" ٦ "

الواحده فجراً _

" لن تقتله ؟! "
للمرة الثانية كرر مصعب سؤاله الهامس المتوتر ليومأ جمال برأسه مطمئناً له :

_ لو كانت قاتلة لقتلت نصف سكان الكرة الأرضية .

قالها وأصابع كفيه تعالج بمهارة بمشبك ورق مقبض باب حجرة الحافلة المغلق من الداخل وثوانُ وظهر صوت تكه خفيفه معلنة استجابتها له فتحركت شفتيه بابتسامة وسبابته توضع أمام شفتيه مُحذراً مصعب من أصدار أي صوت .

لم يكن بحاجة لذاك التحذير فحتى صوت أنفاسه قد اختفت بعد أن كتمها وهو يرى جمال يطل برأسه داخل الحجرة المظلمة قبل أن يشير بيده له ليتبعه فعلم مصعب عندها أن الحافله نائم ..

تسللا على أطراف أصابع قدميهما وشخيره العالي يرجُّ فضاء الحجرة بأكملها ..

ووصل جمال لبغيته ليسحب بجرأة مُدهشه أبريق الماء الموضوع فوق المنضدة المجاور لسريره وفتح غطائه وأخرج من جيب قميصه علبه صغيرة ليضع محتواها في الماء و ..

_ هل يجب أن نذهب الى هذا الحد ؟! .
همس مصعب فجأة لينتبه جمال لارتجاف صوته فقال بعبث :

_ نعم حين ذهب هو الى ذلك الحد .

ونظر نحوه بعينين تعكس جرأة و تصميم يستحيل كسره فتنهد بتعب قبل أن يبتسم مشاركاً له في خطته ليتجه هو الآخر الى دورة المياه وفتحها بهدوء ثم اتجه الى المرحاض ليفرغ محتوى كيس بلاستيكي  فوق مائها هامساً بتوتر ملحوظ :

_ أرجو أن لا يُكشف أمرنا .

فيما أعاد جمال أبريق الماء متمتماً بسخرية :

_  فلتحرص أيها الوغد أن تُكثر من شرب الماء حتى لا يُصيب بشرتك الجفاف .

وزادت ابتسامته اتساعاً وهو يلوح بكفه لمصعب ليغادرا ، وكما دخلا بهدوء غادرا بهدوء ..

وما أن استقرا خارجاً حتى زفر مصعب بقوة منفساً عن توتره ثم قال :

_ لقد توقفتُ عن مثل هذه الأعمال الصبيانية مُنذُ أن كُنتُ بالحادية عشر .

لم يبدو على جمال أي اهتمام وباله يُشغل بالكامل بكيف ستكون نتيجة خطته ، هو حتى نظر لساعته قائلاً بحماس :

_ بقي ستُ ساعات عن استيقاظه وعندها ..

وابتسم مفرقعاً أصابعه :

_ ردوا السيئة بمثلها .

حكّ مصعب ارنبة أنفه بظهر سبابته قائلاً :

_ نعم .. يستحق ذلك .. هو من بدأ بالسيئة .. لم يكن من حقه ضربنا .. ولا يجوز ذلك حتى .. هو من أجبرنا علـ ..

أوقف سيل كلماته حين ربت جمال على كتفه قائلاً :

_ أتشعر بالأسف عليه ؟!

لم يُجب ولكن عيناه كشفته بالكامل فقال جمال ساخراً :

_ كان يمكننا رد السيئة بمثلها بالضبط .

وشبك بين كفيه ليفرقع أصابعها مردفاً بنبرة مُلئت غيظاُ وكأن مافعله قبل قليل لم يشفي غليله :

_ إلا أن قانونهم هو الأسوأ .. لو مددنا يدنا على أحد عاملي الجامعة سنفصل .

اتسعت عينا مصعب وقال ناهراً له :

_ لا تُفكر في ذلك حتى .. هل نسيت أنك فُصلت لثلاثة أيام بسبب عراكك مع عامر ؟!.

_ بالتأكيد لن أنسى وأنت مرافقاً لي .. فلولاك لكانت خطتي بها شيء من اللكمات والركلات .

ضاقت عينا مصعب بغضب فضحك :
_ لن أفعل ذلك .. أعدك .

واتجه لحجرته قائلاً بعجلة :
_ علينا ان نعود بسرعة قبل ان يُكشف أمرنا .

اومأ مصعب برأسه مؤيداً له وقد زاد توتره فاتجه نحو الدرج حين أوقفته يد جمال فنظر نحوه باستفهام ليقول له بتعجب :

_ الى أين ؟!

_ الى حجرتي .

_ هل حقاً ستصعد للأعلى ولديك سرير فارغ في الأسفل ؟!

