ذكرى من الماضي " ٢٢ "
طرقات قوية تلك التي ضربت باب منزل جمال في صباح اليوم التالي، فتح جمال باب المنزل ببطء, و بوغت فجأة بمصعب الذي راح يعانقه في حرارة, وهو يصيح في سعادة:
_لقد نجوت يا جمال لقد نجوت.
كاد جمال يسقط على الأرض, وهو يحتمل ثقله بصعوبة بالغة, فقال بسرعة:
_مصعب أكادُ أقع...
أبتعد عنه مصعب في خجل, ثم مالبث أن لوح بذراعيه بشكل مسرحي, وهو يقول بصوت لاهث:
_جمال لقد...
جذبه جمال من يده إلى داخل المنزل, وهو يقاطعه:
_أنت تحتاج إلى وقت طويل لتلتقط أنفاسك.
جلس مصعب على أحد المقاعد, ومكث لحظة يلتقط فيها أنفاسه, قبل أن يقول لجمال المحدق به:
_البارحه.. بعد رحيلك من منزلنا ..لقد أبلغ أحدهم الشرطة فداهمت مزرعة شاهر ووجدوا أيمن ورفاقه يتعاطون فألقوا القبض عليهم ثم اتجهوا إلى منزل شاهر ليقوموا بتفتيشه ولكنهم وجدوه قد احترق فاتهموه بإحراق منزله لكي يخفي البضاعة ولقد سمعت جابر يقول إنه لحسن الحظ أن المنزل قد احترق وإلا لاكتشفوا البضاعة وقبضوا عليهم ولقد قرر شاهر الانتقال إلى العاصمة بعد سجن أيمن.
ظل جمال وقت ليس بقصير واجماً لا يكاد يصدق ما قاله مصعب, إلا أنه انتشل نفسه من ذلك الوجوم, وأخذ يدور في حجرته صائحاً في سعادة بالغة:
_الحمد لله...الحمد لله.
قطع دورانه بأن استدار نحو مصعب, وقال نادماً:
_لقد كنت متهوراً بحق لو لم أحرق المنزل لقبضوا على شاهر أيضاً.
أشار مصعب بسبابته نحوه, وقال ناصحاً:
_لا تقل ( لو ) إنها تفتح عمل الشيطان ...هيا استغفر.
قال جمال على الفور:
_أستغفر الله...أستغفر الله..
ثم تابع في سرور:
_لم أستطع النوم البارحة لقد كنت قلقاً جداً.
أجابه مصعب بهدوء:
_وأنا أيضاً لقد ظللت طوال ليلة البارحة أدعو لك.
تطلع أليه جمال بضع لحظات قبل أن يقول في امتنان:
_أنت أخ مخلص يا مصعب.
أجابه مصعب:
_وأنت أيضاً.
شد انتباههم مرام أخت جمال ذات الأربع سنوات, والتي كانت تقف عند باب الحجرة محدقة النظر بمصعب، أشار لها مصعب بيده لتأتي, وهو يقول في جذل:
_تعالي يا مرام...سأُجن لو إنك ظننتي للحظة واحدة أني نسيتك.
أخرج من تحت سترته كيس مليء بالحلوى, وناوله لها فاختطفته في سعادة, وأخذت تجري وهي تصيح بصوتها الصغير:
_أمي مصعب أحضر لي حلوى كثيرة.
ضحك جمال عليها قبل أن يقول ساخراً:
_ستقتلع أمي أسناني أنا لو حدث لأسنانها شيء...لقد قلت لك كف عن ذلك ولكنك لم تستجب... لذلك سأقتلع أنا أسنانك بدوري.
أطلق مصعب ضحكة قصيرة قطعها بقوله في جدية تامة:
_جمال ستقام محاكمة أيمن بعد أسبوعين وسأشهد عليه أنه كان مروجاً لقد رأيته بعيني يعطيك .
قال جمال في لهفه:
_وأنا أيضاً سأشهد ضده.
قال مصعب محذراً:
_كلا لا يمكنك ذلك...إن أبي يقول إنه يمكنني أنا فقط لأنه يستطيع حمايتي .
عض جمال شفته السفلى في غيظ, ولكنه مالبث أن هتف:
_مصعب خذني معك ..أريد رؤية أيمن في الحجز...هيا عدني.
قال مصعب في مرح:
_أعدك...
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤
ذرع شاهر حجرته في توتر شديد, في ذلك القصر الكبير الذي يملكه في العاصمة, قبل أن يستدير بحدة نحو جابر, قائلاً بلهجة غاضبه:
_قلت شاهد واحد فقط.
أجابه جابر باختصار:
_بالضبط.
