غفران
لا تتجاهلوا الأخطاء الإملائية، أخبروني بها؛ لأصححها
_________________________________
تُفنى أعمارنا، وتبقى أعمالنا مُخلدة، فانظر إلى ما أنت بفاعل.
حزن عميق حتَّى كاد أن يخرج صوت أنين، ضربات فؤاد تتآوه مِن ألم الذكريات، صرخات تدوي مِن الوجدان، ونزيف روح مِن ألم الذكريات، أوشكت العين أن تبكي بعدما اِلتمعت مِن آثر الدموع، ولكن أنقذتها تلك اليد الدافئة الَّتي ربطت عليها بحنان بالغ ودفىء.
كان لقاؤهما صدفة، لم يروا بعضهم منذ سنوات طوال، فلِمَ الآن يلتقون؟ أكان يجدر بهم اللقاء بعد مرور كل تلك السنوات؟
نظرت "غفران" بجوارها إلى تلك القريبة الَّتي لم تبعد عنها سوى بضع سنتيمترات بنظرات مليئة بالصدمة الممزوجة بالشجن والآسى، فتعلَّقت عينيها عليها لفترة حتَّى أن تذرف عَبراتها، ولكن آتتها يد ناعمة انتشلتها مِن ذلك الظلام الَّتي غرقت به، فسحبتها تلك اليد بعدما توقف القطار، وبدأ بعض الرُكاب بالنزول.
بينما تلك الفتاة أحاطها هدوء شديد كأنَّ الوقت توقف، لم يُوقِظها صوت القطار المزعج الَّذي كان يُعلن وصوله كأنَّه ينادي ويخبرالجميع أنَّ وقت الإنتظار انتهى، وها هو يصل، لم تنتبه لأصوات ضوضاء مَن حولها، فهذه تنادي على ابنتها الجالسة على أحد المقاعد، وهذا يصرخ على بعض الفتيات ليبتعدن قليلًا تاركين مسافة بينهم وبين القطار.
نظرت هي بصدمة تشائبت بالندم، فلاح فوق محياها الباهت علامات الحزن، ولم تتحدث إلا بكلمة واحدة خرجت مِن شفتيها بصعوبة:
"غفران!"
حاولت الاقتراب منها، فخطت خطوة واحدة نحو الأمام، لتتفاجأ مِن اندفاع الناس نحو باب القطار، فعادت بضع خطوات للخلف، وظلَّت أنظارها تبحث عن "غفران" الَّتي اختفت بين الحشود، فظلَّت تلك المدعوة "إيلاف" تبحث عنها، وتنظر حولها حتَّى سألتها تلك الواقفة بجوارها بعدما لاحظت رأسها الَّذي يدور باحثًا عن شيئًا:
عمَّ تبحثين؟
نظرت "إيلاف" لها بأعين تكاد تبكي، وتحدثت بصوتها الملىء بالندم:
رأيت صديقة لي لم أراها منذ زمن طويل.
انتبهت "غفران" إلى صديقتها "غادة" الًّتي كانت تجاهد في الصعود إلى القطار بعدما تجمع الناس حول الباب، فحاولت بقدر استطاعتها أن تبقى خلفها؛ لتتمكن مِن الصعود بعدها، وبعد معاناة استطاعت صعود القطار المزدحم، ولكنَّها لم تجد مقعدًا فارغًا، فوقفت في القطار.
انتبهت "غفران" إلى نظرات "غادة" الغاضبة المُوجهة لها، فبادلتها نظرات الاستغراب، وأردفت بصوتها الهادىء بعدما رفعت إحدى حاجبيها:
لِمَ تنظرين لي هكذا؟!
تنهدت "غادة" بعد سؤالها، ثمَّ أجابتها بهدوء مصطنع لعل ذلك يخفف مِن حدة غضبها:
لِمَ تصلَّب جسدكِ فجأة؟ ناديتكِ ولم تجيبي، كان مِن الممكن أن يتحرك القطار، وتبقين عالقة هنا منتظرة القطار القادم بعد ساعة!
تنهدت "غفران" بضيق كأنَّ هناك جبل ضخم فوق صدرها، ثمَّ غمغمت بضعف بعدما وضعت رأسها المُتثاقل على كتف "غادة" الواقفة أمامها:
رأيت شخصًا لم أرغب في رؤيته.
