" ٧ "

التاسعة صباحاً _

تطايرت أوراق الأشجار المصفرة ليرتطم بعضها بزجاج واجهة كافتيريا الجامعة وتمايلت أغصان الأشجار المزينة للأرصفه الخارجية بفعل الرياح الخريفيه وفي داخل الكافتيريا أنشغل جمال بأخراج شطيرته الثانيه ليبدأ في التهامها فيما تابع هيثم مضغ جزء من شطيرته الأولى بكل أدب قبل أن يقول فجأة بحيرة :

_ الكل يتحدث عن الحافله وتجوله البارحه في السكن بلا عصا ودون أن يفتعل شجاراً مع أحد .

_ لعلّه هدوء ماقبل العاصفة .

نظر له هيثم بغيظ فقال بلا اهتمام :

_ ماذا ؟! .. توقف أنت عن صياغة دراما عن كونه تَهَذَّبَ وإلا ستكون صدمتك أكبر حين يجدنا ثلاثة .

وابتسم بعبث " أنا أُهيئك للأسوأ ليس إلا . "

بيأس حرك رأسه والتفت لمصعب بعينين متلهفه أن يجد عنده مايؤيد تفاؤله لتتبخر كل آماله حين رآه يُحدق بما في الخارج في شرود ولازالت شطيرته كماهي لم تُمس ، وشاركه جمال استغرابه فسأله :

_مصعب مابك؟

صوت جمال مزق شروده فحوّل عينيه نحوهما ليرى الدهشه المنعكسه في وجهيهما فردّ بارتباك :

_هاه .. ليس بي شيء .. ولكن فيما كنتما تتحدثان؟

تضاعفت الدهشه بعينيهما وتطوّع هيثم ليُجيبه :

_ نتحدث عن الحافله وسلوكه الحسن البارحه .

تحركت شفتي مصعب بابتسامة ثم انحنى نحوه قائلاً بتفاؤل :

_ أنا واثق انه تغير .. فالمواقف السيئه أما أن تجعل الشخص أسوأ أو أفضل .

وبثقة أردف :
_ ومن سلوكه البارحه يبدو أنه سيتغير للأفضل .

أشرق وجه هيثم سروراً فيما رفع جمال أحد حاجبيه قائلاً بسخرية :

_ يبدو أنك أسرفت في أحلامك ليلة البارحه .

تبدّل حال مصعب ومط شفتيه متذمراً :

_ كيف أحلم وأنا لم أستطع النوم طوال الليلة .

_ لماذا ؟!
سأله هيثم بتعجب لتتسع عيناه وقد أدرك خطئه فاستدرك في توتر :

_ الأرق .. أُصبتُ بالأرق .

وضحك بلا سبب مُردفاً " أنها حاله تصيب الكثير من الناس ولا يُعلم لها سبب . "

أومأ جمال برأسه متفهماً وهو يُنهي طعامه قائلاً بشك :

_ متأكد أنك لم تُقابل الحافله في طريق عودتك ؟!

فزع شديد غطى عينا هيثم فيما عقد مصعب حاجبيه باستغراب قبل أن ينتبه لعينا جمال المسمّرة على شطيرته الكاملة فابتسم بسخرية :

_ أتشعرُ بالذنب ؟!

تغير وجه جمال وزاد شكه يقيناً فيما بدا هيثم كالصنم بينهما لا يفهم مايعنيانه وزاد وجه جمال غضباً للحد الذي انفجر مصعب ضاحكاً بشماته فصاح :

_ أخبرني .. هل قابلته ؟!

لم يُجب وواصل ضحكه فيما سأل هيثم بثورة :

_ ماذا تخفيان عني ؟!

رمى نظره عابثه نحو جمال من وسط ضحكاته وهو يجيبه :

_ يظن أنني فقدتُ شهيتي واُصبتُ بالأرق لأنني قابلتُ الحافله وأذاني بعد أن دفعني هو للخارج ولذا يشعر بالذنب .

ماظنه جمال منطقي للغاية ومع ذلك لم يفوت هيثم فرصة مشاركة مصعب ضحكاته وساخراً من جمال :

_ ويقول أنني من أصوغ الدراما ؟! .. هو فقط لا يريد تصديق ان الحافله تحسّن .

