" ٨ "
_ الجمعة ١٠ صباحاً _
" حي ؟! "
بنبره مُرتجفه ثائرة نطقها شاب أخذ الهزال من جسده وتهدل جلده المترهل على جانبيّ وجهه وقد غارت عيناه وسط حلقات من السواد وأصابع كفه تكادُ تُحطم مقبض سماعة الهاتف الذي يتحدث منه للشخص المقابل له لا يفصلهما إلا حائط شفاف ومتين في سجن العاصمة المركزي ..
_ نعم حي .
قالها جابر وعينه الواحده ترقب نظرة الحقد المتأججة بعينيّ السجين والذي هتف :
_ ووالدي يعلم أنه حي ؟!
_ نعم يا أيمن .. لقد علم مّنذُ أسبوع .
صرخه مهوله أطلقها أيمن ممتلئه بغيظه حتى أن الحارس من خلفه انتفض فزعاً فيما زادت ابتسامة جابر الشرسه فصرخ أيمن بثورة :
_ أنا هنا محبوس وهو حي يلهو ويمرح بل ودخل الجامعة .
هز جابر كتفيه قائلاً :
_ نعم .. يُكمل حياته وكأن شيئاً لم يكن .
_ اللعيــــــــن .. يجب أن يموت .
صرخ واقترب من الفاصل بينهما حتى كاد يُسحق وجهه عليه وهو يستجدي جابر :
_ أقتله .. لا .. دبر له مكيدة وأحضره هنا معي للسجن .. اللعنة فلتخرجني من السجن بكفاله ليومين لقتله ومن ثم سأعود .
وقف جابر ولازالت السماعة على أذنه وابتسامته تزداد اتساعاً قائلاً بإحباط :
_ لقد تطوعتُ لنقل الخبر لك لأرى مدى صدمتك ولكنها لم تكن بأشد من صدمة والدك وثورته .. لقد نشر كل رجاله في أرجاء العاصمة بحثاً عنه .
_ هذا هو والدي .
صرخ أيمن فرحاً فيما تألقت عين جابر الوحيده بخبث :
_ يُريد منه تزييف شهادته كي يُخرجك من السجن .
تغير وجه أيمن لهذه الفكرة التي لم تخطر بباله أبداً ثم سأل بلهفه :
_ وهل ذلك مقبول ؟!
_ لا نعلم بعد .. ولكن والدك يسعى لذلك وأنا مررت هنا بك خلال تجولي باحثاً عنه .
ابتسامة ضخمة ملئت وجه أيمن وداعبت الأحلام الورديه خياله ليقول :
_ خمسة عشرة عاماً لم يمر منها سوى عامين ونصف وسأخرج .. بل وببراءة .. ابي داهيه حقاً .
_ ولكني أميل حقاً لخياراتك .. قتله .. تلبيسه جريمة .. و ..
_ أفعلها .. أو سنفعلها معاً بعد أن أخرج .. لا تُبقي ضغينتك في نفسك .. سنحتفل بخروجي بالرقص فوق جثته وجثة رفيقه اللعين ذاك .
وعكست عينا الأثنين تصميماً وحشي على القتل ونار مستعرة على وشك الأنفجار لا تُشبه أبداً تلك النيران الصغيرة والمزعجة التي تسببت بعطاس متواصل لمصعب وهو يتجول في أسواق العاصمة شاتماً في نفسه وداعياً على مُخترع السجائر ..
عطسه قوية خرجت من بين شفتيه وهو يمر بمُسن يقف امام أحد أعمدة الأنارة ينفث دخان سيجارته في طريق المارة ..
تلك النار الصغيرة في طرف السيجارة والتي تخبو وتُنير مع كل شهيق لمحتوى السيجارة زاد من غيظه وحنقه .. إلا ينبغي مع كبر العمر أن يزداد المرء حكمة لا تهوراً !! ..
سمع صفير أنفه ودمعت عيناه وصدره مع مرور الوقت لايزداد إلا تحسساً من هذه الروائح واتكأ على حائط قريب حين داهمته نوبة سعال ..
هو يعلم أنه أن استمرَ بتجاهل مايفعله عامر سيندم وسيفقد صحته فوضع صدره لا يزداد إلاسوءاً .. وقد مرَ أسبوعان وعامر لم يتوقف ولم يُبدِي إي بادره على قُرب توقفه ..
الشيء الوحيد الذي مازال يمتن له أنه لم يتعاطي تلك السيجارة الغريبه والتي يعلمها جيداً ..
فلو تعاطى سيجارة الماريجوانا لم يكن ليبقى عقل عامر سليماً إلى الآن ولا محافظاً على هدوئه بل لاحظ شيء من تجنب عامر لإستفزازه .. قد يكون ذلك توهماً منه بسبب تفاؤله أو ..
وزادت نوبة سعاله للحد الذي قبض بألم على صدره .. و مع هذا الألم .. اتخذ قراره .. سيتوقف عن التساهل معه .. لن يستطيع الأحتمال أكثر .. لقد منحه وقت كبير وهذه نتيجة صبره المفرط ..
ومرّ وقت قبل أن تستقر أنفاسه ويعود أليه هدوئه ..
ورأت عيناه على واجهة أحد المحلات الفخمة والكبيرة معطفي شتاء رجالية بدت في غاية الجمال والدفء ولم يقوَ على منع نفسه من الدخول للمحل ليتفقدها وكما خمن مُناسبه بمقاساتها له ولجمال فابتسم والتفت لصاحب المحل راغباً بشرائها فأجواء مدينته في الشتاء لا تمزح وسيكون جيداً حصوله عليها قبل عودته لمدينته مع جمال و ..
جمال ؟! .. تلاشت ضحكته وعقله يتخيّل وجهه العابس والمستاء لأنفاقه ماله عليه و ..
" الوغد . "
قالها متبرماً وصاحب المحل يسأله بعد أن رآه يرحل :
" أتريد شرائها ؟! .. سأخفض لك السعر .. لن تجد مثلها في أي موقع آخر .. "
أومأ مصعب برأسه نافياً وهو يخرج قائلاً :
_ كلا .. ولكن حين يتوفر مقاس ثالث أصغر قد أعود لشراء الثلاثة .
اتسعت عينا البائع مصدوماً فيما فكّر مصعب لو اشترى لهيثم معهما لكان صراخ فرحته قادر على أسكات تذمر جمال وغضبه ..
ولم يسمح له البائع بالرحيل ليجري خلفه صائحاً :
_ أسبوع فقط .. لا بل ثلاثة أيام وسيكون الثالث جاهزاً .. فقط امنحني المقاسات التي تريدها.
قفزت ابتسامة مبتهجه لشفتي مصعب " حقاً "
أومأ البائع عشرات المرات ليشرع مصعب بوصف طول هيثم وحجمه وقد بدا متحمساً أكثر من البائع الذي سجل المقاسات في يده كي لا يذهب لجلب ورقه فيجد زبونه قد ضجر ورحل ..
بعد مضي ساعة وصل للسكن بعد أنهاء زيارته الثانية لأسامه رامز وبيوم جمعة أيضاً ومرّ من أمام حجرة جمال وهيثم فأطلّ برأسه وكما هما بمثل هذا اليوم نائمان ..
فاتجه إلى حجرته مباشرة وما أن دخلها حتى شعر بالاستياء الشديد من عامر ، ألا يكفي مامرّ به في السوق ليجده الآن يُمسك سيجارته هو الآخر ويقذف دخانها في فضاء الحجرة ..
فقط سوف يستبدل ملابسه وينزل بعدها لمسئول السكن ليُبلغ عنه .. فلقد زاد الأمر عن حده ..
