وداعاً أبي " ٢٤ "
تطلع مصعب لذا الغروب الأحمر الجميل الذي زين السماء فوق الشاطيء ثم انتبه بغته إلى شخص غريب كان يقترب منهم, وقال بدهشة:
_أبي لم أرى أحد يبيع الصحف من قبل على شاطئ البحر.
أعتدل والده جالساً, وأجابه باستغراب هو الآخر:
_هذا صحيح...ولكن قد يكون انقطاعنا فترة طويلة عن زيارة البحر قد حدث فيه الكثير من التغيير.
أبتسم مصعب ابتسامة عذبه قال بعدها:
_أبي أظنك سئمت من الجلوس هنا ومراقبتنا...هل أحضر لك واحدة تتسلى بقراءتها.
أبتسم والده بدوره, وقال بحب:
_أنا أسئم منكم...أنتم أغلى ما عندي وابتسامتكم وسعادتكم هي سعادة لي أيضاً.
ثم مالبث إن استدرك:
_ولكن لا بأس أحضر اثنتين لي ولك.
نهض مصعب واتجه في خطىٍ هادئة نحو ذلك الرجل الذي أصبح قريباً منهم جداً.
تفحص عبدالله بعينيه ذلك الرجل الغريب, وعقله يفكر ببطء، حقاً إنه لمن العجيب أن يبيع أحدهم الصحف على الشاطئ بل أن ملابسه لا تدل على حاجته للمال إلى هذا الحد.. أنه أنيق ويلبس نظارات شمسية أيضاً.. أمره عجيب ،ثم ركز عبدالله نظره على الصحيفة التي كان يحملها ذلك الرجل.. إن بها انبعاجاً خفيفاً كما لو كان يخفي شيئاً تحتها قد يكون ماسورة...
صاح عبدالله فجأة في ذعر:
_ماسورة مسدس.
هرع عبدالله بكل سرعته ليعترض الطريق بين ولده والغريب الذي أخرج في نفس اللحظة مسدسه, وأطلق منه عدة طلقات اصطدمت بجسد عبدالله الذي حال بينها وبين ولده مصعب ثم لاذ ذلك الغريب بالفرار قبل أن يلحق به أحد المارة.
أسرع مصعب إلى والده, وهو يصرخ في ارتياع:
_أبي...أبي...أبي.
سقط مصعب على ركبتيه بجانب جسد والده المرمي, ورفع رأسه نحوه صائحاً في ذعر:
_أبي ..أجبني ..أرجوك ..أبي.
فتح والده عينيه بصعوبة, والدم يغطي كل قميصه , و راح يجاهد ليخرج عدة كلمات:
_مصعب ...حبيبي...أنت بخير.
صرخ مصعب في مرارة:
_أنا بخير.. أنظر...ولكن أنت تنزف.
أجابه والده بضعف:
_الحمد لله.
ثم احتضن بغتة ولده مصعب بيدين واهنتين, وقال بصوت خافت:
_مصعب.. لا أظن أني سأعيش.
صرخ مصعب في فزع:
_أبي أرجوك لا تقل ذلك...أنت تُفزعني ...
تابع والده غير آبه بصراخه:
_بني أسمع نصيحتي ..كن كما عرفتك دائماً ..لا تتأخر عن الصلاة...لا تبذر بالمال .. كن كباقي الناس...أعتني بأخيك معاذ..
هز مصعب رأسه في جنون فوق كتف والده:
_لا تقل ذلك.. ستعيش وترى ذلك بعينيك.
أكمل والده متجاهلاً كلماته:
_أكمل دراستك...كن فتىً صالح ...أبتعد عن المعاصي.. ولا تنسى الدعاء لي ولوالدتك...هيا عدني.
تفجرت الدموع من عيني مصعب, وانهالت على كتف والده بغزارة, وهو يصيح بانهيار:
_لن أعدك...لن أعدك.. سترى ذلك بنفسك.
زاد والده من تشبثه به, وهو يقول بإلحاح:
_عدني.. أرجوك.. عدني.
أجابه مصعب رغماً عنه وسط بكائه:
_أعدك.. أعدك.
أفلته والده عند ذلك, وعاد للخلف, فأسنده مصعب بذراعه وركبتيه, وهو يقول بصوت باكي, وعيناه مركزة على وجهه :
_أبي.. لا تقلق.. ستصل سيارة الإسعاف بعد دقائق.
أبتسم عبدالله ابتسامة شاحبة وهو يهتف بخفوت:
_مصعب كم أحبك وأحب معاذ وأحب أيضاً جمال ..أنتم أخوة ..كوو...نوا...معاً.
صرخ مصعب في انهيار وصدمة, بعد أن بدأت الدماء تتدفق من شفتي والده بغزارة, وهو يتمتم في تهالك:
_أشهد.. أن.. لا إله إلا الله.. وأشهد..أن..محمد رسول الله.
شخصت عيني والده, وسكن جسده دفعة واحده, وبدا بارداً للغاية....توقفت الدموع في عيني مصعب, وهي لا تفارق وجه والده الشاحب، رفع يده للأعلى ثم أفلتها فسقطت في الحال ،دفع جسد والده بعيداً عنه فسقط على رمال الشاطئ ساكناً كحبات الرمال التي تحيط به.
بدا مصعب جامد الملامح شارد النظرات, وهو يهمس بلا وعي:
_مات.. مات.. أبي مات.
شعر بالظلام يحيط به من كل جانب, ورأى جسد والده يهتز أمامه بقوة, قبل أن ينهار على جسد والده ساكناً فاقداً للوعي .
