الفصل السابع
سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم
***
(الفصل السابع)
* قبل عشر سنوات *
فتح عينيه بذلك المكان المجهول ، شعر ان جسده مسترخي فلم يحرك ساكناً ، عيناه جالتا بالمكان بصمت في محاولة لتذكر ما الذي حدث له ..؟ اخر ما يذكره هو نفيه قرب حدود مملكة هالين ... حرك جسده ببطيء شديد و اعتدل بجلسته ، تذكر جزء من ما حصل فوضع يده على رأسه حين عادت اليه ذكرياته السوداوية عما اصابه .. نقل عينيه في المكان ليجد نفسه في غرفة بسيطة لا تحتوى سوى علي خزانة و السرير الذي ينام عليه و طاولة صغيرة قرب السرير و رغم انه لم يكن يشعر باي ألم إلا انه كان متعباً بشكل كبير و رغم ذلك وقف علي قدميه ليأخذ دقيقة مستجمعاً قوه قبل ان يسير بخطوات بطيئة باتجاه الباب و ما ان حاول فتحه حتي قطب حاجبيه بضيق حين وجد انه مقفل و لم يكن مستعداً لينتظر ان يأتي من يحتجزه في هذه الغرفة ليشرح له فاتجه الي النافذة لكن ما ان فتحها حتي ارتسمت الصدمة علي ملامحه فالضباب كثيف جداً لدرجة انه لا يستطيع رؤية شيء مما حوله حتي الارض ، كان يفكر بالقفز من النافذة لكن المنظر لا يشجع علي ذلك و يشعر بالوهن في قدميه و ليس متأكداً حتي من المسافة .
- لا انصحك بالقفز من هنا.
تراجع للخلف بسرعة من الصوت الذي همس في اذنه لتتسع عيناه بصدمة من العجوز الذي يقف قريباً منه ، كيف دخل الي الغرفة و كيف وصل اليه و هو لم يسمع لا صوت فتح الباب و لا خطوات احد خلفه لكنه حاول تمالك اعصابه و سأل بهدوء:- اين انا ..؟ وكيف وصلت الي هنا ..؟ و من انت ..؟ .
غمغم العجوز بتذمر:- شباب هذه الايام يسألون كثيراً من الأسئلة.
قطب سايروس حاجبيه بضيق أيجب ان يتنبأ بإجابات أسئلته مثلاً ..؟! اي احد في مثل وضعه كان سيسأل مثله لكنه قرر الدوس علي كبريائه و فضوله و قال باحترام:- شكرا لك لمساعدتي لكن نحن لسنا في اركيديا صحيح ..؟! .
- لا ، انت في هالين الان .
انتابه نوع من الراحة فلن يقع هذا العجوز الطيب في مشكلة لأنه ساعده فالقوانين تمنع مساعدة من يصدر في حقهم حكم النفي .
امسك العجوز بيده و قاده ليعيد للجلوس علي السرير و هو يقول:- سأحضر لك الطعام فقد كنت اسقيك رشفات من الماء طول فترة فقدانك لوعيك .
لم يعطه العجوز الوقت ليقول شيء فقد خرج من الغرفة مغلقاً الباب خلفه مما جعل سايروس يتسأل كم يوماً ظل نائم ..؟! .
لم يطل انتظاره فسريعاً ما عاد العجوز و بيده صينية حملة وعاء كبير من حساء و قطعة خبز مع كوب ماء ... حدق بطبق الحساء الكبير لكنه لم يكن ليعترض فقد مر وقت منذ تناول شيئاً ، اقشعر جسده حالما تذكر برودة و رطوبة الزنزانة التي كان محتجزاً فيها و الحرمان من الطعام و الماء .. ايقظته يد العجوز التي لامست كتفه ليقول:- لا تفكر كثيراً تناول طعامك .
اومأ سايروس بصمت ليمسك الملعقة و يبدأ بالأكل بسرعة حالما فاجأته لذة الحساء بينما العجوز يبتسم بلطف اراحه فقد نبذه الجميع في الآونة الاخيرة .
ما ان انهي صحنه حتي انتبه ان كان وحيداً بالغرفة تسأل للحظات متي غادر العجوز ..! فهو لم يشعر به او ربما جوعه و انشغاله بالطعام جعله لا ينتبه علي ما حوله ... وضع الصينة علي الطاولة و ذهب باتجاه الباب ليجد انه مزال مقفلاً ... تسأل بضيق ما مشكلة هذا العجوز و لما يحتجزه لكنه ابعد اي افكار سيئة فربما هو لا يثق بالغرباء رغم انه استقبله في منزله و ساعده ... عاد للاستلقاء علي السرير وهو يشعر بالملل و رغم انه لا يعرف الوقت لكنه خمن انه المساء ، ظل يفكر في امور متفرقه و سريعاً ما داهمه النوم .
***
استيقظ مقطباً حاجبيه بضيق حين ازعجته اشعة الشمس التي تسللت الي داخل الغرفة ، نهض من السرير ليتجه للباب لكنه وجد انه لايزال مقفلاً كما كان مما دفعه لتفقد النافذة و كم شعر بالعار من نفسه حين وجد ان النافذة التي كان خائفاً من القفز منها بالأمس بالكاد تبعد متر عن الارض لكنه اخذ يبرر ان خوفه كان سبب كثافة الضباب .
- صباح الخير .
كاد قلبه يتوقف من الفزع حين سمع صوت العجوز خلفه ليلتفت بسرعة و يجده يجلس على السرير مما جعله يسأل بذعر:- كيف دخلت إلى هنا و الباب مقفل ..؟!.
رسم العجوز ابتسامة خفيفة و هو يقول:- اسف احياناً انسي ان البشر يستعملون الابواب .
قطب سايروس حاجبيه غير قادر علي فهم ما عناه العجوز الذي وقف ليتجه للباب و اخرج مفتاح و يقوم بفتحه و الخروج من الغرفة ليلتفت بعدها الي سايروس و يقوم بالتعريف عن نفسه:- بالمناسبة ادعى فرانز و انت..؟ .
- اسمي سايروس ياسيدي .
رسم فرانز ابتسامة ودودة و هو يقول:- لا داعي الرسمية نادني بعمي فقط فانت كأحد ابنائي.
اومأ سايروس بصمت و اخذ يتأمل ارجاء الكوخ صغير الذي يحتوى على موقد في احدى الزوايا بالإضافة لخزانة قربه و حوض لغسل الاطباق و هناك طاولة بأربع كراسي و هناك بابان احدهما لغرفة غير التي كان فيها و الاخر خمن انه لابد ان يكون الباب الخارجي للكوخ .
قاطع تفكيره دخول رجل في منتصف الثلاثينات بشعر بني و عيون ذهبية الي الكوخ ... تسأل سايروس للحظات ان كان ابن العجوز رغم انهما لا يشبهان بعضهما .
- اخيراً استيقظت الجميلة النائمة .