سار باتجاه خزانته ملوحاً بكفه أمام وجهه وطارداً سحب الدخان التي تقاتل في استماته لغزو رئتيه و نجح بعضها في الدخول فصرخت رئتيه ألماً بسعال راح يزداد حده مع كل ثانية فدمعت عيناه وسالت أنفه وجرّ خطواته المترنحه نحو النافذه ليفتحها و ..
لم يستطع أكمال خطواته وصدره ينقبض وأنفاسه تضيق للحدّ الذي شعر أنه يختنق ..
شهق هواءاً عالياً علّه ينعش رئتاه لكنها لم تمتلأ إلا بدخان جديد فامتقع وجهه و تشوشت الرؤية أمام عينيه وسقط على ركبتيه ..
تلك الثوانِ القليلة شعر فيها كما لو أنه يموت حقاً ووعيه على وشك التلاشي و ..
شهقت أنفاسه فجأة هواءاً جديداً نقي مما جعل رئتيه
تنتعش والأختناق يخبو رويداً رويداً ..
رفع عينان ذابلتين للأعلى ليجد عامر يقف أمامه وقد عكس وجهه توتر كبير ومن خلفه كلا النافذتين مفتوحه والسيجارة مُطفئه ..
ابتسامه خفيفه توسطت وجهه الشاحب ونهض ليقف ثم رمى بنفسه فوق السرير قائلاً ببحه :
_ شكراً لك .. لقد ظننت أنني سأموت .
مجدداً ذلك التعبير الحائر يكسو وجه عامر .. لمَ يشكره وهو من سبب ألمه بالمقام الأول ؟! .. وعكس وجهه حرج شديد من شكره له ولكنه سرعان ما أخفى ذلك ببراعة ..
وطوال بقائهما معاً لم تفت مصعب نظراته المسترقه نحوه وكأنه يطمئن عليه أو هذا ماتمنته نفس مصعب فخالط قلبه شيء من الأمل وعاد التفاؤل ليستولي على شعوره و ..
" يومان فقط .. ولن أزيد أكثر .. "
همس بها مُصبراً نفسه الناقمه عليه كي تتقبل تمديد المدة .. ولن يتهاون بعدها لا بصحته ولا بصحة عامر وليكن مايكن .
¤¤¤¤¤¤¤¤¤
الأحد ٣٠: ١١ صباحاً _
حول طاوله مستديره التف الثلاثة في كافتيريا الجامعة يتناولون أفطارهم بــ .. هدوء .. بالطبع لا حتى أن شجار جمال وهيثم جذب أنظار من حولهم على عكس مصعب الهاديء والمراقب للأثنين بابتسامة مستمتعة ..
وعلا صياح هيثم وهو يحاول انتزاع طبق طعامه من بين كفي جمال :
_ أعده لي .. لازلتُ جائع .
فزاد جمال من تشبثه بالطبق وراح يلتهم محتوياته متمتماً بفم ممتلأ :
_ لا .. وألفُ لا .. سأساعدك بأنهائه فأن بقيت تأكل بهذه الشراهه فلا أستطيع تخيل شكلك مع قصر قامتك هذه .. ستكونُ مُريعاً .
ورفع عينيه اللتا تألقتا مستطرداً بتباهي :
_ على عكسي أنا .. أنظر ألي مهما أكلت لا يظهر مع طول قامتي .
وواصل تناول ما بالطبق فتشبث هيثم بطرفه وسحبه بقوة محاولاً انتزاعه منه حين فاجئته نظره ماكره من عيني جمال أتبعها بأفلاته للطبق ليندفع نحو هيثم فانسكب بقايا الطعام فوق ملابسه مما جعله يصيح بصوت يوشك على البكاء :
_ طعامي .. ملابسي .. لن أُسامحك ياجمال .
تطوع مصعب ليساعده في مسح قميصه المتسخ بمناديل ورقيه رغم ضحكاته التي لم يستطع كبتها وحين رأى عيناه العاكسه شراً ناوله طبقه قائلاً بمواساة :
_ لا بأس ..خذ طبقي .. يكفيني واحد فقط .
أشار هيثم لطبق جمال الذي لم يُمس بعد قائلاً بغضب هادر :
_كلا .. العين بالعين .. لن أخذ إلا طبق جمال.
واختطف الطبق أمام عيني جمال الجزعتين وابتعد للخلف قائلاً بشماته :
_ هيا مت من الجوع كما تدعي دائماً .
حاول جمال أخذه منه قائلاً باستعطاف :
_ هيثم .. كُنتُ أمزح معك .. أعده لي .. سأموت من الجوع حقاً أن لم أتناوله الآن .
تراجع هيثم أكثر وسط توسلات جمال لينفجر مصعب ضاحكاً بشدة على وجهه المؤسف فإن كان جائع لهذا الحد ما كان عليه اختطاف طبق هيثم مُنذُ البداية ، و لكن سرعان ماتحولت ضحكاته لنوبة من السعال حاول السيطرة عليها وتخفيفها إلا أنه رافقها فجأة اختناق شديد فرفع رأسه للأعلى كي يستنشق هواء نقي ولكنه لم يحظى إلا بالقليل فانحنى على الطاوله قابضاً على صدره بكفه ومغطياً بالأخرى فمه ليخفف من صوت سعاله العالي ..
كوب ماء مفاجيء أمتد نحوه فالتقطه بسرعه ليأخذ منه رشفات هدأت من التهاب حلقه فرفع عينيه الدامعه ليرى جمال هو من ناوله أياه بعد أن قطع شجاره ولازال ينظر نحوه فقال بامتنان :
_ شكراً لك .
لم يرد عليه وانحنى ليلتهم الطبق الذي أمامه فهز مصعب كتفيه بلامبالاة و راح يرتشف من ذلك الكوب إلى أن ارتاح صدره وهدأت أنفاسه وعندما أراد تناول طبق أفطاره وجد موقعه فارغ فاتسعت عيناه وفطن عقله أخيراً لسبب تجاهل جمال له فنظر بسرعة نحوه ليجده يحاول التهام طبقه بالكامل قبل أن ينتبه أليه فمدٍّ يده نحوه صائحاً بغضب :
_ جمال .. أعده لي .
ومع ملامسة أصابع كفه للطبق أبعده جمال أكثر فاحتقن وجهه وصاح بغضب وثورة مفاجئة :
_ كف عن التصرف بلؤم .. فأنا لم أسمح لك بأخذه .. ويوجد طابور طويل قبل شرائي لغيره .. أنت وقــــ ...
قاطع ثورته صوت هيثم الذي مدّ له بطبق جمال والطبق الآخر الممتلأ الذي عرضه عليه مصعب من قبل قائلاً بنبره مندهشه :
_ مصعب لا تغضب .. خذ طبقه هيا .
ووضع الأثنان أمامه مُردفاً باستغراب أشد :
_ ثم أنها ليست المرة الأولى التي يسرق فيها جمال طعامك !! .
عمّ السكون حولهم ومصعب يحاول كبح جماح غضبه المفاجيء ذاك قبل أن يتنهد وينتبه فجأة لكلماته السيئه فالتفت نحو جمال قائلاً باعتذار شديد :
_ جمال أنا أسف .. لم أقصد ماقلته ولا أعلم حتى كيف قلتها .. أنا أسف ..
أتاه جواب جمال بارداً :
_لا بأس .. فهو لن يكون أسوأ من القادم.
اتسعت عيناه لرده الغريب ثم سأل بحيرة :
_ ماذا تعني ؟!
ملعقة تلو الأخرى ارتفعت لفمه أكلاً بصمت فحول نظره نحو هيثم ليجده يبتلع ريقه خوفاً من صمت جمال وكما توقع فقد رفع جمال رأسه فجأه لتظهر ابتسامة عصبية ساخرة فوق شفتيه وهو يُجيبه :
_ أسأل شريكك في السكن .