لم يكد يُنهي تساؤله حتى أشرق وجه مصعب بابتسامة كبيرة وكأنه انتبه للتو أن سرير هيثم فارغ فسبقه على الفور نحو الحجرة فإن يرتاح من صعود الدرج تلك ليست الميزة الوحيده فقط بل مشاركته أيضاً لجمال حجرة واحده كالأيام الخوالي فرصه لا تفوت ..

¤¤¤¤¤¤¤¤¤

حلّت السابعة المنتظرة بفارغ الصبر من جمال ومصعب وبدلاً من بقائهما بالحجرة وانتظار أثر فعلتهما لم يُطيقا ذلك فخرجا باكراً ليبقيا قريبين من حجرة الحافلة ..

كان جمال متكأ بظهره على الحائط من خلفه فيما وقف مصعب مواجهاً له حين سمع الأثنين فتح باب الحجرة بعنف ..

تحركت عيناهما معاً لينظرا نحوه ولحسن الحظ لم يكونا الوحيدين بذلك الممر ليتم اتهامهما فجميع من بالسكن بلا استثناء كانوا يتحركون ذهاباً وأياباً استعداداً لبدأ اليوم الجامعي ..

ورصدت أعين كل الموجودين وجه الحافله المتقلص بألم وأحدى كفيه تضغط على بطنه بينما الأخرى تضغط من الخلف، الجميع بلا استثناء أوقف خطواته لينظر نحوه بدهشه عدا جمال ومصعب اللذان تباينت ردات فعلهما بين جمال المحتقن وجهه بشده نتيجة كبته لضحكاته وبين مصعب الفاغر فاه بصدمة فلم يتوقع أبداً أن يخرج الحافلة من حجرته ..

بل والأسوأ راح يركض الى أين ؟! .. الى خارج السكن باحثاً عن دورة مياه أخرى فكبريائه الشديد يمنعه من ارتياد أحداها بحجر الطلبه ..

وتفجرت ضحكات الطلبه ليست على هيئته السابقة بل على خطوات ساقيه المتداخله وهو يمنع مابجوفه من الخروج ببنطاله ..

ولم يملك جمال نفسه أن تفجرت ضحكاته ليطلق مصعب هو الآخر ضحكاته ، هو حتى ضغط على بطنه من شدة الضحك هاتفاً :

_ يا إلهي .. لم أكن أظن أنه سيجرؤ على الخروج .

_ يظن نفسه صلب كفاية للتغلب حتى على نداء الطبيعة ..

و ارتفع حاجباه ليستدرك :

_ بل نداء صناعي صنعه ذاك المسهل الذي وضعناه بشرابه .. و ..

لم يستطع أكمال عبارته لتفجر صوت فجأة أوقف ضحكات الجميع وجعلهم يشهقون بصدمه حتى مصعب علقت ضحكاته واحمّرَ وجهه حرجاً للحافلة الذي لم يستطع كبت غازات بطنه من معاودة الخروج وأطلاق الصوت مجدداً ..

وانهار جمال أرضاً من شدة الضحك و صوته البح يصل لمصعب :

_لم أكن لأحلم أبداً بأن يحدث أفضل من هذا.

فيما عض مصعب شفته السفلى مانعاً ضحكاته فالموقف مُحرج بحق و ..

تفجرت ضحكاته هو الآخر حتى عيناه ذرفت الدموع من شدة الضحك وهو يقول :

_ تباً .. لا أستطيع ..

الكل بلا استثناء كان يضحك ، وصوت ضحكاتهم جذبت من لازال بحجراتهم للخروج لتفقد سبب ما يحدث فيما غادر الحافله أخيراً السكن متجهاً الى السكن الخاص بموظفي الجامعة ونفسه تشتمه فلو قضاها بأرضية دورة المياه لم يكن ليحدث له هذا .. من فقط سدَّ مرحاضه بكتلة اسمنتيه وكأنه يعلم أنه سيحتاج لقضاء حاجته بهذه الصورة العاجلة ؟!

ولكن ماهو فيه لا يتيح له التفكير الجيد وخاصة مع تحلق الطلبه حوله والكل يرفع كاميرا هاتفه ملتقطاً صورة لوجهه المحمّر وساقيه المتداخله ويديه الشاده من الأمام والخلف ..

الآن أدرك أن الجميع يكرهه فلا نظرة تعاطف واحده بعين أحد منهم ..

وبغضب ترك بطنه محاولاً أبعادهم عن طريقه كي يصل للسكن وتفجر الصوت مجدداً وتفجرت معه ضحكاتهم وكاميرا هواتفهم و ..

_ حافلة غازات .. حافلة غازات .. حافلة غازات .

_ أفسحوا الطريق .