شعر سايروس بالضيق من لهجة السخرية الواضحة في كلمات ذلك الرجل و لم يرتح له ... قراء العجوز فرانز نظرات التساؤل في عينيه ليقول:- هذا آيزاكل لاندرو و انا اعده كأبن لي انه يعيش هنا مؤقتاً اما انا فازوره كل حين .
غمغم آيزاكل بانزعاج:- ألا تلاحظ يافرانز انك تهتم كثيراً بهذا البشري المدلل ألا يكفي انقاذك لحياته البائسة .
رغم استنكار سايروس لوقاحة آيزاكل هذا إلا ان كلمة بشري هي ما استحوذت علي كل اهتمامه فهذه المرة الثانية التي يتم ذكر الامر كأنهما ليسا بشرين و اذا لم يكونا كذلك فماذا يفترض بهما ان يكونا ..؟! .
فهم آيزاكل نظرات سايروس الضائعة بينهما مما جعله يرسم ابتسامة مستفزة ليشير بيده و خلال ثواني انخفضت درجة الحرارة و انتشرت طبقة رقيقة من الجليد على الجدران .
شحب وجه سايروس و اعتلت الصدمة و الفزع ملامحه و هو يحاول ان يقتنع نفسه انه يهذي لكن البرد الذي يشعر انه ينخر عظامه كان حقيقياً و قبل ان يستطيع التراجع انتشر الجليد من حوله لكن سريعاً ما اخفض آيزاكل يده ليعود كل شيء لهيئة الاولي و يختفي الجليد و البرد ، اخذ آيزاكل يضحك باستمتاع ليقول بين ضحكاته:- ليتك ترى وجهك الان .
رغم الغضب الذي شعر به سايروس إلا انه ابتلع ريقه و اخذ نفساً عميق و هو يحاول ان يهدي اعصابه ، انه في ارض غريبة يلفها الكثير من الغموض عليه ان يتمالك نفسه قليلاً و ألا يذعر .
- ان آيزاكل ساحر ماء و هو يقيم حالياً هنا لأجل التدريب و قد طور مهاراته بشكل كبير حتي صار قوياً لدرجة التحكم في حالات الماء الثلاثة.
لو كان العجوز يظن ان تفسيره هذا سيخفف من خوفه منهم فهو مخطئ ففي نظر سكان اركيديا و قوانينها السحر بكل انواعه هو الشر بعينه .
هتف آيزاكل في وجهه بانزعاج:- تمتلك نفسك انت في هالين ارض السحر و السحرة يمثلون اغلب سكان المملكة ثم لو كنا نريد قتلك لفعلنا ذلك بدل ان نهتم بك طول الاسبوع و انت غائب عن الوعى .
اعادة كلمات آيزاكل اليه انتباهه ليتسأل و هو مصدوم هل ظل نائماً لمدة اسبوع كامل ..؟ بالكاد حافظ علي ثبات صوته و هو يهمس:- هل اتي ابي او احد للبحث عني ..؟ .
كان يأمل ان تكون قد ظهرت براءته او جد شيء في قضيته ، هو لم يحاول قتل والده او التمرد علي حكمه لابد انها مكيدة ستكشف و يعرف الجميع انه برئ... دمر آيزاكل امله و هو يعلق بابتسامة ساخرة:- لقد قبض علي مجموعة المتمردين التي كنت تقودها و تكلفها بالتخريب و إيذاء المواطنين الابرياء و قد اعترفوا جميعاً انهم اتباعك و انت من امرتهم بكل ما فعلوه .
قطب حاجبيه بضيق غير قادر علي فهم عما يتحدث هذا الرجل ..؟ فهو لم يكن قائداً لأي جماعه و لم يأمر احد بإيذاء الناس ... عادت اليه ذكريات كيف كان المواطنون الغاضبون يشتمونه و يرمونه بالحجارة ، هل يمكن ان يكون ذلك سبب كراهيتهم له ..؟ لم يصدق عقله اي من هذه الافتراءات انه برئ و سيظل يردد ذلك لبقية حياته حتي لو انكر العالم اجمع ذلك ... و لا يهمه العالم فقط يريد رؤية والده و الحديث معه لابد ان يصدقه لو تحاورا بهدوء و حاول ايجاد الحقيقة خلف هذه المؤامرة .. استجمع شتات نفسه ليصرخ بكل قوته:- هذا كذب و اريد العودة الي ابي و الي وطني .
صراخ آيزاكل غاضباً:- لقد احتفلت اركيديا طول الاسبوع الماضي بموتك و بتعين شقيقك ولي للعهد بدلاً منك .
اتسعت عينا سايروس بصدمة حتي ما عادت قدماه تقويان علي حمله ليساعده العجوز لجلوس علي احد الكراسي ، أخفض رأسه و هو مشتت تائه ... لا يمكن ان يحتفل والده لأنه يظنه ميتاً ، هذا ما ظل يردده علي نفسه لكن سريعاً ما عادت اليه ذكريات محاكمته و نظرات الكراهية و الحقد التي راها في عيون من حوله ، لم يكن قد اذي او اساء لاحد منهم من قبل لكنهم شهدوا جميعاً ضده ، لماذا فعلوا ذلك به ..؟ بعضهم كان يعرفهم منذ كان طفلاً اما افراد الفيلق كان يعدهم اصدقائه و توم كان شريكه في التدريب كانا يمضيان ساعات كثيرة معاً و والده كيف استطاع فعل ذلك به ..؟ كيف صدق انه حاول تسميمه ..؟ يجب ان يعود الي اركيديا و يحاول اثبات برئته او ليمت فلا معني لحياته ان كان اقرب الاشخاص اليه يعتبره خائناً .
قال العجوز محاولاً تهدئته:- سيكون كل شيء بخير يابني .
حدق به سايروس بنظرات يأسه فما الذي سيكون بخير ..؟ لقد خسر كل شيء ، عائلته و اصدقائه و وطنه ، ما الذي بقى ليعيش لأجله لكن لابد ان يكون هناك فرصة لتوضيح ما حصل و انه برئ مما لفق له من تهم ، ستظهر الحقيقة يوماً ما و يعود الي وطنه مرة اخرى .
- لو كان هناك احد يهتم لأمرك او يرغب بعودتك لما نفوك الي قرب هذه الغابة المليئة بالوحوش .
كلمات آيزاكل و ملامحه العابسة زعزعت بقايا الامل في داخله لتعود اليه ذكريات الاشباح التي هاجمته لتتوسع عيناه لتلك الحقيقة ، غابة الظلام تعج بالوحوش و تعد من اخطر الاماكن في العالم و مع ذلك رموه هناك لقد أرادوا له الموت ، الم يكن من الاهون ان يعدموه بدل من رميه لذلك المصير ... ابتلع الغصة التي في حلقه و هو يدرك انهم لم يقتلوه بسبب القوانين التي تنص علي عدم اعدم اي فرد من العائلة الحاكمة بل اصدار حكم النفي في حقهم في حالة ارتكاب اي جريمة لكن يجب ان يعود الي وطنه و الي والده و ان يحاول اثبات برئته باي طريقة .. استجمع شتات بنفسه و ينظر مباشرتاً للعجوز ليسأل بثبات:- عذراً هل يمكن ان تدلني علي الطريق الي اركيديا ..؟!.
