" ٩ الى ١٧ "


_ السابعة صباحاً _

رتب عامر خصلات شعره للأعلى ورش عطره بسخاء فوق ملابسه الجامعية و ..

نظرة شاردة ألقاها نحو سرير مصعب الفارغ مستنكراً عدم عودته لليلة بأكملها ..

وضاقت عيناه فجأة برفض .. ليس وكأن امره يهمه ولكن تلك ليس عادته أن يخرج بمنتصف الليل ولا يعود ..

( هل أذاه الحافله ؟! ) .. عاد عقله للتساؤل ولكن مُنذُ ماوقع للحافلة لم يصادف أن سمع بحوادث جديدة له مع الطلبه .. ولكن .. وانعقد حاجباه .. لشخص ساذج كمصعب لن يستبعد الأمر ..

وامتقع وجهه .. لمَ هو مشغول بأمره ! ..

وزفره ضجره أطلقها أتبعها بأن فتح درج مكتبته ليأخذ دفتر ملاحظاته و .. أبصر تلك السيجارة الغريبه والمختلفه عن كل السجائر ..

تذكر عينا مصعب المتسعه ووجهه الشاحب وتوسلاته له بأن لا يتعاطاها .. هو حقاً لم يكن يعلم كنهها ولولا ذاك الفزع الغريب بعينا مصعب لجربها بغباء دون أن يُدرك حقيقة ماتحتويه .. فقد ظل لأسابيع يسأل عنها مرتادي النادي الرياضي الذي منحها أحدهم أياها بمبلغ كبير ليضجر أحدهم اخيراً ويخبره أنها تُخبأ داخلها حشيش الماريجوانا ..

أخذها بأصبعيه واتجه للحمام ليرميها في حوض كرسي الحمام ثم أفرغ الماء عليها لتتجه نحو المجاري مرافقه للفضلات المساويه لها بالقدر ..

ارتفع رنين هاتفه فاتجه بهدوء لأخذه من فوق المنضدة وببرود راح يرد على محدثه :

_ نعم .. بخير .. أصلي في المسجد .. أقرأ القرآن .. أتناول كل وجباتي .. جميع المواد درجاتي بها جيدة .. أُقسم لكِ إني لا أسهر .. لا أرافق أشخاص سيئين .. عمتــــي .. هل سنكرر ذلك بكل اتصال ! .. لديّ محاضرة تأخرتُ عنها .. كلا لم أقل لديّ صديق .. أنتِ سمعتي جيداً ولكن تتظاهرين .. كلا لم أقل أنه صديق جيد .. من ؟! .. رفيق حجرتي .. كلا لم نتوافق بعد .. ماذا .. حسناً .. لا تقلقِ .. لستُ وحيد .. أخبرتك لستُ وحيــــ ..

واحتقن وجهه بشده وهو يضغط على نفسه ليُردف :

_ حسناً .. بعض الشيء .. توافقتُ مع رفيق حجرتي بعض ..

ونظر نحو موقع مصعب .. لا بأس بأن يدّعي توافقه معه .. فلقد تخلص من التدخين بسببه بعد الله .. بل ساعده مصعب لتجاوز أسوأ هذه السموم بشكل قلّ أن يُقدمه أخ لأخيه .. بل وصبر عليه وكاد يتأذى بسببه .. قد تكون عمته محقه بأن ليس كل الأصدقاء سواء وأنه لم يأن بعد أوان التقائه بأول صديق حقيقي في حياته .. ولكن ..

هل قد يكون ذلك الشخص مصعب ؟!

وتجهم وجهه .. لمَ هذا الشخص لا يخرج من تفكيره ؟! ..

ورغماً عن أرادته وجد نفسه ينظر للساعة باستهجان .. ألن يعود للسكن ! على الأقل للتهيأ للجامعة وحضور محاضراته ؟!

وأصمّ سمعه صوت شهقات عمته الباكيه فرحة بأنه وجد صديق فزفر بتعب وهو يغادر الحجرة ولازال هاتفه على أذنه يحاول التخلص من تلك المكالمة الشائكة بأقل ضرر .

■■■■■■■■■■■

_ الثامنة والنصف صباحاً _

أمام قاعة الدرس كتّف جمال ذراعيه أمام صدره ووقف بوسط الممر وعيناه تنظر نحو أخر الممر بترقب ولدقائق ظل هيثم يقف جواره مترقباً هو الآخر قبل أن يصيح بتوتر :

_ جمال الدكتور يصعد الدرج .. علينا أن ندخل للقاعة قبله .

_ كلا .. ليس قبل مجيء مصعب .

رد ببرود شديد وكأن ليس هو من سيخسر أن سبقه الدكتور للقاعة فلم يعد يتبقى عن حرمانه من الماده سوى تغيب واحد وذلك أثار فزع هيثم أكثر وأكثر فصرخ :

_ أتظنُ مصعب سيكون سعيداً لو رسبت بسببه ؟!

_ أنه خطأه .. من قال له أن يتأخر .

_ جمال .. ربما هو نائم .

_ ليس من عادته التغيب .

_ أذن ماذا ستفعل ؟! .. لقد اتصلنا على هاتفه أكثر من عشرين مره ولم يرد .

_ ليس من عادته أيضاً تجاهل اتصالاتي .

_ لعل هاتفه بوضع صامت .

_ مصعب لا يجعل هاتفه صامت أبداً .

غادر اللون وجه هيثم وكل تلك التبريرات ينفيها جمال الواحده تلو الأخرى وبحق لقد نجح في أثارة قلقه على مصعب .. ورأى الأثنان معاً الدكتور المخيف يظهر بأخر الممر فظل جمال على وقوفه والأصرار يشع من عينيه وهو يقول بغضب طفيف :

_ هو لم يصلي حتى الفجر في المسجد معنا .. ولولا بغضي لصعود الدرج لكُنت ذهبتُ أليه في ذلك الوقت ولكن آثرت الراحه واللقاء به في الجامعة وتوبيخه .

نظر هيثم نحوه بطرف عينه بغيظ :

_ أنت تعترف بأن كسلك هو السبب .

_ وما العيب في ذلك ؟! .. لا أحد يّحب الدرج .

_ تهوى العراك وتخسر أمام عدة درجات .

_ ليس وكأني منعتك من الصعود أليه .. فلم لم تصعد بنفسك ؟!

وألقى نحوه نظره جمدت الدماء في عروقه ودفعت باحمرار خفيف لوجنتيه حرجاً فهو الآخر بعد انتظارهم لمصعب بحجرتهم وتأخره هرعا للجامعة تكاسلاً من صعود الدرج وظناً منهما أن مصعب سيأتي بلاشك .. ولكن تأخره الآن وغيابه دفع بقلبيهما ليبلغا أشد درجات القلق ..

وخاصة جمال الذي لحظ هيثم أصابع كفيه المشدوده وعينيه المسمرة بلهفه على موقع واحد بانتظار ظهوره و ..

مرّ جوارهما دكتور الجامعة ..وبشكل مفاجيء لم يشعر جمال إلا باندفاعه نحو القاعة بعد أن سحبه هيثم من ذراعه بفزع ليدخلا القاعة قبله ..

أراد الأعتراض ولكن عينا الدكتور المسمرة عليهما جعله يتراجع فهو حقاً لا بأس عنده بأن يُوبخ ولكن من سيسكت هذا الطفل أن أشركه الدكتور بالعقاب .

واستسلم مرغماً لسحب هيثم له ليتخذا مقعدين بآخر القاعة .

تلك الثلاث ساعات قضوها بالاتصال به ولكن جميعها لم يُجبها مصعب .

وتضاعف القلق بأعماق جمال للحد الذي بمجرد منح الدكتور لهم نصف ساعة لقضائها بتناول أفطارهم غادر جمال القاعة مما جعل هيثم يصرخ به :

_ إلى أين ؟!