تفاجأت "غادة" مِن حالتها الَّتي تغيرت فجأة، وشعرت بالتردد، فلطالما كانت تجد صعوبة في المواقف الَّتي تواجها، ولكنَّها صمتت تاركة "غفران" تفعل ما تود داعية لها أن يربط الله على قلبها، وفي المقابل ظلَّت "غفران" على هذا الحال لعِدة دقائق.
أخذت "غفران" تفكر بعمق وتستعيد ذكريات الماضي الَّتي جمعتها في أحد أركان عقلها، ولم تجد أي صعوبة بتاتًا؛ فتذكر الذكريات الحزينة، والقدرة على جلد ذاتها هي كل ما تجيد وتبرع بشدَّة في فعله!
في تلك اللحظة خرج صوت صوت طفلة يصدع في رأسها وهي تردد بصوت يملئه السخرية
أليس لديكِ أم؟
ظلَّت هذه الجملة تتردد في رأسها، وتغزوا كل مكان بها كأنَّها عدو وحشي يواجهها في معركة طاحنة، وكانت هي جنديًا عازلًا يرى تعدي الغزو على أرضه وهو عاجزًا عن القتال بعدما خذلته قدمه عن الحراك، وأحاطت به النيران الَّتي بمرور الوقت تندفع نحوه.
شعرت "غفران" بالاختناق، وبدأ جسدها يرتعش كالشخص الذِّي تنهش بجسده برودة الشتاء، فانتبهت "غادة" إلى اهتزاز جسد "غفران" المُقترب منها، فوضعت يدها على كتفها، وقالت بصوت يحتله القلق:
هل أنتِ مُتعبة؟ كيف تشعرين؟!
لاحظ بعض الرُكاب "غفران" المستندة على كتف صديقتها، فأسرع شاب بالوقوف متخليًا عن مقعده لها بعدما عانى في الحصول عليه، فأجلستها "غادة"، وأخذت تسألها وخوفها يزداد رويدًا رويدًا:
ما بكِ؟ كيف تشعرين؟
وبسبب عدم وصول الأكسجين لها أصبحت تشعر بالدوران، فرفعت إصبع السبابة يدها وحرَّكما بشكل دائري ببطىء، فهتفت الفتاة الجالسة على المقعد المجاور لها:
يبدوا أنَّها تجد صعوبة في التنفس.
تجمع العديد حولها، وأخذوا ينظرون لها بفضول كأنَّ هذه المرة الأولى الَّتي يرون بها شخصًا مُتعبًا، فصرخت تلك الفتاة بعدما نظرت لهم بغضب:
ابتعدوا عنها؛ كي تستطيع التنفس!
أخرجت تلك الفتاة كتابًا مِن حقيبتها، ثمَّ أخذت تحركه يمينًا ويسارًا ليطلب لها بعض الهواء،
وبعد قليل تحسنت حالة "غفران"، وعادت بخير كما كانت، فظلَّت "غادة" تربط عليها بحب.
كانت "إيلاف" واقفة بالقرب مِن باب القطار تراقب "غفران" الواقفة في المنتصف، فظلَّت أنظارها مُعلقة عليها، ولم تنتبه لصديقتها الَّتي أمالت بجسدها قليلًا تتحدث إلى رجل في منتصف العمر، وشابان، وفتاة يجلسون في مقاعد مواجهة لبعضهم.
لحظات حتَّى وجدت شابًا يقف بسرعة أفزعتها، قائلًا:
تفضلي بالجلوس يا آنسة.
نظرت "إيلاف" إلى صديقتها "استبرق" والَّتي تكون أيضًا ابنة عمها، فابتسمت لها بعذوبة، فعلمت أنَّها أخبرتهم بحالتها الصحية؛ ليتخلى أحد عن مقعده، فجلست وظلَّت تراقب "غفران" حتَّى وجدتها تستند بضعف بجسدها على صديقتها.
ارتفعت سرعة نبضات قلبها، وشعرت بالقلق عليها، فحاولت الوقوف والسير نحوها حينما وجدتها شبه فاقدة للوعي والجميع يتجمع حولها، فهمَّت لتقف، ولكن جائها صوت "استبرق" الَّذي أوقفها متسائلًا:
إلى أين أنتِ ذاهبة؟!
فأجابتها "إيلاف" وهي توجه أنظارها إلى"غفران":
إنَّها صديقة قديمة لي، يجدر بي الذهاب لها.