تبادل الرجلان النظرات بصمت ، ابتسامة العجوز الهادئة جعلته يرتبك اما نظرات الاستهزاء من آيزاكل اشعرته بالغيض ، ليفهم سايروس انهما لن يساعدها بما يريده فخرج غاضباً من المكان وقف للدقائق امام الباب ليتأمل الكوخ من الخارج لثواني قبل ان يبدأ بالسير مسرعاً باتجاه الغابة و هو يحدث نفسه انه لا يحتاج الي مساعدتهما يمكنه العودة الي اركيديا وحده ... استمر بالمشي حتي انتابه القلق من ان يكون قد ضاع لكنه عزم علي السير في اتجاه واحد لعله يجد مخرجاً من هذه الغابة .. لكن الدهشة ارتسمت علي ملامحه حين وجد انه عاد الي ذات النقطة التي بدأ منها ، آيزاكل يجلس علي صخرة كبيرة بجانب الكوخ ممسكاً قطعة من الخشب يقوم بنحتها بعشوائية باستخدام خنجر اما فرانز يجلس علي كرسي قريب منه يحتسي كوب من الشاي .. لم يدري سايروس كيف يفسر انه عاد الي هنا لكنه التفت باتجاه الغابة و هو يجري ليتوقف بعد مدة محاولاً التقاط انفاسه ليصدم حين وجد ان الكوخ امامه و الرجلان لا يزالان علي وضعيتهما ليلتفت مرة اخرى باتجاه الغابة ، اعاد الكرة مرة بعد مرة و دائماً يعود للكوخ كأنه يدور في حلقة مفرغة .
استسلم بعد عشرة محاولات ليقرر السؤال عن الاتجاه او اي تلميح للطريق قد يفيده .. حاول تجنب النظر الي ابتسامة آيزاكل المستهزئة به ليتقدم باتجاه العجوز و يسأل:- عذراً سيدي هل يمكنك ان ترشدني الي طريق الخروج من الغابة ..؟.
ابتسم فرانز قبل ان يقول:- ان استطعت ان تهزم آيزاكل في المبارزة سأرشدك الي طريق تخرجك من الغابة و توصلك الي اركيديا .
بتلقائية نقل عينيه الي الرجل الاخر الذي وقف حاملاً سيفين و سار الي السهل القريب ليبقي سايروس يتطلع اليه متسائلاً كيف يمكنه هزيمته و هو يفوقه ضعف حجمه لكنه قرر ان يحاول فهي الطريقة الوحيدة ليخرج من هنا ثم انه لابد ان تثمر سنوات التدريب التي امضها في الفيلق .
رمي اليه آيزاكل احد السيفين و هو يقول:- ارني افضل ما لديك ايها الطفل المدلل .
التقط سايروس السيف بينما استشاط الغضب في داخله ، هو ليس في مزاج جيد ليتحمل اهانات هذا الرجل و سخريته .. هاجم بكل قوته و التحم السيفين ، وجه عدت من الضربات المتفاوتة لكن آيزاكل صدها دون جهد يذكر ليتفاجأ باللكمة التي وجهت الي معدته و طرحته ارضاً .
صر علي اسنانه بحقد محاولاً اخفاء المه و هو يصرخ:- هذا ليس عدلاً .
ضحك آيزاكل بسخرية معلقاً:- هل ستذهب لتشتكوني لوالدك ..؟ .
نهض علي قدميه ليحمل سيفه و الغضب يشع من عينيه ليعاود الهجوم بكل قوته ليبقي يوجه ضرباته بينما يكتفي آيزاكل بصدها كأنه يستهزأ به قبل يتلقى ركلة قذفته بعيداً .
عاود للنهوض و هاجم مجدداً لكن النتيجة لم تختلف عن بقية محاولاته ، سقط علي ركبتيه للمرة الثالثة بينما سيفه مرمي قريباً منه ظل يحاول التقاط انفاسه و هو يعض علي شفتيه بقهر مهما هاجم بكل قوته يبقي ذلك الرجل صامداً لا يتزحزح لكنه لم يكن ليسمح بأن تتم السخرية و نعته بالضعف ابداً .
حل المساء ليقوم فرانز بإضاءة قنديل في الساحة و هو يراقب سايروس الذي ينهض بعد كل هزيمة ، اعجبه اصرار الفتي الذي لم يستسلم للان رغم انه لم يستطع خدش آيزاكل حتي بينما اتملأ جسده بالجروح و الخدوش .
لقد كان الغضب يعميه في كل مرة يسقط ينتظر الطعنة الحاسمة التي ستنهي حياته البائسة لكن آيزاكل يقوم برمي السيف له مرة اخرى ، كم مرة عاود النهوض هو حقاً لا يدري ، حركته اصبحت ابطأ و قد بدأ جسده يخذله من شدة التعب .
- هل تستلم الان ايها المدلل ..؟ لا عجب ان والدك تخلي عنك فما حاجته الي عديم فائدة مثلك .
شد علي العشب بغيض لم يرد سمع المزيد يكفيه كم الاهانات التي سمعها و سخرية آيزاكل منه بعد كل خسارة .. وقف ليلتفت الي الغابة و اطلق العنان لقدميه ، لم يكن يهمه سوى ان يبتعد عن هذا الرجل الذي يستمر بالسخرية منه طول الوقت ، جري مسافة لابأس بها قبل ان يتوقف و يستند علي احدى الاشجار جالساً تحتها ، دفن رأسه بين رجليه ، لقد اراد ان يبقي وحده لبعض الوقت رغم معرفته انه لن يستطيع الابتعاد عن الكوخ او الخروج من الغابة .
شعر بغصة في حلقه و سريعا ما سمح لدموعه بالتحرر من عينيه بكي بحرقة ليفرغ كل الحزن الذي كان في داخله ، بكي والده الذي تخلى عنه و اصدقائه و عائلته الذين خانوه ، منزله و وطنه الذين فقدهما و حياته التي خسرها .
اليأس يتملكه و قد خسر كل شيء ، لن يهتم احد ان مات الان ، لماذا عليه ان يستمر بالعيش ليت آيزاكل قام بقتله كان ذلك ليكون ارحم له من سماع تلك الكلمات القاسية .
- انت هنا ، لقد قلقت عليك ..!.
رفع سايروس راسه مدهوشاً من وجود فرانز امامه ليحاول بيأس مسح دموعه ، لم يرد ان يبدو ضعيفاً باي شكل لكن العجوز جلس بقربه همساً:- لا بأس يابني يمكنك ان تبكي لا احد هنا ليسمعك .
