" ٥ "
_ الثامنة صباحاً _
صيحة أعجاب كبيرة أطلقها هيثم وهو يدور حول مصعب في اليوم التالي صارخاً :
_ تبدو رائعاً يامصعب .
فقد كان مظهره بمايرتديه من تيشيرت ثلجي بنصف أكمام يعلوه قميص أصفر مشجر وبنطال من الجينز ذو قماش خفيف صيفي يُخالف مااعتاده فيما ارتفع صوت جمال الساخر من خلفهما :
_ لولا ضيق عينيه .
التفت الأثنان نحوه ليجداه قد خرج من دورة المياه المُلحقه بحجرته ولازالت تعلو شفتيه ابتسامة ساخرة فمنحه مصعب نظرة فوقية :
_أعترف بأنك غيور وحســ ..
بتر عبارته فجأة ليفرك عينيه بشكل مسرحي أتبعها بقوله بدهشة:
_لا أصدق عيني هل صففت شعرك يا جمال ؟!
أشار بطرف سبابته نحو هيثم الذي لازالت عيناه تبرقان أعجاباً بمايرتديه مصعب وهمس بتذمر :
_ذلك الطفل أصرّ على ذلك بل أنه هددني أنه لن يذهب معنا إن لم أصفف شعري .. وأن تركته هنا وأصابه مكروه فأن خالتي ستقتلني لا محالة.
أطلق مصعب ضحكه قصيرة أخرج بعدها هاتفه قائلاً بحماس " لا يجب ان يمرّ ذلك دون تصويره . "
ورفع كامرة هاتفه نحو جمال لتقابله يد جمال التي أسرعت لخطف هاتفه ، زمجر بغيظ وحاول اخذه منه وخلال شجارهما لم ينتبها لهيثم الذي أخذ مفتاح غريب من الأرضية لاحظ ان مصعب أسقطه بالخطأ أثناء أخراج هاتفه ليسأله بفضول :
_ من اجل ماذا هذا المفتاح ؟!
كانت نظرة خاطفه فقط التي ألقاها جمال على المفتاح ليُدرك ماهو فوراً فيما انتهز مصعب الفرصه وانتزع هاتفه وتراجع للخلف قائلاً بجذل :
_سيارة .
اتسعت عينا هيثم فرحة فأردف :
_ لقد استأجرتها البارحة .. لنذهب بها إلى البحر.
واستدار نحو جمال مجددأً لتصويره ليقابله وجهه المتجهم فزفر بتعب فيما قال جمال بضيق :
_ لم يكن هناك داعٌ لاستئجارها .. فالبحر قريب من السكن .
_ جمال .. جانب البحر القريب من الجامعة للتنزه فقط .. أما الجانب الشرقي البعيد هو الذي يضم كافة أنواع الترفيه .
_ ولكنها تُكلف الكثيـ ..
قاطعه هيثم بضجر :
_أصمت ياجمال .. اصمت .. هل يجب عليك في كل مرة أن تُعكر فرحتنا .. دعك منه يا مصعب إنه أبله لا يعي ما يقول.
ثم أقترب من مصعب هامساً باستعطاف:
_مصعب .. علمني القيادة .. أرجوك.
أجابه مصعب بابتسامه كبيرة :
_بكل سرور.
قفز هيثم من شدة السعادة قفزات متتالية أظهرته وكأنه طفل وزاد من ذلك ارتدائه للتيشرت الزيتوني بلااكمام والشورت الأسود الفضفاض والحذاء الرياضي الأسود ..
راقبه مصعب لثوانٌ بابتسامة سرعان ماخفت بريقها تدريجياً وذكرى قديمة تتفجر في ذاكرته مشابهه لما يراه الآن فهاجم قلبه ألم وحزن شديد ..
احمَّر وجهه وقاوم غصة علقت بحلقه وشفتيه تنطق دون وعي منه :
_مُعاذ.
سماعه لصوت نفسه أيقظ وعيه بالكامل وانتشله من لجة حزنه لينتبه لدمعات سالت على وجنتيه دون وعي منه فأسرع يمسحها ثم التفت بسرعة نحو جمال ليجده ينظر نحوه وقد عكس وجهه تعاطفاً شديداً إلا أن عينيه لم تُخفي مرارة تألمه هو الآخر بل والأسوأ راح يسأله بأسىٌ :
_ يُشبهه ؟!
تصنع مصعب المرح وحاول أخراجه من حزنه برده المرتبك :
_أوه ليس كثيراً.
ثم صاح في صرامة مفتعله:
_ أنها الثامنة والنصف وإذا تأخرنا أكثر فلن نجد موقعاً جيداً قريباً من البحر .