بقي صامتاً لا يرد وقبضته تشتد وعيناه مسلطه على مصعب بانتظار رده الصريح على سؤاله ..

ومع ذلك تجاهله مصعب تماماً وأعاد رأسه للخلف متنهداً براحه فأن يظن جمال أن سبب أرقه الحافله أفضل من معرفته للحقيقة ..

وفي تعب أسبل جفنيه وراحت قوته تخبو أكثر وأكثر والأرهاق يبدو على وجهه ليقول :

_ لا أظن أني قادر على حضور بقية المحاضرات .. سأعود للسكن علّي أعوض نوم البارحه .

صوته المرهق جعل هيثم يُحدق النظر بعينيه لبضع ثوانٌُ قبل ان يقول بجدية :

_ عيناك محمرتان للغاية وكانك لم تنم مُنذُ زمن .. أنت بحاجه للراحه .

عبارة هيثم دفعته ليقف ثم ألقى نظره على جمال الصامت ورمي نحوه مذكرته قائلاً بجذل :

_ إن كّنتَ تشعر بالذنب فتكفل بكتابة كل حرف تكتبه في مذكرتك في مذكرتي أيضاً حتى النقطة لا تنسها .

خرج من صمته بصياحه به بغيظ :

_خذ مذكرتك .. أنت تعلم أني لا أكتب حرفاً واحداً بل أجبر هيثم على الكتابة لي .

تجاهله مصعب وغادر المطعم غير آبه بصياحه فيما ضاقت عينا جمال فلو كان حقاً قابل الحافله وأذاه لم يكن ليتلاعب به هكذا فزفر محنقاً لعدم انتباهه بل ومنحه فرصه لاستغلاله فتمتم بسخط :

_ فتىٌ متكل.

وعاد ببصره نحو هيثم ليجده يكتم ضحكته فصاح غاضباً:
_ أن خرج صوت واحد سأجعلك تُجرب الكتابة لثلاثة مرة واحده .

أختنقت ضحكاته في حنجرته تحت ذاك التهديد فهو يعلم أن جمال أذا قال فعل .

¤¤¤¤¤¤¤¤

أحمّرَ وجه مصعب وتسارعت أنفاسه غضباً ولم يطق صبراً ليصرخ :

_ ألم يكفك سريرك لتنتقل لسريري أنا ؟! .. ألن تكف عن تصرفاتك الطائشه هذه ؟!

رغم صراخه الغاضب لم يخرج عامر عن هدوئه وهو يتكأ بظهره على قائم سريره المعدني ويضع ساقاً فوق أخرى مستنشقاً سيجارته بغطرسه وقد أتقن مافشل به بالأمس ، هو حتى تغيب عن الجامعه ليتابع طيشه ولم يحتمل مصعب مع ذهاب نصيحته البارحه أدراج الرياح فصرخ بغيظ :

_ هل قطعت تلك المسافه البعيدة من مدينتك إلى العاصمة لتتعلم بالجامعة وتكون انساناً يفيد نفسه و مجتمعه أم ..

وضمّ سبابته ووسطاه وأدناها من فمه مقلداً حركته ومردفاً بسخريه :

_ أم لتكون قطاراً بخارياً ينفث سمه مابين لحظة وأخرى دون عقل .

( دون عقل . ) بدا أنها قد نجحت في استفزازه أكثر مما قاله سابقاً فقد اعتدل فجأة وقد تهيأت حواسه لردّ شتائمه بعنف أذا ماواصل .. و ..

رأى اتساع عينا مصعب فجأة وهيّ مركزة على مافوق المنضدة فحول نظره هو الآخر ليرى أنه انتبه للفافة السجائر المتينه و المخالفه لبقية السجائر التي حاول تدخينها عامر مُنذُ البارحه ..

شيء من الفزع بدا بعينا مصعب قبل أن يتحول غضبه لرجاء شديد :

_ لا تفعل .

سحب عامر تلك اللفافه بسرعة فيما تابع مصعب بتوسل أكبر :

_ ستقتلك .. هذه لا .. أرجوك .

نظر نحوه بغيظ ، لمَ يرجوه وكأنه هو من سيتأذى !

_ أهتم بشؤونك الخاصة .

تلك النظرة المشفقة عليه بعينيه زادت وهو يقترب منه متجاهلاً تهديده :

_ أليس هناك من يُحبك ويثق بك حين أرسلك إلى هنا وحدك ؟!