كأنه حصل الي الاذن لتنطلق شهقاته الخافتة و يعود للبكاء ليظل فرانز يطبطب على ظهره محاولاً تهدئته ليستمر سايروس بالنحيب لأكثر من ساعه حتي انهك تماماً و حالما توقف جسده عن الارتعاد سأله فرانز:- هل تشعر بانك بخير ..؟ .
تملكه الشعور بالخجل من نفسه بعد بكائه طول تلك المدة ... وقف علي قدميه ليجيب بصوت مبحوح:- اجل انا بخير .
رغم انه قال ذلك إلا الشعور بالوهن كان يجتاحه ، رفع العجوز يد سايروس واضعًا إياها خلف رقبته ليساعده في الوقوف و السير معه .. همس سايروس معترضاً:- ليس عليك ذلك استطيع السير وحدي .
علق فرانز بمرح:- لست ضعيفاً يافتي ، بالكاد بلغت الستين عاماً .
رسم سايروس ابتسامة خفيفة ليستمر بالسير بصمت تاركاً فرانز يوجهه وسط الاشجار .
***
شعر بيد تهزه برفق و ما ان فتح عينيه حتي قابلته ابتسامة فرانز الحانية و هو يسأل:- لقد حل الظهر و لم تستيقظ بعد ، هل انت بخير..؟ .
ظل سايروس ينظر للسقف لثواني قبل ان يجيب:- اجل ، لكني متعب قليلاً .
رسم العجوز ابتسامة خفيفة:- هذا طبيعي بعد الجهد الذي بذلته بالأمس اننا ننتظرك لتناول الغداء و ستجد بعض الملابس في الخزانة هناك .
خرج فرانز من الغرفة بينما عبس سايروس و هو يتذكر هزائمه المذلة بالأمس و بالتأكيد آيزاكل ذاك لن يفوت فرصة السخرية منه بعد ان عاد الي الكوخ مع فرانز و علي وجهه اثار البكاء لكنه قرر ان ينهض و يغير ملابسه و يتجه الي خارج الغرفة فمعدته تصرخ مستنجدة طالبة لأي شيء يؤكل .
وجدهما يجالسان علي الطاولة تقدم ببطء و هو يخفض رأسه ليجلس علي الكرسي المقابل لآيزاكل محاولاً عدم النظر الي وجه احد ليبقي يحدق بالمائدة بصمت ، كان يشعر بالخجل من نفسه ، كيف يجلس علي نفس الطاولة مع من هزمه بالأمس .
- لا تقل انك لن تأكل لأنك تشعر بالخجل بسبب خسرتك و بكائك كالطفل بالأمس .
كانت السخرية واضحة في صوت آيزاكل مما جعل الغضب يتملكه ليبدأ بالأكل بسرعة ضارباً بكل اصول اللبقة عرض الحائط لينهي صحنه بسرعة و يرفعه طالباً المزيد ليبتسم كل من فرانز و آيزاكل و يبدأ هما ايضاً بالأكل .
نهض آيزاكل من علي كرسيه قائلاً:- نظف المائدة و اغسل الصحون .
كتف سايروس ذراعيه و هو ينظر اليه بانزعاج:- و لماذا تظن اني سأفعل ذلك ، انا لا اعمل لديك .
ضرب آيزاكل الطاولة بيديه و هو يصرخ:- انت لم تعد في قصر والدك ايها المدلل عليك العمل ان اردت البقاء هنا .
صرخ سايروس بدوره:- و من قال اني اريد البقاء هنا ارشدني لطريق الخروج و لن ترى وجهي مرة اخرى .
- استسلمت بسرعة كما هو متوقع من مدلل مثلك لقد قمت انا بصيد السمك و احضار الحطب و فرانز حضر الغداء و ماذا فعلت انت ياعديم الفائدة سوى النوم الي الظهيرة .
تدخل فرانز و هو يحمل الصحون قائلاً:- لابأس سأغسلها انا .
احس بالعار من نفسه لم يرد ان يكون عالة علي الاخرين فاعترض فوراً:- لا ، سأفعل ذلك .
اخذ الصحون من العجوز و اتجه ناحية الحوض و وضعها في الماء هو فعلاً اراد المساعدة باي شيء حتي ان لم يكن قد غسل الصحون في حياته لكنه لا يستطيع ايضاً تجاهل ان فرانز قد انقذ حياته .. وصل اليه صوت آيزاكل و هو يتجه للباب:- ستجد الصابون عندك و لا تنسي تجفيف الصحون قبل وضعها في الخزانة .
ادرك ان عليه التنازل عن كبريائه المزعوم و رغم انه لم يكن يعامل من هم اقل منه شأن بغرور لكنه اعتاد علي احترامهم له بحكم كونه امير اما الان فلم يعد كذلك ، لم يعد اي شيء سوى خائن تبرأ والده منه و طرد من وطنه ... ظل العبوس رفيقاً له و هو يقوم بغسل الصحون و رغم انه لم يتخيل نفسه يقوم بذلك إلا انه اعترف ان الامر ليس صعباً و لم يأخذ الامر سوى دقائق و حالما انتهي خرج من الكوخ ليجد آيزاكل يمسك سيفه و يتدرب فبحث بعينيه عن فرانز لكنه لم يجده فخمن انه ذهب تاركاً ايه مرة اخرى .
ايقظه صوت آيزاكل من شروده:- احمل سيفك ألا تريد محاولة هزيمتي اليوم .
لامس رنة السخرية في كلماته و حالما لمح السيف الاخر الموجود قرب الباب .. احس بتقلص عضلات معدته لكنه ايضا لم يرد ان يهينه آيزاكل اكثر و يصفه بالجبان فامسك السيف نازعاً اياه من غمده و يتجه ليقف امام خصمه و هو يحاول هذه المرة ان يستجمع كل تركيزه هذه المرة لكنها لم تختلف عن المرات السابقات لم يحصل سوى علي هزيمة اخرى و المزيد من الكدمات ، لم يكن يفكر باليأس فأعاد الهجوم و كما هو متوقع من آيزاكل ليس في قاموسه معني لكلمة تساهل .
لم تمضي اكثر من ساعة حتي تهاوى ارضاً علي ركبتيه و هو يحاول التقاط انفاسه المتعبة ليستطيع الوقوف مرة اخرى ليقاتل ، عض علي شفتيه بقهر معترفاً انه لا يمكنه هزيمة آيزاكل ، هو لا يمتلك القوة الكافية لذلك ... اخفض رأسه ليتجنب النظر الي عيني خمصه فلا يريده ان يرى الاستسلام في ملامحه .
- انا اصدق برئتك و انك لم تخن والدك و لم تخطط لقتله و التمرد للاستيلاء علي العرش .
رفع رأسه مدهوشاً لتتسع عيني سايروس و هو لا يكاد يصدق اذنيه ، هناك من يصدقه و رغم انه لم يتوقع ان يكون آيزاكل يصدقه فقد كذبه الجميع حتي والده لكن هذا الشخص الذي تعرف عليه منذ فترة قصيرة يثق بكلماته اكثر مما فعلت عائلته و الاشخاص الذين امضى معهم خمسة عشر سنة من حياته.