_ إلى السكن .
ولأول مره يرى هيثم جمال بهذا الاضطراب فلحق به قائلاً بتوتر :

_ ومحاضرته الثانيه ؟! .. ماذا لو انتبه لخروجك .

_ تباً له .. فليفعل ما يُريد .

تصلب هيثم موقعه وأرجح بصره بين القاعة وجمال قبل أن يعزم أمره ويصرخ بلهفه :

_ جمال أنتظرني .. سأذهب معك .

ولحق به ليُسجل له ولأول مره أول تغيب له عن احدى محاضراته .

¤¤¤¤¤¤¤¤

فتح جمال باب حجرة مصعب ليتصاعد في الحجرة صوت أنفاسه المتقطعه بعد صعوده درجات الطابق الثالث وتوسط بمشيه الحجرة ليحتقن وجهه بدماء الغضب وهو يرى مصعب مستلقي براحه فوق سريره متدثراً بغطائه والى جواره استقر هاتفه الذي راح يومض بضوء أحمر متقطع دليل اتصالاتهم به المتكرره والتي تجاهلها مصعب جميعها ..

ومن خلفه تأجج وجه هيثم بفخره وهو يصيح :

_ رأيت .. كما قلتُ لك أنه نائم .

وعاد بنظره لساعته ليجده بقي ربع ساعة عن بدأ المحاضرة الأخرى .. يمكنهم اللحاق بها وأيضاً سحب مصعب الكسول معهما ..

أقترب جمال من سريره وخطواته تكشف غضبه ومال بوجهه نحوه ليراه يتنفس بهدوء فسحب اللحاف من فوقه بقوة صائحاً بغيظ :

_ لن أسمح لك بعد الآن بالسخرية من كسلي .

ورغم كشف جسد مصعب بالكامل وصراخ جمال به لم يُبدِ أي ردة فعل وبقي على حاله الساكن مما جعل جمال يُسقط اللحاف أرضاً ويكسو وجهه جدية شديدة وهو يمدُّ يده نحوه محاولاً أيقاظه بضربه لكتفه برفق فأحسّت كفه برطوبة جعل عيناه تتسعان وهو ينظر لراحة كفه ليجدها قد اصطبغت بسائل احمر ..

شهق هيثم فزعاً وصرخ :

_ جمال ماهذا ؟!

ولكن على عكسه تحرك جمال بسرعة ليفتح سترة مصعب السوداء كاشفاً عن قميصه التحتي الأبيض وصدق شكه فقد كان مصطبغ هو الآخر بلون أحمر بل يكاد اللون الأحمر يُغرقه تماماً ..

ومن خلفه ارتفع صوت سقوط هيثم أرضاً بهلع ولسانه يهذي :

_ دم .. يا إلهي .. دم .. دم .

غادر اللون وجه جمال وارتجفت أصابع كفه وهو ينظر لكل ذاك الدم ..
هل هو حي ؟! ..
وتسارعت نبضات قلبه بمجرد تفجر السؤال السابق في عقله لينحني نحوه هازاً له بهلع :

_ مصعب .. مصعب يا أخي .. اجبني .. اجبني أرجوك .

لو كان حياً لأجاب مع تلك الهزات العنيفه وازداد وجه جمال جزعاً حين انهار هيثم باكياً وهو يردد :

_ مات .. مصعب مات .

قوله المخيف جعل جمال يكاد يفقد تماسكه وينهار لولا بقايا من تماسك طفيف دفعه ليضع أصبعيه على جانب عنق مصعب ومرت ثوانُ كافيه لقتله قلقاً لولا نبض صغير استشعرته أصابعه جعلت الراحه تعود لتقاسيم وجهه فصرخ :

_ قلبه ينبض .. لا زال حي .

وأمام عيني هيثم الجزعتين وضع ذراعيه أسفل جسد مصعب ثم حمله بقوة صارخاً :

_ يجب ان أنقله للمستشفى بسرعة .

تماسكه ، تصرفه بسرعة بعقلانية جعل هيثم يقف هو الآخر ليلحق به ولازالت الدموع تغرق وجهه .

كان قد وصل جمال بحمله الى باب الحجرة حين أحسّ بكف ضعيفه تتشبث بسترته فنظر بسرعة للأسفل ليجد تلك العينان الواهنتان الغارقتان في الألم تنظر نحوه فقال :

_ أنا معك .. لا تقلق .. ستكون بخير .

لم يزل ذاك الوهن عنه ولم تغادر عيناه وجه جمال وهو يتشبث به أكثر وشفتيه تتحركان بصعوبة وكأنه يحاول صياغة كلمات رغم ألمه فقال جمال رادعاً له :

_ توقف .. ســــ ..

_ لا .. مستشفــــ ..فــــ ..ى .. لا .. خاص .. طبيب خاص .

أوقف جمال خطواته الراكضه ووقف هيثم جواره سائلاً بدهشه :

_ ماذا يعني ؟!

لم يرد جمال وعيناه مُعلقه بعينا مصعب المستعطفه بصدمة ولثانية ظل متردداً قبل أن يقول بحده :

_ كلا .. حالتك لا تسمح بالتأخر لأحضار طبيب خاص .

وأراد الركض مجدداً لولا صوته الخافت الذي بالكاد استطاع أخراجه مع ألمه :

_ أرجوك .. خطر .. جمال .. أرجوك .. أرجوك .. أرجوك .

ألحاحه الشديد أصاب جمال بالوجوم وأغرقه في حيرة عن سبب ترديد مصعب لهذه الكلمة المخيفه ( خطر ) ولكن شعور جمال بتلك الدماء المتسربه من مصعب تُغرق ذراعيه جعل وجهه يمتقع بشده ويحسم تردده بقوله بصرامة :

_ كلا .. ستموت قبل أن يصل هذا الطبيب الذي تهذي به .

عناد جمال ورفضه جعل وجه مصعب الشاحب يعكس انزعاجاً طفيفاً وأنامله المتشبثه بسترة جمال تفقد قوتها لترتخي وأمام عينا هيثم وجمال دفع بآخر كلماته البائسه ووعيه يتلاشى :

_ ابي .. قُتل .. يكفي ابي .. جمال أرجــــ ..

واختفى صوته مع فقدانه لوعيه ليُصدم هيثم مع خوفه على مصعب من جمال الذي تجمد هو الآخر وكأن ماقاله مصعب نجح في أثارة هلعه بأكثر مما يراه الآن من الدماء المتساقطه ..

وازدادت صدمته حين عاد جمال راكضاً نحو السرير ليرقد مصعب فوقه ومزق قميصه بقوة لتُبصر عيناه جرح كتفه النازف فسحب منشفه ضغط بها عليه وهو يصرخ بهيثم بمرارة :

_ تعال واضغط عليه حتى آتي بالطبيب الخاص .

أراد هيثم الرفض ، فهو لم يعتد رؤية الدماء فكيف بلمسها ، أراد التصريح باستهجانه عن طاعة جمال لمصعب فهو يكاد يموت ولكن جمال لم يمنحه الفرصه حين تخلا عن مصعب وهرع راكضاً للخارج ليحضر الطبيب الخاص بأسرع وقت .