قاوم جمال غصته هو الآخر وتجلد بعزيمة فيما أخذ مصعب مفتاحه من هيثم متابعاً :
_ هيا قبل ان تشتد أشعة الشمس فالسيارة دون سقف علوي ولازالت الرياح باردة .
كلماته زادت من حماس وجنون هيثم الذي اختطف نظارة جمال الشمسيه ثم حمل أكياس الشواء و وراح يركض للخارج ليتحول ذاك الحزن في قلب الأثنين الي ضحكات وهما يلحقان به .
¤¤¤¤¤¤¤¤¤
فرش هيثم بساط واسع أمام الشاطيء فيما تكّفل جمال بتثبيت المظلة الكبيرة أعلاه ليستلقي الثلاثة فوق البساط مستمتعين بنسمات الهواء البارده .
ومرَّ بعض الوقت قبل ان يستوي مصعب جالساً وراح ينظر للبحر بشغف كبير ثم قال بحماس :
_هيثم هل تريد السباحة معي ؟!
أجابه هيثم ببرود:
_لا أعرف السباحة .
_لا بأس تعال معي وسأعلمك .. أنه أمر سهل للغاية.
_كلا فأنا أنتظر سيارة الآيس كريم .
انفرجت شفتي مصعب باستهجان ثم هتف :
_ يالك من طفل .. هل ستفوّت متعة أشياء كثيرة لأجل انتظاره ؟! ..
منحه ظهره , وغمغم بضجر:
_قل لجمال.
ألقى مصعب نظرة على جمال الذي ظل ساكناً وقال بأسى:
_أنه لا يُحسن السباحة.
صاح هيثم فجأة بدهشة حقيقية:
_جمال لا يُحسن السباحة ؟! .. لا أكاد أُصدق.
رفع جمال أحد حاجبيه سائلاً :
_ولماذا تظن أني أحسن السباحة!
تلعثم هيثم لحظه وهو يبحث عن أجابه مقنعه:
_لأنك .. لأنك قوي و .. و.. لأنك لا تخاف .. وقد عشت حياة صعبه .. فظننت أنك ...
واكمل بسخط " لأنك جمال ."
" سبب سخيف. " بسخرية لاذعه رماها جمال في وجهه وسحب نظارته الشمسيه ليضعها على عينيه واسترخى أكثر في استلقائه فيما زوى هيثم مابين حاجبيه ولازالت فكرة ان جمال لا يُحسن السباحه غير مستساغه في عقله فقال بانفعال :
_ لقد كانت امي طوال الوقت تحبسني في المنزل لهذا لم أتعلم السباحه .. ولكن أنت كيف لم تفكر في تعلمها مع مصعــ ...
فضَّل مصعب الاستمتاع بالسباحه على الأصغاء لجدالهما فنزع قميصه ورمى به فوق البساط ثم سار إلى البحر مباشرة.
لخمسة وأربعين دقيقة مارس مصعب رياضته المفضله أمام عيني هيثم المنبهره وقد كان بارعاً جداً بالسباحة فيما ارتفع فجأة صوت شخير جمال المجاور له ليعبس بشدة وبحق على أحدهم أن يُخبره أنهم خرجوا للتنزه وليس للنوم ..
" هيثم .. جمال .. لقد حجزتُ دبابين بحريين .. هيا سنستمتع كثيراً . "
صوت مصعب القادم من بعيد قطع شروده ليقفز بسرعة مبدياً استعداده التام على حين بقي جمال على حاله ..
اقترب مصعب منه بخطوات هادئه ونزع نظارته برفق ليجده لازال يستغرق بالنوم ، ابتسامة ماكرة قفزت لشفتيه فسحب يد هيثم هامساً :
_ أنها فرصتنا .
انعكس حماسه على وجه هيثم الذي أومأ له بسرعة :
_ خطتك .
عدة ثوانٌ استغرق منه الأمر ليشرح خطته لهيثم الذي أسرع ينفذها دون تردد فوقف مبتعداً عن جسد جمال فيما سحب مصعب دلو ماء قريب ورش كامل محتواه على جمال لينتفض جسده بقوة و انطلق صراخ هيثم الراكض يمنة ويسره صارخاً :
_ تسونامي .. فيضان .. المياه ستبتلعنا .
لم يكن جمال واعياً بعد وزاد من تشتت عقله ركض مصعب مع هيثم مما جعله يقفز هو الآخر واقفاً وبدلاً من سؤالهم عن ما يحدث فرَّ هارباً في اتجاه آخر ..
كم ركض وكم قطع من مسافه لا يعلم ولم يوقفه سوى رؤيته لنفسه وحيداً من يهرب فالتفت للخلف ليجد الأثنان بالكاد يقفان من شدة الضحك ومع التقاء عيناهما به تفجر صوت ضحكاتهما المكتوم ..