أرجح مصعب نظره بين الأثنين بشك وصدمة سرعان ماتحولت ليقين فانقبض قلبه وهو يسألهما بضيق :
_ كنتما تعلمان ؟!
أشاح جمال بوجهه بعيداً عنه فيما هتف هيثم بلطف :
_ نعم .
_ كيف ؟!
أجاب هيثم بهدوء :
_ لم يكن الأمر صعباً فرائحة السجائر لم تعد تفارقك كما أنك أصبحت عصبياً فجأة ومتقلب المزاج على غير عادتك وازداد ذلك حدة مع مرور الأيام .. لقد شككنا في باديء الأمر فيك ولكن شفتيك لم يتغير لونها ولم يكن يصدر عن فمك أي رائحه للسجائر فعلمنا أنه ولابد أن يكون عامر السبب .
كسا الهمّ وجه مصعب ولازال جمال مشيحاً بوجهه للجانب الآخر فقال هيثم بقلق :
_ هل تعلم أنك تتأذى أكثر منه ؟
أجاب بنبره خافته تعكس حرجه منهما :
_ نعم أعلم .
أدار جمال بصره المتسع نحوه صارخاً بعصبية :
_ ولماذا أذن تتستر عليه ؟!
هز مصعب رأسه بارتباك مجيباً له بنبره عكست حيرة حقيقية :
_ لا أعلم .. أنا حقاً لا أعلم .
وصمت ثانية أمام نظراتهم المصدومة قبل أن يستطرد بمرارة :
_ لقد ذهبتُ لحجرة مسئول السكن لأُبلغ عنه العديد من المرات ولكني لا ألبث أن أتراجع آملاً بأن يتوقف هو بنفسه .
ظل جمال وهيثم محدقين به النظر بدهشه لبعض الوقت فقد بدا حائراً بحق من تصرفه وأول من بادر ليخرجه من حيرته جمال الذي سأله بحده :
_ أَتُشفق عليه ؟!
عض مصعب شفته السفلى وقد بان بعينيه حقيقة ذلك فقال جمال بثورة :
_ وأنت ألا تُشفق على نفسك ؟! .. على صحتك !
_ هذا لا يصح يامصعب .
صاح هيثم بدوره مؤيداً جمال ليزداد حدة الأنزعاج في وجه مصعب فيما وقف جمال قائلاً بانفعال :
_ كم مره أخبرتك أن طيبتك هذه قد تؤذيك وأن هناك من لا يستحقها منك وقد تتأذى ..
وتحرك ليغادر قائلاً بأشد نبراته غضباً :
_ أما أنا لا أُشفق على ذلك الوغد .. سأبلغ عنه عميد الجامعة بنفسي .
لم يكن قد خطا خطوته الأولى حين تشبث مصعب فجأة بيده قائلاً برجاء :
_ جمال أرجوك .. لا أُريد أن يذهب مافعلته سُدى .
استدار نحوه صارخاً بغيظ :
_ سُدى ؟! .. صحتك هي التي ستذهب سدى .. هل نسيت حساسية صدرك ؟! .. مصعب لن أحتمل أكثر.
_ جمال .. يوم واحد فقط .. فلنصبر ليوم واحد .
_ وما الفرق بين اليوم والغد ؟! ..
وسحب ذراعه من بين كفيه بحده مستطرداً :
_ سبعُ مرات قد منعني هيثم وأنت الآن تفعل مثله .. كلا .
تشبث به مصعب أكثر هاتفاً باستعطاف :
_ أيصعب عليك أن تُلبي طلبي بيوم واحد فقط ؟ ..
جذب جمال يده منه, صائحاً :
_مصعب كف عن جنونك هذا ..
فقال برفق ليحسم هذا النقاش :
_ أُقسم أني بعد هذا اليوم سأذهب بنفسي لمسئول السكن ولعميد الجامعة ولن أتردد ..
مسحه من الصدمه غطت عينا جمال وقبل ان ينفجر فيه صاح بهما هيثم بأعلى صوته :
_بدأت محاضرة الدكتور المخيف .. هيا أسرعا وإلا ستطردان من اختباره أيضاً .
رمى الأثنان جدالهما جانباً فبحق ذلك الدكتور لا يمزح وأسرعا اللحاق بهيثم قبل أن يُطردا منها.
¤¤¤¤¤¤¤¤¤
_ بعد ساعتان _
تململ هيثم فوق مقعده بقاعة الدرس و لم يلبث أن همس بتبرم :
_ لم أعد أستطيع الجلوس أكثر .. أشعر بأن جميع عضلات جسدي متشنجه .
زفر مصعب هو الآخر فوق مقعده بتذمر :
_ أما أنا فأشك بقدرتي على الوقوف بعد انتهاء المحاضرة .. جسدي بأكمله تصلب .
نظر هيثم نحوه بطرف عينه قبل ان يهمس له :
_ كما قُلتُ لك .. عليك أن تعوضني عن التسعة أكواب الخزفيه الخاصه بالقهوة التي حطمها جمال حين كان يحاول السيطرة على غضبه بسببك أنت وعامر .
_ سأخذك بنفسي لتختار بديلاً عنها .. وسأعوضك أيضاً عن قصتك المصورة ( قاتل بشرف ) التي شوه جمال صورها بشخبطته حين تخليتُ عنك وعدتُ لحجرتي .
قالها مصعب بكرم لتتسع ابتسامة هيثم المبتهجة وتلتمع عيناه بدموع الفرح و .. كيف لشيطان مثل جمال أن يكون صديقاً لرائع مثل مصعب !! ..
والتفتا معاً نحو جمال ليتصلبا بصدمة قبل أن يهمس هيثم باستهجان :
_ كيف يستطيع النوم فوق طاولة خشنة فاغراً فاه وسط قاعة مكتظه بالطلبه بل ومع صوت هذا الدكتور الذي لا يتوقف .
قال مصعب بدهشه هو الآخر :
_ وكأنه على سريره .
وتبادلا نظره ممتعضة قبل أن تقفز ابتسامة ماكرة لوجه مصعب أتبعها بقوله :
_ أنها فرصتنا .
وافقه هيثم في جذل :
_خطتك .. هيا.
وبعد خمس دقائق ابتسامة عابثه غطت وجه مصعب وهو يمدُّ قدمه باتجاه قدم جمال النائم بسكون متجاوزاً بذلك هيثم الجالس بينهما وماكادت قدمه تقترب من قدمه حتى داس عليها بكل قوته ..
شهيق ألم مكتوم أصدره جمال وهو يقفز عن مقعده بفزع ولكن لم يكد ينتصف في وقوفه حتى ارتد جسده فجأة للخلف بعنف ليصطدم ظهره بظهر مقعده ويعود جالساً مرة أخرى بسبب طرفي سترته المربوطه بذراعي المقعد ..
أدار عينين حمراء تتقدُّ شراً نحو هيثم ومصعب ومع فتحه لفمه سقطت كومة من المناديل المبلله بلعابه .. الآن علم كيف كُتمت صيحته الأولى .. فبصق ماتبقى منها من فمه على الأرضيه واستدار بثورة نحو هيثم القريب منه ليبطش به ليراه يضع سبابته أمام فمه محذراً له من أثارة انتباه الدكتور أكثر ..
نظر نحو الدكتور فرآه يُركز بصره عليه كالمترقب منه حركة أخرى وعندها سيطر على غضبه بالقوة وتماسك .. وتماسك .. ومع صرفه بصره عنه لثانية فقط رفع قدمه وداس قدم هيثم بكل قوته ليرتفع في فضاء القاعة صوت صرخته الخافته التي بالكاد كبحها فعادت نظرات الدكتور مجدداً نحوهم وعمّ السكون والجمود عليهم وكأن شيئاً لم يحدث ..
