" ١ "

" أفتقده . "
زفرتها أعماقه حاملة لهيب اشتياقه ومرفقيه تستند على حافة نافذة حجرته بسكن الجامعة فيما بقت عينيه مُحدقة بشيء من الوله بأمواج البحر المتكسرة على رمال الشاطيء بصوت أطرب أذنيه .

كل شيء جميل ومثالي ، فاز بحجرة في السكن الجامعي رغم تأخره بالقدوم ، ونافذة حجرته مُطلة على البحر ... فقط لمَ هي بالطابق الثالث ؟!

آهه طويلة مُتعبه أطلقتها شفتيه وألم ظهره يزداد فدلكه بباطن كفه محاولاً تهدأته ، فقط ، لمَ كان بهذا الغباء ؟! .. ألم يكن عليه استئجار مقعد بالطائرة بدلاً من القطار ! فمعاناة عموده الفقري الآن لا تمزح .

جرَ خطواته المرهقه رامياً بجسده المتهالك فوق سرير صغير استقر جوار النافذة ..

وسرحت به أفكاره بعيداً ، إلى مدينته الواقعة بعيداً عن العاصمة بألف كيلو متر .. نعم تلك المسافه الكبيرة قضاها بالقطار بدلاً من الطائرة ؟! .. ولعشرِ ساعات !

وبعيداً عن ألمه لم تعكس عيناه سوى شوق ألي مدينته شابه نعاس شديد فهي الثانية فجراً و ...

صوت ارتطام موجة قوية بالشاطيء جعله يقفز بنشاط متناسياً ألمه وكاتماً تأوهه لينظر أليها والى انعكاس ضوء القمر على صفحة مياه البحر الصافيه وظلت كفه تدفع جانباً الستائر الرقيقه ليتسلل ضوء القمر منعكساً على بشرة وجهه البيضاء ..

انتشت مشاعره تماماً بسحر الطبيعة ولم يعكرها إلا تسلل ذلك الشعور مجدداً لقلبه فتقوست شفتيه لارتسام ذلك المشهد القديم أمام عينيه وكأنه يحدث للتو . 

(  _بُني مصعب .. لا أريد أن أراك ناجحاً فحسب ، فالنجاح أصبح أمراً سهل المنال .. أريد أن أراك متميزاً متفوقاً ..

_أبي ولكني مُتفوق .

_كلا يا بني أنا لا أقصد الدرجات ..أن ما أُريد قوله أن أرى ما تعلمته يُترجم إلى أفعال في الواقع فتفيد بذلك نفسك ومجتمعك... يا بُني أن أسباب تفوق الدول المتقدمة علينا هو أنهم ترجموا ما تعلموه لأعمال في حين أننا أكتفينا بما تعلمناه بتخزينه في ذاكرتنا دون ...

_تقصد أننا نتعلم لنعمل.

_ نعم .. هذا ما أقصده بالضبط...أنت ذكي يا بُني رغم صغر سنك ..

أحتضن عبدالله ولده مصعب ذو الثمانِ سنوات بحنان وقال بسرور جارف:
_كم أشتاق لرؤيتك يا بني قد كبُرت والتحقت بالجامعة...سأُقيم حفلاً بهذه المناسبة .. كلا .. لا أظنُ ذلك كافياً .. سأوصلك بنفسي أليها . )

ابتلت عينا مصعب بالدموع ولازال جسده يُذكر الشعور الدافيء بين ذراعي والده الكبيره المحتضنة له .. قبضه باردة اعتصرت قلبه وهو يهتف بكل لوعة الدنيا:
_ حسبي الله ونعم الوكيل...أنه اليوم الأول لي بالجامعة ولكن بدون أن تكون مرافقاً لي .. لقد حُرمت منك .. بالفعل أنهم قتلة .

مسح خيط الدموع الذي سال على وجنتيه دون أن يشعر ، وأخذ نفساً عميقاً علّه يخفف عنه بعض ما يشعر به ، ثم مالبث إن ارتسمت على شفتيه إبتسامة شاحبة ، وهو يقول:
_لقد وعدتُ بإلا أعبث برماد الماضي مجدداً .. وإلا لأعمى عيناي عن مواصلة حياتي كباقي الناس وجعلني أعيش وسط أحزان لا تنتهي.