صدح صوت جمال فجأة من بين الجموع وهو يشق طريقه بينهم ليقف أمامه سائلاً بسخرية :

_ إلى أين تريد الذهاب ؟!

وكتفاً بكتف وقف مصعب جواره ناظراً لحاله ثم رفع أحد حاجبيه سائلاً بتهكم :

_ أتظنه أضاع الطريق لدورة المياه بحجرته ؟!

لوهله ظنّ الحافله انهما يساعداه لولا أن فغر جمال فاه سائلاً مصعب :

_ المسكين .. أليس لديه والد ليدله عليها ؟!

فتح مصعب شفتيه ليُجيبه و .. تفجرت ضحكاته والواقف أمامه يُتقن دوره بالكامل بينما استدار جمال نحوه ليضرب صدره بقبضته بجرأة صائحاً :

_ لا تقلق .. أنا بطل المحتاجين سأتطوع وأدلك عليها ..

وأمام عيني الحافلة المتسعه _ الذي كان دفعه للطلبه يذهب سدى فكلما أبعد اثنين ازدادوا أربعة _ راح جمال يفتح له الطريق بينهم والغريب أن الجميع كان يُفسح الطريق له والأغرب أنه ورغم علم الحافله أنه يسخر منه لحق به لعلمه أنه لا مجال له غير ذلك ..

وبين الجموع الكثيفه مشى ومشى ومشى .. وانتبه فجأة أنه وسط تلك الجموع كان يتجه للجامعة بدلاً من سكن الموظفين فاستشاط غضباً وحرر ذراعيه ليبطش بجمال من الخلف ولكنه لم يظفر إلا بصدى ضحكاته الساخرة ومصعب يسحبه بعيداً عنه وسط ضحكاته هو الآخر ..

ومجدداً وجدت تلك الغازات طريقها للخروج بصوت أعلى وسط كل طلاب الجامعة من مرتادي السكن ومن خارجه وتم توثيق تلك اللحظة من جميع هواتف الموجودين وتغير لقبه من الحافلة المدمرة الى حافلة غازات ..

¤¤¤¤¤¤¤¤

_ بعد يومين ٨ مساءاً _

كانت السعادة تغمر وجه الأثنين وهما يصطحبان هيثم من المشفى الى سكن الجامعة بعد أن سُمح له بالخروج منه ووصلا الى حجرته بالسكن ليفاجئهم باستلقائه على سريره دون غطاء وقد ادار ظهره لهما صامتاً لا يتكلم ..

تصرفه الغريب أثار حيرة وقلق الأثنين فإن كان هناك شيء لا يُتقن الصمت فهو هيثم الثرثار بالتأكيد .

_ أنت بخير ؟!

سأله جمال بنبره تعكس قلقه إلا أنه لازم صمته مما أثار قلق أكبر بنفس مصعب الذي اقترب منه سائلاً بدوره :

_ أتشعرُّ بألمٍ ما ؟!

" نعم "
ردِّ باقتضاب

_أين ؟!

سألاه بلهفه معاً فأشار لرأسه ثم قال باستياء:
_ أشعر أنه يكاد ينفجر.

لم يكن قد أتمّ عبارته حين التقط الأثنان ستراتهما وبدأ بارتدائها وجمال يقول له :

_ هيا .. فلنعد للمشفى .

_ لن أذهب .
بكل برود نطقها مفجراً دهشتهما فوقفا ينظران نحوه بحيرة ليقفز جالساً فجأة ثم يصيح :

_رأسي يكاد ينفجر من الغضب والغيظ والحنق.

_الغضب ؟! .. ممن !؟

سأله مصعب فحرك سبابته بينهما فسأله بدهشه :

_نحن!! ما الذي فعلناه ؟!

_أكان من المفترض أن تنتقما من الحافلة في غيابي ؟!

تصلب الأثنان بوجوم لسببه السخيف واول من أصدر ردة فعل مصعب الذي أمسك صدره وزفر في ارتياح :

_أوه يا هيثم .. لقد أفزعتني .. أرجوك .. لا تكرر ذلك مرة أخرى.

بينما كوم جمال قبضته و اقترب منه صائحاً بغضب هادر :

_أكل هذا من أجل ما فعلناه بالحافلة .. لولا أنا جئنا للتو من المشفى للقنتك درساً لن تنساه أبداً.

لم يبدو تهديده ذا أثر على هيثم الذي استدار مجدداً معطياً لهما ظهره وقد تغلب حزنه عليه ، كان بالفعل يتمنى لو رأى بعينيه متعة ماحدث ، وبالطبع لم يكن هدفه أبداً مشاركتهما الخطة الخطيرة ..