ملحوظة من الكاتبة :
ما بعد هذا الجزء لم تحظَ بالتعديل لذا قد تكون مختلفه عما سبقها ولا منطقية بعض الشيء بسبب بدايتي برحلة الكتابة ولكن بإذن الله سيتم تعديلها يوماً ما وقد تم تنزيلها مجدداً بناءاً على رغبة القراء الذين طلبو قراءتها بدون تعديل ❤️❤️❤️

¤¤¤¤¤¤¤¤¤
- بعد مرور ساعة -
نظر الطبيب بضع ثوانٍ لوجه مصعب الشاحب, قبل أن يسأل باهتمام شديد:
_متى أُصيب ؟
تأكّد جمال من أقفاله لمزلاج باب حجرة مصعب عدة مرات قبل أن يُدير بصره لينظر لهيثم الذي كان يتأمل بقلق مشوب بشك ذلك الطبيب الذي كان يرتدي ملابس لا تدل على أنه طبيب أبدا, ثم قال بقلق:
_لا أعلم...ولكن هل سيكون بخير؟

أجابه الطبيب ببرود, وهو يجلس على أحد المقاعد المواجهة لمصعب :
_من الصعب الحكم قبل أن أرى أصابته.

أقترب الطبيب من مصعب فيما أقترب هيثم من جمال ليسأله :
ـ من أين أحضرته؟..بل هل هو قادر على علاجه ؟
زفر جمال بقوة ثم قال بابتسامة باهته:
ـ من أحد الأزقة الخاصة بــ.....
لم يتم جمال عبارته مع ذاك التعبير المستهجن المستنكر الذي غطى وجه هيثم..

وفي الوقت ذاته كان الطبيب قد أزاح سترة مصعب, ثم التقط مقص وبدأ في تمزيق القميص الملطخ بالدماء, والذي يغطي جرحه، ثم فحصه بتمعن شديد قبل أن يقول:
_طلقه نارية في كتفه الأيمن.
صاح جمال وهيثم معاً في هلع:
_طلقة ناريه!؟
أومأ الطبيب برأسه إيجاباً, ثم قال بهدوء:
_يجب أن أخرجها في الحال...ساعدوني في تثبيته.

أسرع جمال ليثبته من كتفه الأيسر, في حين بدا هيثم متردداً, ولكنه حين رأى مبادرة جمال أسرع ليثبته من قدميه, وهو يقول بتوتر:
_أليس من الأفضل أن تعطيه مخدر.
أشار الطبيب إلى جمال, و غمغم في لامبالاة:
_لقد أخبرني صديقك أن الأمر يجب أن يكون سري... وإعطائه المخدر يحتاج إلى أجهزة مخصصه لذلك... وهي لا توجد إلا بالمستشفى...كما أني خبير في التعامل مع مثل هذه الحالات السرية فلا تقلق.

أومأ هيثم برأسه متفهماً, بينما بدأ الطبيب عمله محاولاً إخراج الرصاصة من كتف مصعب الذي عقد حاجبيه في ألم شديد سرعان ما تحول إلى تأوهات أطلقها, و هو يحرك جسده بصعوبة محاولاً التخلص من يدي الطبيب الذي لم يكترث لتألمه.
شعر هيثم بالمرارة فأشاح بوجهه عنه, في حين ظل جمال ثابتاً كالصخر.

وبعد وقت ليس بقليل ألتقط الطبيب الرصاصة, ورمى بها وهو يقول بهدوء:
_الحمد لله...هاهي الرصاصة.
ما أن أخرج الطبيب الرصاصة, حتى تهالك جسد مصعب دفعة واحده على السرير, ولم يُبدي أي حركة وأصبح وجهه شاحباً كوجوه الموتى.

أنقض جمال على الطبيب, وأمسكه من ياقة معطفه الطبي, صارخاً بارتياع:
_ما الذي فعلته به؟
جر هيثم جمال من سترته الخلفية بعيداً عن الطبيب, وهو يقول باستياء:
_جمال كف عن جنونك هذا... أترك الطبيب وشأنه.
وما أن ابتعدت يّدي جمال عن الطبيب, حتى صرخ الطبيب في عصبية شديدة:
_غبي..أنت غبي...أنه بسبب الإعياء والألم الذي أصابه من فقده لكثير من دماءه بالإضافة إلى استخراج الرصاصة.

رجع الطبيب نحو مصعب, وقام بتضميد جرحه, ثم غطاه بالشاش قبل أن يعطيه حقنه, ثم قال في برود من اعتاد هذا الأمر:
_لقد انتهيت.
سأله هيثم في لهفه:
_هل سيكون بخير؟
أجابه الطبيب, وهو يجمع أداوته الطبية داخل حقيبته:
_سيكون بخير إن شاء الله.

تطوع جمال ليُعيد الطبيب إلى مسكنه بعد أن نقدّه أجرته, ولكن ما أن وصل الطبيب إلى الباب حتى استدار نحوهم وهتف محذراً:
_لقد نسيت أن أخبركم..قد يصاب بحمى شديدة بعد ما حدث لذلك أحرصوا على تخفيفها وإلا قد تؤدي إلى قتله أو فقدانه لعقله إذا ما أهمل تخفيفها.

أزدرد جمال وهيثم لعابهما بصعوبة, وبصرهم ينتقل بين مصعب والطبيب الذي مالبث أن سأل بفضول:
_ولكن كيف أصيب هذا الفتى؟
فجر سؤال الطبيب حيرتهما بحق، أن كل ما كان يهمهم هو نجاة مصعب فحسب, ولم يخطر ببالهم هذا السؤال أبداً.
والذي بدأ الآن يتردد
وبشدة داخل
عقولهم.
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤

طأطأ جمال رأسه بعد أن اتخذ مقعدا مواجهاً لسرير مصعب, بينما اتخذ هيثم الجهة الأخرى.
شعر بالقلق الشديد على حال مصعب فرفع رأسه نحوه فهاله الشحوب الذي غطى كل وجهه...
حانت منه التفاته إلى هيثم الذي غطت الدموع وجهه فهمس ساخراً:
_تبكي كالفتيات.
أشار هيثم إلى وجهه, وقال بغيظ:
_أنظر إلى عينيك في المرآة قبل أن تسخر مني.
مسح جمال عينيه المحمرة بطرف كمه, قبل أن يقول في حنق:
_أنت تكذب...أنه مجرد إحمرار نتيجة الإرهاق.
تجاهل هيثم مبرره, وهتف بلهفه:
_من تظن أنه أصابه؟
هز جمال كتفيه قبل أن يقول في امتعاض:
_وما أدراني !...أيها الأحمق...هل رأيتني معه!
أمال هيثم رأسه نحوه, وهمس بخوف:
_أتظنه عامر!
عقد جمال حاجبيه في تفكير شديد قطعه بقوله:
_لا أظن...ولكن أقسم أن كان هو أن أجعله يندم.

توقفا عن الحديث عندما سمعا مقبض الباب يُدار ثم يُفتح بهدوء ليدخل عامر الذي شعر بالدهشة من وجود جمال و هيثم في حجرته ، تجاهل وجودهما و اتجه إلى المشجب وعلق عليه سترته, وهو يتساءل عن سبب جلوسهما حول مصعب وقد بدت عيناهما محمرتين كمن يحاول كبت انفعال ما، حانت منه التفاته إلى مصعب وشعر بالذعر الشديد عندما رأى وجهه شاحباً جداً, ولكنه ما كاد يكمل التفاتته حتى باغته جمال بسؤاله:
_ماذا حدث لمصعب؟

تمالك عامر نفسه محاولاً إخفاء قلقه من أجل مصعب بحاجز من البرود أجاد تمثيله, وهو يتجه إلى سريرة متجاهلاً سؤال جمال.

أعاد جمال سؤاله عليه بصوت مرتفع حمل كل عصبيته:
_قلت لك ماذا حدث لمصعب؟
أجابه عامر بتحدٍ سافر:
_لن أخبرك؟
هو نفسه لم يكن يعرف الإجابة, ولكنه أستطاع أثارة غضب جمال الذي شد قامته, وقال في عناد:
_لقد صدق هيثم أذن...أنت من آذيته...سأقتلك.

أتجه جمال نحو عامر, ولكن تشبث به هيثم بغتة من الخلف صارخاً:
_جمال..لا تُسيء الظن..هيا كف عن تهورك هذا.
قفز عامر برشاقة متخذاً وضعاً قتالي, وهو يقول بحماس:
_هيا ..أيها الهمجي..هيا تعال أن كنت تجرؤ.