غمغم آيزاكل و هو عابس باستياء:- لن تبكي الان صحيح .
انتبه سايروس لدموع التي كانت قد تجمعت في عينيه منذرة بالهطول ليسرع بمسحها بسرعة و هو يقول بامتنان:- شكراً لك .
لم يبدو علي آيزاكل الاكتراث بالشكر الذي تلقاه ليتقدم و يلتقط سيف سايروس من الارض و يقدمه له قائلاً:- ان مهارتك جيدة لكن عليك تعلم اكثر من التلويح بالسيف ، يجب ان تزيد قوتك الجسدية و ثبات يدك و ايضاً عليك ان تكون مرناً اكثر اثناء المبارزة .
نهض سايروس و اخذ السيف من يد آيزاكل و هو مقتنع بخبرة و مهارة من امامه ليعود الاخير ليكمل:- لدينا الكثير من العمل لتحسين مهارتك ، ابدأ بتسلق الاشجار التي حول الكوخ .
تطلع بدهشة الي علو الاشجار ثم كيف سيزيد ذلك من قوته لكنه الان مستعد ان يفعل كل ما يقوله آيزاكل و يجعله يخرج من هذه الغابة .
امضي طول فترة ما بعد الظهر بالتسلق و السخرية من نفسه علي انه اصبح يفوق القردة في القفز و التنقل من شجرة الي اخرى لكن كل تعبه و استيائه زال ما ان جلس يتأمل غروب الشمس من فوق احد فروع الشجرة الكبيرة التي تحيط بالكوخ .
المشهد بعث السكينة في داخله و جعلته يفكر مالياً في حياته ان عاد الان الي اركيديا فسيقبض عليه الجنود الذين علي الحدود و سيقودنه الي قصر والده حيث سيتم اصدار حكم الاعدام في حقه لأنه تجرأ علي العودة بعد نفيه لكن ماذا عليه ان يفعل ..؟ انه لا يمتلك دليلاً علي برئته و لن يصدقه احد في وطنه و قد اصبح مكروهاً من قبل الجميع هناك .
ايقظه من شرود صوت آيزاكل و هو يناديه لنزول ، عاد الي الكوخ ليجد ان آيزاكل ينتظره و قد حضر العشاء فجلس مقابلاً له ... تردد قليلاً قبل ان يقول بحزم:- لن اعود الي اركيديا فهل استطيع البقاء هنا و ان تدربني لأصبح اقوى ..؟ .
- موافق بشرط ان تنفذ كل ما اقوله لك و ان تساعدني في اعمالي .
اجابه سايروس فوراً:- موافق .
تصافح الاثنان وقد قبل كل طرف اقتراح الاخر ، امضي سايروس الستة الاشهر التالية بالتدرب علي المبارزة مع آيزاكل و التناوب بينهما في حراسة الحدود رغم انه لم يفهم السبب وراء ذلك فأي احد بكامل قوه العقلية قد يدخل الي غابة مليئة بالوحوش الغريبة لكن رغم ذلك لم يعترض فهي فرصة جيدة لتعرف علي الطبيعة و مخلوقاتها المختلفة و قد كان العجوز فرانز يزورهما كل فترة ليتفقدهما و يطمأن ان احدهما لم يقتل الاخر فلم يمضى يوم إلا و قد تشاجرا بسبب اشياء تافهة .
***
رفع رأسه فزعاً اثر فتح الباب بقوة و اصطدامه بالجدار و صراخ آيزاكل الصاخب:- انه دورك في الحراسة .
عاد سايروس لرمي راسه علي الوسادة متذمراً من هذا الشخص الذي لا يستطيع ايقاظ احد بطريقة طبيعية و اي حراسة في الرابعة فجراً فحتي الوحوش لاتزال نائمة لكنه وقف ما ان سمع صراخ آيزاكل و هو يعود لإيقاظه مجدداً .
حمل سيفه و خنجراً و ظل يراقب محيط المنطقة من فوق الاشجار فقد نصحه آيزاكل بذلك محذراً اياه من الحيوانات و الوحوش فرغم التشابه بين المخلوقات في كلا المملكتين إلا انه يوجد في هالين مخلوقات لم يرى مثلها او يسمع عنها و بعضها قد يكون خطراً لذلك من الافضل مراقبة كل شيء من الأعلى و التخفي بين اغصان و اوراق الغابة الكثيفة .
لم تثمر يوماً مهمات المراقبة التي كان يقوم بها مما اشعره بالراحة فهو ليس مستعداً لمواجهة ماضيه او البشر فبعد ما حدث له تزعزعت ثقته بكل شيء و بالبشر بشكل خاص و اصبح يفضل حياة العزلة في الغابة و الايجابي بالأمر انه استطاع تمنية تواصله مع الطبيعة و فهم متاهمة الغابة العجيبة .
انهي جولته بحدود الحادية عشر صباحاً ليتوجه الي بحيرة قريبة دله عليها آيزاكل سابقاً ، ظل يتأمل انعكاس وجهه مفكراً في حياته و ما الت اليه ، من كان يتوقع ان الامير الاول لمملكة اركيديا سينتهي به الامر بالعيش في كوخ وسط الغابة مع حارس للحدود متسلط و مستبد لا يتوقف عن املاء الاوامر له كأنه خادم لديه لكنه اعتاد علي طباع آيزاكل الصعبة .
خلع حذائه و وضع قدميه في المياه الباردة لتسترخي اعصابه .. لكنه يعترف ان هذه الحياة ليست سيئة و قد استطاع الاعتياد علي الاعمال المنزلية كالتنظيف و تقطيع الخشب و الصيد و استطاع بمعجزة ما تعلم الطبخ او بالأصح اعداد عدد من الوجبات رغم ان آيزاكل لم يتوقف عن تعداد النواقص و الأخطاء بكل ما يقوم به .. اخذ نفساً عميقاً محدقاً بالسماء الصافية انه يشعر بالسلام و السكينة اكثر مما شعر بهما في اي وقت في السابق ، ان الحياة البسيطة ناسبته كما لم يتوقع .
امضي قرابة الساعة عند البحيرة قبل ان يسير باتجاه الكوخ مبتسماً بسعادة و هو ينظر الي كمية السمك التي اصطادها و ما ان دخل الي الكوخ حتي استغرب من وجود حقيبتين فوق الطاولة
التفت آيزاكل اليه قائلاً:- اخيراً عدت ، لقد وصلتني تعليمات بأن اترك موقعي هذا و اعود الي مدينة بستال لتفقد المنتسبين الجدد في فيلق الفرسان .
اكمل آيزاكل توضيب حقيبته بينما اتسعت عينا سايروس بصدمة ، هل سيرحل آيزاكل ..؟! اذاً ما الذي سيحصل له..؟ هل سيبقي في الكوخ وحيداً يحدث الجدران ..؟.
- لما ما زلت واقفاً مكانك اذهب لتجهز نفسك سننطلق مع فجر الغد .