قاوم ذكراه القديمة بتفحص حجرته ، لم تكن بالكبيرة جداً ولا بالصغيرة أيضاً ، كانت تحوي سريرين تفصل  بينهما منضدة كبيرة بعض الشيء وعلى جانب كل سرير يوجد مكتبه ومقعد وخزانة للملابس وبزاويتها الجنوبية دورة مياه  .

هيّ ليست كحجرته في قصر والده ، فهي تبدو قديمة بعض الشيء ولكن يمكنه تدبر نفسه بشراء ما يحتاج إليه.

واستقرت به عينيه طويلاً عند السرير الآخر ..

كم تمنى لو كان يحتله الآن صديق طفولته جمال...

ولكن تلك الصفه التي لطالما أحبها فيه هي مامنعت مشاركته له الحجرة الآن ، عزة نفسه الشديدة ، ماذا لو قبل تذكرة القطار منه ؟! ليس وكأنه يعطيه مال ! .. مجرد تذكره ! .. بل هو لا يعلم حتى أنه اختار القطار بدلاً من الطائرة لأنه يعلم أنه سيرفض تذكرة الطائرة الغالية الثمن ليصدمه برفضه لتذكرة القطار أيضاً مفضلاً استقلال سيارة أحد أقرباء والده .. 

" سخيف "

رمتها شفتيه بحنق وهو يتمدد بتعب على سريره ولازالت عيناه مُعلقة بشرود بالسرير الآخر .. من سيكون شريكة بالحجرة ؟! .. فتى ظريف ! .. هل هو بعمره أم أكبر منه ؟ .. هل سيكون مُمل ! .. لا .. بالتأكيد عليه أن يكون ظريف فخمسُ سنوات ليست بالقليلة و ..

غاب وعيه مستغرقاً بنوم عميق بعد تلك الرحلة الشاقة .

¤¤¤¤¤¤¤

شهقة عالية خرجت من بيني شفتي مصعب بعد أن انتزعه من نومه صوت ارتطام قوي بأرضية حجرته ..

لازالت أصابع كفيه تهتز بفزع وعينيه المثقلة بالنعاس تقع على مصدر الصوت ، فتىٌ غريب ببشرة قمحية أطول منه أو لعل تصفيفة شعره لأعلى ما أوهمت عيناه بذلك و يملك جسدا رياضي القوام ، أمام قدميه استقرت حقيبة ضخمة مرمية بأهمال ، أذاً فقد رماها غير آبه بوجوده ولا بنومه .

" تباً " بخفوت قالها مصعب و بيد متخاذلة سحب هاتفه لينظر لساعته و .. بصرخة :

_السابعة.. لا .. صلاة الفجر .. لقد تأخرت عنها .. يا إلهي .. وستبدأ المحاضرة بعد عدة دقائق .

دفع اللحاف عن جسده وتركه مرمياً بإهمال على الأرض ولسانه يتذمر :

_لماذا لم يوقظني الخادم العجوز !! .. كيف يتجاهلني ؟ .. 

وصمت ثوانٌ بوجوم قبل أن يستدرك في ضيق:
_ أنا لستُ بالمنزل ...

أسرع إلى الحمام واستحم قبل أن يؤدي صلاة الفجر ثم ارتدى ملابسه الجامعية على عجل واتجه إلى خارج الغرفة ولكن ما كادت تلامس أصابع كفه مقبض الباب حتى التفت إلى شريكه بالغرفة ..لقد رمى بنفسه على السرير دون أن يُبدل ملابسه حتى أن حذائه لم ينزعه.

ظل متردد ثوانٌ قبل أن  يتجه نحوه قائلاً بصوت هادئ:
_أنه اليوم الأول لبدأ العام الدراسي .. والجامعة قوانينها صارمة لذا عد للنوم فيما بعد وإلا سيعاقبونك.

رمقه الفتى بعينين ناعستين ثم جاهد ليخرج من بين شفتيه بضع كلمات :
_لا شأن لك بي .. انصرف فحسب ..

رده الفظ وتلويحة كفه الطارده له فاجئت مصعب ..
أراد أن يرد عليه ولكن حين تذكر تأخره آثر الخروج
إلى مبنى الجامعة في الحال .