صاح جمال في غيظ:
_أتركني يا هيثم أتركني...
صاح هيثم في هلع:
_إنك تؤذي بفعلك هذا مصعب..سيغضب منك.

تابع عامر بجرأة شديدة:
_لقد أجبرتني بفعلك السابق على استعادة لياقتي ولكن لا تطمع هذه المرة أن تهزمني أبداً.

أجابه جمال بسخرية, وهو يحاول التخلص من هيثم:
_سأجبرك هذه المرة على استعادة ذكرى ولادتك...هيثم أتركني هيا.

فرك عامر يديه إمعاناً في استفزاز جمال, وهو يقول:
_لو كنت تريد قتالي أيها الجبان ما كان ليعيقك هذا الفتى أبداً.
اجتاحت جمال موجه عارمة من الغضب, دفع على أثرها هيثم بخشونة, واتجه نحو عامر...

إلا أنه ما كاد يصل لمنتصف الحجرة, حتى سمع صوت تأوهات مصعب, فهرع أليه على الفور وكأن شيئاً لم يكن, في حين جلس عامر يرقب الوضع بشغف.
¤¤¤¤¤¤¤¤¤

ما كاد يصل جمال لمنتصف الحجرة, حتى سمع صوت تأوهات مصعب, فهرع أليه على الفور وكأن شيئاً لم يكن, في حين جلس عامر يرقب الوضع بشغف.
جلس جمال أمامه على المقعد, وسأله بلهفه:
_مصعب هل أنت بخير؟

أتاه صوت مصعب واهناً ضعيفاً:
_آه...آه..أين أنا!...
أجابه جمال بهدوء:
_أنت هنا بحجرتك في السكن.

قال مصعب بصوت خافت:
_أذن مازلت حياً..لقد ظننت أني سأموت.
ثم تحسس كتفه بألم, ولكنه ما أن شعر بالضمادات التي تغطيها, حتى سأل باستغراب:
_من داواني؟
أجابه هيثم بسعادة:
_الطبيب.

أبتسم مصعب ابتسامة خفيفة, مالبث أن قطعها, وهو يدير رأسه نحو جمال بحده, أحدّ النظر بضع لحظات فيه قبل أن يقول بقلق بدا في نبرات صوته:
_جمال...هل أصابك مكروه!...هل أنت على مايرام؟
أجابه جمال باسماً:
_هون عليك أنا بخير كما ترى..

أطلق مصعب زفرة ارتياح قبل أن يسأله:
_ولكن كيف داواني الطبيب؟
أجابه هيثم عنه:
_لقد أحضر جمال طبيب خاص إلى هنا.
سأل مصعب جمال باستغراب:
_وما أدراك أنه يجب أن تحضر لي طبيب خاص؟

قال جمال بهدوء شديد:
_أنت قلت لي ذلك.
هتف مصعب بدهشة:
_أنا ولكني لا أذكر ذلك.
أجابه جمال بلطف:
_لا أظنك ستذكر لقد كنت متعباً...لقد قلت لي أنه يتوجب علي أن أحضر طبيب خاص لأن المستشفى يشكل خطراً عليك.
أشار مصعب إلى نفسه بدهشة, وهو يهتف:
_علي أنا...كلا...بل كان يشكل خطراً على حياتك أنت.

قاطع هيثم حديثهم بغيظ:
_مصعب أرجوك كف عن هذه الألغاز..وأخبرنا ماذا حدث لك.
ظل مصعب صامت لبعض الوقت, قبل أن يدير وجهه نحو جمال, وقد ارتسم على وجهه الخوف بكل أشكاله, وهو يغمغم:
_جابر .. أنه جابر يا جمال... الذي أفقدته عينه.
أطلق جمال شهقة قوية قال بعدها بصوت بدا مرتعداً:
_مصعب هل تقصد جابر بعينه!

أومأ مصعب له برأسه علامة الإيجاب فعاد جمال يسأله بلهفه:
_ألم يكفهم ما فعلوا!...لماذا يسعون خلفك!
أجابه مصعب بخوف:
_لا أعلم..أنا بحق لا أعلم.

ثم دار برأسه لتستقر عينيه على سقف حجرته, وهو يحكي لهم ما حدث:
_لقد أصبت بالأرق ليلة البارحة, وعندما رأيت الهواء قوياً في الخارج, قررت الخروج لاستنشاق بعضه, ولكن لا أعلم كيف قادتني قدماي إلى برج العاصمة، لقد وقفت طويلاً أنظر أليه ولكني لم أشعر إلا وأحدهم يحيطني بيديه من الخلف, معيقاً حركتي في حين وقف جابر في مواجهتي صائحاً بسعادة:
_مصعب يالسعادتي لقد بحثنا عنك طويلاً في مدينتك وأنت هنا تتسلى بمرأى البرج..أنه من حسن حظك مرورنا من هنا..لقد كدت أجن من الفرح عندما لمحتك عيناي بل أني كدت أن أصنع حادثاً مروعاً...هيا أن شاهر يتشوق لرؤيتك.

لقد حاولت التملص منهم, ولكني لم أشعر إلا بضربة شديدة على رأسي فقدت على أثرها الوعي,
أخذوني وقيدوني ثم رموا بي في المقعد الخلفي لسيارتهم...لا أعلم كم ظللت فاقداً للوعي, ولكني استعدت وعيي دون أن يدركوا ذلك..

وسمعت جابر يقول في حنق, كم كان يتمنى أن يلتقي بك لينتقم منك على إفقادك له لعينه, فأشار عليه رفيقه بأن المكان الذي أكون فيه لابد وأن تكون متواجد فيه, فاتفقا أن يطلقا علي النار بحيث أصاب دون أن أقتل, ويرميا بي في ساحة المستشفى, فأتلقى العلاج في حين تهرع أنت للمستشفى للاطمئنان علي, فيقبضا عليك, وهذا ما قاما به بالفعل, ودون أن يدركوا أني استعدت وعيي وسمعت كل ما قالاه.

صاح جمال في هلع:
_يا إلهي طلقة نارية من أجل القبض عليّ فقط يالهم من وحوش.
أكمل مصعب بهدوء:
_عندما رموا بي في ساحة المستشفى بعد أن أطلقوا النار على كتفي الذي تحملته بصعوبة حتى لا يدركوا أني استعدت وعيي فكوا قيدي، بقيت جامداً للحظات حتى غابوا عن عيناي, ثم تحاملت على نفسي, وخرجت من باب المستشفى الخلفي, واتجهت إلى هنا على الفور... لقد أغمضت عيناي ولم أكن أظن أني سأفتحها مرة أخرى.
ربت جمال على ذراعه, وقال بحزن:
_فعلت هذا كله من أجلي.

أدار مصعب بصره نحوه, وقال بعينين دامعتين:
_من أجلك..ومن أجل والدك ووالدتك وأخواتك..ومن أجل هيثم وخالتك ..هناك الكثير سيفقدك إذا ما أصابك مكروه أما أنا فلا.
هز جمال رأسه, وقال بعينين محمرتين هو الآخر:
_مصعب هل نسيتني!... ألن أفقدك أنا..؟ لماذا تقول هذا ؟
أغمض مصعب عيناه, وقال بكل ما اعتمل داخله من حزن وكآبه:
_إن فقدي خيراً من فقدك...ماذا سأستفيد أذا ما فتحت عيناي في المستشفى لأجد أخر من بقي لي قد ذهب.

ران صمت مهيب على الحجرة بعد كلمات مصعب تلك, وكل من فيها يحاول كبت المشاعر الجارفة التي انتابته, حتى لا تتفجر على صفحة وجهه أمام هذا المشهد المؤثر...
ولكن فجأة فتح مصعب عينيه, وقال في سعادة:
_لقد نسيت..لقد سمعتهم يقولون أن معاذ حي.