وأن كان للخزي موقع في حياته فسيكون هذا موقعه بالتأكيد ، تلبسه الغضب من رأسه لأخمص قدميه وهو يعود نحوهما ..
وأول من انتزع نفسه من ضحكاته هيثم الذي ارتجف جسده خوفاً ففرَّ هارباً على عكس مصعب الذي التقط نظرة الحرج و الخزي في عيني جمال فزادت ضحكاته حتى سقط على ركبتيه وكفيه تشد على بطنه ..
_ مصعب .. أهرب .. سيقتلك لا محالة .
لم يكن بحاجة لتحذير هيثم المفزوع فقد جاهد ليقف على قدميه بعد نوبة الضحك ولكنه لا يلبث أن يفشل ويسقط ويعود للضحك .
وانخفضت المسافه بينه وبين جمال ومع اقترابه منه التقط جمال قميصه المرمي فوق البساط وقفز فوقه مسقطاً له وثبت القميص على وجهه من كلا الجانبين ..
توقفت ضحكات مصعب أو اختنقت مع أنفاسه وكلا الرؤيه والهواء تُحجبان عنه ، فرفع يديه محاولاً أبعاد القميص عن وجهه ولكن لم تكن قوته أبداً لتتغلب على قوة جمال الغاضب وهو يسخر منه :
_ فلتتخيل أنك الآن وسط تسونامي وتختنق به .
ولولا اختناقه لضحك مجدداً وهو يحاول تخليص نفسه منه قبل أن يفزع :
_ جمال أرجوك .. أنا حقاً أختنق .
_ لا .
_ أنا أسف .. كُنـ ــتُ .. أمزح .. أرجــــ ..
_ أعلم أنه أنت .. لم يكن هيثم ليجرأ عليها دونك ..
و ضاقت عيناه حرجاً وهو يذكر ركضه بذعر هارباً بل لازالت المياه تتساقط من خصلات شعره فزاد من تشديد القميص حول وجه مصعب الذي رفس بذراعيه وقدميه في عشوائيه مستنجداً بضعف :
_ هيثم .. النجدة .
ورغم خوفه عاد هيثم راكضاً وسحب جمال من سترته الخلفيه صائحاً بغضب :
_ دعه ياجمال .. ستقتله .
وتحت ألحاح هيثم وجذبه المتواصل أفلت جمال أخيراً القميص ليدفعه مصعب بعيداً عن وجهه وانتابته نوبه عارمه من السعال حين استنشقت رئتيه مجدداً دفعه كبيرة من الهواء .
_ كدتَ تقتله .
صاح هيثم بغضب في جمال الذي نهض مبتعداً بابتسامة متشفيه ليأخذ منشفه راح يجفف بها شعره وملابسه فيما ساعد هيثم مصعب على النهوض وهو يسأله بقلق :
_ انت بخير ؟!
_ الحمدلله .
ردَّ مُطمئناً له وهو يقف لتلتقي عيناه بعيني جمال وابتسم له فعقد جمال حاجبيه باستنكار فتمتم مصعب بعبث :
_ من المؤسف أنه لم يتم تصويرك وأنت تهرب .
احتقن وجه جمال وقبل أن يفجر غضبه ركض الأثنان هاربان وهيثم يوبخه :
_ توقف عن استفزازه فقد كاد يقتلك .
ابتسامه جذله غطت وجه مصعب وهو يُهدأه بقوله " لو أراد قتلي لفعل من مرته الأولى فقد كان يُرخي جانب القميص مابين فينه وأخرى .. الوغد كان يتسلى فقط بتعذيبي . "
توقف هيثم مصدوماً ليتوقف مصعب بدوره مستفهماً فقال ببلاهه :
_ هل أختبر حظي أنا الآخر معه ؟!
ضحك مصعب لبلاهته و ارتفع فجأة صوت عامل قريب من الشاطيء منادياً لمصعب لتتسع عينا مصعب بانزعاج فقد نسي أنه عاد نحوهما بعد أن استئجر دبابات بحريه لنصف ساعة وقد مرّ نصف الوقت فعاد راكضاً الى جمال ليُخبره .
أستقل مصعب أحد هذه الدبابات البحرية بينما أستقل جمال الآخر وأردف هيثم خلفه بعد أن أوصاه بالتشبث به جيداً وانطلقا معاً يشقان أمواج البحر .
سار مصعب فجأة بمحاذاة جمال وغمز له بعينه أشارة فهم جمال المغزى منها على الفور فزاد من سرعة دبابة البحري هاتفاً في جذل :
_لن تحلم بالفوز .
بدأت المسافة تقل بين مصعب وجمال ولكن مصعب زاد من سرعة دبابة البحري فانطلق أمامهما مبتعداً لمسافة كبيرة عجز جمال عن اختصارها بسرعته تلك ، مما أحنق هيثم وجعله يصيح بغضب:
_جمال زد من سرعتك.