للوهلة الاولي لم يستوعب ما سمعه لينظر اليه آيزاكل بملل معلقاً:- انت لم تظن اني سأتركك صحيح ، لن تتخلص مني حتي تستطيع هزيمتي او اعترف انك لم تعد طفلاً مدللاً .
***
لم يستطع سايروس اخفاء السعادة التي كانت بداخله و لم يكن يظن انه سيحزن ان تخلي عنه آيزاكل مع انه كان يذكر نفسه ألا ينتظر شيء من احد فالجميع سيتخلون عنه مرة اخرى ، مع انه يدرك ان الانسان لا يستطيع العيش وحيداً ثم انه لا يملك مكاناً يذهب اليه و ليس لديه حالياً سوى ان يبقي مع آيزاكل ولو موقتاً الي ان يجد حلاُ ما لكن شيء بداخله ظل يوسوس له انه لن يستطيع البقاء مع آيزاكل الي الابد فهو ليس والده او جزء من عائلته ليتحمله .
ابعد عنه هذه الافكار و هو يحاول ان يشغل نفسه بأعداد الغداء ، جلس الاثنان حول الطاولة ليأكلا بصمت قبل ان يسأل آيزاكل:- أكنت سعيداً حين كنت اميراً في قصر والدك و الملك المستقبلي لاركيديا ..؟.
رغم استغرب سايروس لفتحه هذا الموضوع لكنه لم يجد مشكلة في الخوض فيه:- اعترف ان حياتي انقلبت بالكامل إلا اني سعيد اكثر مما كنت عليه فانا حر الان بشكل كبير فقد كان علي تعلم الكثير من الامور المملة التي لم اكن مقتنع بها كالسياسة و التخطيط الحربي و حضور دروس مختلفة كالتاريخ و الفلسفة و الاتكيت.
لم يبدو علي آيزاكل الاقتناع ليسأل:- ان كنت تكره بتلك الامور فلما كنت تقوم بها .
لقد كانت الامور معقدة كثيراً في ذلك الوقت فبحث سايروس علي ابسط طريقة ليشرح بها موقفه حينها:- لقد كنت الابن الاكبر لابي و قد كان يضع امالاً كبيرة علي و لم اكن اريد ان اخيب امله لذلك كنت ابذل جهدي لأظهر بالصورة التي يريدها .
عقد آيزاكل ذراعيه ليغمغم باستياء:- يالهذه التعقيدات يبدو والدك شخصاً صعب الارضاء هل تشتاق اليه..؟ .
توقف سايروس عن الاكل مخفضاً راسه لتحكي نظرات الحزن في عينيه عن اجابته ، فقط لو يستطيع رؤية والده ، لا يريد شيء اخر لا العرش او السلطة ، فقط عائلته التي تظنه ميتاً و لا يعرف ان كان سيراهم مرة اخرى في حياته .
ادرك آيزاكل متأخراً انه فتح موضوعاً حساساً و ان عليه تغير الموضوع فنهض من علي كرسيه ليقول:- لقد كان فرانز هنا صباحاً و قد ترك لك شيئاً .
سريعاً ما نسي سايروس حزنه و تطلع بحيرة في الحجر الصلب المدور الشبيه بالبيضة حين وضعها آيزاكل بين يديه ليقلبها بحيرة .
ليصرخ آيزاكل بذعر:- عاملها بحرص .
لم يكترث سايروس كثيراً لكنه سأل بتعجب:- بيضة ماذا هذه ..؟ .
ابتسم آيزاكل ابتسامة كبيرة و هو يجيبه:- راقبها طول هذه المساء و ستعرف .
لم يقتنع و قد ظل ينقل نظرته المتشككة بين ابتسامة آيزاكل و البيضة و ما ان انتهيا من الطعام حتي انشغل بتنظيف المائدة و غسل الصحون و امضي بقية النهار بتوضيب اغراضه القليلة و ما ان حل المساء حتي بقي يراقب البيضة طول الليل فإن كانت من العم فرانز لابد ان تكون مهمة ، انتابه الملل بين فينة و اخرى لكنه ركز كل انتابه عليها ما ان بدأت قشرة البيضة بالتكسر قرابة منتصف الليل ، ظل ينظر اليها بترقب و الحماس يتملكه لكن الشيء الذي ظهر من بين القشور جعله يرمش باستغراب فقد ظهر ما يشبه السحلية الصغيرة ذات لون رمادي مما دفعه ليتسأل في حيرة ، هل تبيض السحالي ..؟! .
حاول ازالة القشور لعله يتعرف على نوع هذه السحلية لكن انتهي بذلك شيء بعض اصبعه ، حرك يده في الهواء بسرعة محاولاً ابعاد تلك السحلية عنه ليرميها علي الجدار لتظل تتحرك بعشوائية علي الارض قبل تختفى تحت السرير .
كان اثر العضة واضح على اصبعه لكنه لم يكترث للأمر كثيراً و ظل يتسأل ان كان يجب عليه اخراج السحلية لكنها قرر تجاهلها و النوم فأمامه غداً رحالة طويلة علي حسب قول آيزاكل و ما وضع رأسه علي الوسادة حتي تدافعت الوساوس لتزعجه مرة اخرى ، انه يشعر بالتوجس من الاختلاط بالأخرين لم يعد يستطيع الثقة بمن حوله بعد الخيانة التي تعرض لها اصبح الشك رفيق نظراته بالكاد استطاع الاعتياد علي آيزاكل و العم فرانز اللذان قالا انهما لن يتركاه حتي لو طلب ذلك و هو بدوره لم يفكر بأن يتركهما و ربما لأنه لم يرد البقاء وحيداً معزولاً في الغابة لينتهي به الامر مجنوناً ... ظلت الافكار تدور بخلده و لم ينتبه لنفسه إلا و قد غلبه النعاس .
بحلول خيوط الفجر الاولي كانا قد انطلقا و نسمات الصباح تداعب وجهيها سارا لمسافة طويلة عبوراً بالغابة ، طال الصمت بينهما قبل ان يعود سايروس للتذمر:- لا اصدق انك جعلتني احضر تلك السحلية معي ..! .
تنهد آيزاكل بملل ليعلق:- للمرة المليون انها ليست سحلية بل تنين .
ظل سايروس متشبث برايه بعناد:- لا يوجد شيء اسمه تنانين انها مخلوقات اسطورية ثم ان التنانين عملاقة و ليس بهذا الحجم .
زفر آيزاكل باستياء قبل ان يجيب:- اولاً لا يوجد مستحيل في هالين و ثانياً التنين سيكبر مع الوقت و ثالثاً هو حالياً لك فاختر له اسماً يليق به .
توقف سايروس عن المشي متعجباً لما قد يترك العم فرانز له شيء كهذا ثم هل سيسمه كأنه يختار اسم لقطة او كلب .. فكر قليلاً قبل ان يهتف بسعادة:- سأسميه سورن انه اسم بطل اسطورة قديمة في اركيديا .