فقط انفراجه بسيطه بشفتي عامر جعلته يُدرك أن هناك شخص يهتم له حقاً فقال بمراره :

_ أهكذا تجازيه حين وثق بك ! .. ماذا لو رآك بهذا الحال ؟! .. كيف سيكون موقفه ! .. أيُّ حزن سيرتسم بوجهه حين يراك تعصي الله وتؤذي نفسك !

وتغيّر وجه عامر وقد هزت كلماته عاطفته وآذتها أكثر مما افلح مخاطبته لعقله بل وأحنى رأسه مخفياُ تعبير عينيه وهو يفكر بكلماته ..

_ اتركها أرجوك .. لأجل الله ثم لأجل صحتك و لأجل من يخبك ويكره رؤيتك هكذا .

_ تبــــــــاً ..

بصرخه عاليه قالها وهو يحتضن رأسه بين كفيه في غضب وواصل بثورة :

_ اصمت .. اصمت .. لا أطيق سماع صوتك .

_ لن أفعل .. مادمتُ معك وأراك على خطأ لن أكف عن نصيحتك حتى لو كرهت ذلك .. لن أسكت عن هذا المنكر أبداً .

وعندها أخفض عامر كفيه ببطء وقد اضحت عيناه كجمرتين مشتعلتين وهذا الغريب لا يكف عن دفعه إلى حافة ضغط شديد سينفجر بعده و ..

لم يصمت بل ابتسم بمراره فجأة قائلاً :

_ هذه الأدخنه لن تضرك وحدك أنا أيضاً سأتضرر مادمتُ أشاركك الحجرة وقد أخسر أكثر مما تخسر فلديّ حساسية شديده ولا أستطيع احتمال الروائح الخانقة و ..

اختنقت عبارته بصدره حين قفز عامر نحوه في عصبية مفرطه ليُفاجئه بجذبه له بعنف من ياقة سترته حتى ألصقه به ونفث في وجهه كل ما احتبس في فمه من الدخان فاحتقن وجهه بشده حتى ازرق فيما نطق عامر بتشفي :

_ ولمَ التأخير ؟! .. فلنعجل بخسارتك الكبيرة هذه .

تكورت شفتيه وصدره يسحب أنفاساً متتابعه من فمه بعد اختناقه ولازال عامر يمسكه وانتابته فجأة نوبه عارمه من السعال لعودة الهواء النقي لرئتيه فدفع جسد عامر بعيداً عنه بكل قوته وضغط على صدره في توجع وهتف بنبره متقطعه :

_ سأُبلغ عنك مسئول السكن .. هو من سيردعك وانت تعلم عقوبة من يدخل السجائر للسكن .

صُدم عامر من تهديده واخفى ارتباكه بحاجز من البرود اجاد تمثيله ولكن بمجرد مغادرة مصعب للحجرة مترنحاً حتى هرع إلى بقايا السجائر المستخدمة ورمى بها في المرحاض ثم التقط العلب الجديدة وأخفاها بدقة في فجوات صغيرة في سقف الحمام ...

وبعد أن تأكد من تنظيف الحجرة جيداً أسرع لفتح النافذه لتهوية المكان ثم اتجه إلى الحمام ليغتسل ويزيل كل ما علق به من رائحة السجائر.

¤¤¤¤¤¤¤¤

_ الواحده ظهراً _

بخطوات متعبه دلف جمال الى حجرته بعد عناء يوم مليء بالمحاضرات وتبعه هيثم من خلفه بفم مفتوح بشده كنايه عن نعاسه الشديد ومع اقتراب جمال من سريره ترنم بحب :

_ اشتقتُ أليك .. افتقدتك .. فكري مُعلق بك طوال تلك الساعات ياسريري العزيز .

وقفز بكل قوته نحوه ماداً ذراعيه و .. سرعان ما أوقف اندفاعته وارتد للخلف بحده ارتداده أفقدته توازنه فسقط أرضاً ..

ومن خلفه تفجرت ضحكات هيثم عليه وهو يقول :

_ من الجيد اني لم انزع نظارتي بعد .

كان صوته صاخباً فأشار له جمال بسرعة ليصمت فكتم ضحكاته واقترب منه وعيناه تسأله عن السبب فأشار له بسبابته ليقترب أكثر وهمس بدهشه :

_ أحدهم ينام على سريري .