--------------------

لم يكن مبنى السكن بذاك القرب من مبنى الجامعة وتلك المسافة قضاها مصعب راكضاً متجاوزاً هذا وذاك من الطلاب اللذين رافقوه بسوء الحظ .

ووصل أخيراً ليقف أمام مبناها الضخم لاهثاً بشدة وهو يُحدث نفسه ساخراً:
_ رئتاي العزيزيتن كُلَ الشكر لكِ فقد نقيت هواء الجامعة من كل الغبار .

رفع عينيه البنيتين لينظر لتفاصيل ذاك المبنى فانفرجت شفتيه بانبهار ، ليس وكأنه لا يعلم عن وجود مثل هذه المباني الضخمة ذات العرض الذي بالكاد معه ترى طرفيه ولكن ان يقف أمامها شيء آخر بل ويرتادها ..

ظل مصعب مُحدق النظر به مُصدقاً ما أخبره به والده فمبانى العاصمة تختلف تماماً عن مباني مدينته ..

ثم مالبث أن تجعد مابين حاجبيه وأسرع ليخرج قصاصة ورق صغيره من جيب جاكيته ليصدق ظنه فموقع محاضرته الأولى بقاعة في الطابق الثالث .

زفر بتعب ودلكت كفه اليمنى صدره " لا بأس يارئتاي .. فقط القليل من الغبار "

وعاد لمهمته الاولى بالركض نحو الطابق الثالث لاهثاً بطريقه أشد من سابقتها وما أن وطأت قدماه أرض ذلك الطابق حتى اتكأ براحتيه على ركبتيه في تعب شديد وهو يهتف بسعادة:
_أخيراً لقد وصلت.

عدّل من ردائه واتجه إلى قاعته ولكنه بغتة شعر بمرور عجوز كبير إلى جواره بل أنه كاد يصطدم به فأفسح له مصعب طريقاً ليمر احتراماً لكبر سنه.

وصل لقاعته المكتظة بالطلبة، واستغرب وجود ذلك العجوز بها وما أن همّ بالدخول حتى استوقفه ذلك العجوز بغلظة:
_لا يمكنك الدخول.

فوجيء مصعب من تصرفه الغريب فصاح باستياء :
_ومن أنت حتى تمنعني من الدخول أيها العجوز..

انفرجت شفتي العجوز بصدمة واستياء واضح جعل مصعب يرتبك ولكن اكتفائه بالصمت جعله يُدير بصره المستفهم نحو الطلاب ، أرجاء القاعة ، العجوز الغاضب ثم مكنسة مركونة بزاوية القاعة و ..

- هل أنهيت تنظيف القاعة للتو ؟!  ..
ونظر لجزمته السوداء المتسخ أسفلها بالغبار مستطرداً " انت محق .. ليس عليّ أن أُفسد عملك . "

وراح ينفض الغبار قبل دخوله وسط ضحكات طلاب القاعة التي زادت من استغرابه ولكن سرعان ماارتجف جسده فزعاً حين صرخ العجوز :
_أنا الدكتور الذي سيشرح لكم.

تصلب جسده وظل واجماً لبعض الوقت من وقع ما قاله ذلك العجوز  قبل أن تُفجر شفتيه سيل من الاعتذارات عن كونه مستجد .. غريب .. أبله أن صح القول  ...ليحظى منه في النهاية بعفو مقابل عدم حضوره لأول محاضرة.

جرّ قدميه نحو سور الطابق الثالث واتكأ عليه مؤنباً نفسه بسخرية مريرة:
_رائع .. طُردت بأول يوم لك بالجامعة .. أنها لبداية مشجعة بحق.

نزل بنظره للأسفل ورأى عدد كبير من الطلاب فتمتم :
_أنهم يضحكون .. متى استطاعوا الاعتياد على جو الجامعة ؟! ..يا إلهي ..أكاد أختنق ...أهذا مايسمى بالغربة ! ..

وبتنهيدة أردف :
- أين أنت يا جمال ليتك تكون معي لتخفف عني بعض ما أجده.