أجاب جمال بحده:
_لا أستطيع ... الدباب لن يحتمل ثقلنا معاً إذا ما زدت سرعته.
صرخ هيثم في غيظ:
_لا يمكن لمصعب أن يهزمنا .. هيا زد السرعة يا جمال ..
تحت إلحاحه المزعج وصراخه زاد جمال من سرعة الدباب وقال محذراً له:
_عليك أذن أن تتشبث بي بكل قوتك.
أنطلق جمال باتجاه مصعب وشد انتباه الأخير هذه السرعة الهائلة التي ينطلق بها .. هو يعلم أن جمال متهور ولكن ليس إلى هذا الحد .. خفض مصعب من سرعته ولوح بكلتا كفيه لهما مشيراً إلى نقطة ما أمامه.
هتف هيثم بتفاجؤ عندما رأى تلويحه :
_ استسلم قبل أن نسبقه حتى ! .
أمعن جمال النظر في المنطقة التي يشير أليها , وقال بقلق:
_كلا أنه يشير إلى شيئا ما أمامي.
ولكنه ما كاد يُكمل عبارته تلك حتى فاجئه ظهور لوح تزلج يتمايل فوق الأمواج دون صاحبه ..
تنبيه مصعب جعله ينجح في تجنب الإرتطام به فقد حرك مقود الدباب للاتجاه الآخر بحركة سريعة وحاده .. إلا أن انحرافته المفاجئة تلك تسببت في فقدان هيثم لتوازنه وارتمائه في البحر بعنف ..
لم يكن الدباب قد استعاد توازنه بعد حين أداره جمال بانحرافه أخرى خطيره صارخاً بهلع :
_هيثم...هيثــــم...
ورآه أمام عينيه يضرب بكلتا ذراعيه سطح البحر محاولاً في استماته البقاء على سطحه ولكن سرعان مافقد قواه وغاص إلى قاع البحر.
أوقف جمال دبابه وأراد القفز خلفه لينتابه فجأة شعور عميق من الغضب والقهر لعجزه عن السباحه ، ولم يخرجه من يأسه إلا صوت مصعب الذي وقف بمحاذاته سائلاً بلهفه :
_أين سقط!؟
أشار بسبابته إلى موقع سقوطه ، فقفز مصعب إلى البحر في الحال ..
تلك الثوان التي أخذ مصعب فيها يبحث عن هيثم كانت كالدهر بالنسبة لجمال ، ولولا علمه بأنه سيكون عائقاً ليس إلا لقفز خلفهما فلا أسوأ من الأنتظار كعاجز و ..
_لا إله إلا أنت سبحانك أني كنت من الظالمين.
نطقتها شفتاه تلقائياً وراحت تكررها بصوت مُرتفع وأمله يتجه كُله لله ان يُفرج الكُربة ..
وبرز فجأة رأس مصعب من بين المياه شاهقاً بقوة ليتجه جمال نحوه وتنهد براحه حين رآه يدفع جسد هيثم نحوه ..
فالتقطه وأركبه معه ومدَّ يده لمصعب محاولاً سحبه هو الآخر إلا أنه صاح به في حده :
_ يحتاج إلى إسعاف عاجل .. أسرع هيا.
بقيّ جمال جامداً للحظات وكفه ممدودة لمصعب فتابع مصعب في حزم:
_لا تقلق .. سأكون بخير .. أسرع بالله عليك.
_ كلا .
بحده ردَّ عليه وكفه تُمسك يد مصعب لينتبه مصعب لنظرة الجزع في عينيه فقال برفق :
_ جمال .. لن يحتمل ثقلنا معاً .. وعندها سنغرق جميعنا .. وأنت لا تُجيد السباحة .
_ ولكن ..
قاطعته كف مصعب التي أزاحت كفه وأشار لدبابه الذي جرفته الأمواج " يمكنني السباحة نحوه وتدبر أمري .. لا تقلق . "
ورغم ماقاله ظل جمال مضطرباً لا يقوى على تركه خلفه فعكس وجه مصعب قلق أعنف وقال برجاء " أن تأخرت أكثر فقد يفوت أوان أنقاذه كمعاذ .. "
انتزعته هذه الكلمات من اضطرابه فنظر لوجه هيثم المزرق ودون تردد استدار بدبابة نحو الشاطئ وانطلق مبتعداً.
وعندها سبح مصعب باتجاه دبابه مقاوماً تعبه بعد ذلك المجهود الذي بذله في البحث عن هيثم وحمله إلى السطح ..
ووصل أليه اخيراً ليتشبث به ولحسن الحظ فقد رأت بعض قوارب المتنزهين ماحدث واتجهوا لمساعدته وإلا لم يكن ليملك مع أرهاقه القدرة على التشبث به لوقت أطول .