ودقيقه تتبعها أخرى من التصلب نجحوا فيها بخداعه بأن الصوت ليس من جهتهم فصرف بصره لاتجاه آخر ليهمس هيثم بحنق :
_ أيها الغبي .. ليس أنا .
أطل جمال برأسه للجانب الآخر ليجد مصعب منحنياً على طاولته غارقاً في الضحك عليه فزاد غضبه حده وشعر بنار هائله تشتعل داخله .
ودون تردد مدّ قدمه نحو قدم مصعب ليدوس عليها ويرد لها مافعله ولامست قدمه حذاء مصعب فداس عليها بكل قوته وغيظه ، وابتسامة مستلذة تزين شفتيه ولكن سرعان ماتلاشت حين أحسَّ بلين الحذاء فأمال رأسه للأسفل ليكتشف أن مصعب قد ترك له الحذائين فارغين بينما طوى ساقيه أسفل جسده على المقعد ..
ارتفع ضغطه لأقصاه وحول جمرتيه نحوه هامساً بتهديد :
_ أيها القذر .. لن ينقذك من كفيّ أحد بمجرد خروج هذا العجوز .
لم يخف أطلاقاً بل اختلس نحوه نظره وهو يهمس له ساخراً :
_ تبدو كموقد نار على وشك الأنفجار .
وانفجرت ضحكات مصعب أعلى من السابق مع ملامح القهر التي غطت وجه جمال فأسرع يُحني رأسه على الطاولة مخفياً ضحكاته عن عيني الدكتور إلا انه مع انحنائته تحولت ضحكاته إلى نوبه عارمه من السعال ، فحاول جاهداً إيقافها أو كتمها وأمارات الألم ترتسم على وجهه من رئتيه التي شعر بها وكأنه تتمزق ..
وأمام عيني جمال وهيثم رفع رأسه ليظهر وجهه المزرق وهو يحاول عبثاً برفعه لرأسه استنشاق الهواء بعد الأختناق الذي كتم أنفاسه ولكن كأن القاعة بأكملها خلت من الهواء فوقف فجأة قائلاً بنفس متقطع :
_ هل .. هل .. تسمح لي .. بالخروج ؟!
تأمل الدكتور وجهه وحاله وكفه القابضه على صدره فأومأ أيجاباً ليشق مصعب طريقه بصعوبه بين حشود الطلبه ونوبة السعال لا تفارقه وسار بمحاذاة الدكتور ليسمعه فجأة قائلاً بحده :
_ لماذا هذا الجيل لا يُدرك مصلحة نفسه ؟! .. أيّ غباء يسكن عقولكم لتتعاطون أشياء يُكتب تحذير منها عليها ؟! .. ألا يكفِ أنها مضيعة للمال ولا طائل منها لتتجاهلوا أيضاً حقيقة تدميرها لصحتكم ؟!
لم يستطع مصعب الرد عليه مع معاناته تلك إلا أنه رمى نظره عاتبه نحو عامر الجالس بأخر الصفوف فيما استشاط الدكتور غضباً فقال :
_ أن لم تأتِ بتقرير طبي من طبيب الجامعة سأًُسجلك غائب بهذه المحاضرة والتي تليها .
دفع مصعب باب القاعة وغادر فوراً وقد أدرك أنه بحاجة لزيارة الطبيب حتى دون تهديد منه .
ومرت عشرُ دقائق وهذا الدكتور لا يكف عن الثرثرة فيما بدا جمال وهيثم يحترقان قلقاً على مصعب وأعينهما تتجه لساعات هواتفهم مابين ثانية وأخرى قبل أن يهمس جمال بغيظ :
_ لماذا لم يتم فصلي لثلاثة أيام إلا في محاضرة هذا الدكتور ؟!
_ لا تُفكر بأي تصرف متهور .. واحده فقط وسترسب بمادته .
حذره هيثم وقلمه يتحرك فوق كتابه بلا هدف قبل أن يسأله فجأة بشك :
_ أتظنه سيكتفي ؟!
_من ؟! .. مصعب ؟!
_ نعم .
_ بالتأكيد لا .. فهو حتى لم ينفي التهمه عن نفسه ويخبره أنه لا يُدخن .. بل كانت فرصه جيدة ليُقبض على ذاك البغيض بجرمه إلا أنه تستر عليه .
_ أن تستر عليه أكثر سيتضرر بلا شك .. أرأيت كيف كان وجهه شاحب وبالكاد كان يمشي وسعاله أصبح أقوى .. أنه يتألم بشدة وعصبيته في ازدياد .
كل ماقاله لم يكن جمال بحاجة لسماعه فهناك مرجل في أعماقه يغلي وليس بحاجة لأضافة حطب عليه حتى أن القلم بيده كُسر من كبته لأعصابه الثائره حين سمع الأثنان فجأة صوت من خلفهما يستأذن الدكتور بالذهاب لدورة المياه ..
التفت الأثنان معاً ليُصدما من عامر .. مُنذُ متى وهو يجلس خلفهما ؟! .. لهذا يكره جمال المحاضرات العامة المشتركة لأنها تجمع الجميع ومنهم عامر الذي ظل واقفاً بانتظار رد الدكتور والذي أومأ بالموافقه ..
تحرك بهدوء شديد بين صفوف الطلبه مغادراً القاعة وعينا جمال ترصد كل تفصيل من تفاصيل وجهه وقد تحفز للحاق به و .. ارتخت ملامحه فجأة ثم عاد للجلوس فوق مقعده بهدوء ..
فيما همس هيثم بفزع وعيناه تتبع عامر :
_ أتظنه يريد به سوءاً ؟! .. سيجبره على أن لا يُفصح عنه لطبيب الجامعة بلاشك .. سيؤذيــــ ..
_ لا أظنُ ذلك .
قاطعه جمال بحده لتتسع عيناه فيما شيعه جمال بنظره حتى غادر القاعة ونفسه تتساءل هل رأى بعينيه شيء من القلق أم يتوهم ؟!
ونظر لساعته سبع دقائق عن انتهاء المحاضرة ولكن هل هو سيقامر بمصعب من أجل شيء توهمه !
بالتأكيد لا وأمام عيني هيثم الجزعتين وقف شاداً على بطنه بكلتا كفيه وصائحاً :
_ دورة المياه .. حاله طارئــــ ..
أوقف صوته الدكتور الذي أشار له ليخرج بسرعة وقد بلغ غضبه أقصاه فللمره الثالثه يُقاطع شرحه وقد بقي له الكثير من الفقرات بينما الوقت ينفذ ..
خرج جمال راكضاً فيما كادت عينا هيثم تبكيان خوفاً من ماسيحدث بالخارج .. هل سيتقاتلان ؟!
وراح يعد الثواني للحاق بهم فهو لا يملك جرأة الأثنين للأستئذان من هذا الدكتور المخيف ..
فيما تعالا وسط القاعة الهمسات الخافته وكأن الجميع أدرك أن هناك عراك بين الأثنين على وشك النشوب واستعد من فاتهم العراك السابق لحضور الجديد وقد وضبوا كتبهم وأقلامهم ودسوها بحقائبهم للانطلاق بمجرد انتهاء وقت المحاضرة ..
وفي الخارج تبدلت تلك الخطوات الهادئه من عامر الى أخرى سريعة وهو يتجه الى حجرة طبيب الجامعة ووصل أليها أخيراً ليدخلها دون استئذان فوقعت عيناه على مصعب المستلقي على سرير المرضى ولازال السعال مستمراً معه بينما الطبيب يفحص صدره باهتمام شديد لم يلبث أن حوله لتوبيخ :
_ تقاريرك الطبيه تُفيد أنك كُنتَ تعاني في صغرك من الربو فلمَ تُدخن السجائر ؟! .. لم يكن لينجو منها شاب بصحة جيدة فكيف بمن هو في حالك أنت !