_ ماذا ؟!

همس بدوره مستنكراً فعاد يحثه جمال ليخرس ثم اقتربا معاً من السرير فرفع جمال طرف اللحاف العلوي ليصدمهما منظر مصعب النائم بعمق فوق سريره ودون أن يبدل ملابسه الرسميه حتى ، بل ومن بين شفتيه صدر صوت شخير خافت يعكس أرهاقه الشديد .

ظل الأثنان ينظران نحوه لوقت قبل أن يحك جمال رأسه قائلاً بحيرة :

_ لماذا ينام على سريري ؟!

أمال هيثم رأسه مفكراً قبل أن يُخمن :

_ لعلّه كان مرهقاً بشده للحد الذي استثقل صعود الدرج ورأى أن حجرتنا هيَّ الأقرب .

لم يستسغ جمال هذا التفسير أطلاقاً وفرك جبينه بشيء من التعب قائلاً :

_ لم يكن الحافلة أذن سبب أرقه .

ورفع بصره للأعلى نحو الطابق الثالث وعقله لا يُفكر إلا بشخص واحد حين قطع تفكيره فجأة صوت هيثم الساخر :

_ أنا أُشفق على أحدهم .

_ أتقصد مصعب ؟!

_ بل شخص آخر .. مسكين .. لن يجد ما ينامُ عليه .

قالها وابتسامته المتهكمه تتسع وهو يُرتب وسادة سريره ولحافه و ..

سقط فجأة فوق السرير جسد جمال ليتشبث به بكلتا ذراعيه وساقيه و هو يرد سخريته :

_ لن تجد مايكفي من الوقت لتشفق عليّ .

_ هذا ظلم أنه سريري أنا .

صرخ هيثم بجزع إلا أن ابتسامة ساخرة ارتكنت بجانب شفتي جمال وهو يُجيبه بعناد :

_ أنا وصلت أليه أولاً لذا فهو لي .

سحبه هيثم من قدميه باستماته محاولاً انتزاعه من فوق سريره إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل وذلك الغراء يزيد من التصاقه به وعندها هوى هيثم جالساً على الأرض ليصيح بصوت يوشك على البكاء :

_ أين أنام ؟!

( اششششش ) خافته أصدرها جمال واسترخى أكثر فوق السرير مردفاً ببرود مُستفز :

_ أخفض صوتك .. مصعب نائم لا تزعجه .. ثم ..

ونظر لمكان جلوسه بين السريرين مُردفا :

_ أرى انك قد وجدت مكاناً مناسب لتنام فيه .

لم يرد ولم ينظر نحوه بل استلقى فجأة على تلك المساحة وقد عكست عيناه مراره شديدة فلا حل آخر بيده فرمى جمال نحوه الوسادة الوحيدة قائلاً :

_ قلبي الرقيق لم يطعني لتركك هكذا .. خذها وكن شاكراً .

التقطها منه وشفتيه مقوسة ليضع رأسه عليها ثم أدار ظهره له فيما احتضن جمال اللحاف ووضع جزء منه أسفل رأسه ليلحقا هما الآخران بمصعب .

¤¤¤¤¤¤¤¤¤

_ ٣:٣٠ م _

لعدة ثوانٌ اهتزت جفناه قبل أن يفتحها بتثاقل ليدير عينيه في سقف الحجرة وشعر بحيوية جسده بعد أن حظي بالنوم و انتبه فجأة لذاك الصوت العذب الخافت فحرك رأسه ليرى جمال متكأ بظهره على قائم سرير هيثم مستمراً بالقراءة من المصحف ..

و .. لمَ جمال من معه في الحجرة وليس عامر ؟! ..

لوهله ظلّ عقله مشوش قبل أن يقفز جالساً بسرعه وقد علا الحرج وجهه ثم قال :

_ يا إلهي .. لم أكن أظن أني سأنام .

ألتفت نحوه جمال وهتف في هدوء:
_أرى أنك قد استيقظت.

أومأ مصعب برأسه إيجاباً, وهو يكرر اعتذاره :

_لقد استلقيتُ فحسب .. ولكني لم أظن أن النعاس سيغلبني وأنام .