_ كيف علمت أننا من فعل ذلك ؟!
سأله مصعب وهو يجلس جواره على طرف السرير ليجيبه بسخط دون استداراه :
_ عادل .. جارنا في الحجرة المجاورة لقد زارني وأخبرني بكل ماحدث .

اتسعت عينا مصعب وحوّل نظراته القلقه نحو جمال ليجده هو الآخر متفاجئاً مثله والذي نطق مستغرباً :

_ عادل قال أننا فعلنا ذلك ؟!

_ بالطبع لم يقل .. أنا من استنتجتّ ذلك فمثل هذه الأفعال الشريرة لا تخرج إلا من رأس جمال .

قالها بتذمر وأن عكست عيناه فخره بذاته لصحة استنتاجه فعلّت شفتي مصعب ابتسامة خفيفه وأخرج هاتفه قائلاً بمرح :

_ لم يفتك شيء .. جميع ماحدث صوّر بالهواتف ولكن مالدينا بهواتفنا هو حصريّ لك أنت وحدك .

تبدّل حاله مئة وثمانين درجه ليعلو وجهه اللهفه والفضول واستدار بقوة مقابلاً له ليشاهد ما بهاتفه صارخاً :
_ أرني بسرعة .

ضحك مصعب وهو يشاركه المشاهده ولم تلبث أن شاركته ضحكات هيثم العاليه والصاخبه قبل أن يصيح بحماس :

_ أرسلها لهاتفي .. أريد نشرها .. هكذا سيزداد عدد متابعيني .

لم يكن قد أنهى قوله حين تلاشت ضحكات مصعب وحرك رأسه رافضاً ليسأله بإحباط :

_ لماذا ؟! .. أنت حتى لم تنشرها على صفحتك .

هز كتفيه قبل أن يرد :

_ صحيح هو أخطأ في حقنا .. لكن نشر فضائح الناس ليست مادة لتداولها .. ولم يكن أبدا من ضمن خطتي أن يبقى لما فعلناه أثر نكسب ذنوباً منه .. أن انتشر هذا الفيديو فلن يُمسح أبداً وسيكون مصدر ذنب جاري لنا .. لقد أذانا فرددنا له أذاه وانتهى انتقامنا عند ذلك الحد .. سيئه بسيئة .

لم يستطع هيثم الرد عليه وظل فاتحاً شفتيه بدهشه قبل أن يقول باستنكار :

_ ولكن هناك مقاطع أخرى انتشرت .. وأنتم من ظُلمتم منه وحتى أثر ضرباته بقيت لما يقرب الشهر في وجه جمال .

اتجه جمال ليصنع القهوة لهم وهو يرد :

_ لقد قال أنه سيجعل مني عبره لكل من بالسكن وهذا ما انتشر بكامل السكن عني وعن مصعب بسبب تنكيله بنا وأنا أخبرته أني سأجعل منه عبره لكل الموظفين وسأجعله أضحوكه لطلبه .. لكن لم يكن هدفي أبداً شفاء غليل طلبه آخرين .. ومافعلوه بنشر تلك المقاطع بمحض أرادتهم نابع عن بغضهم له دون أن يهتموا بأن ذلك قد يكون مردوده سيئاً على آخرتهم .

والتفت لمصعب مُردفاً :

_ لا أشعر بالضغينه ضده بعد أن شفيت غليلي ولا أرى لما نُشر معنى أو مغزى .. بل أشعر بالسوء فلو صوّر أحدهم أثر لكمته بوجهي ثم نشره لقتلته .

أومأ مصعب برأسه مؤيداً له ثم قال :

_ وسيكون أثر الفيديو سيء و لأمد بعيد على نفسية الحافلة .

أزدادت عينا هيثم اتساعاً وتدلى فكه بصدمه مناوباً بصره بينهما قبل أن تبرق عيناه بأعجاب شديد بهما أتبعه بصراخه :

_ لو عاملكما جيداً لكان كسبكما .. هل هذا مايسمى بالمقاتله بشرف ؟! .

ضحك الأثنان لحماسه وحولا نظرهما معاً لكومة المانجا المرصوصه فوق منضدته ، هو عليه التخفيف من قراءة مثل هذه القصص .. وخاصه .. المقاتله بشرف !!

_ ولكن .. ما أستغرب له .. كيف فتح طلاب الجامعه لي طريقاً ؟! .. الجميع كان يبتعد عني .

ألقاها جمال بحاجبين معقودين ومصعب يتناول منه كوبي القهوة ليعطي أحداها لهيثم قائلاً بدهشه :

_ هذا صحيح .. حتى أنا استغربت .

هيثم الوحيد الذي لم يبدو عليه الدهشه أطلاقاً وقال بشك :

_ أحقاً لا تعلمان ؟! ..

أومأ جمال برأسه نافياً فيما سأله مصعب بدهشه :

_ هل تعلم أنت ؟!