¤¤¤¤¤¤¤¤
بثيابه المبتله وهيئته الفوضويه قطع مصعب ممرات المشفى راكضاً نحو القسم الذي حدده له موظف الأستقبال لتقع عيناه أخيراً على جمال وبدلاً من أن يهدأ قلقه تضاعف أكثر وأكثر فحال جمال وهيئته لا تبشر بخير ..
فقد كان يجلس على أحد مقاعد الأنتظار متكئاً بمرفقيه على ركبتيه ومحتضناً رأسه بين راحتيه في سكون عجيب .. فتهف في هلع :
_ جمال ماذا حدث ؟
رفع جمال رأسه ببطء إلا أنه بمجرد رؤيته له يقف أمامه بخير حتى نهض عن مقعده بسرعة واعتنقه بسعادة وهو يقول:
_كم أنا سعيد لأنك مازلت حياً.
عقد مصعب حاجبيه بدهشة لحاله الغريب وهو يجيبه :
_الحمد لله .. أنا بخير.
ثم أسنده وأجلسه على المقعد وجلس الى جواره وراح يسأله بلهفه:
_ هل هيثم بخير ؟!
أتكأ برأسه على الحائط من خلفه وحملت عيناه حزنه وشفتيه تنطق :
_ جيد .. انخفض عدد ضحايا تهوري من أربعة الى ثلاثة .
لم يفهم مصعب مايعنيه ولم يُخمن عقله سوى هيثم فسأله بذعر :
_ جمال .. لا تقل أن هيثم مــ ..
لم يستطع نطقها فيما لم يبدُ جمال مصغياً له أبداً وهو يرفع يُمناه ليعقد أصابعها تتالياً :
_ مُعاذ .. هيثم .. خالتي .. مصعب .
ثم ابتسم فجأة ابتسامة شاحبه لا تُفصح عن كنه ألمه وهو يستدرك :
_ كلا ..مصعب مازال حي .
هذيانه وحديثه اللامفهوم أدرك معه مصعب أخيراً أنه انهار مجدداً أمام حزنه القديم فصاح بغضب :
_ جمال .. موت معاذ ليس ذنبك .. ألم تعدني بنسيان تلك الحادثة ؟
_ كيف .. أنساه وأنت .. لم تنساه .
على الرغم من تحشرج كلماته بغصته إلا أن مصعب فهمها فقال بانفعال :
_ أنت واهم .
_ أنت حتى في انقاذك لهيثم رحت تنادي عليه بأسم معاذ بل وجزعت ان يموت مثله .
كان مصعب يقاوم بأقصى ماعنده ولكن مع عبارته الأخيرة لم يملك أن التمعت عيناه بدموعه وألم ذلك الفقد يتفجر في قلبه ، ولوهله ظنّ أنه سيفقد تماسكه ويشاركه حزنه إلا أنه بدلاً من ذلك ربت بكفيه على كتفي جمال قائلاً :
_ لم أعهدك يوماً تُخلف وعداً قطعته .. لقد وعدتني بنسيانه .. ألم تقل لي ان الماضي قد احترق وأصبح رماداً ولا يجوز لنا العبث به وإلا لأعمى أعيننا عن كل ماهو جميل حولنا ولكدر حاضرنا ومستقبلنا.
أحنى جمال رأسه مُخفياً تألمه فيما ضغط مصعب أكثر على كتفيه مُردفاً :
_جمال .. أنت مُسلم .. وتعلم أن الأقدار بيد الله وليس بيدك .. ليس ذنبك ماحدث لمعاذ ولا لهيثم .. ليس من الصواب ان نجزع لأننا لا نعلم فقط الحكمة مما حدث .. الرضى بما كتبه الله هو شريعتنا .. وعليك أن تكون ممتناً لله فقد كان من الممكن أن تسقطا معاً وعندها لا يمكن أنقاذ سوى واحد منكما .
انفرجت شفتا جمال بوجل فلو سقط كلاهما فيستحيل نجاتهما .. تجاوزهما الآن للسيناريو الأسوأ بعث بشيء من الراحه لقلب جمال وانعكس ذلك على وجهه الذي قلّ شحوبه ليقول مصعب بابتسامة مُشجعة :
_ نعم .. لم أعهدك ضعيفاً أبداً .. ولم أرك يوماً إلا صلباً .. وحين أسألك عن سبب صلابتك كُنتَ دوماً تقول لي أنه ( لا أحد بيده قدرك غير الله فلمَ تقلق من الناس ) .