حمل صوته أرهاقه وهو يُجيبه :
_ و لكني لا أدخن
ارتفع حاجبا الطبيب لثانيه قبل أن يُخفضها باستنكار :
_ أذن فأنت ترافق مُدخنين .. ألا تعلم أنك ببقائك معه أثناء تدخينه تتضرر أكثر منه ؟!
_ بلى أعلم .
أجابه وابتسامه شاحبه تغطي وجهه فاتسعت عينا الطبيب استياءاً فاستدرك بسرعة :
_ ولكنه لقد وعدني أنه سيتركه .
نهره باستهجان شديد :
_ هل فقدت عقلك ؟! .. تُلازمه لأجل وعد سخيف قطعه لك لا تعلم أن كان سيفي به وأنت حي أم قد أصبحت في عداد الموتى .
بالكاد نهض مصعب جالساً رغم تعبه ليُغلق أزرار قميصه ببطء وعقله يسخر من الطبيب ، ماذا لو علم أنه لم يعده أصلاً وهي مجرد أمنية تمناها أو وعد استشفه وتأمله من عيني عامر فقط ..
_ أين تسكن ؟
قطع أفكاره سؤال الطبيب فأجابه بهدوء :
_ سكن الجامعة .
امتقع وجه الطبيب وصاح بحده :
_ سكن الجامعة ؟! .. تبــــاً .. مُنذُ الموقف الذي حدث في السكن لمسئوله والأمور تخرج عن السيطرة وإلا لم يكن ليفوته مثل هذه التجاوزات ..
وسحب ورقه مُردفاً بصرامه :
_ ما أسم رفيقك ؟ .. يجب التصرف معه في الحال .
ركز عامر النظر بهما من خلف الستار وقد انقبض صدره توتراً واشتدت قبضته فيما وضع الطبيب قلمه على دفتر ملاحظاته بانتظار جواب مصعب الذي ظلّ صامتاً ثوانٌ قبل أن تلين ملامحه ويقول بتعجب مصطنع :
_ لم أقل أن رفيقي المُدخن معي بالسكن .. بل هو معي في الجامعة .
والتقط بسرعة ورقة الكشف الطبي الخاصة به وأسرع للخروج متهرباً من أي سؤال آخر ولسانه ينطق بأدب :
_ شكراً لك أيها الطبيب .. السلام عليكم ورحمة الله .
ومع خطاه السريعة لم ينتبه لما أمامه ليصطدم فجأة بجسد عامر المتجمد .
تراجع للخلف بصدمة وظلا يتبادلان نظرات صامته قصيرة قبل أن يدفع مصعب الورقة نحوه قائلاً بسخرية :
_ أظنها لا تخصني وحدي ومن حقك كشريك لي أن تطلع عليها .
الورقة المصطدمه به أخرجته من جموده ليلتقطها منه ويقرأ حروفها بلهفه واستدار ينظر نحو مصعب الذي اتجه للخارج ونفسه تستنكر فهو لأخر لحظة نفذ ماقاله ولم يَشِي به ، هو حتى سمع محادثة جمال وهيثم ولم يرتكب جمال فعلاً ضده كما حدث من قبل وكأن مصعب قد منعه .. ودون أن يعلم كيف ! وجد نفسه ينطق فجأة :
_ أعدك سأتركه مُنذُ الآن .
تعثر مصعب في خطواته وبصعوبة حافظ على اتزانه والبهجة تغمر قلبه ولوهله أراد ان يلتفت نحوه يُظهر فرحته ولكن ماذا لو رأى عامر ابتسامته ففسرها بأنه انتصر عليه .. كلا .. قد يتراجع عن وعده . .
وعندها قرر متابعة سيره للخارج وابتسامة عذبة تتراقص على شفتيه ..
ومع ابتعاده لم يلحظ جسد جمال القابع خلف الحائط على يمين باب الحجرة مكتفاً ذراعيه رافعاً أحد حاجبيه وقد سمع مادار بينهما والأغرب أن عامر هو الآخر قد تجاوزه دون أن يلحظه و عينيه تُلاحق مصعب ..
و ..
فجأة ارتطم بجسد جمال جسد قصير كاد يوقعه وصاحبه يصرخ :
_ هل مصعب بخير ؟! .. أين هو ؟! .. لم يؤذه صحيح .. ألا زال بالداخل ؟!
أوقف صراخه صرخه غاضبه من جمال وهو يُبعده عنه :
_ أربع أعين ولا ترى طريقك .. لقد تجاوزته أيها الغبي أثناء ركضك ..
اكتسح الغباء وجه هيثم وهو ينظر للخلف وشعر بتحرك جمال فجأة فأمسك به وصاح متوسلاً :
_ لا تتعارك معه .. دعنا نحل المشكلة بشكل سلمي .. لن أمنعك هذه المره بل سنشكوه معاً لعميــــ ..
_ أيها الغبي أبتعد عني .
لم يبتعد وظل ممسكاً به فضرب رأسه بسخط :
_ أحمق .. تيقن مما يحدث قبل أطلاق توسلاتك .
نظر هيثم نحوه ببلاهه فأشار جمال نحو عامر المبتعد قائلاً باشمئزاز :
_ البغيض .. أراد الأطمئنان على ماجنته يداه ليس إلا .
بدا هيثم مصدوماً وراح يغرقه بالأسئله عما رآه وسمعه على حين راحت عينا جمال تضيق فحتى لو أطلق وعده فذلك لا يعني أنه سيفي به وهو يعلم صعوبة ترك ما أدمنت عليه ..
¤¤¤¤¤¤¤¤¤
_ بعد أسبوعين _
" تركه نهائياً . "
عقد جمال حاجبيه بغير اقتناع قبل أن يسأل بشك :
_ مصعب .. هل أنت واثق مما تقول ؟!
عكس وجه مصعب سعادته وهو يسترخي فوق مقعد مواجهاً له ويرد بلهجة لا تقبل الشك :
_ كوثوقي أنك أنت من تجلس أمامي الآن .
وحمل صوته حماسه وهو يضيف :
_ مرّ أسبوع بأكمله لم أشم فيه رائحة سيجارة واحده بحجرتنا .
لم يكن ذلك دليلاً حتى ومع ذلك لم يُرد جمال أعادة الكرة و كسر فرحته فراح يومأ له برأسه وكأنه فهم فيما سأله هيثم وقد صدقه تماماً :
_أنت رائع .. لو كُنتُ مكانك لمَا وثقتُ به أبداً فكيف وثقت به أنه سيتركه ؟!
أرجح نظراته الباهته بينهما قبل أن يهز كتفيه :
_ لا أعلم ..
نظر نحوه الأثنان بغيظ فابتسم بتوتر مُردفاً :
_ أعترف .. لقد كُنتُ مسرفاً بثقتي ولكن من الجيد أنها انتهت بشكل جيد .
هز هيثم رأسه بإحباط فيما حرك جمال كفه وكأنه يطرد ذبابه :
_دعنا من عامر الآن .. أخبرني ماذا قال الطبيب عن صحتك؟
_ الحمدلله .. قال أني شُفيتُ تماماً ولم أعد بحاجة لتناول المزيد من الدواء .
_ هذا جيد .
قال جمال بسعادة وعينيه تُشيع مُصعب الذي نهض نحو دورة المياه ثم تمتم بمَكْر :
_ حان وقت الأنتقام أذن .
تلك التمتمه الخافته لم تفت أُذني هيثم الذي كان يرتدي سترته فالتفت نحوه قائلاً باستغراب :
_ جمال .. هل قُلتَ شيئاً ؟!