أغلق المصحف ووضعه على المنضدة الفاصله بين السريرين قائلاً بهدوء :

_ لا بأس مادمتَ تملك سبباً مقنعاً يسرني سماعه بعد صلاة العصر ، فلم يتبق عن الأذان سوى عشرُ دقائق .

أرجح مصعب نظره بينه وبين المصحف قبل أن تضيق عينيه قائلاً :

_ ما السورة التي كُنت تقرأ منها ؟!

ابتسامة متورطه قفزت لشفتي جمال :

_ آآآه .. سورة في الجزء الثاني عشر .

_ مُخادع .. كُنتَ تقرأ في سورة الشعراء .. لقد وعدت بأن لا تسبقني .

رفع احد حاجبيه راداً بابتسامة كبيرة :

_ دعني أُصحح لك .. بعد أن عتبتُ عليك الشهر الماضي قلت أنك انت لن تسبقني .. وأنا لم أعدك بأي شيء .

هدأت ملامح مصعب واتسمت بالبلاهه لوهله وذاكرته تسترجع ماحدث ثم اعترف بابتسامة محرجه :

_أنت محق .. ولكني أعدك بأني لن أسمح لك بأن تسبقني مجدداً ...ما الفرق بيننا ؟ا .. سورة واحدة فقط.. سأحفظها أما أنت فلا تنسى أن ذاكرتك الهرمة لن تنتهي من هذه السورة إلا وقد أصبحت متقدم عليك بأكثر منها.

ذكرى جميلة داعبت ذاكرة جمال فابتسم وهو يعتدل بجلسته مواجهاً له :

_ أتذكر اليوم الذي قررنا فيه الألتحاق بحلقات التحفيظ ؟!

انعكست ابتسامة مماثله لابتسامته على شفتي مصعب وهو يومأ برأسه إيجاباً فأردف جمال :

_ أنت لم تأخذ رأيي بذلك .. لقد أُجبرت أن ألتحق بها معك ..

رفع مصعب عينيه, وكأنه يتسلى بمشاهدة المشهد أمامه, وهو يهتف:
_لقد كان والدك رائعاً ومتفهماً ما أن قلت له أني أُريدك أن تذهب معي إلى حلقات التحفيظ حتى وعدني أنه سيقنعك.

ضحك جمال بقوة :
_لقد كانت طريقته في الإقناع طريفة فقد قال لي بصرامة (أسمع يا جمال بعد صلاة العصر إلى الساعة السادسة لا أريد أن أرى وجهك في المزرعة ولا أحتاج إلى مساعدتك).

رفع مصعب اللحاف عن جسده مكملاً بهدوء:
_ولم يكن أمامك إلا أن تجلس معي بالمسجد ..

نظر أليه جمال والابتسامة لم تفارق شفتيه ثم قال بامتنان:
_ بحق لم أكن أُدرك قيمة ذلك حتى جربته بنفسي .. السكينة والطمأنينة والشعور بالراحه أن لا تغرب شمس يوم إلا وقد أخذتُ من كتاب الله ورفعت من منزلتي وزدت من حسناتي .

أشرق وجه مصعب وهو يؤيده :

_ أخبرتك .. أنه شعور جميل جداً .

_ كان ذلك بفضلك بعد الله .. فتوقف عن غيرتك لأني أسبقك فلولا الله ثم أنت لما وصلت إلى هذه السورة ..
وعكست عيناه وداً أشد نحوه وهو يُضيف :

_ لقد استشعرتُ برفقتك لي معنى أن يكون لديك اخ في الله يرشدك الى الصواب ، يأخذ بيدك إذا أخطأت ولا يُقصر في وعظه لك .. أنا حقاً أفخر بكونك أول صديق لي .

كلماته أشعرت مصعب بالخجل وانعكس ذاك على وجهه المحمّر مستغرباً كيف انجرف حديثهم بهذا الشكل وبارتباك تحرك ليغادر السرير قائلاً :

_ تتحدث وكأنك لم تُصبح أفضل مني فحين كٌنتُ أتغيب عن الحلقة لبعض المرات تأتي لمنزلي غاضباً .. بل وعلمتني جمع الحفظ بتفسير الآية لتثبت أكثر في ذاكــــ ..

وأطلق صرخه مفزوعه حين لامس باطن قدمه جسد لين بالأسفل فصرخ :

_ ماهذا ؟!