تنهدت "استبرق"، ثمَّ وضعت يدها على كتفها بعدما اقتربت منها، وغمغمت بصوتها الطيب:
اجلسي يا "إيلاف"، ذهابكِ لها لن يغير شيء.
بعدما جلست "غفران" لم تستطع "إيلاف" رؤيتها، وبعد مرور قليل مِن الوقت توقف القطار عند إحدى المحطات الَّتي نزل بها عدد كبير مِن الرُكاب، ولم يقف أحد سوى اثنان، وفي تلك اللحظة استطاعت كلتاهما رؤية بعضهم بوضوح.
تبادلن النظرات الَّمختلفة لبعضهم، فإحدهما تنظر بعتاب وألم، والأخرى تنظر لها باستحياء وندم، ولكن امتزجت نظراتهن بالحزن، وعلى الرغم مِن اِختلاف نظراتهم، إلا أنَّها اشتركت في شيء، فأخذت كلا منهن تستعيد ذكريات الماضي الَّتي لم تكن جميلة على الإطلاق.
كانت "غفران" جالسة بمفردها على أحد المقاعد، والشعور بالوحدة ما كان يسود قلبها، ثمَّ استمعت لصوت "إيلاف" الَّتي أردفت بسخرية لم تخلوا من التقزز بعدما اقتربت منها:
ما بال شعركِ يشبه الأسلاك؟ ألا تمشطيه؟!
رفعت "غفران" عينيها، ونظرت إلى "إيلاف" المرتدية فستانًا ورديًا رائعًا، وزينت شعرها الناعم الممشط جيدًا بأشكال مِن الورود، فشعرت بالحرج أمامها، وخفضت رأسها بحزن وحرج، بينما أكملت "إيلاف" ملقية الكلام على عواهنه:
لِمَ ترتدين دائمًا ملابس متسخة؟ أليس لديكِ أم؟ تبدين كالغولة!
ضحك الأطفال بعدما ألقت "إيلاف" بكلماتها الغير المبالية والَّتي جرحت خاطر "غفران"، وبدئوا جميعًا بتكرار مناداتها بالغولة باستمتاع، ثمَّ دخلت المعلمة الَّتي سمعت هتافات الأطفال، ولكنَّها لم تكلف نفسها بمعاقبة الأطفال، وبدأت الحصة كأن لم يكن هناك شيء.
وبعد حوالي ساعة ونصف جاءت والدة "إيلاف" المدعوة "بنجوى"، وما إن رآت "غفران" حرَّكت عينيها بتقزز، ثمَّ تنهدت بضيق، وأردفت بضجر بعدما أمسكت بيد ابنتها:
لقد جعلتكِ تشتركين في مجموعة مكونة مِن خمسة أطفال فقط؛ كي يكون معكِ أطفال جيدون.
نظرت "نجوى" نحوه "غفران" بضيق، ثمَّ أكملت حديثها بقسوة:
أخبري والدتكِ أن تشترك لكِ في مجموعة عامة، وبالمال الذي سوف توفره مِن هذه المجموعة يمكنها شراء ملابس أفضل لكِ.
غادرت "نجوى" الغرفة، فخرجت "غفران" بعدها تنتظر أبيها أمام الباب وهي تبكي، دقائق قليلة حتَّى وجدت أبيها يقف أمامها، وما إن رآته إزداد بكاؤها، وأسرعت نحوه، وألقت نفسها في عناقه، فعانقها والدها بخوف شديد، ثمَّ أخذ يجفف دمعها الحار وهو يكاد يُصاب بالجنون؛ لرؤية دموعها، ثمَّ قال:
ما الذي يبكيكِ؟وهل ضربتكِ المعلمة؟
حرَّكت "غفران" رأسها تنفي اعتقاده، ثمَّ روت له كل ما حدث مِن بين شهقاتها المصحوبة بصدرها الذي يعلوا ويهبط بصوتها الشجي، فشعر والدها "مصعب" بالغضب الشديد، وأسرع إلى الداخل وهو حاملًا ابنته، وما إن رآى المعلمة تجلس وحولها بعض الأطفال، أسرع نحوها وقال:
يا لكِ مِن معلمة غير مسئولة! هل أنتِ حقًا معلمة! كيف تجرؤين على ترك الأطفال يتنمرون على ابنتي؟ أهذا ما تجيدين فعله؟
شعرت المعلمة بالحرج، ثمَّ حاولت التحدث بصوتها المتوتر بعدما أراقت ماء وجهها، ولكن أوقفها صوت "مصعب" الجشي بعدما صرخ بها بصوته بشدة مخرجًا ما في جعبته:
لا أحتاج سماع هرائكِ، أقسم أنَّ مَن سيتنمر على ابنتي مجددًا سأوسعه ضربًا.