غمغم آيزاكل بكلمات لم يسمعها سايروس لكنه خمن انه انزعج ككل مرة يأتي ذكر شيء حول اركيديا .
لم تستغرق رحلتهما سوى يومين بالأحصنة و بحلول منتصف نهار اليوم الثالث كان الاثنان قد وصلا الي فوق تلة عالية تطل علي مدينة كبيرة ظل سايروس يتأملها بشرود قبل ان يقاطعه اخرج آيزاكل عباءتين من حقيبته ليقدم احدهما اليه قائلاً:- ارتدها و ضع القلنسوة و لا تخبر احد عن كونك بشري فمن النادر رؤية البشر في هالين ، ان مقر تدريب الجنود في الطرف الاخر من المدينة .
نظر اليه سايروس بتعجب ليسأل:- لما من النادر ..؟ .
اخذ آيزاكل بالضحك ساخراً و هو يقول:- لان البشر جبناء انهم يصفوننا بالوحوش و يبدؤون بالهرب و الصراخ ما ان يلمحوا احد مخلوقات هالين .
تجاهل سايروس الاهانة المعلنة متذكراً بخجل موقفه الاول عنهما .. ليستمرا بالسير الي ان وصلا الي بوابة المدينة و كانت مهمته الوحيدة اتباع آيزاكل في كل خطوة ليقف بين حين و اخر محدقاً بالشوارع النظيفة تمتلئ بالنشاط. العشرات من العربات ، من جميع الأشكال والأحجام تحمل مختلف الأشياء و هناك العديد من المتاجر المتنوعة و الكائنات المختلفة التي لا يدري ماهيتها ، بعضها يشبه البشر لولا اختلافات بسيطة كالسيد فرانز و آيزاكل و البعض الاخر كان اشبه بالوحوش في نظره لكنه ابقي وجهت نظره هذه في داخله بتحفظ .
شعر بقليل من التوتر في الاختلاط بين كل هؤلاء لكنه استمر باللحاق بآيزاكل ليصلا الي جدار عالي فيه باب كبير يقف امامه حارسان يلبسان دروع فضية ، ادي كلاهما التحية العسكرية باحترام ما ان لامحا آيزاكل و فتحا لهما البوابة ، استقبلتهما ساحة كبيرة خالية من مظاهر الحياة سوى ثلاثة مباني ، تقدم آيزاكل اولاً و تبعه سايروس خلالها قبل ان يدخلا الي المبني كبير .
مرا بمجموعة من الاشخاص لكنهما استمرا بالسير لاحظ بعض الوجوه المدهوشة فاسرع بخطواته الي ان توقف آيزاكل امام احد الابواب وهو يقول:- انتظر هنا قليلاً .
اومأ سايروس ليبقي وافقاً يحدق بالأشخاص الذين يتحركون كخلية نحل نشيطة دون ان يعيره احد اي اهتمام ، دام انتظاره لدقائق قبل ان يطل رأس احدهم و يدعوه لدخول الغرفة فاسرع لدخول حيث وجد آيزاكل يجلس خلف مكتب و امامه كان هناك جنديان يبدوان ذو مكانة رفيعة و قد ارتكزت كامل انتباههم عليه و قد كانت نظراتهما كأنها تقيمه نظراتهما مما جعله يشعر بالأحراج .
اشار اليه آيزاكل بالتقدم و قد وضع ورقة امام و هو يقول:- وقع هنا .
نظر الي الورقة باستفهام لجيبه آيزاكل:- انها ورقة انتسابك لفيلق المجندين الجدد .
حمل نظراته فوراً الي آيزاكل املاً بإجابة اوضح ليعلق آيزاكل بملل:- ماذا كنت تتوقع ..؟ لم احضرك معي للزينة .
ملأ الورقة و سلمها الي المشرف ليخرج الاثنان من الغرفة و يسيرا في ذات الرواق الطويل ليسأله سايروس بتعجب:- لما ينظر الجميع اليك و يشيرون بدهشة .
رفع آيزاكل رأسه ليقول بغرور:- بالطبع سيفعلون فمن امامهم لورد مهم و احد ابطال حرب التوحيد .
رمش سايروس بعينيه في استغرب فلقب لورد في اركيديا يعني الكثير و لا يملكه إلا لمن ينتمون لأصول نبيلة لكن على ما يبدو انه النظام السياسي يختلف في هالين و علي حال فهذا لا يعنيه و لا يرغب في التورط في اي امور سياسة قد تعقد حياته الحالية مما دفعه لسؤال بتعجب:- حرب ماذا ..؟! لم اسمع بها من قبل ثم لو كنت بطلاً كما تزعم فلما كنت تتولي حراسة الحدود وحدك بدل من ان يرسلوا كتيبة جنود .
اجابه آيزاكل بغرور:- اليس الامر واضحاً انا وحدي اعادل كتيبة كاملة ثم اني كنت اتدرب في عزلة و لست حارساً عادياً .
رفع سايروس احد حاجبيه لكنه امتنع عن التعليق متجنباً اي رد لاذع فقد جرب بنفسه قوة آيزاكل لم يستطع الي الان هزيمته رغم انه يتدرب باستمرار و قد صار اقوى لكنه لم يقترب حتي من هزيمته .
تركه آيزاكل امام احد الابواب قائلاً انها غرفته و انه سيتركه لان ليرتاح و يوظب امتعته ، فعليه انجاز بعض الاعمال قبل وقت العشاء ... دخل سايروس الي الغرفة ليظل يتأملها انها صغيرة الحجم بالكاد تتسع للسرير الذي في طرف الغرفة و للخزانة لم يكترث كثيراً للأمر بل رمي حقيبته في الخزانة و استلقى الي السرير مقرراً ان يحظى بقسط من الراحة قبل موعد العشاء او ربما سيفوته فلا رغبة له بالأكل .
اخذت عيناه تحدقان بالسقف بشرود محاولاً التفكير في القادم و رغم انه مشتت لكنه اتخذ قراره ، لن يغادر هذا المكان إلا و قد اصبح اقوى بل و يستطيع الاعتماد علي نفسه بشكل كامل ثم سيفكر ما الذي سيفعله بحياته مستقبلاً .
***
استيقظ سايروس بحلول الصباح اثر دوى جرس عالي ليدرك انه اشارة لبداية يومهم فاسرع بالاستعداد و ارتداء زي المتدربين ليخرج من الغرفة و يسير مختلطاً مع بقية المتدربين و هو يستمع الي تذمرهم ، بالنسبة له لم يكن لديه مشكلة بالاستيقاظ في الخامسة ، تناول الجميع الفطور في قاعة كبيرة قبل ان يتجهوا الي ساحة التدريب حيث جلس المتدربين علي مدرج حجري بينما وقف آيزاكل امامهم حاملاً سيفه ليعطيهم نظرة شاملة قبل ان يقول:- و الان ايها المدللين عديمي الفائدة اريد متطوع ابدأ به تحمية الصباح .