أرتبك جمال وشتم سمعه الحاد ولم يمنحه الفرصه ليلحظ ارتباكه فقال بتذمر مفتعل :
_ أمازلتَ هنا ؟! .. أسرع وأحضر طعام العشاء وإلا سأموت من الجوع .
لم يستسغ هيثم ذلك كله فوقف ناظراً نحوه بشك :
_ ما الأصناف التي ترغب بأن أشتريها ؟
_ أيُّ شيء .. المهم أنه صالح للأكل .
والتقط هاتفه متظاهراً بانشغاله بما فيه فيما تحرك هيثم ليخرج ولكن لم تمضِ ثانيه إلا وقد أطلّ برأسه من الباب صائحاً بارتياب :
_ جمال .. وجهك لا يوحي بخير .. هيا ما الذي تُخبئه ؟
وعندها نهض جمال نحوه ليرتسم فزع بالغ في وجهه وقبل أن يهرب كان قد قال جمال بتأفف :
_ أنت تُسرف بالحديث .. ولو أُغلق المتجر قبل شرائك سأكلك حياً .
ثم صفع الباب في وجهه وتحركت شفتيه بابتسامه وهو يسمع صدى خطوات هيثم الراكضة بهلع في الممر كي يلحق بالمتجر قبل أغلاقه ..
ومع تلاشي صوت خطواته تحولت ابتسامته لعابثه وفرك كفيه ببعضها متمتماً في جذل :
_ سأجعلكُ تندم .
فاتجه إلى خزانة ملابسه العتيقة وفتحها على مصراعيها وكتف ذراعيه بانتظار خروج مصعب من دورة المياه ودقيقة واحده فقط وكان مصعب خارجاً منها يجفف كفيه بمنشفه حين صاح جمال بنبره مضطربه :
_ ماهذا ؟!
صوته المفزوع أقلق مصعب الذي أسقط المنشفه وهرع نحوه سائلاً :
_ ماذا حدث ؟!
أشار نحو نقطةٌ ما داخل خزانته قائلاً بانفعال :
_ أنظر .
أقترب مصعب من الخزانة وتفحصها بعينيه جيداً قبل أن يدير بصره المتسع نحوه :
_ ماذا ؟! .. لا أرى شيئاً .
_ أنظر جيداً .
كالخائف نطقها ولم يكن ليرفض مصعب أبداً مساعدته فانحنى بنصف جسده داخل الخزانة و .. أطلق صرخه متألمة بعد أن ارتمى جسده بأكمله بخشونة داخل الخزانة أثر قدم جمال التي دفعته من ظهره بقسوة بل وأسرع بكُلِ جرأة إلى وصد أبوب الخزانة في وجهه ..
لوهله ظلّ مصعب متألماً مذهولاً قبل أن يصرخ :
_ جمال .. لمَ فعلت هذا ؟! .. هيا أفتح الباب .
تلاشى كُل ذلك الذعر المفتعل وحلّ محله إمتعاض طفيف وهو يميل نحو الخزانة مُجيباً بسخرية :
_ هل نسيت موقد النار ؟!
ارتفع حاجبا مصعب وذاكرته تحاول فهم مايعنيه ولم يكد يتذكر دوسه لقدمه في قاعة الجامعة حتى صاح بغلظة :
_ جمال .. لقد اعتذرتُ لك .. ألم تقبل اعتذاري ؟!
_ بالطبع قبلتُ اعتذارك لمزاحك ذاك .. ولكن لم تعتذر لسخريتك من غضبي ووصفي بموقد نار .
اجابه ببرود شديد وهو يتكأ بظهره على باب الخزانة وابتسامته الساخرة تتسع فيما مطّ مصعب شفتيه بغيظ لغبائه .. كيف صدق أن جمال مذعور ؟! .. بل وذلك الوجه المضطرب الغبي الذي صنعه أمامه و .. تبــــاً .. هو من بين الجميع من يعلم أن جمال يستحيل أن يُظهر مثل ذلك التعبير و ...
_ أفتح الباب وإلا كسرتّ خزانتك القذرة هذه .
صرخ مهدداً وزاد غيظه حين سمع صوته الخافت من خلف الخزانة " أفعل أن استطعت " .. فأدار بصره فيما حوله ومايحيط به ظلام فقط و..
_ أنا جاد .
ضحكة ساخرة تلقاها تهديده فانهال ضرباً بيديه وقدميه على أبواب الخزانة محاولاً فتحها ..
ومر وقت ليس بقصير قبل أن تخور قواه ويشعر بآلام مبرحه بكلتا ذراعيه وقدميه وخامر اليأس قلبه فهمس :
_ المرةُ الأولى التي أجدني مستاءٌ من شيء متقن الصنع ! .. كهذه الخزانة .. ثم أن جميع مقتنيات السكن رديئة الصنع إلا هذه .. ياللسخافه .
سحب نفساً عميقاً ثم سحب ملابس جمال المعلقة ليفرشها فوق أرضية الخزانة و استرخى عليها منتقلاً لخطته البديلة فقال بأسف :
_ لم أكن أعلم أن ذلك سيُغضبك .. جمال أنا أسف .
تجاهل جمال أسفه وهو يلهو بأحد الألعاب في هاتفه النقال فوق سريره ، فحمل صوت مصعب نبره شديدة الأسف :
_ لقد قُلتُ أنا أسف .. جمال .. لا تكن عنيداً هكذا .
تطلع جمال لحظة نحو الخزانة المغلقة , قال بعدها في عناد :
_لا.
حافظ مصعب على صمته بصعوبة وهو يحاول كبح جماح غضبه ، قال بعدها بصوت خافت :
_ جمال يا أخي .. جو الخزانة خانق .. بالكادِ أتنفس فيه .
أوقف جمال ضغط أزرار هاتفه وقد عقد حاجبيه بحيرة ثم .. بغطرسة :
_ قل أرجوك .
انفرجت شفتا مصعب باستنكار قبل أن يعض شفته السفلي وتحامل على نفسه :
_ أرجوك .
_ كلا .. بصوت ممدود .
_ أرجــــــــــــوك .
_ لحنها كما كُنا صغار .
أمتقع وجهه وأغمض عينيه .. القذر يعلمُ حقاً كيف ينتقم منه .. و ... :
_ أرجــــ .. ــــــــ .. ــــــــ .. و ..ك .
غرق جمال في نوبة ضحك هستيريه فلم يكن يظن أنه قد يُغنيها ..
واستغرق دقائق قبل أن يتحرك ليفتح مزلاج الخزانة وابتسامه شامته تتراقص على شفتيه ولكن سرعان ما اختفت حين رأى ملابسه المكوية التي داسها مصعب فصاح بغضب :
_ ملابسي المكوية .. سأقتلــــ ..
ولم يمهله مصعب ليُكمل صرخته فقد قفز نحوه ليبدأوا العراك بأيدٍ عارية .
¤¤¤¤¤¤¤¤¤
المقاعد مرمية وووسادات السرر في كل مكان والأغطية على الأرض والأقلام والكتب حتى أمام دورة المياه قد رُميت ..
فوضى عارمة جعلت عينا هيثم تتسع وفكه يتدلى و ...
_ هل جاء الحافلة في غيابي ؟
صرخ بفزع وعيناه تنتقل بين جمال ومصعب المرمي كل منهما بأحد أركان الحجرة ..
وأول من نهض منهما جمال الذي وقف لينفض ملابسه ثم اتجه نحو مصعب ومد له يده قائلاً بدهشه :
_ إنها المرةُ الأولى التي تستطيع فيها أسقاطي أرضاً .
ألتقط مصعب يده لينهض وكفه الأخرى تتحسس رأسه بألم فقال جمال بشماته :
_ رغم معاركنا التي لا تُعد والتي أتعمد فيها دوماً شدّه فلازلتُ أستغرب .. ألم تقتنع بقصه أطلاقاً ؟!