أخرج "مصعب" المال مِن جيبه، ثمَّ قال بتكبر وعلو وهو يرفع رأسه، وينظر إلى المعلمة نظرات استحقار بعدما ألقى المال أرضًا ليتناثر:
هذا مالكِ، ولا نحتاج لكِ بعد الآن.
خرج "مصعب" حاملًا بيده "غفران" الَّتي توقفت عن البكاء وسكنت في عناقه بعدما صبَّ والدها جام غضبه على المعلمة، ولكن كلمات "إيلاف" ما زالت تتردد في أذنها، ما زال تأثيرها الَّذي لم يذهب أدراج الرياح يعبث بداخلها، فهي بالفعل ليست لديها أم، توفت والدتها بعد ولادتها بسنتين، لذلك لم تجد مِن يهتم بها كثيرًا، فأصبحت تتعرض للتنمر مِن قِبل "إيلاف" عِدة مرات، أحيانًا كانت تقل أنَّها قذرة مما يدفع الأطفال بالتقزز منها وعدم مشاركتها للعب معهم.
حرَّكت "غادة" "غفران" المشتتة، فعادت "غفران" إلى الحاضر، ونظرت إلى "غادة" الَّتي أردفت:
المحطة القادمة هي محطة بلدتنا، فلتستعدي للنزول.
بعد قليل نزلت "غفران" مع "غادة" الَّتي أصرَّت على عدم تركها، وما إن وصلت للبيت ودعتها "غادة"، فطرقت باب المنزل، ووقفت تنتظر أن يُفتح لها الباب، فهي تعلم أنَّ أخيها الصغير لن يفتح لها حتَّى تتعفن بالخارج.
ولكن على عكس المُعتاد، فإذا بالباب يُفتح، ليظهر أخوها"سليم" الواقف خلف الباب، وما إن رآها اقترب منها بسرعة، ونظر لها بفضول وهو يتفحصها حتَّى سألها:
هل أحضرتِ لي الحلوى كما أخبرتكِ؟
ابتسمت له "غفران" بدفىء، ثمَّ أخرجت كيس حلوى متوسط الحجم مِن حقيبتها، وما إن رآه "سليم" تهللت أساريره، فأمسك الكيس، وعاد يصرخ بسعادة، فسعدت غفران لسعادته.
دخلت غفران إلى المنزل بعد يوم طويل، ثمَّ غيرَّت ملابسها، وأسرعت نحو الفراش لتأخذ قِسطًا مِن الراحة، وبعد مرور ساعتين أيقظتها "مريم" ابنة زوجة أبيها "إيمان" لتناول طعام العشاء.
خرجت "غفران" مِن الغرفة، وبدأت بتناول الطعام مع أسرتها، وكم كانت سعيده بأسرتها، فلقد تزوج والدها واِعتنت بها زوجته حينما كانت صغيرة، وأصبحت تربطها علاقة قوية "بمريم"، في البدايه لم تكن علاقتهم قوية، ولكن بعد مرور السنوات أصبحا كأختان، "وسليم" هو الناتج عن زواج أبيها وزوجة أبيها.
وبعد تناول الطعام حملت "مريم" الصحون، فعادت "غفران" إلى غرفتها، وأمسكت هاتفها، وما إن وصل إليه الإنترنت، فإذا بإشعارات تظهر على الشاشه مِن الخارج قادمة مِن تطبيق الماسنجر.
لم تفتح غفران الرسالة، وقرأتها مِن الخارج، لتجد حساب صاحب الرسالة باسم "إيلاف غيث"، وكان محتواها:
مرحبًا "غفران"، كيف حالكِ؟
تجاهلت "غفران" الرسالة، وأزالت الإشعار بغضب، فهي لا تريد أن تتذكر الماضي مجددًا، ثمَّ فتحت تطبيق الفيس، وأخذت تشارك ما يقابلها على حسابها الشخصي.
بينما في منزل "إيلاف" كانت تجلس على الفراش تبحث عن حساب "غفران" على تطبيق الفيس بوك، لم تجد صعوبة في إيجاد حسابها؛ فلقد كان هناك عِدة أصدقاء مشتركين، فأرسلت لها طلب صداقة، ثمَّ أرسلت لها رسالة صغيرة وهي تأمل أن تجب عليها.