اتسعت عينا جمال دهشة قبل أن يقول:
_مستحيل لقد رأينا جثته معاً.
صاح مصعب بغضب:
_لقد قلت لك أني لم أشعر للحظة واحدة أنها لمعاذ...وستتأكد عندما أحضره وتراه بعينيك.

أزاح مصعب الغطاء عن جسده, وأنزل قدميه محاولاً مغادرة السرير لوحده, ولكن أمسكه جمال وهيثم بقوة, وأعادوه للسرير فأخذ يصيح بجنون:
_دعوني ...لا شأن لكم بي... أنه أخي أنا.
أجابه جمال, وهو يزيد من قوة أمساكه:
_أنت تهذي ..

حرك مصعب رأسه في غيظ شديد:
_أتركوني هيا أنه في حاجة لي...يجب أن أنقذه.
قال هيثم محاولاً تهدئته:
_مصعب مازلت متعباً..بعد أن تتعافى يمكنك الذهاب للبحث عنه.
لم يجبه مصعب الذي ارتمى بغتة على السرير بجسد مرتجف, وكفه تقبض بألم على كتفه,

فسأل جمال هيثم بلهفه وقلق:
_ماذا حدث له؟
قال هيثم بتوتر شديد:
_أظنها الحمى التي تحدث عنها الطبيب.
تحسس جمال جبهة مصعب قبل أن يقول في ارتياع:
_أن حرارته مرتفعه بشكل فظيع.
جرى هيثم بجنون في الحجرة صائحاً:
_علينا تخفيفها...هذا ما قاله الطبيب.

أحضر وعاء صغير به ماء بارد وقطعة قماش، بلل قطعة القماش بالماء ثم وضعها مباشرة على جبهة مصعب فسال الماء على جانبي رأسه...
أختطف جمال قطعة القماش وقال في حنق:
_غبي... لم تكن أمي تضعها لي بمائها.
سأله هيثم بحيرة حقيقية:
_وكيف يمكننا التخلص من مائها؟
تلعثم جمال قبل أن يجيبه:
_أظنها لم تكن تغمسها في الماء..أظنها كانت تصب القليل من الماء فوقها فحسب.

قطع حيرتهم صوت ضحكات عامر الساخرة، نظرا أليه بحده قبل أن يقول جمال:
_من الطريف أننا استطعنا إضحاكك.
هتف عامر وسط ضحكاته:
_أنتما أحمقان..أحمقان..بالفعل.
سأله هيثم بضيق:
_وما الذي يتوجب علينا فعله أيها المتحذلق! أن كنت تعلم حقاً.
جلس عامر على طرف سريره, وأنزل يده للأسفل قائلاً بجدية:
_نغمس قطعة القماش في الوعاء.
ثم حرك كفيه المقبوضتان في اتجاهين متعاكسين, قائلاً:
_ثم نعصرها حتى يبقى القليل من الماء فقط ..ثم نضعها على جبهته.

نظر جمال وهيثم لبعضهما ببلاهة, قبل أن يقول هيثم بجدية:
_لن تضرنا التجربة.
قام هيثم بفعل ما قاله عامر بالضبط, وصاح في جذل:
_هذا صحيح يا جمال.
أشار عامر بسبابته نحوهما, قائلاً في سخرية لاذعة:
_ألم أقل لكما أنكما أحمقان.

باغتته إجابة جمال:
_شكراً يا عامر..لم نكن لنعرف ذلك وحدنا.
شعر عامر بالحرج, فقال باستعلاء وهو يدير ظهره نحوهما على السرير:
_أنه أمر سخيف للغاية...ثم أني فعلت ذلك من أجل مصعب.
لم يستغرب جمال وهيثم تصرف عامر فقد اعتادوا فعله ذلك من كثر حديث مصعب عنه وعن غموضه.
¤¤¤¤¤¤¤¤¤

- السادسة مساءاً -
دلف هيثم إلى حجرة مصعب بخطى متعثرة, قبل أن يصيح في خجل:
_جمال أنا أسف... لم أكن أظن أني سأنام كل هذا وقت...
ولم يغادر الشعور بالذنب نبرة صوته وهو يحدق بجمال الذي همً بالنهوض عن مقعده وأضاف معاتباً:
_ ثم...لماذا لم تتصل على هاتفي!

ألتقط جمال سترته المرمية على المنضدة المجاورة لسرير مصعب وتطلعت عيناه للساعة الملتفة حول ساعده والتي أشارت عقاربها للسادسة مساءاً, وهو يجيبه ببرود شديد:
_لا بأس...ولكن عليك أن تجلس خمس ساعات كاملة عقاباً لك.

أومأ هيثم برأسه موافقاً, وبصره يتبع جمال الذي غادر الحجرة بخطى مترنحة متعبه, أعاد هيثم قطعة القماش إلى جبهة مصعب بعد أن غير مائها ثم جلس في مواجهته.
تطلع لجسد مصعب الراقد في سكون ولم يلبث أن ابتسم بارتياح قائلا:
_ لقد خفت حرارته كثيراً...يجب أن أحرص على بقائها كذلك.

مر الوقت ثقيلاً على هيثم الذي تسلل الملل أليه, نظر إلى ساعته لقد مرت ساعتان فحسب منذ مكوثه عند مصعب ، نهض عن مقعده واتجه إلى مكتبة مصعب باحثاً عن أي كتاب يستطيع أن يقطع به ما تبقى من الوقت ويخفف عنه بعض الملل الذي يشعر به.

ولكنه ما كاد يفعل ذلك حتى شد انتباهه فجأة صوت دوي انفجار هائل في الخارج... هرع إلى النافذة وأصيب بالذهول والفزع عندما رأى خيط من اللهب يكاد يبلغ عنان السماء...
تساءل في نفسه عن سببه:
_ أنه ناتج عن احتراق مصنع أوه كلا ..سيكون الانفجار أفظع ..أذن فهو ناتج عن انفجار شيء أصغر...منزل...محل...أو لعله سيارة... نعم أنها سيارة بلا شك.

دقق النظر في موقع الانفجار واتسعت عيناه دهشة عندما حدد موقعه ..لقد كان قريباً منهم جداً
..قريباً للغاية..
في الساحة القريبة من المستشفى بالضبط.
¤¤¤¤¤¤¤

دخل جمال إلى حجرة مصعب, وشفتيه تنشد لحناً جميلاً قبل أن يقول في جذل :
_هيا يا هيثم .. يمكنك الذهاب الآن.
نظر هيثم إلى ساعته في دهشة, قال بعدها:
_بقي ساعتان من نوبتي.

ألقى جمال سترته على المشجب, و قال ببرود:
_لا عليك...لقد عفوت عنك.
دقق هيثم النظر فيه بضع لحظات قال بعدها:
_جمال أنت لم تنم!

أرتبك جمال قليلاً, ولكنه ما لبث أن قال بتوتر:
_هذا صحيح...لقد كنت قلقاً على مصعب فلم أستطع النوم.
هز هيثم رأسه, وقال في شك:
_هذا ليس صحيح...أنت تعلم أن صحة مصعب قد تحسنت كثيراً...
ثم مال برأسه نحوه حتى التقت عيناهما, وهو يكمل:
_ثم أنك لا تبدو على سجيتك التي خرجت بها...يبدو عليك الآن النشوة والسرور ..أصدقني القول ما الذي فعلته.