بقي في موقع عقابه إلى أن خرج الطلاب من القاعة وما أن التقت عيناه بعيني الدكتور العجوز حتى أشاح بوجهه عنه في حرج إلى حيث الطلاب، ولقد هاله هذا العدد الهائل منهم ، هو لا يشعر بقدرته على الاعتياد على ذلك ومن بين هذه الجموع لمح شخص ما أن رآه حتى ارتفعت سعادته إلى أقصاها وأخذ يصيح ويلوح في سرور:
_جمال ...جماااال..

وما أن رآه جمال حتى هتف هو الآخر بسعادة لا تقل عنه :
_يا إلهي.. مصعب .. كم اشتقتُ أليك يا صديقي...

عناق طويل وحار تبادلاه قبل أن ينظر جمال إلى هيئة مصعب قائلاً بانبهار:
_مصعب لقد زدت وسامة في هذا الزى.

خلل مصعب شعره بأصابعه و قال باسماً:
_ حقاً ! ..  وماذا لو عقدت صلحاً يا جمال مع المشط فإني لا أظن أني سأعد شيئاً إلى جانبك.

أجابه جمال ضاحكاً:
_أنت تبالغ .. المهم أخبرني الآن .. لماذا لم تحضر المحاضرة ؟! 

مط مصعب شفتيه وقال في أسى:
_لقد طردت.

حدق فيه جمال بصدمة :
_لا تقل لي أنك ذلك الفتى الذي وصف الدكتور بـ...

قاطعه مصعب :
_بل هو أنا.

وضع جمال كفيه على رأسه بشكل مُبالغ وقال بذعر:
_يالك من تعس ...
ثم أقترب من مصعب وقال في جذل:
_من الجيد أني كُنتُ بالمقاعد الأخيرة وإلا لو علمت أنه أنت لوقعت في إحدى حماقاتي ولرأى جميع الطلاب ماذا قد يفعل جمال من أجل مصعب.

أبتسم مصعب لقوله الذي خفف عنه بعضاً من انزعاجه ثم قال في جديه:
_يبدو عليك التعب متى وصلت للعاصمة؟

أجابه جمال وهو يفرك عينيه التي بدا عليها أنها لم تذق طعماً للنوم منذ أيام:
_لن تُصدق ...لقد وصلت قبل بدأ المحاضرة بساعة فحسب وأردتُ النوم ولكن هيثم ..

تلعثم واتسعت عيناه عند هذا الحد ليصيح بذعر شديد:
_هيثم .. يا إلهي .. لقد فقدته بين الزحام.

سأله مصعب في دهشة بالغه:
_يا إلهي..لم يمضي على المحاضرة سوى ساعتان !!كيف استطعت أن تعقد صداقة بهذه السرعة!

أجابه جمال وهو يغوص وسط الزحام للبحث عن هيثم :
_إنه ابن خالتي.

لم يمضي وقت طويل حتى عاد جمال وهو يجر فتى في يده, لم يكن هذا الفتى شبيه بجمال بل كان أقصر منه قامة بشكل كبير ، تميل بشرته للاسمرار، مرتدياً نظارة طبية أنيقة، و أكثر ما يميزه شعره الناعم والمقصوص بدقه والذي ينم عن ذوق رفيع وملابسه مرتبه بإتقان على عكس جمال الذي كان في طول مصعب تماماً لديه شعر حالك السواد وبشرة متوسطة البياض , وأكثر ما ميزه وسع عينيه, ولم يكن يهتم بشكله كثيراً فهناك عدة أزرار من قميصه لم تقفل وأكمامه مطوية إلى مرفقيه بل أنه لا يعرف المشط إلا في المناسبات حين يجبره والده على ذلك.

أما مصعب فكان يتميز بذلك الشعر البني الناعم الذي فاقهم طولاً ولكنه لم يكن بنعومة شعر هيثم وبشرة بيضاء نقية _ وكان أكثر ما يغيظه هو ضيق عينيه الذي أتاح لجمال السخرية منه في بعض الأوقات.

" المُدلل ؟! " تحركت بها شفتي مصعب لتلتقطها عينا جمال خفيه فتحركت شفتيه بابتسامة حزينة تنم عن تورطه مع ابن خالته وقبل أن يضحك مصعب كان قد دفع جمال جسد هيثم نحوه ..

مد مصعب يده لهيثم مصافحاً له وابتسامه عذبه تزين شفتيه:
_سررت بالتعرف عليك يا هيثم ..