ظلَّت "إيلاف" تراقب المحادثة منتظرة ردَّها، ولكن لم يأتيها أي رد، فتنهدت بثقل، ثمَّ تفحصت حساب "غفران" لتجدها قامت بمشاركة منشور منذ دقيقتين فقط لتعلم أنَّها تجاهلتها، فعادت لترسل لها مجددًا:
أعلم أنِّي آذيتكِ في الماضي، ولكني نادمة على ما فعلت، وأود الاعتذار عما بدر مني، أرجوكِ فلتغفري لي.
وصلت الرسالة إلى "غفران"، لتقرأها مِن الخارج، فشعرت بالاختناق مجددًا، وأغلقت هاتفها، وتركته بعيدًا عنها بعض الشيء، وأخذت تبكي، فعلى الرغم مِن مرور السنوات إلا أنَّ الجرح لم يُشفى ويطيب، ويبدوا أنَّه فُتِح، وعاد ليؤلمها نزيفه مِن جديد.
خبأت "غفران" وجهها في وسادتها بعدما عجزت عن كتم دموعها، ثمَّ رفعت وجهها بغضب، وأخذت تضرب الوسادة بعنف، وتحرك قدمها بعشوائية على الفراش، وهي تكرر:
لِمَ عدتي؟! أكرهكِ كثيرًا، أقسم أنِّي لن أسامحكِ حتَّى لو كانت مسامحتي هي ما تفصل بينكِ وبين الجنة!
وضعت "غفران" رأسها مجددًا على الوسادة، ثمَّ أغمضت عينيها، وبدأت تستعيد ذكرياتها بعدما ابتعدت عن "إيلاف"، ظلَّت سنتين لا تصادق أحد حتَّى آتت غادة، كانت معها في الفصل والعديد مِن الدروس، وبعد مدة ليست بقليلة أصبحوا صديقتين، لم تدرك "غادة" أنَّ والدة "غفران" متوفاة إلا في المرحلة الثانوية بعد تعرفها على "غفران" بست سنوات!
أخفت "غفران" الأمر؛ كي لا تشعر بالنقص، وفي المقابل تقبلت "غادة" الأمر بعدما تفهمت مشاعرها، فأكملا معًا السنتين حتَّى فرقتهم الكلية، لتدخل "غفران" كلية التربية، بينما "غادة" دخلت كلية الطب البيطري.
وعلى الرغم مِن اختلاف الكليات، إلا أنهم يجتمعن ويذهبن لمنازلهم معًا إذا توافق معاد خروجهم، وعلى هذا الحال مرَّت السنوات حتَّى أصبحت "غفران" في السنة الأخيرة مِن الكلية.
أغمضت "غفران" عينيها بتعب وإرهاق شديد، فليس فقط جسدها ما يؤلمها، ثمَّ غفت بقلب مفتور، واستيقظت فجأة بعدما كانت تشعر بأنَّها تسقط مِن فوق الفراش، ثواني حتَّى استمعت لصوت أذان الفجر، فأغلقت عينيها بكسل لتكمل نومها، ولكن دار سؤال في رأسها:
ماذا لو مت الآن؟!
فسرعان ما فتحت عينيها مجددًا، ومسحت بيدها على وجهها، ثمَّ ذهبت إلى المرحاض لتتوضأ؛ لتؤدي صلاتها، وبعدما انتهت عادت لتنام مجددًا.
في ذات اليوم الساعة الواحدة ونصف ظهرًا، وقفت "غفران" في المطبخ تقطع الخضروات، بينما كانت "إيمان" تعد الأرز، وفي لحظات مِن الهدوء، سألتها غفران:
لو شخص آذاكِ كثيرًا، هل سوف تسامحيه؟
شعرت "إيمان" بالاستغراب مِن سؤالها المفاجىء، ولكنَّها تجنبت فضولها، ورَّدت عليها:
إن كنت بوسعي مسامحته، فلِمَ لا أسامحه؟
تركت غفران السكين مِن يدها، ثمَّ وجهت عيونها نحوها، وأردفت بحزن بالغ:
حتَّى لو آذاكِ كثيرًا؟
تنهدت "إيمان"، ثمَّ ابتسمت وهي تحرك الطعام قبل أن تقل:
بعض الأفعال تجرح القلب بشكل قد يؤدي إلى كسره، مما تؤدي تلك الأفعال إلى الكره، ولكن لِمَ علينا أن نحمل الكره لبشر لا يستحقون أن نتذكرهم حتَّى، فإن كنتِ قادرة على المساحة لتسامحي، ولكن لا تنسي، وإن عجزتي فلا تضغطي على ذاتكِ، فأنتِ الأهم في النهاية.