ظل جمال للحظات محدق النظر بهيثم, وشعور كبير من الإعجاب يسيطر عليه، لقد أستشف ما بداخله في دقائق معدودة.
جلس جمال على المقعد المقابل له, قائلاً, وابتسامة إعجاب تزين شفتيه :
_هذا صحيح ...كل ما قلته صحيح تماماً.
سأله هيثم بشغف:
_قل لي ماذا حدث؟

اتسعت ابتسامة جمال, وهو يقول ببطء:
_لقد شعرت بحاجتي لزيارة شخص ما.
عقد هيثم حاجبيه وقال بقلق:
_جابر!!
ضم جمال أصابع كفه اليمني ما عدا السبابة التي أشار بها لهيثم قائلاً بانبهار:
_أصبت.

ثم استرخى جمال أكثر في مقعده قبل أن يقص عليه ما حدث:
_لقد كنت قلقاً على مصعب بحق بالإضافة إلى أني كنت مغتاظاً جداً من جابر فلم أستطع النوم فرأيت أن من الأفضل أن أرسل عدة رسائل لصديقنا القديم شاهر...
خرجت إلى المستشفى الذي لا يبعد كثيراً عن هنا...ولقد صدمت بالفعل عندما رأيت جابر ورفيقه مازالوا ينتظرون قدومي خارج المستشفى.
انتظرت أكثر من ساعة لعلي أحظى بأحدهما بمفرده وكدت أجن من طول الانتظار حتى أني هممت بأن أخرج لهما في العراء و لكن لحسن الحظ فقد أرسل جابر رفيقه إلى المحل لشراء بعض زجاجات المياه لهما فتسللت خلفه وما أن أصبحنا بأحد الأزقة حتى هاجمته و تعاركنا لبعض الوقت ولقد كان قوياً بحق حتى أن الكفة كادت تميل إلى جانبه فاضطررت لإخراج سلاحي.

صاح هيثم باستغراب:
_أي سلاح؟
أخرج جمال مسدس كان يخفيه تحت قميصه, ولوح به أمام عيني هيثم الذي صرخ بانبهار:
_هل قامرت بحياتك بلعبة الأطفال هذه؟
زادت ابتسامة جمال, وهو يقول بجدية:
_لقد كان لحسن حظي أنه لم يكن بارعاً مثلك في التعرف على لعب الأطفال...لقد حسبه حقيقياً فانهار على الفور وشفتيه لا تكف عن الثرثرة بكل ما أريده وما لا أريده...
لقد قال أن شاهر يريد مصعب من أجل تغيير شهادته التي شهد بها منذ أكثر من عامين...
كما أني لم أكن لأحلم بما قاله فيما بعد..
سأله هيثم بلهفه:
_ماذا قال؟
برقت عينا جمال, وتهلل وجهه دليل فرط السعادة التي انتابته, وهو يهمس:
_إن معاذ حي.

قطب هيثم حاجبيه بحيرة قبل أن يسأل:
_من معاذ هذا؟
أجابه جمال ببرود:
_إنه الأخ الأصغر لمصعب ...ولكن علي أن أتأكد أولاً من صحة هذا الخبر.
أمسك هيثم كف جمال, وقال باستعطاف:
_جمال أرجوك أخبرني ماهي قصة مصعب؟ ومن شاهر هذا؟ ولماذا يسعى خلف مصعب؟ وما الذي حدث لمعاذ؟

سحب جمال كفه, وقال بحزم:
_كلا ..لقد وعدت مصعب ولكن إذا استيقظ أطلب منه ذلك فإذا وافق فلن أمانع أبداً.
كتم هيثم المرارة التي أصابته, وهو يقول:
_لا بأس ..ولكن أن لم يوافق مصعب فسأحجز أول قطار يتجه إلى مدينتكم وسأسأل كل من هناك.. جيرانكم خالتي خالي رائد ..حتى أختك مرام لن أتركها سأستجوبها.

أطلق جمال ضحكه قصيرة, قال بعدها في جذل:
_لن أشك في أنك ستفعل ذلك حقاً مادام هذا يشبع فضولك...ولكن ألا تريدني أن أكمل لك ما حدث.
أومأ له هيثم موافقاً, فأكمل جمال:
_وبعد أن أخبرني بكل شيء قيدته وقلت له أن يوصل رسالتين.. الأولى لجابر(أن لم يبتعد عن طريقنا فإني سأضطر لقلع عينه الثانية)
والثانية لشاهر(أن لم يترك مصعب وشأنه فأني سأضطر لإحراق جسده هو هذه المرة)..

قاطعه هيثم قائلاً بوجل:
_جمال.. لماذا تحاول استفزازهم؟.. إنهم لا يأبهون بحياة أحد ..أنظر ماذا فعلوا بمصعـ..
لم يبدو على جمال أنه انتبه لكلمات هيثم المرتعبة وهو يتابع في انتشاء:
_وبعد أن تيقنت من أنه فهم رسالتي جيداً وحفظها عن ظهر قلب تسللت إلى سيارة جابر التي كانت واقفة في العراء بعيداً عن الناس وعن المستشفى ..وبعد أن ابتعد عنها جابر واتجه للبحث عن رفيقه وضعت خيط طويل شديد الاشتعال في خزان وقودها وأشعلته وانطلقت إلى هنا على الفور.

نظر أليه هيثم بصدمة حقيقية لبعض الوقت, قال بعدها بقلق:
_أنت إذن سبب ذلك الانفجار المريع ..جمال ما كان عليك فعل ذلك.. أنت متهور بحق ... أن تفجير السيارة لن يقود شاهر أليك فقط بل ورجال الشــ..
قاطعه جمال بلا مبالاة:
_لم يرى أحد أني أنا من فعل ذلك ثم أني من غيظي لم أدرك ما فعلته ولم أجد متنفساً ألا هذا...
حرك هيثم رأسه قائلا بغضب:
ـ أنت مجنون بحق.. أن ما فعلته مريع وخطير.
هز جمال كتفيه ببرود ثم القي نظرة طويلة على مصعب النائم بهدوء, وقال :
_أنت لا تعلم يا هيثم ماذا قدم لي مصعب ... أنه يستحق أكثر من ذلك.

تنهد هيثم بيأس من محاولة إقناعه بخطورة ما قام به ثم نظر بدوره لمصعب, وقال بلهفه:
_سأموت لا محالة أن لم يسمح بذكر قصته.
شد جمال قامته فجأة, وقال أمراً:
_هيا يا هيثم أذهب ونم ..أنا سأعتني بمصعب.
قال هيثم بدهشة:
_جمال أنت لم تنم.
أجابه ببرود:
_ليس بي رغبة للنوم ..ثم أن ما حدث جعل النشاط يدب ف جسدي...هيا إنها التاسعة مساءاً.
تحت إلحاح جمال الشديد غادر هيثم حجرة مصعب على مضض.
¤¤¤¤¤¤¤¤

أستيقظ جمال فزعاً, حينما شعر بحركة خفيفة بجانبه، استدار في حدة إلى مصدرها, وأصيب بدهشة كبيرة عندما رأى عامر يستبدل كمادات مصعب بأخرى, ومصعب يتحرك ببطء مطلقاً لبعض الآهات والكلمات في هذيان شديد.
هب من مقعده صائحاً بذعر:
_يا إلهي ..لم أكن أظن أني سأنام.

أجابه عامر ببرود:
_لقد استيقظت على صوت هذيانه.
تطلع جمال إلى ساعته, وقال في استياء:
_إنها الثالثة فجرا ً..لقد نمت طوال ساعتين دون أن أشعر...هل هو بخير؟
أطلق عامر زفرة ارتياح قال بعدها:
_الحمد لله، لقد انخفضت حرارته كثيراً بعد صعودها المفاجئ.
ثم قال بهدوء موجهاً حديثه لجمال:
_يمكنني البقاء معه إلى الفجر ..أذهب للنوم.