بادله هيثم نفس الابتسامة وهو يقول بسرور بدا في نبرات صوته:
_كم يسعدني التعرف عليك .. أتعلم طوال المحاضرة لم يتحدث جمال إلا عنك .. لقد ظل طوال الوقت يتساءل أن كنت قد وصلت أم لم تصل ! .. حتى أني رغبت بشده بالتعرف عليك.

تلاشت ابتسامة مصعب فيما تابع هيثم ثرثرته :
_ هو حتى أخبرني عن بعض من ماضيكما وطفولتكما و ..

لم يلحظ هيثم اشتداد أصابع قبضة مصعب ونبرة سؤاله المتوتره المقاطعه له " بماذا أخبرك عن ماضيَّ ؟! "

ردّ هيثم بسرعة:
_لقد قال الكثير..لقد أخبرني أنك أول صديق بالنسبة له .. كما أنه أخبرني كيف التقيتما وعن بعض شقاواتكما..وكيف كنتما تأخذان بيض جارتكم العجوز وتستبدلوه بالحجارة و...

واصل هيثم حديثه فيما بدا الارتياح يعود إلى تقاسيم وجه مصعب وهو يستمع أليه.

قطع عليهما حديثهما همهمة غاضبة من جمال فالتفتا نحوه ليجداه يضغط بكلتا كفيه على بطنه هاتفاً بتململ :

_هيثم أن واصلت رواية قصة حياتك هذه فلن تنتهي إلا وقد متُ من الجوع.

أشار هيثم إلى مطعم الجامعة قائلاً بأسف:
_أنا أسف يا جمال لقد نسيت أنك جائع ...هيا سأدلكما على مطعم الجامعة.

تقدمهما هيثم بسيره ليلحقا به ولم يكد يُحاذي جمال مصعب حتى قال مُعاتباً :

_أظننتَ أني قد أقول له!!

تطلع أليه مصعب بدهشة ، مستنكراً ، أكان ارتباكه واضحاً الى حد انتباه جمال لذلك ! ، وكأن جمال قرأ التساؤل في عينيه ليقول :
_ما كان ليخفى عليّ ذلك.

وعندها أخفض مصعب عينيه للأرض وقال بخجل:
_أنا أسف .. لا أعلم كيف تبادر ذلك الخاطر إلى عقلي.

_هل أخلفتُ لك وعداً من قبل ليتبادر ذلك إلى ذهنك.

تأنيبه زاد من ارتباك مصعب ليقول في ندم:
_جمال لقد اعتذرتُ لك ...

نظر أليه جمال بضع ثوانٌ ثم قال :
_حسنا سأسامحك هذه المرة.. ولكن لا تكررها .. هيا أسرع لنلحق بهيثم.

اتجها في خطوات سريعة إلى المطعم وغابا داخله وسط زحام شديد..
وخانق..

¤¤¤¤¤¤¤

أنهى جمال التهام شطيرته الأولى لينتقل للثانية بنهم شديد وهو يسأل مصعب باهتمام :

- أين تسكن ؟!

  - في سكن الجامعة .

لم يكن قد أنهى مصعب جملته بعد حين ارتفع صوت سقوط الشطيرة من بين كفي جمال ووجهه يعكس صدمته وبذهول ردد :
  - سكن الجامعة ! .. كيس النقود يسكن في سكن الجامعة .

هز مصعب كتفيه في لامبالاة وقال بتهكم:
_وأين كنت تظن أنني سأسكن !!

اختطف شطيرته الساقطة وهو يجيبه بجديه:
_في فندق .. شقة فاخرة .

أبتسم مصعب ابتسامة خفيفة وتمتم بهدوء:
_أنت تعلم أني لا أُحب التبذير بالمال .. ثم أن عليّ أن أفي بوعدي لوالدي بأن أكون كباقي الناس ..

ثم مال نحو جمال وهو يقول بلهجة ساخرة:
_ولكن أين يسكن الأشعث ! .. أنا أُشفق عليك حقاً .. سيكون الجو بارداً بالخارج.

نظر أليه جمال ببرود مستفز وقال:
_للأسف لم تمنح الفرصة للشفقة علي ..أنا أسكن الآن بسكن الجامعة بل وفي الطابق الأول أيضاً.