صمتت "غفران"، وعادت تُحضر الطعام، ثمَّ سمعت صوت "إيمان" يخبرها:
إن أحببتي قول شيء يمكنني سماعكِ.
تنهدت غفران بضيق، ثمَّ سردت لها ما حدث في الماضي، فشعرت بالحزن عليها وأدركت لِمَ كانت دائمًا ما تطلب منها الاهتمام بمظهرها بشكل مبالغ بعدما تزوجت بوالدها، فقالت:
لا يمكنكِ النسيان إذًا، ولكن لم يكن ذلك خطأ الطفلة، في نهاية الأمر هي طفلة، كل اللوم يُلقى على والدتها، فلا يُجنى مِن الشوك العنب، ستُعاقب والدتها بالتأكيد، لذلك أخبريها أنكِ تسامحيها، فلقد عادت نادمة لتعتذر عن شيء فعلته في طفولتها الَّتي لن تُحاسب عليها.
أكملت غفران تحضير الطعام، ثمَّ عادت إلى غرفتها بعدما تركته على النار، وأمسكت هاتفها لتجد رسالة مِن "غادة" على تطبيق الواتس محتواها:
أتعلمين فتاة تُدعى "إيلاف"؟ إنها في مثل عمرنا.
_أجل.
فأرسلت لها "غادة" صورة التقطتها قد أنزلتها إحدى الفتيات حالة على الواتس طالبة منهم الدعوة إلى "إيلاف" قبل أن تدخل العمليات بيومين، فُزعت "غفران"، ولكن ما زاد صدمتها حينما قالت "غادة":
إنها مصابة بسرطان الرئة، لِمَ لا نزورها؟
تركت "غفران" الهاتف مِن يدها ليقع منها على الفراش، ثمَّ وضعت يدها على فمها بصدمة، وأسرعت ترد على رسائل إيلاف بأيديها المرتعشة:
أسامحكِ، أنا أسامحكِ على كل ما فعلتيه.
انتظرت "غفران" أن ترى "إيلاف" الرسالة، ولكن انتهى اليوم ولم تراها، وفي اليوم التالي ذهبت "غفران" مع "غادة" إلى المستشفى، وأسرعن نحو غرفتها، وقبل أن تدق "غفران" الباب تنهدت، ثمَّ سمعت بصوت يقول:
تفضل.
دخلت "غفران" إلى الغرفة، وما إن رآت "إيلاف" صُدمت، لم تكن مرتدية حجاب يخفء رأسها الخالي مِن الشعر، ولم تكن تضع أي مِن مستحضرات التجميل هذه المرة، فلم تكن تمتلك حاجبيها أو ورموش، بينما بدت بشرتها أكثر إصفرارًا عن ذي قبل، فهذه المرة كانت خالية مِن جميع مساحيق التجميل، فظهرت بمظهرها الَّذي يجعل مَن يراها يشفق عليها،
فاهتز قلبها فور ما رآتها.
كان العديد مِن أصدقاء "إيلاف" في الغرفة مجتمعين حولها ويتحدثان معها، وبعدما رحبت بهم "إيلاف" طلبت مِن الجميع المغادرة قليلًا؛ لتتحدث مع "غفران".
خرج الجميع، فنظرت "إيلاف" أرضًا، لم تستطع أن ترفع عينيها نحو غفران بعد ما فعلته سابقًا، فخرج صوت بكاءها، وقالت بحزن وندم:
أنا آسفة، آسفة على كل ما فعلته، أنا نادمة، لا يمكنني الموت بسلام، وهناك قلب كنت السبب في تحطيمه.
ظلَّت "غفران" تقف بعيدًا عنها بعض الشيء بينما أكملت "إيلاف" بحزن ممزوج بندم:
أدركت أنِّي مصابة بالسرطان مؤخرًا، وهنا استيقظت وكأنِّي كنت في غفلة، حاولت فِعل كل الأمور الطيبة، ثمَّ رأيتكِ، وتذكرت ما فعلته بكِ، لا يمكنني لقاء الله بعدما فعلته بكِ، أرجوكِ لتغفري لي، كنت مخطئة بتنمري عليكِ، لقد ارتكبت ذنبًا لا يُغفر، أنا آسفة، أنا حقًا آسفة.