هز جمال رأسه بكبرياء, وهو يقول:
_كلا.. يمكنني المكوث معه أكثر.
قال عامر بحنق:
_ستقتله باستعلائك السخيف هذا...أنت لم تنم ولن يمكنك أن تواصل أكثر.
أشاح جمال بوجهه عنه دون أن يجيبه, فتابع عامر:
_أذهب ونم على سريري... ثم أني لا أفعل ذلك من أجلك بل من أجل مصعب.

ما أن نطق عامر عبارته تلك, حتى تحامل جمال على نفسه, ورمى بجسده في تهالك على سرير عامر وغاص في سبات عميق على الفور.

نقل عامر بصره بين جمال ومصعب في أعجاب شديد، إنهما نعمّ الصديقين بل الأخوين ،لم يكن يشك مطلقاً بأنه سيجد مثل هذه الأخوة الحقه التي جعلته يعود لينظم حساباته الحياتية من جديد، شعر بالحزن يسيطر على كل مشاعره وهو مركز البصر على مصعب بالذات، ليته التقى به من قبل، أن شخص مثل مصعب يصٌعبُ أن يتخلى عنه شخص بعد معرفته به.. أنه شخص رائع بحق، لقد تجاوز مصعب كل آلام ماضيه التي يشعر بها, وعاش حياته وضحكاته تملأ كل ركن من حياته، يا له من فتى.
¤¤¤¤¤¤¤¤

شعور قوي بالألم سرى في جسد مصعب وهو يستعيد وعيه ببطء، في حين شعر أن عشرات المطارق تدوي في رأسه مسببه له صداعاً عنيفاً، فتح عينيه في تخاذل محاولاً رؤية ما أمامه, بعد ذلك الظلام الذي سيطر عليها لساعات طوال وشفتاه تنطقان بضعف:
_ماذا ...حدث؟
أجابه عامر, وابتسامة سعيدة تزين شفتيه:
_الحمد لله...هل استيقظت؟

أدار مصعب بصره نحوه بعينين مذهولتين ـ إن عامر يجلس جانبه بل و يحدثه أيضاً ـ تجاوز مصعب ذهوله وقال بصوت خافت:
_عامر ماذا حدث؟
أجابه عامر بهدوء شديد:
_لقد أُصبت بالحمى ... بعد ما حدث لك بالأمس.
تطلع مصعب إلى وعاء الماء وقطعة القماش التي مازالت على جبهته, وسأل باستغراب:
_هل أنت من رافقني طوال الليلة؟
أومأ برأسه نافياً, وقال :
_كلا أنا لم أجلس إلا منذ أربع ساعات فحسب.. بل من رافقك قبلها هيثم وجمال.

دار مصعب ببصره في الحجرة بحيرة شديدة مالبث أن حولها لصوت مسموع:
_أين جمال وهيثم؟
أشار عامر إلى سريره, وقال ببساطة:
_أن جمال نائم على سريري وأظن أن هيثم لم يستيقظ إلى الآن.
رمق مصعب جمال النائم بدهشة :
_ولكن لماذا ينام على سريرك؟
أجابه عامر ساخراً:
_لقد بذل جهداً مضاعفاً معك البارحة فألزمته بأن ينام على سريري على أن أبقى أنا ما تبقى من الوقت معك.

حدق مصعب بعض الوقت في عامر بدهشة, ثم مالبث أن ابتسم ابتسامة كبيرة جذابة, وهو يقول:
_أنا سعيد...سعيد جداً.
سأله عامر باستغراب:
_لماذا!
زادت ابتسامته, وهو يجيبه:
_وأخيراً تحدثت معي...أكان يجب أن يحدث ما حدث لكي تتحدث معي.

أبتسم عامر بدوره قبل أن يقول ببرود عجيب:
_كلا.. لقد كنت أنوي ذلك من قبل.. فأنا لم...
قطع حديثهم دخول هيثم الذي نقل بصره بذهول بين عامر ومصعب وجمال النائم, إلا أنه استخرج نفسه من دهشته, وسأل مصعب في لهفه:
_مصعب هل أنت بخير؟

أجابه مصعب, وهو يحاول الجلوس بمساعدة عامر:
_الحمد لله...أنا بخير كما ترى.
تطلع مصعب إلى ساعته, وقال في ضيق:
_إنها الساعة السادسة صباحاً... يجب أن أصلي.
ساعده عامر وهيثم على أداء ما فاته من الصلوات ,ثم أستأذن عامر للذهاب إلى الجامعة,
وما أن خرج عامر حتى همس هيثم:
_لقد تغير عامر كثيراً.

أومأ مصعب برأسه موافقاً, وهو يقول:
_لقد دُهشت كثيراً عندما فتحت عيناي لأجده بجانبي.
نظر هيثم بضع لحظات إلى جمال النائم قبل أن يقول:
_لقد كان جمال محقاً.

سأله مصعب باستغراب:
_ماذا تقصد ؟
أجابه على الفور:
_لقد قال أن عامر لن يقاوم طيبتك وأخلاقك العالية طويلاً وفي النهاية هو من سيسعى إلى صداقتك.
شعر مصعب بالحرج الشديد من هذا الإطراء, فقال في خجل:
_أنه يبالغ.
ثم التفت إلى جمال, وهو يسأل هيثم:
_هل صلى جمال الفجر؟
أجابه هيثم في فزع:
_لم أره في المسجد...لقد ظننت أنه بقي إلى جانبك...سيقتلني أن فاتته صلاة الجماعة.

قال مصعب بتوتر:
_ وسيغضب جداً أذا لم نوقظه...
أتجه هيثم نحوه, ولكن أستوقفه أن همس له مصعب بمكر:
_هيثم تعال...لدي خطه
طريفة لإيقاظه.
¤¤¤¤¤¤¤¤

" جمال.. هيا.. انهض. "
جذب جمال الغطاء, وأعاده على رأسه متجاهلاً كلمات مصعب الذي سحب الغطاء, وقال في دهشة مصطنعة:
_جمال لماذا تنام على سرير عامر؟
استوى جمال جالساً في دهشة حقيقية عند إدراكه لصوت مصعب, وقال في تعجب:
_مصعب هل أنت بخير؟

رمقه مصعب بنظرة مستنكرة لسؤاله قبل أن يقول:
_ جمال مابك! ثم أنت تنام على سرير عامر هيا انهض قبل أن يراك.
ظل جمال بضع لحظات يتطلع لمصعب بذهول, قال بعدها:
_مصعب كيف أصابتك ألا تؤلمك؟
تطلع أليه مصعب باستهجان أشعره بسخافة سؤاله قبل أن يقول مشيراً لرأسه:
_هل أسرفت في النوم البارحة لتأتي وتلقي أحلامك السخيفة على مسامعي؟

دخل هيثم بغتة إلى الحجرة, وصاح باستغراب مفتعل:
_جمال على سرير عامر...يا للغرابة...
استدار نحوه مصعب, وقال بذعر:
_هيثم ... هل رأيت عامر؟...على جمال أن يغادر سريره قبل أن يأتي؟
قاطعه جمال في حده:
_مصعب مابك؟ لقد أُصبت بطلقة نارية في كتفك؟

شهق هيثم بقوة, وهو يتطلع إلى مصعب الذي فغر فاه بدوره, فهتف في ذعر:
_مصعب ماذا أصاب جمال؟ هل قرأ إحدى رواياتك الخاصة بالجرائم قبل أن ينام؟
أنتزع مصعب من تحت وسادته كتاب, وقال في حيرة:
_أنظر هذه رواية (جريمة في الظلام) وجدتها تحت وسادته.

نقل جمال بصره بينهما في حيرة شديدة_ إن ما يدهشه ليس كلماتهم ولكن ما يدهشه حقاً مصعب الذي يقف أمامه بجسد قوي صحيح وكأنه لم يُصب أبداً_ ولكنه بغتة هز رأسه بشدة محاولاً طرد فكرة تصديقهم, وهو يصيح:
_كلا لن تخدعاني ... لقد أُصبت يا مصعب في كتفك بالأمس .