وتراجع للخلف ولازال جسده مقشعر من ملمس ذاك الشيء ليبرز فجأة رأس هيثم من بين السريرين يفرك عينيه بقوة ومالبث ان انتقلت تلك القوة لصوته صائحاً بغضب :

_ مصعب .. لمَ أيقظتني ؟! .. لم أنم إلا مُنذُ نصف ساعة .

اتسعت عينا مصعب دهشه :

_ هيثم !! .. لمَ تنام على الأرض مثل القطط ؟!

جاءه الجواب على صورة نظرة محتدة من عيني هيثم فأدرك أنه هو سبب ذلك فقال بندم :
_أسف .. انا حقاً أسف يا هيثم .. ولكن ما كان عليك التنازل عن سريرك لجمال.

دلك ظهره في ألم قائلاً بتبرم شديد:
_و هل تظنه أخذ رأيي في ذلك !

ضربه تلقاها على مؤخرة قفاه من كف جمال الذي قال في جذل :

_يالك من قط جاحد للجميل وتلك الوسادة من أعطاك إياها.

صرخ غضباً والتفت نحو جمال وكادا يشتبكان لولا مصعب الذي وقف قائلاً في عجلة :

_ توقفا .. ستتأخران عن صلاة العصر .. بقي عن الأقامة خمسُ دقائق فقط .

ومع آخر قوله تسابقا نحو دورة المياه ليجعلاه هو أخر من يدخلها ويتوضأ ثم يلحق بهما .

نصفُ ساعة فقط مرت قبل أن يعودا للحجرة مجدداً ليشعر مصعب أنه بوسط محكمة ما ، أو استجواب أن صح القول وهو يجلس على مقعد مقابلاً جمال وهيثم الناظران نحوه بتركيز تام وقد أصغيا بكل حواسهم أليه بانتظار تفسيره لسبب نومه بحجرتهما ..

- آ .. آ .. آ .. لم أرد النوم .. لقد كُنتُ ..

لم يرحما اضطرابه ولم يتنازلا رغم تلعثمه فتنهد ليُكمل :

_ كُنتُ مُرهقاً واستلقيتُ فحسب و ..

قاطعه هيثم بحماس :
_فاستثقلت صعود الدرج ورأيت أن حجرتنا أقرب فقررت النوم فيها.

ضحكة معاقة انطلقت من بين شفتي مصعب وهو يفرقع سبابته وابهامه قائلاً :

_ أنت رائع ياهيثم .. لا أدري كيف استطعت التعبير بسهوله عن ما عجزتُ عنه .

صفق هيثم بسرور والتفت لجمال صائحاً بجذل :

_ أرأيت ؟! .. أخبرتك هذا ماحدث .

لم تكن حتى تشبه الابتسامه تلك التي منحها له جمال وهو يُومأ برأسه له فيما قفز مصعب واقفاً ليلوذ بالفرار قبل أن يستلماه بسؤال آخر قائلاً :

_ سأذهب لحجرتي لاستذكار امتحان الغد .. ويمكنك الآن أن تنام ياهيثم على سريرك كما تشاء .. السلام عليكم .

ردا تحيته بهدوء ونهض هيثم ليرتمي فوق سريره بسعاده فيما داعبت أنامل جمال ذقنه ببطء وعقله تعصف به أفكار عدة قبل ان يقول :

_مصعب يُخفي شيئاً ما.

أزاح هيثم اللحاف عن وجهه, وسأله بدهشه:
_ماذا تقصد؟

_ هناك شيئاً ما يُضايق مصعب في حجرته وإلا ما كان لينام هنا ..

وزادت نبرته هدوءاً لا يعكس إلا غضبه المكبوت :

_ ولكنه لا يريد منا أن نعلم بذلك ويفضل الأحتفاظ به سراً .

سأله هيثم بشك :

_ أتظنه عامر ؟!

لم يتردد في الإيماء برأسه إيجاباً بثقه واشتدت قبضته في غيظ :

_ لقد انتزع مصعب مني وعداً بأن لا أتدخل فيما بينه وبين عامر ، كما وأن عميد الجامعة قد جعلني أتعهد أمامه بأن لا أمسّه مجدداً .. ولذا عليّ ان لا أحنث بهذه الوعود .