_ أعترف بأنك تغار منه وحسب .
ردّ بابتسامة متعجرفه فرفع جمال أحد حاجبيه قائلاً بسخريه :
_ هل صدقت والدك حين قال أنك تبدو أفضل بشعر أطول ؟! .. مصعب لقد كان يُجاملك فحسب .
خلل مصعب شعره بأطراف أصابعه باستعلاء مما أثار غيظه وقال ببرود مستفز :
_ مع شعرك الذي لا يمسه المشط لا يحق لك انتقادي فلا تبرر غيرتــــ ..
وتفجر صوت هيثم الثائر بينهما مخرساً أفواههما :
_ لقد ظننته الحافلة .. أحمقان لقد كاد قلبي يتوقف .. لن تذوقا لقمة واحده حتى ترتبا الفوضى التي أحدثتها صفاقتكم .
وبالفعل وأمام أعينهم أحتضن عشائهم بين ذراعيه وعينيه تقدح شرراً فقاما على مضص بترتيب الحجرة وما أن انتهيا حتى التفوا حول السفرة ..
أحاديث جميلة وماتعه تبادلوها وهم يتناولون الطعام حين صرخ هيثم فجأة :
_ لقد نسيت .
وسحب كيسين قريبين أحضرهما معه من صندوق بريد الجامعة ، ناول جمال أحدهما قائلاً :
_ جمال هذه من عائلتك .
لم يُخفِ جمال لهفته وهو يسحبه ليعاين محتواه تاركاً الطعام فيما فتح هيثم كيسه هو الآخر لتلتمع عيناه ويصرخ ببهجة :
_ قصص مصورة .. الكثير منها .. أُمي حقاً تعلم ما أُحبه .
بينما استخرج جمال من كيسه ساعة فخمه خمن أنها من والده فقال ساخراً :
_ لا أُصدق أنه افتقدني .
واهتز صوته قليلاً بتأثر لم يستطع السيطرة عليه وعيناه تلتقط هدية أخرى من والدته وأخوته و .. ورقه بيضاء يعلوها رسم طفولي جعل عيناه ترتخي قليلاً ويقول بشوق :
_ لقد كبرت مرام وبدأت بالرسم في المدرسة .. من المؤسف أنه فاتني حضور أول يوم دراسي لها .
طوال مايفعلان ألتزم مصعب بالصمت دون أن يشعر أحدهما بتلك المشاعر الحزينة التي هاجمت قلبه ..
_ مصعب .. مرام رسمتك أيضاً .
_ تباً .. لماذا تبدو أوسم مني في رسمها .
_ و ا ا ا و .. هذه تبدو أفضل .. ولكن لمَ يبدو شعري وكأنه شجـــرة ! ..
وصمت محولاً بصره نحو مصعب الذي لم يُشاركه ثرثرته فرآه شارداً صامتاً فقال :
_ مصعب .. مرام نجحت بسنتها الأولى وأرسلت شهادتها لك خصيصاً .
سماعه لأسمه نجح في أفاقته من شروده فاغتصب ابتسامه قائلاً :
_ آه .. أخبرها كما وعدتها سأشتري لها الكثير من الحلوى .
_ ألا تُريد رؤية كيف رسمتك ؟! .
سأله بجذل ولكن سرعان مارد عليه مصعب بشرود انتابه من جديد :
_ بالتأكيد .. الحلوى التي تُحبها .
أخفض جمال مابيده وما بتلك العينان يُكشف أمامه تماماً فمسّه شيء من حزنه وألمه ليتفاجأ بصراخ هيثم بهستيريه :
_ والدي .. والدي أرسل لي تذاكر لحضور العرض الأول لقاتل بشرف في الأجازة .. رائــــــــــــع .. لم أعد أريد الدراسه .. العطله فلتأتــــ ..
قطع صراخه اختطاف جمال للتذكره من بين يديه بل واختطف كيسه ليرميه فوق السرير قائلاً بسخرية :
_ أن لم تأكل الآن فلن نبقي لك شيء .
تجهم وجهه وحول نظراته الشاكيه نحو مصعب ليراه جامد الملامح شارد النظرات وكفه ممتده نحو الطعام دون أن يأكل وقبل أن ينطق كان قد قال مصعب بسرعة :
_ لقد شبعت .
صُدم هيثم بينما ظل جمال ينظر نحوه بتعاطف وهو ينهض عن الطعام فقال هيثم مستنكراً :
_ مصعب لقد جلسنا للتو .
تصنع ابتسامة وهو يشير بسبابته نحو جمال :
_ عليّ أن أنظف ملابسي التي وسخها جمال بيديه القذرتين أثناء عراكنا .
وقبل أن يعترضا أكثر قال بسرعة :
_ السلام عليكم .
وخرج على الفور خشية أن يُفلت أمامهما حزنه المحتبس في أعماقه فيعكر فرحتهم .
حوّل هيثم نظراته المستغربه نحو جمال ليجده هو الآخر قد كفّ عن تناول الطعام بل ونهض ليجلس على سريره وكأنه قد فقد شهيته هو الآخر فسأله هيثم بقلق :
_ لا يبدو مصعب بخير !
ردّ بصوت حزين:
_ نعم .. إنها هدايا عائلاتنا .
_يا إلهي .. لقد كُنتُ مغفلاً .. ما كان علي إظهارها أمامه .. لابد أنها ذكرته والديه.
صاح بندم شديد حتى أن عيناه عكست احمراراً طفيفاً وهو يذكر أن جمال قد أخبره مسبقاً بأن كلا والداي مصعب قد توفيا وأنه لا يملك عائلة .
استلقى جمال على السرير ونظر نحو سقف الحجرة بشرود لبضع دقائق قبل أن يقول بتأثر :
_لو رأيت يا هيثم والد مصعب لأحببته بلا شك .. لقد كان رجلاً رائعاً .. لم يكن بالنسبة لمصعب أب فقط .. بل كان بتعامله الراقي وأخلاقه العاليه كصديقه .. ولقد قال لي مصعب مرة أنه يعتبر والده أول صديق له في حياته ..
عكست عينا هيثم تعاطف شديد فيما أكمل جمال بنبره يملئها الأعجاب :
_ لم يكن حب والد مصعب له بأقل منه .. كان يحبه بجنون .. بل انك لن تصدق حين أُخبرك أنه كان يأتي بعض المرات الى المدرسه لأصطحابه رغم أن المدرسه لا تبعد عن منزلهم إلا دقائق مشياً وحين استغربت أجاب مصعب أن والده أشتاق أليه فجاء ليراه .
احمّرت عينا هيثم وتمتم بحزن :
_ مسكين مصعب .
_ نعم .. لقد فقد والدته وهو بالسادسة ولم يلبث أن فقد والده .. ذلك الأنهيار العصبي الذي أُصيب به حين قُتل والده أمام عينيه لم أكن أظن أنه سيشفى منــــ ..
_ والد مصعب قُتل ؟!
بصرخة عالية قالها هيثم عاكسه صدمته وفزعه مما جعل وجه جمال يعلوه أرتباك مهول وقد أنتبه لفلتة لسانه فاستدار بجسده نحوه قائلاً بحده :
_ أياك ان تُخبر مصعب أني أخبرتك أن والده قُتل .
_ لمَ ؟!
_ لأنه ماضٌ قد تجاوزه بصعوبة لذا من الأفضل أن يُنسى كما وأنه لا يريد أن ينظر نحوه أحد بشفقة .
_ ولكني صديقه الآن مثلك .. أريد معرفة قصة قتل والده .
انتفخت أوداج جمال :
_ هي ليست قصة تُحكى كالتي تقرأها .
تقوست شفتيه بغيظ :
_ وأنا لا أتعامل مع ماضيه كقصصي المصورة .. أنا فقط أريد معرفة ماحدث له .