بكت "إيلاف" بشدَّة، وارتفع صوت بكاءها، فاقتربت منها "غفران" الَّتي بكت لبكائها هي أيضًا، ثمَّ عانقتها بقوة، وكلا منهم نادمًا، إحدهما نادمةً على ما فعلته، والأخرى نادمة؛ لأنها لم تكن تنوي السماح!
أردفت "غفران" بصوتها المرتعش حزنًا:
أسامحكِ بقدر أذاكِ لي، أمام الله أنا أسامحكِ، الله يغفر الذنوب، فكيف ألا أغفر أنا؟ ولا تذكري الموت، فالله قادر على فعل المعجزات، وكما جعل أخرج سيدنا يوسف مِن البئر وحوله مِن عبد لعزيز مصر، وكما أخرج سيدنا يونس من بطن الحوت، يمكنه أن يشفيكِ.
مسحت "إيلاف" دموع "غفران" بعدما ابتسمت، وظلوا يعانقان بعضهم دون كلام، وبعد قليل عاد الجميع مجددًا للغرفة، فنظرت "إيلاف" بحب إلى "غفران"، ثمَّ قالت:
ليست هناك ذكرى سعيدة لنا، لذلك لنلعب لعبة الورق.
لعب الجميع معًا، وضحكوا بشدّة، وعاد كلا منهم إلى بيته، وبعد مرور يوم جاء اتصال إلى "غفران" يخبرها بوفاة "إيلاف".
بكت "غفران" كثيرًا حتَّى شعرت بأن قلبها يكاد ينفجر، لم تكن تدري أنَّ ذلك الاعتذار، وتلك اللعبة سوف تغير مكانة "إيلاف" في قلبها، وفي هذه الفترة البسيطة فقط!
بعد مرور أسبوعين جلست "غفران" في أحد المقاهي أمام والدة "إيلاف" الَّتي سلمتها ظرفًا به جواب، ففتحت الجواب لترى ما به:
عزيزتي غفران، أعتذر عما بدر مني سابقًا، كنت طفلةً ساذجةً لا تدري شيىء، ولا تعي ماذا تفعل، ولم أدرٍ عن وجع الفؤاد، أنا أعلم أنِّي آذيتكِ كثيرًا، ولكن لتغفري لي، أعلم أنِّي لا يجدر بي طلب مسامحتكِ، ولكنٍّي أعلم أنكِ لينة القلب، ورجاءً انسي تلك الذكريات السيئة، ولتتذكري دومًا لعبنا معًا، لقد كان اللعب معكِ ممتعًا، فيا ليتني لعبت معكِ منذ زمن، ولذلك حاولي أن تبقى تلك الذكرى مخلدة، سأكون سعيدة بهذا، وبالطبع لن أنسى مغفرتكِ لي، إن كنت على قيد الحياة فسأسلمكِ هذه الرسالة بنفسي مصحوبة بزهرة حمراء اللون، فلقد علمت مِن أحد منشوراتكِ عشقكِ للزهور الحمراء، وإن أراد الله لقائي، فستسلمكِ الرسالة والدتي مع بتلات زهرة حمراء مجففة، ولذلك تذكريني بالخير دومًا، تذكري لعبنا معًا، وإن استطعتِ نسيان تلك الذكرى الحزينة، سأكون سعيدة جدًا.
أخرجت "غفران" مِن الظرف بتلات زهرة حمراء مجففة لم يخرج مِنها عبقها، فاستنشقتهم بحب، فاقتحم قلبها حزن عميق حتَّى كاد أن يخرج صوت أنين، ضربات فؤاد تتآوه مِن ألم الذكريات، صرخات تنبع مِن الوجدان، ونزيف روح مِن ألم الماضي، أوشكت العين أن تبكي بعدما اِلتمعت مِن آثر الدموع، ولكن هذه المرة لم تكن هناك يد تنقذها، فبكت، وبكت معها والدة "إيلاف".
ألقى الكلام على عواهنه قاله من غير فكر
تمت بحمد الله.
آراء؟
نقد بناء؟
هل مِن أحد يعطيني نصيحة لتطوير سردي؟
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top