حدق فيه مصعب بضع لحظات قبل أن يقول بصوت ملؤه الدهشة:
_ أنت تمزح .. لقد أخذت أنا أخر غرفه بالسكن ... وبالطابق الثالث أيضا ..فكيف استطعت أنت...

قاطعة جمال مبدداً حيرته:
_لقد حجز هيثم حجرة لي وله قبل أن أصل للجامعة ..

اتسعت عينا مصعب تفاجؤاً وراح يسأل هيثم بتعجب :
_ كيف قبل مسؤول السكن ذلك ؟ .. لقد بذلتُ جهدا مضنيا ليوافق على بقاء جمال معي بنفس حجرتي ولكنه رفض لأنه لم يصل للسكن بعد .

اتسعت ابتسامة هيثم " لأننا أقرباء لذا وافق . "

طيف من الكدر بدا بوجه مصعب وهو يوجه حديثه لجمال :
_أنا سعيد بكونك معي بنفس السكن .. ولكن .. كم تمنيتُ أن نكون معاً بحجرة واحدة.

ثم التفت في تساؤل لهيثم:
_هل يسمحون ببقاء ثلاثة في حجرة واحدة!

صاح هيثم بذعر:
_بل ستقتلك الحافلة إذا ما فكرت في طرح الأمر عليه.

حدقا به كل من جمال ومصعب بعجب بالغ ورددا معاً :
_الحافلة!!

تلعثم هيثم ثوانٌ قبل أن يجيبهما:
_يا إلهي..ألم أخبركما .. أن المشرف على السكن شخص ضخم الجثة فض التعامل لا يسمح بمخالفة النظام ولو لدقيقة واحدة...لذا أطلق عليه الطلاب الحافلة لضخامته ولقد راق له هذا اللقب كثيراً لما له من صدى مفزع في نفوس الطلبة وخاصة الجدد .. أنصحك يا مصعب أن لا تفكر في الأمر بعد الآن.

حول مصعب نظرة باتجاه جمال الذي شعر بالشفقة تخالط قلبه نحوه فربت على كفه قائلاً:
_لا تهتم يا مصعب .. يمكنك قضاء أغلب الوقت معنا وعند وقت النوم يمكنك الرجوع لحجرتك.

أومأ مصعب برأسه موافقاً ثم قال بضيق :
_ الفتى الذي بغرفتي لا أظن أني سأتفق معه ، لقد تعامل معي بفظاظة.
ثم حكا لهما ما حدث له مع ذلك الفتى.

عقد جمال حاجبيه مفكراً بعض الوقت قبل أن يقول بهدوء:
_لا تدعنا نستعجل الأمور .. ستكشف لنا الأيام أي نوع من الفتيان هو .. ثم أنه مجرد موقف واحد وصغير لذا لا يمكنك الحكم من خلاله.

أيده مصعب على الفور:
_ أنت محق .
ثم استدار نحو هيثم سائلاً بانبهار :
_أنت تعرف الكثير عن الجامعة !

أجابه هيثم بفخر:
_لقد كان يخبرني عنها فتيان مدينتي العائدون منها .. إضافة إلى أني زرتها مرة مع الطلاب المتفوقين في مدرستي كمكافئة لنا على تفوقنا.

لم يهتم جمال بسماع حديثهما وهو ينهض عن مقعدة متجاهلاً لهما وهو يهتف في تخاذل:
_أعتذر .. أنا على موعد الآن مع شيء عزيز على قلبي وأن أخلفت موعدي معه فأظن أني سأسقط هنا مغشياً علي .

رمى عبارته وغادر في خطاً مترنحة ليسأل هيثم مصعب في قلق :
_يا إلهي ..ما هذا الشيء ؟!

وقف مصعب وقال ساخراً :
_السرير...

أبتسم هيثم ابتسامة مغتاظه قائلاً :
_ لقد أرعبني ..
واستدرك بعجلة " ولكن أظن أن علينا اللحاق به. "

أومأ مصعب موافقاً و أسرعا اللحاق به إلى سكن الجامعة فهما أيضاً بحاجة لأخذ قسط من الراحة والنوم .
¤¤¤¤¤¤¤¤

  - ١٢ والنصف مساءاً -

دلف مصعب إلى حجرته بأنفاس متقطعة بعد صعوده الدرج إلى الطابق الثالث,اتجه إلى سريره وعينيه تختلس النظر إلى الفتى النائم ليجده مازال كما هو بملابسه وحذائه فخطرت لمصعب عند ذلك فكرة فقرر تنفيذها في الحال.