وأطلّ من عينيه فضول قاتل جعل جمال يُدرك أنه لن يهنأ له نوم مع ثرثرته وألحاحه فقال بصرامة :
_ لقد وعدته بكتم ماضيه .. ثم ما أدراك قد يخبرك هو بنفسه عنها يوماً ما .
( وعدته ) .. الكلمة الوحيدة التي استطاعت أخراس هيثم وجعلته يتيقن أنه يستحيل أن يبوح له جمال بذلك الماضي فقطب حاجبيه وزفر بغيظ والفضول يلتهمه من الداخل مصحوباً بأسف كبير على مصعب .
¤¤¤¤¤¤¤¤¤
_ الواحده فجراً _
أربع ساعات مرت وهو يتقلب فوق سريره مستجدياً النوم أن يُغيب وعيه ويريح عقله من عشرات الذكريات المؤلمة التي حاول جاهداً كبحها إلا أنها لا تلبث أن تعود أقوى وأقوى ..
انتصف الليل حقاً وذاك الحزن الجاثم على قلبه يأبى المغادرة فزفر بإحباط ..
أإلى هذا الحد تَّلِقي الأثنان لرسائل وهدايا دونه كان ذا أثر سيء عليه ؟!
" هذا لا يصح . "
تمتم بها وهو يستوي جالساً فما حدث له ليس لأحدهما ذنب فيه ولذا عليه أن يفرح لهما بل وكان عليه أن يظهر ذلك أمامهما كي تزداد سعادتهما و ..
ارتخت جفنيه ، من يخدع ؟! .. هو حقاً سعيد من أجلهما ، وحزنه مرتبط به ليس إلا .. لذا ليس من الجيد أن يوبخ نفسه لشيء لا يملك السيطرة عليه ..
وابتسم بغبطة وهو يتذكر تلك الهدايا ..
من الجميل أن يتلقى الشخص هدايا تشعره بمدى أهميته عند الآخرين ، والأجمل أن تكون من عائلته ..
انتقاء أسرتهما لها لتناسب ذوقهما دليل عمق محبتهما لهما وقربهم الشديد ..
ماذا كان سينتقي له والده لو كان حياً ؟! .. بالتأكيد لم يكن ليرسلها أليه مثلهما بل سيأتي بنفسه ليعطيها له ..
" لا .. لا .. لا .. لا . "
همس بها وهو يضغط رأسه بين كفيه كي يكف عن تخيّل مالن يقع .. فهو يدرك عاقبة ذلك فلن تجلب لروحه سوى الجزع والألم ..
واتجه عقله لتصبير نفسه وروحه بتذكيره بأنه فقد والديه وماحدث له خير مما يحدث الآن لغيره فبعض ممن لم يفقدوا والديهم يعيشوا وسطهم دون حب أو أهتمام أو حظوة ..
نعم .. هو بخير .. فقدهم وهو يحبهم ، كلاهما أعتنى به وأظهر الحب له بل ووالده بعد موت والدته قام بدور الأثنين ولم يفقده إلا مُنذُ عامين بعد أن أصبح كبيراً يعتمدُ على نفسه ولذا عليه أن يكون شاكراً لله ..
بل من قد يحظى بوالد كوالده الذي ظلَّ يبثُ مشاعره المُحبه له حتى في لحظة موته ومن النادر أن يسمع الأبناء رضى أبائهم عنهم في مثل هذه اللحظات ..
وابتسم بمحبة وفخر .. نعم .. لا أحد مثل والده ..
لا أحد كعبدالله .. لا بأخلاقه .. ولا بلينه .. ولا بابتسامته العذبه .. ولا بأحاديثه الماتعه .. ولا بتعامله الراقي ..
لازال يذكر ذوقه بالمعاطف .. وطعامه المفضل .. بل ومواقع تنزهه المحببه لقلبه ..
البحر أشدها قرباً لقلبه .. من كان يظن أنه سيموت على شاطئه ؟!
و تحت تلك المظلة القريبه من البحر منحه ابتسامته الأخيرة ..
وأمام تلك الذكريات المتلاحقة كتيار هادر انهار تماسك مصعب الهش ..
انهار على هيئة جيش من الدموع أستطاعت التحرر أخيراً من قفص عينيه فضمّ ركبتيه الى صدره ثم دفن وجهه بينهما كاتماً بكائه المُر عن سمع عامر النائم ..
يفتقد والده .. يفتقده بكل تفاصيله .. يفتقد صوته .. صورته .. حتى مشيته ..
تمنى لو أنه مات على فراشه بدلاً من تلك الموته التي لم يكن ليتمناها لأحد ..
_حسبي الله ونعم الوكيل .. حسبي الله ونعم الوكيل .. لو فررت أيها الظالم من عدالة الخلق فلن تفر من عدالة الخالق ..
لازالت كفيه تحسُّ برودة جسد والده بين ذراعيه ورطوبة دمه الذي انطبع على يديه ، صوت تحشرج أنفاسه وأخيراً شخوص عينيه بعد معاناته لألم اختراق الرصاص لجسده بدلاً من جسده هو ..
وزاد بكائه حده لتصحبه شهقات خافته ، ولوقت طويل ظل يخرج ما بأعماقه حتى جفت عيناه وأُرهق صدره من شهقات بكائه فرفع رأسه بوجه غارق تماماً لتلتمع بقايا الدموع بضوء القمر المنعكس عليها من النافذه المفتوحه ..
وتحركت خصلات شعره بفعل رياح قوية هزت دلفتي النافذه فمسح وجهه بذراعه ونهض ليغلقها قبل أن تتسبب بإيقاظ عامر النائم .. واهتزت شفتيه مجدداً وعيناه تُبصر أمواج البحر ..
_ أنا لله وأنا أليه راجعون .. اللهم ارحم أبي واجمعني به في جنتك .
تمتمت بها شفتيه فجأة لينفض عن جسده كل ذاك الحزن وابتسم " ابي عند الله .. هو خير له من الدنيا بما فيها . "
وأطلق زفره تخلص بها من ماتبقى قبل ان تقفز فكره لرأسه ودون تردد همس :
_ عليّ أن أُشغل بالي وإلا فإن ذكرى الماضي سيُعمي رمادها عيني وقلبي عن الصواب .
وراح يفكر بما يفعل حين وقعت عيناه على البطاقة فوق مكتبته ..
بطاقة ورقيه مقوى للمحل الذي طلب منه معاطف له ولجمال ولهيثم .. كم مر من ذلك اليوم ؟!
والتقط البطاقه ليجده مر أسبوع ونصف رغم أن الرجل طلب منه العودة بعد ثلاثة أيام وزادت سعادته حين رأى أنه مفتوح لأربعة وعشرين ساعة ..
ودون تردد أستبدل ملابسه وارتدى حذائه وتسلل ببطء للخارج وبخطى خافته حتى لا يتسبب بأزعاج عامر النائم ولكن مع خروجه كان قد رفع عامر رأسه ثم استوى جالساً وعيناه تُحدق بالباب المغلق ..
هل كان يبكي ؟! .. هل توهم سماعه لشهقات باكيه ؟.. كان الظلام حالكاً ولكن هو متيقن من أنه شيء يشبه البكاء ..
ما الذي سيجعل فتى في التاسعة عشر يبكي كالأطفال ؟! .. وتنهد بملل قبل أن يتساءل عقله إلى أين هو يذهب في هذه الساعة المتأخرة ؟! .. هل هو أحمق أم يفتقد ضرب الحافلة ليس إلا ؟!
وبسرعة توارد تلك الأفكار لرأسه نفضها بعيداُ وكأنها لم تكن واستلقى مجدداً ليغرق في نومه ..
¤¤¤¤¤¤¤¤
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top