وغمر صوته السكينة وهو يُردف " ولا أحد قدره بيدك أيضاً .. كلها بيد الله .. لذا توقف عن أيذاء نفسك بلومها و لندعو الله لهيثم . "
كلماته نجحت في أطلاق جمال لبقايا زفرة حارة محتبسه، تمتم بعدها بندم :
_أستغفر الله .. أستغفر الله ..
اتسعت ابتسامة مصعب وقال ببهجة :
_هكذا عهدتك يا جمال .. هكذا .. لا يهزك حادث بسيط .. تـ..
قطع عليه حديثه صوت فتح باب أحد الحجر المقابله لمقعدهما وخرج منه طبيب لم يكد جمال يراه حتى هبَّ واقفاً ليسأله بلهفه :
_كيف حاله أيها الطبيب ؟ .. أهو بخير ؟!
أجابه بهدوء :
_ لحسن الحظ لم يبتلع الكثير من المياه .. سيكون بخير بإذن الله تعالى .. وسـ ..
وأطبق شفتيه لينظر بدهشه بالغة للأثنان , فقد سجدا معاً شكراً لله في آن واحد دون اتفاق مسبق ومما زاد دهشته نهوضهما معاً أيضاً.
وأول من بادره بالحديث مصعب الذي ألقى سؤال يحمل كل فرحه:
_هل يمكننا رؤيته ؟
فأجابه بحزم:
_كلا.
سأله جمال في انفعال:
_لماذا!؟
قال الطبيب باهتمام :
_مازال يعاني من أثر الصدمة فمن الأفضل أن تتركوه نائماً لبضع ساعات حتى يهدأ.
قال مصعب بابتسامة كبيرة:
_لا بأس مادام بخير سننتظر حتى لو قلت لنا أن ننتظر أيام.
وغادر الأثنان قسم الطوارئ لينتظرا في صالة الانتظار دون أن يشعرا بتلك العين الخفية التي كانت ترقبهم طوال الوقت .
¤¤¤¤¤¤¤¤
لحظات مرت بقي فيها جمال ساكناً صامتاً أمام باب حجرة هيثم في المشفى ، ومالبث أن استجمع شتات نفسه ليطرق عدة طرقات قبل أن يدفع الباب فيما تبعه مصعب بالدخول لتقع عينا الأثنين على هيثم المستلقي وقد بدا الأعياء في وجهه ومع رؤيته لهما هتف بصوته الضعيف :
_ جمال .
أسرع جمال أليه سائلاً :
_ أنت بخير ؟! .. ألا زلت تشعر ببعض الأعياء ؟
_ أنا بخير .. الحمدلله.
اجابه بابتسامة واهنه ليبادر جمال بأسفه :
_ أعتذر .. لم أكن اعلم أن تلك الانحرافه ستوقعك .. كان عليّ الانتباه لك أيضاً .. كانت حادثه مفاجئة .. ولم أنتبــ ..
قاطعه هيثم بابتسامة :
_لا تعتذر .. لم يكن خطأك .. أنا من أجبرتك على زيادة السرعة.. فلا تلم نفسك أرجوك ..
كلماته زادت من ارتياح جمال فسحب مقعد وقربه منه ليجلس بمواجهته فيما قال مصعب برفق :
_كيف تشعر الآن؟
ارتسمت ابتسامه خفيفه على شفتيه وهو يُجيبه بامتنان :
_بخير .. شكراً لك على إنقاذي.
هز مصعب كتفيه بهدوء واقترب منه ليضع وساده خلف ظهره بعد رؤيته يحاول الجلوس ولم يكد يستتم جالساً حتى ارتفع حاجباه وكأنه نسي أمر مهم فالتفت لجمال وسأله باستغراب :
_جمال .. أين أُمي ؟
أجابه جمال باستغراب أشد منه :
_أُمك ؟! ..في منزلها بالطبع..
صاح بعصبيه:
_ألم تُخبرها ؟!
_أُخبرها ؟! .. لماذا ؟ .. لتموت قبلك.
هتف هيثم بانفعال وهو يحاول التقاط هاتفه من على المنضدة المجاورة لسريره :
_يجب أن تعلم .. أريدها هنا بجانبي .
أختطف جمال الهاتف بسرعة من أمام يده الممتده راداً بذعر شديد:
_كلا .. أنت معتوه بحق .. لو علمت فلن تعيش لحظه أخرى لتعيد سماعة الهاتف.
_ لا .. لا .. أريدها معي .
ومد يده بإصرار ليسحب هاتفه إلا أن جمال أوقف اندفاعته المجنونة بتثبيته لرأسه بكفه اليمنى فيما رفعت كفه الأخرى الهاتف الى أقصى ارتفاع أمام مصعب الذي عكست شفتيه ابتسامه متورطه وهو يلوح بكفيه محاولاً تهدئتهما و ..