_ بالتأكيد أعلم .. أتظنان مثلي يفوته شيء من ثرثرة الآخرين .

قالها بعجرفه طفوليه ولكن عينا جمال المحتده جعلته يفصح بسرعة :

_ أتظن مافعلته بعامر في كافتيريا الجامعة أمر بسيط مرّ دون أثر .. الجميع يتحدث عنك وعن كيف بدأت العراك معه رغم سمعته السيئة لذا الجميع ينظر لك كمتمرد أشدُّ شراً منه ولذا أفسحوا لك الطريق لتمر دون تردد .

شحب وجه مصعب قبل أن يحتقن غضباً فيما ارتفع حاجبا جمال لوهله قبل أن يحك مؤخرة عنقه بحرج وكأنه امتدحه للتو ، أما هيثم فقد شبك فجأة بين كفيه ولمعت عيناه صائحاً بفرحه :

_ لم أحظى في حياتي بمرافقة شخص قوي متمرد .. أشعر وكأن معي حارس شخصي الآن .

بدا مصعب جاداً تماماً وهو يزجره :

_ هذا ليس شيء يستحق الفخر .

والتفت لجمال الذي لم تزل ابتسامته المتباهيه قائلاً بحده :

_ لا تجعل نظرتهم الخاطئه عنك تدفعك لانتحال هذه الشخصية .

زوى مابين شفتيه حنقاً فيما ابتسم مصعب بخفه مردفاً :

_ فرغم انك متهور و قبضتك تسبق عقلك .. إلا أنك لست شخص سيء كما يظنون .

تبدّل حال هيثم من الإبتهاج الى الوجوم وهو ينظر لعينا جمال المسمّرة على وجه مصعب المبتسم قبل أن يتنهد ويبدأ بشرب قهوته وقد زال تباهيه ليُدرك أنه قد يكون جمال ذلك الشخص حقاً لولا الله ثم مصعب .. مصعب صمّام أمان يمنع تفجره وانجرافه إلى تلك الشخصية المّستهجنة ..

وأصدر جمال صوت أثناء احتسائه لقهوته ليقول هيثم فجأة بإحباط :

_ لا أعلم حقاً كيف اكتسب هذه السمعة القوية .
ونظر نحوه باستقلال " رغم سخافته "

شاركه مصعب بعبث :
_ هذا ما أعنيه .. لا شيء به مَهِيب .. أنظر أليه .. أشعث .. لا يُجيد السباحه .. كسول .. ثقيل نوم و ..

" لا بأس سأريكما كيف اكتسبت هذه السمعة . "

قالها فجأة وقد ضاقت عيناه ليبتلع هيثم ريقه بخوف فيما ارتفع حاجبا مصعب وهو يراه يضع كوب قهوته ليقترب منه فسأله بتوتر :

_ ماذا .. ماذا تريد أن تفعل ؟!

وقبل أن يقف كان قد سحبه من ذراعه ودفعه نحو باب الحجرة وبذراع واحده قيّد حركته بينما بالأخرى فتح الباب ووقف به أمامه فصرخ بغضب :

_ ما الذي تفعله ؟ .. دعني .

ومن موقعه نهض هيثم نحوه ليساعده حين دق فجأة جرس التاسعة معلناً حظر التجول بالسكن ليمتقع وجه هيثم فيما اتسعت عينا مصعب وصاح به :

_ جمال توقف .. أن رآنا الحافلة ستكون فرصته لأفراغ غضبه .

_ دعه يأتي .. لا بأس .

قالها بعبث وهو يعود لتقييده من الخلف بذراعه الأخرى بعد أن كاد يتحرر ويفرّ منه فيما صرخ هيثم فجأة بذعر :

_ لا .. بالكاد تجاوزتُ رعب المرة الأولى .. كلا .. لن أحتمل .. سأشكوك لأمي .

كلمته الأخيرة فقط نجحت في جعل ذراعيه ترتخي من حول جسد مصعب لينتهز الفرصه ويدفعه ويبتعد عنه ولكن جمال لم يهتم أطلاقاً لتحرره وهو يعود للحجرة ليختطف هاتف هيثم من يده قائلاً بعبوس :

_ النساء .. لماذا تدخل النساء في أمور الرجال ؟!

_ أنت لن توقعنا في مشكلة مع الحافلة .
سأله بتوتر ليبتسم فجأة بخبث " بالتأكيد . "

ثم أردف فجأة .. " رغم سخافتي . "

امتقع وجه هيثم وصاح :

_ كُنتُ أمزح .

ولكن يديه اتجهت نحوه فيما مدّ هيثم ذراعه كالمستنجد نحو مصعب الذي لازال يقف أمام الباب محتاراً هل يُساعده ؟ .. أم يعود للحجرة قبل أن يراه الحافله !

