصت إليها مربيتها بنفس الألم والحسرة، وما أن انتهت من السرد حتى ضمتها إليها فزاد نحيبها فربتت عليها تهدئها.
وقالت: إهدئي ابنتي! وسامحيني على سوء ظني بكِ، لكن إعلمي أن من قدّر لكما ذلك الحب قادر على أن يجمعكما معًا ولو بعد حين، فهو وحده من يقول للشيء كن فيكون، ستُحل وستُفرج بإذن الله، هيا ابنتي اذهبي لغرفتك واستريحي وسأعد لك وجبة خفيفة.

نهضت جميلة من أمامها وهي تشهق من أثر البكاء حتى صعدت غرفتها وهي على نظر تلك المربية المشفقة عليها ثم قالت لنفسها: إن الأعوام لتغير كل شيء إلا أنت يا محمد ستصبح كما أنت، حتى إن الحجر ليلين وتنفجر منه عيون الماء أحيانًا!

..............................................

NoonaAbdElWahed

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top