أوقف الثلاثة فجأة صوت طرقات مؤدبه على باب الحجرة فالتفت الثلاثه نحوه وقبل أن يسمح أحدهم بدخول الطارق كان قد دفعه بنفسه ودخل وقد حمل وجهه قلق شديد ..
_ حسَّان ؟!
قالها جمال باستنكار شديد ولكن حسَّان تجاوزه نحو هيثم سائلاً بلهفه :
_ أنت بخير ؟!
لم يكن قد أتمَّ سؤاله بعد حين عانقه هيثم بقوة وقد لمعت عيناه وشفتيه تشكي حاله :
_ كدتُ أموت .. الماء دخل في فمي وانفي .. كان مالحاً بشدة .. وحدي بين المياه .. لا يشبه حوض الاستحمام .. والأسماك .. الأسماك كثيرة و ..
واصل فمه ثرثرته فيما حملت شفتي حسِّان ابتسامة حانيه وهو يربت على ظهره بلطف ..
فيما ظلَّ جمال مصدوماً ولم يقطع جموده سوى ميل مصعب برأسه نحوه سائلاً بفضول :
_ من هذا ؟!
_ أخ هيثم الأكبر .
اجابه جمال بهمس فسأله بدهشه :
_ أنت اتصلت به ؟!
_ كلا .
وحرك كتفيه كناية عن عدم فهمه ليعود مصعب بنظره نحوه .. كان يكبرهم كثيراً وقد بدا في منتصف الثلاثنيات وتعاطف الأثنان مع معاناته في تهدأة هيثم و تخلص منه أخيراً بعد وقت طويل ليفاجيء جمال بعناقه الحار له قائلاً :
_لقد كبرت كثيراً يا جمال .. لقد أصبحت رجلاً .. بالأمس فقط كنت تصل لخصري .
أهتز حاجبا جمال " بالأمس ؟! .. انت تعني قبل عشر سنوات ؟! "
_ هل مرَّ كل هذا الوقت ؟!
وضحك وهو يتأمل طوله قبل أن يُشير بابهامه لهيثم سائلاً باستغراب :
_ما الذي رمى به في البحر ؟! .. لقد منعته أمي من الذهاب أليه.
توتر شديد غطى وجه جمال وهيثم ليرتفع فجأة صوت مصعب مجيباً :
_سيارة الآيس كريم.
شهق حسان بصدمة قبل أن يلتفت نحوه :
_يا إلهي .. سيارة الآيس كريم من أغرتك بالذهاب أليه .. ألن تكبر أبداً ؟! .. يالك من طفل مدلل.
فتح شفتيه بنية الدفاع عن نفسه ليطبقها مجدداً بخوف وعيناه تتأرجح بين نظرات جمال ومصعب الزاجره له ..
فيما انتبه حسَّان فجأة لوجود شخص غريب عليه فمد يده مصافحاً لمصعب و قائلاً باعتذار:
_أسف لم أنتبه لوجودك .. أنت صديق هيثم أليس كذلك ؟!
أومأ مصعب برأسه إيجاباً فتابع بتبرم :
_لقد نصحتُ أمي كثيراً أن تخفف من تدليلها له ولكنها لم تأبه لنصيحتي.
أطلق مصعب ضحكه خافته في حين بدا الضجر والانزعاج علي وجه هيثم ، أما جمال فقد عاد إلى مقعده والدهشة لم تفارقه بعد والتي حولها بدوره إلى صوت مسموع :
_ولكن كيف علمت بما حدث !
_لقد أخبرني صديقي محمد .. موظف الاستقبال .. لقد استغرب تشابه أسمائنا فاتصل بي ..
أجابه وهو يسحب مقعد ليجلس بجوار هيثم ليفاجئه بتشبثه بذراعه قائلاً بغضب :
_جمال رفض أن يدعني أخبر أمي.
اتسعت عيناه فزعاً وصاح بذعر :
_هل أنت مجنون ؟! .. لو علمت لتوقف نبض قلبها على الفور.
ثم التفت إلى جمال الذي ارتسم على شفتيه شبح ابتسامه منتصرة زادت من غيظ هيثم وقال مؤيداً له:
_لقد أحسنت يا جمال بمنعك له ..
ناوله جمال عندها هاتف هيثم لتتقوس شفتي هيثم فيما قال حسّان باهتمام :
_ عودا الى السكن .. سوف أهتم به أنا الى وقت خروجه .
عارضه جمال :
_ولكن وظيفتك .. سيكون ذلك صعباً عليك.
قال حسان بهدوء:
_لا عليك ..لقد سألت الطبيب وقال لي أنه لن يحتاج إلى أكثر من يومين .. وستكون أجازة بالنسبةِ لي.
ثم تأمل جمال مجدداً قبل أن تتسع ابتسامته ويهتف :
_ واااه .. لديك حسَّ مسئولية على عكس السابق .