ولكن وقبل أن يحسم تردده كان قد اتجه جمال فجأة للباب قائلاً :

_ انتهى وقت أقامتك .. لم يعد لديك سرير فارغ الآن .

وأغلق الباب في وجهه قاطعاً حيرته ليركض نحو حجرته رغم سماعه لصرخات هيثم المستغيثه مُفكراً فعلى الأقل جمال قريبه ولن يقتله .. ولكن الحافله إذا ما صادفه لن ينطبق ذلك عليه أطلاقاً وخاصه بعد سخريته منه علناً .

¤¤¤¤¤¤¤¤

قصر منيف حفّته الأشجار وانعكس على نوافذه الزجاجية بدر مكتمل أحاطته الغيوم الداكنه والتمع بينها شرارات برق منذره بقرب عاصفة ..

وعلى شارع قريب منه اصفطت سيارة قديمة أطلّ من نافذة بابها الأمامي زاهر متمتماً بضجر :

_مر أكثر من أسبوعين .. لم أعد أحتمل.

استرخى سائق السيارة أكثر في مقعده راداً ببرود :

_ جميع فنادق العاصمة التي تفقدناها لم يزرها يوماً .. لذا لابد وأنه في هذا القصر.

وتحركت شفتيه بابتسامة جانبيه مُردفاً :

_ إن كان حياً !

تململ زاهر ، وقال في نفاذ صبر:
_لقد مر على بقائنا بجانب قصر والده ما يقرب من الأسبوعان ولم يدخل فيه أحد غير ذلك الخادم العجوز .

_ ألم تقل انه في زيارة لشريك والده ؟ .. لعلّه لم يعد بعد .

_ ذلك مستحيل .. حتى بالقطار لن تأخذ منه الرحلة يوماً كاملاً .

_ ماذا تقترح أذن ؟!

أوقف زاهر تذمره ونظر لشريكه غير مستوعب سؤاله ليكرر مجدداً بلهجة فظة :

_ ماذا تقترح ؟!

ابتلع زاهر لعابه وعين رفيقه تزداد غضباً وكأنه قد سأم من تذمره ثم قال :

_ أسمع ياجابر .. قد أكون توهمت رؤيتي له ..

ضاقت عين جابر ودفعه فجأة نحو الباب المجاور له قائلاً :
_ أخرج .

شحب وجهه ومع ذلك لم يتردد في طاعته ليفتح باب السيارة وترجل خارجها وفعل جابر الشيء نفسه ثم أشار لبوابة القصر آمراً :

_ أذهب واسأل الخادم العجوز عنه .

_ أنت مجنون ؟!
قالها زاهر معترضاً إلا أن جابر التف من خلف السيارة ليقف أمامه قائلاً بعصبية :

_ إما أن ننفي توهمك أو نثبته الآن .. فأنا لن أُطيق مرافقتك ليوم آخر .

_ سيقلنا شاهر لو فطن مصعب لبحثنا عنه وهرب .

_ إذا تصرفتَ بغباء أنا من سيقتلك .

_ لمَ لا تذهب أنت أذن ؟! .. فأنت أذكى مني .

_ لأن جميع من بهذه المدينة يعلم وجهي جيداً وخاصة مصعب وكل من يعرف عائلته كخادمه .

انفرجت شفتيه وبدا الرعب بعينيه ولكن كلامه أفحمه وشتم نفسه كثيراً على زلته بأخبار شاهر برؤيته لشبيه مصعب ولكن دفع جابر له جعله يتنازل عن تضعضعه ليتجه نحو بوابة القصر وضغطت سبابته جرسها ، مره ، مرتان ، ثلاثة و .. التفت لجابر ليخبره ان لا مُجيب و..

فتحت البوابه فجأة ليظهر من خلفها رجل عجوز قد ملأت تجاعيد الزمن وجهه وذراعيه إلا أنه بدا صلباً كفايه للعناية بمهمة حراسة القصر ..

_ السلام عليكم .

قالها زاهر ليرد عليه العجوز بأدب :
_ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .

وفتح شفتيه .. ماذا يقول ؟! .. وعن ماذا يسأل ؟! .. وكيف سيصوغ سؤاله دون ان يوقع نفسه في ورطه و .. خطرت بباله فكرة ليسأل فجأة :

_ سيد هذا القصر طلب مني تفقد امدادات الغاز لديكم ؟!

عقد العجوز حاجبيه باستغراب :

_ مصعب ؟!

شحب وجه زاهر لنطقه باسم مصعب ليتيقن شكه تماماً انه حي فيما أردف العجوز بحيرة :

_ مُنذُ خدمتنا لوالده حين كان طفلاً ونحن نتفقد شؤون منزله .