ووقف ليسحب سترته ويرتديها فوقف هيثم صائحاً بقلق :

_ ماذا تُريد أن تفعل ؟! .. جمال لا توقع نفسك في مشاكل .. دعنا نتيقن أولاً من ..

_ أيها الغبي أريد الخروج لجلب ملابسنا من التنظيف الجاف .. ومادام مصعب لا يريد أن أعلم فلن أضغط عليه .

واحتدت ملامحه :
_ولكن على ذاك الوغد أن يتوقف عند هذا الحد وأن لا يضطرني للحنث بأحد وعديّ .

وانتفخ عرق جبينه غضباً فهو بحق لا يثق بنفسه إذا ما التقيا الآن مصادفه .

¤¤¤¤¤¤¤

_ العاشرة مساءاً _

أسترق عامر نظره سريعة قلقة نحو مصعب الجالس بسكون أمام مكتبته يلهو بقلمه فوق كتابه الذي انتثر حوله عدد من الأقلام وأوراق الملاحظات ..

خطوط لا معنى لها راحت ترتسم فوق صفحات الكتاب وهو يشعر بتلك النظرات المتوتره من عامر مابين دقيقة وأخرى فقال بهدوء :

_ لم اُخبره .

تصاعدت الدهشه من أعماق عامر لتكسو وجهه صدمةٌ من استطاعته قراءة أفكاره ، ولكن سرعان ماتحول ذاك لشعور مُزعج يغذيه شعوره بالأهانة فقال محاولاً مداواة كبريائه الجريح :

_ من قال أني خائف منه أيها المُغفل .

ثم أتبع كلماته بالتقاط سيجارة مُخبئه أسفل وسادته وراح يُشعلها في تحدٌ واضح وهو يزمجر :

_ أذهب واخبره .. هاهيّ بيدي ولن تستطيع أنت ولا هو انتزاعها مني .

تنهيده خفيفه خرجت من بين شفتيه وفي هدوء ردّ :

_ لن أُخبره .

ارتخت السيجارة بين أصبعيه بصدمه وظلت عيناه مُعلقة به لوقت غير قصير دون أن يفهمه ثم ارتفع حاجباه فجأة ليلتقط نفساً من سيجارته فرغه في فضاء الحجرة وابتسامة متحمسه تعلو شفتيه قائلاً :

_ تنتظر ذلك الأشعث ليقتص لك .. فقط أخبره وأنظر أن أبقيتُ له شعره واحده برأسه .. أعدك بأني لن أكتفي بجرح واحد هذه المره سأحطم عظامه .. فقط دعه يعلــ ..

قاطعه مصعب ببرود أشد استفزازاً:
_و هو أيضا لن أخبره.

فابتلع تهديده والجالس أمامه يُثير حيرته أكثر وأكثر .. ألم يكن في الصباح ثائراً غاضباً من تدخينه ؟! .. والآن يتحدث وكأن الأمر لا يعنيه !

أخفض سيجارته وعقله يستجديه جواباً هل يُعاديه أم يتجاهله ؟! .. هل هو ماكر أم ساذج ؟!

" أليس من المؤلم أن نحترق من الداخل فلمَ نُحرق أنفسنا بأيدينا من الخارج ؟! "

رغم أن كلماته مُبهمه إلا أنها جعلت شفتي عامر تنفرجان بعض الشيء فيما تابع مصعب بنفس نبرته التي حملت حزنه :

_ ما أتمناه .. هو أن تتركه باختيارك كما تعاطيته باختيارك .. وعليك أن لا تنسى أني موجود معك بنفس الحجرة .

ووقف ليفتح النافذة سامحاً لدخان السيجارة بالتسلل للخارج بدلاً من خنقها لأنفاسه وأنفاس صاحبها الذي ظلّ ذاهلاً من تصرف مصعب .. هل هو الآن رمى بصحته بين يديه وأئتمنه على نفسه ؟! .. بل كيف استطاع تجاوز مافعله به صباحاً !!

أهو طيب إلى هذا الحد ؟! .. أم ان الشر في نفسه جعله يرى كل الناس أشرار ولا يصدق طيبتهم ؟!

أم .. وأم .. وأم ..

عشرات الأفكار آلمت رأسه وسط سكون بينهما لم يتراقص على نغمته إلا دخان السيجارة ..

¤¤¤¤¤¤¤¤

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top