جاءه جواب مصعب الساخر صاعقاً لكل ما تبقى من ثقته بنفسه:
_رائع.. أُصبت في الأمس بطلقة نارية...وهاأنذا أقف أمامك اليوم.. يالي من فتى قوي ..لقد قلت لك من قبل أني قوي ولكنك لم تصدقني.
أكمل هيثم متظاهراً بالضيق:
_جمال هيا أنهض قبل أن يأتي عامر ويراك على سريره وكف أيضاً عن سخافاتك هذه.

نقل جمال بصره بينهما, وبدا كالأبله حقاً, وهو يستبعد في عقله أن يصاب شخص بطلقة ثم يبدو في اليوم التالي لأصابته قوياً معافى ويستطيع أيضاً السير، بدأ يفكر أنه لم يقرأ تلك الرواية أبداً بل إنه لا يُحب القراءة ،كيف أستطاع عقله أن يصنع تلك الأحداث بكل تفاصيلها بل أنه عاشها بنفسه، ثم أن هيثم لا يُجيد التمثيل أنه يبدو كما لو كان صادقاً تماماً ، أمسك رأسه بشده عند هذا الحد والتفكير يكاد يفجره ثم نظر إلى مصعب, وسأله بلهجة تحمل كل استعطافه:
_مصعب أنا لا أهذي .. لقد أُصبت في كتفك الأيمن بطلقة وكدت تقتلني فزعاً وقلقاً.. ولقد جئتُك بطبيب..

صاح هيثم بلهجة تظاهر فيها بالسآمة منه:
_جمال سأجعلك تكف عن هذيانك هذا..قلت كتفه الأيمن هاه.
ضرب هيثم بكفه الأيمن كتف مصعب الأيمن, واستدار نحو جمال قائلاً:
_هل صحوت من حلمك الآن!
ما كاد يكمل عبارته حتى سمع صوت ارتطام قوي خلفه فاستدار بحدة نحوه ليجد مصعب ساقطاً على الأرض فصرخ في هلع:
_مصعب هل تأذيت؟

قبض مصعب بألم على كتفه, وهيثم يسنده ليعيده إلى سريره بعد سقوطه, فأخذ يقول في غضب:
_قلت لك ضربة خفيفة وليس بكل قوتك أيها الغبي.
ظل جمال صامتاً للحظات, إلا أنه مالبث أن أطلق ضحكة شامته متشفية, و قال ساخراً بعد استيعابه للموقف كاملاً:
_تستحق ذلك يا مصعب ..خطتك فشلت بل وانقلبت ضدك .. هذا جزاء كل من يكذب...
وازدادت ابتسامته الشامته اتساعاً حتى كادت تنسف رأس مصعب حنقاً وهو يضيف متهكماً :
- و الآن أخبرني هل كتفك مصاب أم أني كنت أحلم؟! ..أو لعلي الآن مازلت في حلم آخر !!

صاح مصعب في غيظ:
_أصمت.. ثم أني لم أقل إني لم أصب.. أي أني لم أكذب.
أنفجر جمال ضاحكاً مرة أخرى قبل أن يقول:
_يالها من طريقة جميلة في المراوغة...لقد تحسنت كثيراً ولكن...
قاطعه مصعب بعصبية, والألم يزداد في كتفه:
_جمال قلت لك اصمت...ثم إنك لم تصلي الفجر.. هيا أذهب.. إنها السابعة والنصف.

صرخ جمال في غيظ حقيقي:
_هيثم لماذا لم توقظني! ..لقد فاتتني صلاة الجماعة.. كيف سأعوض سبعة وعشرين درجة فاتتني الآن!.
أجابه هيثم بارتباك:
_لقد حسبتك اضطررت للبقاء مع مصعب ولم يخطر ببالي أبداً أنك نائم.
نهض جمال عن سريره, واتجه للحمام هاتفاً بهدوء بعد استساغته لعذره:
_لا بأس...ولكن مرة أخرى أيقظني دون تفكير...هل فهمت!
أومأ هيثم برأسه علامة الفهم في حين أتجه جمال لأداء صلاة الفجر.

¤¤¤¤¤¤¤¤¤
جرع جمال كوب ماء كامل بعد ذلك الإفطار الذي تناوله ثلاثتهم، ثم استرخى في المقعد المواجه لهيثم الذي كان يجلس على مقعد آخر, ومصعب مستلقي على سريرة بهدوء متكئاً بظهره على حاجزه الأمامي.. هتف هيثم في لهفه:
_هيا أبدأ.

رمق جمال مصعب بنظرة متسائلة, فقال على الفور:
_لا بأس.. لقد أصبح هيثم أخ لنا...يمكنك أن تقصها عليه...ثم أن شاهر لم يعبث بالرماد بل أشعله مجدداً...ليشمل الماضي والحاضر معاً.

فتح جمال شفتيه ليبدأ في سرد تلك القصة التي مر على حدوثها أكثر من سنتان, ولكنه ما كاد يفعل ذلك, حتى فتح باب الحجرة فجأة, ليظهر من خلفه عامر الذي قال بهدوء شديد:
_السلام عليكم.
رد الجميع:
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

بادره مصعب بقوله بامتنان:
_عامر نسيت أن أشكرك لبقائك جانبي ليلة البارحة.
أجابه عامر ببرود بعد أن نزع سترته وعلقها ثم سحب مقعداً ليجعله في مواجهة مصعب من الجانب الآخر للسرير مقابل جمال وهيثم:
_هذا واجبي.. كيف تشعر الآن؟
أجابه مصعب, وابتسامة عذبة تزين شفتيه:
_كنت بخير حتى ضربني هيثم.

نقل عامر بصره بين مصعب وهيثم بدهشة قبل أن يسأل:
_ولماذا ضربك؟
قص عليه مصعب ما حدث, في حين تبادل جمال وهيثم نظرة تنم عن مدى إعجابهما بأسلوب مصعب الذي أستطاع به جذب عامر أليهم دون أدنى صعوبة.

زادت ابتسامة عامر المندهشه اتساعا, وهو يقول باستنكار:
_سمحت له بأن يضرب مكان أصابتك من أجل خدعة.
أطلق مصعب ضحكة قصيرة, وهو يدير بصره نحو هيثم, ويقول في جذل:
_لم أشك أنه سيزيد من حجم الضربة إلى هذا الحد الذي آلمني.
كان هيثم صامت مطأطأ الرأس, فاستطرد مصعب في توتر:
_هيثم أنا لست غاضب مما فعلته...ثم إنها خطتي ..فلا تكترث بما قلت أنه مجرد مزاح.

ظل هيثم صامتاً فقال جمال ساخراً:
_أظنني أفهم ما يريده.
رفع هيثم رأسه نحوهما, وهتف بصوت يحمل لهفته البالغة:
_أريد سماع القصة.. أرجوكما.. أكاد أجن..
شعر مصعب بالشفقة نحوه, فأدار بصره نحو جمال واستشف من نظراته أنه ينتظر أشارته ليبدأ, فقال في بساطة:
_لا بأس.. أظن أن عامر لن يمانع في سماعها.. ثم أنه قد أصبح فرداً منا.

ركز هيثم نظراته بشغف في جمال الذي زاد من استرخائه في مقعده, في حين اتكأ عامر بمرفقيه على طرف سرير مصعب, عاقداً كفيه أمام وجهه مستنداً بذقنه عليها.

الوحيد الذي لم يدرك أحد عظم لهفته في أن تسترجع ذاكرته تلك الأحداث التي عاشها هو مصعب الذي استرخى على سريره, وأغمض عينيه, وكأنه يستمتع بما يسمع.
¤¤¤¤¤¤¤¤

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top