حيرته كانت فرصه لزاهر ليصوغ سؤاله التالي :

_ لا أظن أنني أخطئت بالعنوان .. قلت قصرُ من هذا ؟!

_ مُصعب عبدالله .. لعلك يابُني تقصد منزل آخر .

زاد شكه يقيناً بنطقه لأسم مصعب بدلاً من عبدالله كسيد القصر ولكن هو بحاجة لأثبات .. ولو بسيط وأقدم على خطوة جريئة منه بقوله  :

_ مُصعب عبدالله .. أنه هو .. أنا مُتأكد أنه نفس هذا الأسم من جاء أليّ بالأمس في ورشتي وطلب مني تفقد منزله .

أومأ العجوز برأسه نافياً وردّ بهدوء :

_ الآن تيقنت أنك مُخطيء .. مصعب في العاصمة مُنذُ  سبعة أشهر .

_ أين في العاصمة ؟!
بسرعه ألقى سؤاله ليُجيب العجوز دون تفكير :

_ بالجامعة .. لا أعلم أسمها ولكن ..

وانتبه لسؤاله الغريب فرماه بنظره مستنكره ليرفع زاهر كفيه قائلاً بضحكه مرتبكه :

_ لابد أني أخطئت فمن قصدني بالأمس كان رجل خمسيني وليس طالب بالجامعة .

_ بالتأكيد .. فمصعب مثل ابني لا يستغني عن خدماتي .

قالها العجوز ليضحك زاهر مجدداً وهو يعتذر :

_ أعتذر على سوء الفهم .. سأبحث عن من جاء ألينا بشكل أدق .. شكراً لك .

وعاد أدراجه راكضاً نحو جابر الناظر أليه بعين متلهفه ليقصَّ عليه ماسمعه ولم يكد يستوعب جابر ماقاله حتى تغيرت سحنته وعلا وجهه مزيج من الحقد والغيظ وهو ينطق :

_ حي ! .. السافل حي .. وأيضاً قريب منا ودون أن نعلم ..

وتحركت شفتيه بابتسامة بغيضة :

_ شاهر سيُصعق من هذا الخبر .

تنهد زاهر براحه وقذف بنفسه في مقعد الراكب راداً عليه :
_ الآن يمكننا الراحه بعد أن تيقنا .

أتخذ جابر موقعه خلف مقعد القياده وحطم كل راحته بقوله :

_ لا راحه لأحد منا حتى أجده ولو بحثتُ لشهر كامل بكل جامعات العاصمة .

تجهم وجه زاهر فيما تألقت عين جابر الوحيده وشدّ قبضته على مقود السيارة حتى كاد يٌحطمه وهو يهمس بشراسه :

_ ذلك الفتى بالتأكيد هو برفقته .. هذه المره لن يخلصه أحد من يديّ .. سأخذ بثأري منه .

ورفع كفه ليضغط بضغينة شديدة على محجر عينه اليمنى الفارغ من كرته والمظلم كظلام قلبه الممتلأ بحقده .

■■■■■■■■■■■

_ التاسعة ودقيقتان مساءاً _

العودة بعد يومين !! ، كان الأمرُ ثقيلاً على مصعب و يده تمتد ليفتح باب حجرته ، و لازالت نشوة اللحظات التي مضت برفقة جمال وهيثم تتوقُ نفسه أليها حتى ولو كانت شجاراً على عكس ما يقاسيه من صمت موحش برفقة عامر .

تذكر فجأة عودته خلال هذه اليومين للحجرة لبضع دقائق لاستبدال ملابسه ، بجميع تلك الدقائق المتفرقه لم يجد عامر في الحجرة فمُنذُ عراكه مع جمال وهو يُكثر الخروج من السكن على عكس السابق ..

وأسعده كثيراً حين وجد بطاقه مرميه على الأرض علم منها انه أشترك بأحد الأندية الرياضية فأن يقضي بعض وقته بشيء مفيد وممتع خيرٌ من بقائه بذاك السكون الكئيب ..

ولوهله ظهر بعينا مصعب شيء من الحزن والأشفاق عليه وقصته تتكرر في رأسه و ..

" لا شيء جيد من حبسه لنفسه وسط كابوس مأساة أسرته . "

وتحركت شفتيه بابتسامة وكأن ماحدث بينهما قد مُسح تماماً من ذاكرته عازماً في نفسه على أجراء بعض المحاولات لجرّه للحديث معه فدفع باب حجرته ليدخل أليها و ...

سحب كثيفه من الدخان استقبلته حاجبة الرؤية عن عينيه ومزكمة أنفه الذي راح يشهق انفاساً قويه وهو يلوح بكفه أمام وجهه طارداً لها بعيداً عنه وقائلاً بانفعال :

_ يا إلهي .. ماهذا ؟! ..