¤¤¤¤¤¤¤¤
قاد جمال القارب في تلذذ عجيب, حتى أنه نسي معاذ_ الذي كان يجلس خلفه_ وعيناه ترقبان لحظات غروب الشمس الرائعة.
صاح معاذ بغته في غيظ:
_متى أقود!
أفلت جمال المقود في ذعر, وأمسك صدره الذي تزايدت نبضاته, وهو يصرخ:
_معاذ لقد أفزعتني...لقد نسيت أنك معي.
صرخ معاذ في استياء:
_كيف نسيتني وأنا معك!
أجابه جمال في حيرة:
_لا أعلم حقاً كيف نسيتك...
عاد معاذ يقول في حنق:
_كيف سأكون بطلاً وأنا لا أقود مثلك.
استدار جمال نحوه, وقال بلطف:
_معاذ هذا قارب حقيقي وليس لعبة.
احتقن وجه معاذ, وصاح غاضباً:
_كلا... أريد أن أفعل ما تفعله.
همس جمال داخل نفسه في تذمر:
_قبحك الله يا شاهر .. ألم يكن من الأفضل أن تختطف عمي عبدالله.
عاد جمال يقول في رفق:
_معاذ.. أنا كنت متهوراً عندما فعلتُ ذلك.. فلا تُقلدني .
شدّد جمال على كلمته الأخيرة, ولكن فجأة أجهش معاذ بالبكاء صارخاً وسط دموعه:
_لم تكن متهوراً...دعني أقُد معك هيا.
وضع جمال كفه على جبهته صائحاً في مرارة:
_ليتك اختطفتني أنا يا شاهر.
ثم مالبث أن استدار نحو معاذ بإشفاق, وقال في أسف:
_لا بأس يا معاذ...تعال معي...لنكون معاً أنا و أنت جمـــــــال البطــــــل.
وثب معاذ واقفاً, وأسرع نحو جمال, ولم يكد يفعل ذلك حتى دوى بغتة صوت طلقة نارية أصمّت آذانهم ....فصرخ جمال في جدية تامة:
_معاذ أنبطح على أرضية القارب.
أطاعه معاذ على الفور, بينما راح جمال يتلفت في حدة يمنة ويسرة باحثاً عن مصدر هذه الطلقة, فرأى شخصاً قريباً منه يركب دباباً مائياً مشهراً مسدسه نحوهما من الجهة اليمنى للقارب.
وبمجرد رؤيته له أدرك هدفهم بل وأدرك أن شاهر وراء أرسالهم.. وعندها همس جمال في غيظ:
_سأجعلك تندم أيها الوغد.
أنحرف جمال بقاربه نحو اليمين في حركة حادة وخطيرة باغت بجرأتها ذلك الشخص الذي أربكته تلك الحركة, فاصطدم القارب بدبابه المائي بقوة ورماه لأمتار بعيدة قبل أن يغوص مع راكبه إلى قاع البحر.
صاح جمال ساخراً:
_أوصل تحياتي لأسماك البحر الجائعة.
ما كاد جمال ينطق عبارته تلك حتى شعر بعمود من النار يخترق ذراعه, فأفلت المقود رغماً عنه, وأمسك يده في ألم, ولكن ما أن لمحت عيناه جابر الذي أطلق عليه من جهة اليسار, حتى عاد ليتشبث بمقود القارب بعد ثوانٍ من تركه له...
أنحرف جمال بقاربه نحو جابر متناسياً ألمه ليكرر ما فعله مع رفيقه, ولكن جابر أطلق النار عليه بغزارة بعد أن فهم ما يرمي أليه.
أخذ جمال يلتفت يميناً ويساراً بارتباك شديد, وعقله يعمل بسرعة للبحث عن مخرج, وشعر بسعادة كبيرة عندما رأى مفتاح الصلب الذي يستقر في قاع القارب, فصرخ في عجله:
_معاذ ناولني هذا المفتاح.
ألتقط معاذ مفتاح الصلب الثقيل, ورمى به لجمال الذي ألتقطه بخفة, وصوبه بدقة نحو رأس جابر ثم رمى به بكل قوته، أصطدم مفتاح الصلب برأس جابر, وبالتحديد بعينه اليسرى فانقلب مع دبابه ليغوصان معاً داخل البحر.
وثب معاذ واقفاً, وهو يصيح في جذل:
_جمال أنت بطل لقد قضيت عليهم.
صاح جمال به في هلع:
_معاذ لا تقف..لا زال هناك واحــد.
ولكن كلمته جاءت بعد فوات الأوان، بعد أن أطلق الشخص الثالث على محرك القارب الذي أرتج بعنف ثوانً قليلة, قبل أن يتوقف عن العمل تماماً, ومع ارتجاجاته تلك فقد معاذ الذي كان يقف توازنه وارتمى بعنف في البحر.
مد جمال يده السليمة لمعاذ صائحاً في فزع:
_معاذ أمسك بيدي..
ضرب معاذ سطح البحر بيديه الصغيرتين في ضعف, ولكنه ما لبث أن أدرك أنه يستطيع السباحة, فسبح باتجاه الشاطئ البعيد صائحاً في جنون:
_أبي ..النجدة ..مصعب ..النجدة..
جدّف جمال بيده السليمة نحوه في إصرار شديد كي يلتقطه, ولكنه شعر فجأة بعمود من النار يخترق ظهره, وبدأت الرؤية تهتز أمام عينيه, والظلام يهبط تدريجياً فسقط فاقداً للوعي, بينما أخذت الأمواج تضرب بهدوء جوانب قاربه معلنة انتهاء تلك المهمة.
¤¤¤¤¤¤¤¤
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top