زفر جمال بغيظ :
_ السابق تقصد به قبل عشر سنوات .. يارجل لم أعد بعمر التاسعة .. انا الآن بالتاسعة عشر .
_ بالتأكيد .. ولابد أنك توقفت الآن عن عراك الفتيان وخوض شجار معهم ..
وعاد يضحك وهو يذكر عودته وهو صغير بوجه مليء بالكدمات والجروح والغريب أن لا أحد شاركه الضحك ، لا هيثم المحدق بإحباط بجبهة جمال المغطاة بلاصق جروح كبير ولا مصعب المتنهد بيأس ولا جمال الذي زاد وجهه احتقاناً وقد أثبت للتو أنه لا زال يحمل سمات التهور والمراهقه ..
وقبل أن ينطق حسَّان كان قد ابتسم جمال قائلاً :
_ سنتركه في رعايتك ..
ودفع مصعب للخارج معه وماكادا يغلقان الباب حتى زفر جمال بتعب فيما ارتفع صوت ضحكات مصعب من خلفه فالتفت نحوه بسخط إلا أنه ظل يضحك وهو يلوح بكفيه :
_ أسف .. لا أستطيع .
وزادت ضحكاته علواً فيما دلك جمال جبهته قائلاً براحه :
_ من الجيد أنه لم ينتبه لها .
_ الغريب .. كيف لم ينتبه لها ؟!
من وسط ضحكاته قالها باستنكار قبل أن يُردف :
_ جبهتك لا تكاد تُرى معها .
_ أنت مستمتع بذلك صحيح .
بنبره هادئه حملت خلفها غضباً مخيفاً قالها جمال وهو يستدير نحوه ليبتلع مصعب ضحكاته ويطبق شفتيه .. و ..
_ فلنذهب الى البحر .
تلاشت ضحكات مصعب وحدق به مصدوماً فيما نظر جمال لساعته قبل أن ينظر لمصعب مردفاً :
_ إنها السادسة لم تغرب الشمس بعد يمكننا الشواء قبل العودة للسكن في التاسعة .
_ ولكن .. هيثم ليس معنا و .. ماحدث ..
_ هل تُريد أن ننهي هذه الرحلة بحادثة سيئة لا نعود بعدها لزيارته مجدداً .
اتسعت عينا مصعب وقد فهم أنه يقصده فهو بعد ماحدث أمام بحر مدينته توقف عن زيارة البحر رغم عشقه الكبير له وانتبه فجأه أنه هو من اقترح زيارة هذا البحر .. هل تجاوز صدمته السابقة دون أن يعلم ؟! .. كيف فات انتباهه هذا الشيء ؟ .. ولكن من الواضح أنه لم يفت جمال والذي أردف بابتسامة :
_ خمسُ سنوات بالجامعة ليست قليلة ، سيكون من المؤسف أحجامك عن تكرار زيارته .. لذا لنصنع بعض اللحظات الرائعة هناك .
لم يستطع الرد وقد أثرت فيه حادثة غرق هيثم ومع ذلك لم يتنازل جمال أبداً وهو يمد يده نحوه سائلاً بابتسامة جذلة :
_ هل احضرت السيارة لهنا ؟
_ نعم .. أنها خارج المشفى .
_ اعطني المفتاح .. أنا من سيقود .
أخرج مصعب المفتاح ومنحه له فيما زادت ابتسامة جمال اتساعاً وهو يقول :
_ كل ذاك اللحم الذي اشتريته .. لا يجب أن يذهب سُدى ..
ومسح على معدته بحماس فسكنت ملامح مصعب قبل ان يمشي الى جواره وتسللت فجأة ابتسامة دافئه لشفتيه فسرعان مايعود جمال أقوى ويستعيد صلابته بمجرد انتهاء الحادثه .. هو حقاً ممتن لبقاء رفيق مثله صديقاً له .. وتيقن أكثر أنه بخير وذلك حين همس له بحماس :
_ الليلة سأنفذ قسمي .
_ قسم .. أيُّ قسم ؟!
_ الحافلة .
صاح بدهشه :
_ الليلة ؟!
_ نعم .. لقد تأخرتُ عنه بمافيه الكفاية .
وابتسم وهو يصل للسيارة ليقفز فوق مقعد السائق متجاوزاً فتح بابها فيما استقر مصعب الى جواره قائلاً بلهفه :
_ ماهي خطتك ؟!
_ سأخبرك ولكن أولاً علينا شراء بعض المستلزمات من أجله من السوق ..
أطلق مصعب ضحكة قصيرة وحماس جمال ينعكس على وجهه وهتف في جذل :
_ حسناً .. إلى البحر .. الى الشواء .. ثم الحافلة .
¤¤¤¤¤¤¤¤¤
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top