ساد الصمت و لم يجرؤ احد علي رفع يده بل و لم يمنحهم آيزاكل اكثر من ثانيتين للتفكير قبل ان ينادي:- سايروس .
تأفف سايروس و هو يشعر انه سيكون الضحية المختارة دائماً للتحمية ... تقدم ليحمل سيف و يقف مواجهاً لآيزاكل بالكاد دامت المبارزة لأكثر من خمس دقائق قبل تنتهي بفوز ساحق لصالح آيزاكل ... نهض سايروس من الارض وهو ينفض الغبار عن ثيابه ليقف ليعود باتجاه المدرجات متخطياً المتدربين و هو يسمع همسات و ضحكات خافته لكنه لم يكترث لهم بل جلس لمكانه بهدوء ليقول آيزاكل:- و الان اريد متطوع اخر يتجنب كل الأخطاء التي ارتكبها سايروس .
لم يتطوع سوى فتى قصير ذو شعر اشقر استمر في رفع يده بينما تجاهله آيزاكل تماماً ليعود ليقول:- اي احد .
استمر القصير برفع يده للأعلى ليتنهد آيزاكل و هو يكمل بملل:- نيكولاي ايزنهايم ازرال اي لعنة اتت بك الي هنا .
اجابه نيكولاي بابتسامة كبيرة متحمسة:- اريد ان اصبح فارساً يفخر به ابي و ان اشارك بالحرب كما فعلت انت و ابي .
قلب آيزاكل عينيه بضجر قبل ان يقول:- ان اكثر شيء اندم عليه من ايام الحرب هو عدم قتلي لوالدك ذاك ... هيا تعال و ارني ما لديك .
نهض نيكولاي متحمساً ليحمل سيف وافقاً امام آيزاكل الذي ما ان اعطي اشارة البداية حتي وجد نيكولاي نفسه علي الارض يحدق بالسماء الزرقاء دون ان يعي انه هزم في ثلاث ثواني .
تجاهله آيزاكل و عاد للنظر الي المتدربين:- ألا يوجد متطوع اخر .
ابتلع اكثر الحضور ريقهم بتوتر فهم يعرفون جيداً من هو مدربهم و ان فرصة هزيمتهم له ضرب من المستحيل ليكمل آيزاكل:- ابدوا بالجري حول الساحة لعشرين دورة ثم انقسموا و كل اثنين سيوجهان بعضهما ستكون هذه هي المرحلة الأولى في تدريبكم قبل ان تستعملوا السحر بواسطة الاسلحة .
لم يستطع سايروس اخفاء ابتسامته الساخرة ليسرع مع بقية المتدربين لتنفيذ ما قاله ليظل آيزاكل يراقبهم و ينظر بين حين و اخر لسايروس الذي يبلي جيداً بالنسبة ليومه الاول ... وحالما انتهوا من المبارزة حتي بدأت تدريبات الرماية ثم تمرينات التقوية الجسدية .
انتهي يوم تدريبهم بتناول جميع المتدربين لطعام العشاء معاً في قاعة كبيرة و ما ان انتهي سايروس سار بخطوات بطيئة خلال الرواق الطويل متخطيا المتدربين الذين يسيرو هنا و هناك ، سمع جلبة خلفه و اصوات نداء لكنه لم يفكر ولو لثانية انه المعني لولا ظهور نيكولاي كالعفريت امامه مبادراً بالقول:- مرحبا اسمي نيكولاي ايزنهايم ازرال .
لم يرد حقا التعرف علي احد بصفة شخصية لكنه رسم ابتسامة مجاملة و هو يعرف بنفسه:- سايروس بلاك .
كان محتاراً حقاً و لم يكن واثقا من اسمه الثاني فبعد ان تبرأ منه والده لم يبقي له سوى اسم عائلة امه التي اعترض اقاربه من جهتها علي ان يحمل خائن مثله اسمهم .
- هناك الكثير من الشائعات حولك .
اعادته كلمات نيكولاي من وسط افكاره لينظر اليه مستفسرا بينما اكمل نيكولاي بابتسامة كبيرة:- البعض يقول انك قريب للورد آيزاكل و اخرون يقولون انك لست من مدينة بستال و ايضاً يقال انك من مملكة اخرى .
اللعنة هل اصبح الان موضوعا لوضع تخمينات المتدربين..؟ قال بانزعاج:- لست قريب لآيزاكل لكنه يتولى تدريبي منذ بعض الوقت و انا لست من هالين .
اكمل سيره متجاهلا من امامه معلنا عن نية الواضحة بأنهاء النقاش لكن نيكولاي لحق به ليسير بمحاذاته وهو يسأل:- من اي مملكة انت..؟! .
تردد سايروس قليلاً في الاجابة لكنه قال:- اركيديا.
توقف نيكولاي و اخذ ينطق الاسم بتعجب و ظن سايروس انه سيتخلص منه اخيرا لكن قاطعه اشارة نيكولاي اليه بأصبعه و هو يهتف بحماسة :- انت بشرى .
حاول سايروس اخفاء وجهه محرجا من اسلوب المجنون الذي امامه الذي لم يوقف عن بالصراخ بالأمر بسعادة جذبت انظار جميع من في الرواق .. ليبقي سايروس يلعنه في سره ، و هو يلوم نفسه علي اخباره سيتم فضحه في كل الفيلق هذه الحالة مما دفعه ليهتف في وجهه بحدة:- اخرس .
توقف نيكولاي عن الصراخ ليظل يحدق فيه بعيونه تلمع حماسة فهذه المرة الاولي التي يرى فيها بشرى و يتحدث معه مباشرتاً فبادر بالقول بسرعة:- كيف انتم ..؟ .كيف تعيشون ..؟ كيف اتيت الي هنا ..؟ و منذ متي تعرفت علي اللورد آيزاكل ..؟ .
ضاق سايروس ذرعاً ليهتف بحنق:- استمع الي جيداً ايها الابله ، البشر مخلوقات مثلك عدا انهم لا يملكون اي قوة سحرية عجيبة و لا قدرات مميزة و لا شـأن لك بي .
اسرع بخطواته متخطياً نيكولاي و الجميع ليصل الي غرفته مغلقاً الباب لقد اراد الاختلاء بنفسه قليلاً ، رغم ان الجميع كانوا اشخاص جيدين لكنه لم يستطع الانسجام معهم ظل يفضل العزلة ، فقط يحتك بهم ساعات التدريب و يتبادل حديثاً عابر مع بعضهم احياناً فـلم يرد ان يظنوا انه مغرور لكن بذات الوقت فضل وضع مسافة بينه و بين اي احد لا يريد اصدقاء او معارف لا يريد التعرض للخيانة مرة اخرى تلك كانت اكبر مخاوفة .
***
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
رمضان كريم و كل عام و انتوا بخير
ينعاد عليكم بالصحة و العافية
اتمني يكون الفصل عجبكم
و لا تنسوا التصويت ⭐
دمتم في امان الله
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top