ولكن لا أجابة تلقاها سؤاله وهو يشق سحب الدخان مضيقاً عينيه وقد ميّز عقله فجأة تلك الرائحة وصدق تخمينه حين وقعت عيناه على عامر لتتسع بفزع واستهجان ..

كان مسترخي فوق سريره مقابلاً للمنضدة الفاصله بين سريريهما ويده تحمل سيجارة مشتعلة معلنة أنها ليست الأولى فهناك العديد من السجائر المطفئة فوق المنضدة وكذلك لن تكون الأخيرة فهناك عدد كبير من العلب الجديدة المغلقة والتي لم تمس بعد ..

رفع نحو شفتيه السيجارة المشتعله ليُدرك مصعب من طريقة أمساكه لها أنها محاولته الأولى لتعاطي السجائر فانتشل نفسه من صدمته ليصيح به في هلع :

_ ما الذي تفعله ؟! .. هذا خطير .. ستؤذي صحتك .

لم يهتم عامر إطلاقاً له وهو يرمي السيجارة التي انطفأت بسبب عدم أتقانه لشهيق محتوياتها ليسحب واحده أخرى فاستشاط مصعب غضباً وصرخ :

_ لم يمنحك الله جسداً سليماً معافى لتعطبه بهذه الخبائث .. ولم يمنحك المال لتضعه فيما يغضبه .. فتوقف عن أيذاء نفسك ..

نظرة مغتاظه رماها نحوه أوصلت تهديده له دون أن ينطق بأن يكف عن الحديث معه ..

ومع ذلك لم تكن كافيه ..
لم تكن كافيه أبداً لزجر مصعب عن أن يتحول غضبه لشيء من الأسف عليه فقال :

_ أرجوك .. لم تعد صغيراً مراهقاً لتدرك أن ضررها أكبر من اللحظة الوقتيه التي تمنحك أياها ..

وتلعثمت شفتاه قليلاً قبل أن يضغط على نفسه ليردف بمرارة :

_ هذه الأشياء التافهه .. لن تشفي جرح أحد .. ولن تداوي ألمه .. أرجوك يكفي .

دحرج كرتين مشتعلتين نحوه وكأن ماقاله لمس شيئاً في أعماقه وبدلاً من أن يقابلها بالانصياع كانت ذات مردود سيء وكأنه سكب وقوداً على بركان آلامه فكوّم قبضته حتى سُحقت السيجارة بين أصابعه ..

غريبون هم البشر يزدادون شراسه حين يشعرون وكأن مايخفونه لأمد بعيد قد كُشف .. قناعهم المزيف قد سُحب منهم فجأة ليكونوا عراة أمام اناس بالكاد يُطلق عليهم زملاء وهم ليسوا إلا غرباء ..

والأغرب أن هذا الغريب اقترب منه متجاهلاً ارتجاف قبضته بغيظ وزفير أنفاسه العالي وروحه المتآكلة من الداخل والمتوسله له أن يضربه مجدداً كي يكف عن دسِّ أنفه في شؤونه و ..

_ اعطني أياها .. سأرميها خارجاً ..

ونهض عامر ليقف أمامه وجهاً لوجه ولازالت كف مصعب ممدودة نحوه ، ثوانُ انقضت وكلاهما ينظران لبعضهما قبل أن يقول عامر بنبره مُلئت حنقاً وشراسه :

_ لم أُجرب أيضاً أطفاء السجائر بجسد أحد .. وأنا مستعد لفعلها لو نطقت بحرف آخر .

انتفض جسد مصعب بوجل ، وتراجع بضع خطوات للخلف وهو يتخيل ان يفعل ذلك به ولكن ..

أن لم ينصحه هو فمن ؟! .. الجميع لا يتحدث معه وهو لا يتحدث مع أحد .

أمن الصواب تركه فقط لأن هذه رغبته ؟! .. كلا .. لا أحد يهتم له .. ولن يؤرق أحد نفسه بنصحه .. ولذا لن يكون هو أحد هؤلاء الناس حتى ولو أراد عامر ذلك ..

وفتح شفتيه لينصحه مجدداً لتُبصر عيناه شرارات الشر المتطايره من عينيّ عامر فلاذ بالصمت مرغماً وقد علم أن غضبه لن يُفيد معه نصح في هذه الحاله وقد يجرهما لعراك يزيد الأمر سوءاً ..

فتنهد بكَدَر ثم استدار نحو سريره ليتمدد عليه ولازالت سحب الدخان تخنق أنفاسه وقد عزم في نفسه ان تساهل معه هذه المره فلن يفوتها المرة القادمة ..

¤¤¤¤¤¤¤¤

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top