أتجه لحقيبة ذلك الفتى المرمية و قرأ ورقة السفر الصغيرة المعلقة بها:
_عامر عاصم .. أذن فهذا هو أسم رفيقك في الحجرة يا مصعب..

أختلس نظرة أخرى لعامر وقال بمرارة:
_ياله من حظ .. أظن أنني سأقتل نفسي ندماً أني لم أسكن بالفندق.

استلقى على سريره وشعر بالخدر يسري في جسده وهو مسترسل بأفكاره:
_هل سأحتمل وجود عامر معي بنفس الغرفة...أظن أننا لن نتفق أبداً ... أنه يبدو عصبي المزاج بل وعنيد أيضا...أظن أنه لن ينتهي الأمر إلا وقد أذى أحدنا الآخر ..

أطلق ضحكه قصيرة خافته بعد فكرة غريبه قفزت لرأسه وقال متهكماً:
_لا .. ليس إلى درجة القتل .. أين ذهبت بك أفكارك يا مصعب !.. رغم احترامي الشديد لذكائك إلا أني أظنك تبالغ.

استدار عندها على شقه الأيمن طارداً أفكاره المتشائمة وبدأ في قول أذكار النوم قبل أن يسقط في سبات عميق.

¤¤¤¤¤¤¤¤

_ الخامسة عصراً -

الخطأ الواحد قد يفوّت ولكن أن يتكرر ذلك فذلك ليس بخطأ بل هو مُتعمد وللمرة الثانية يجد مصعب نفسه يستيقظ من نومه مفزوعاً أثر ضجة شديدة سارعت من نبضات قلبه ..

فتح عينيه الناعسه لتسقط على مصدر الضجيج .. عامر مجدداً ولكن هذة المره كان الصوت ناجم عن أغلاقه للباب بقوة ... هو لا يأبه به أبداً ..

رمقه مصعب بنظرة حانقة ورفع ذراعه لينظر لساعته ليُصعق تماماً فهي تشير إلى الخامسة عصراً فصاح في عصبية:
_عامر لماذا لم توقظني لصلاة العصر!؟

نظر أليه عامر بغيظ مشوب بدهشة من مناداته له باسمه قبل أن يقول في حده:
_ أنتَ .. ألا ترى أنك تُكثر الكلام.. ثم ما شأني بك صليت أم لا ؟

نهض مصعب عن سريره صائحاً في جرأة بالغه:
_ألست مسلم ؟! .. ألا تعلم أن أحد ركائز ديننا هي الأمر بالمعروف أم أنك لم تسمع بذلك طوال حياتك !

أقترب منه عامر, وقال بصرامة:
_اسمع أيها الفتى .. أنا لست في حاجة إلى سماع محاضرتك هذه .. وإن خاطبتني مرة أخرى فلن تسلم أبداً .

عقد مصعب ساعديه أمام صدره, وقال بتحدٍ سافر:
_ أنت حر بأذنيك أمنعها أن تسمع ما أقول .. أما لساني فهو ملكي ولن يمكنك منعه من قول ما يريد.

التقت عيناهما ببريق تحدً شديد يعلن عن قرب وقوع عراك بأيدٍ عارية لا يحتاج إلى أكثر من شرارة صغيرة ليشتعل، جعل ذلك مصعب يصدق ما قادته أليه أفكاره قبل النوم.

تقدم عامر بضع خطوات أخرى من مصعب, ولكنه لم يلبث أن استدار للخلف ونزع سترته ورمى بنفسه على السرير وكأن شيئاً لم يحدث.

بقي مصعب لثوانٌ مشدوهاً يعتصر عقله ليجد تفسيراً واحداً لتصرفه ولكن حين تذكر الصلاة أنتزع نفسه من تفكيره وذهب ليؤديها ثم اتجه بعدها للسوق
لشراء ما ينقص حجرته.
¤¤¤¤¤¤¤

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top