ثم استطرد بهدوء:
_مصعب عبدالله.
ضرب شاهر بقبضتيه سطح مكتبه, صائحاً في مقت:
_كم أبغض عبدالله هذا ..لن يجرؤ أحد على فعل ذلك غيره ...لقد كدت أقتل ولده الصغير ذاك...ولكنه أرسل أحد شياطينه وانتزعه من بين يدي...ومادام مصراً على دس أنفه في شؤوني فسأقتل ولده الكبير ذاك.
التفت في شراسة إلى جابر:
_أقتل مصعب ..لن أسمح بأن يشهد أحدهم ضد ولدي أيمن أبداً.
أجابه جابر ببرود مستفز:
_ولكن حراسه أقوياء ولا يكادون يفارقونه لحظة واحده.
صاح شاهر في غيظ, وهو يجذبه من سترته:
_أقتله أيها الحقير...أنا أدفع لكم أموالاً ضخمة لكي تنفذوا ما أريده مهما كان مستحيلاً وليس لأحتفظ بكم كحيوانات أغذيها وأستمتع بالنظر أليها فحسب.
تخلص جابر من يدي شاهر بصعوبة, وقال بعد أن أزدرد لعابه بخوف:
_حسناً أعدك أني سأتدبر الأمر...سأقتله مهما كان الثمن.
¤¤¤¤¤¤¤¤
لكز مصعب بمرفقه جمال الذي كان يبدو شارد الذهن تماماً داخل الفصل, والمعلم مستغرق في الشرح..
استدار جمال نحوه بهدوء حتى لا يدركه المعلم, فبادر مصعب بسؤاله هامساً:
_تبدو شارد الذهن فيما تفكر!
أبتسم جمال, وقال هامساً هو الآخر:
_أتخيّل منظر أيمن في الحجز...سأحضر يا مصعب معي فُشار وسأقف أمامه قبل المحاكمة.. سأشعره كما لو أني في حديقة الحيوان أشاهد فيلاً برياً محتجزاً.
أطلق مصعب ضحكة خافته قطعها المعلم الذي قال بصرامة:
_مصعب أجب.
تردد مصعب بضع لحظات قبل أن يقف ويقول متلعثماً:
_قانون...نيوتن ..الجاذبية ..آ آ....
قاطعه المعلم:
_لقد تجاوزنا هذا الدرس منذ ثلاثة أيام.
طأطأ مصعب رأسه في خجل, وضحكات الطلبة ترن في أذنيه, فقال المعلم بحزم:
_ثم إني لم أعني أن تُجيبني أنا بل المدير.. ألم ترى ذلك الفتى الذي جاء منذ قليل يقول أن المدير يستدعيك.؟!
هز مصعب رأسه نافياً, فقال المعلم مهدداً:
_هيا أذهب...وبعد عودتك سيكون حسابك عسيراً ..يبدو أن عدوى الشرود قد انتقلت أليك من جمال.
غادر مصعب مقعده, وما كاد يفعل ذلك, حتى أمسك جمال بيده, وسأله بلهفه:
_ما الشيء السيئ الذي فعلته ليستدعيك المدير؟
أجابه مصعب, وقد اكتسى القلق ملامحه:
_لم أفعل شيئاً خاطئاً أبداً...ولكني...أشعر بالقلق لا أعلم لماذا.
غادر مصعب الفصل على الفور بعد عبارته تلك.
مرت عدة دقائق على مغادرة مصعب, شعر خلالها جمال بالقلق, وكلمات مصعب ترن في أذنيه:
_أشعر بالقلق...بالقلق...بالقلق...لا أعلم لماذا.
وقف جمال دون شعور قائلاً بهدوء:
_هل تسمح لي بالخروج لـدورة الميــ..
أومأ له المعلم موافقاً بسرعة حتى لا يقطع شرحه, فخرج جمال على الفور واتجه إلى حجرة مدير المدرسة ليزيل قلقه, وأثناء سيره حانت منه التفاته بسيطة إلى الساحة الخارجية المحيطة بمبنى المدرسة, فلاحظ خطاً عميقاً ممتداً في ترابها, وكأن شيئاً ثقيلاً جُر للخارج.
شعر بالفضول فاتجه للخارج ليرى سبب ذلك, وأُصيب بصدمة عنيفة عندما رأى رجلين أحدهما يحيط مصعب بيديه من الخلف مكبلاً حركته, وقد بدا الفزع بكل تفاصيله في عيني مصعب, والآخر في يده مسدس كاتم للصوت شاهراً له في وجهه, ولم يتبقى سوى ثواني قليله عن ضغطه لزناده.
حرك جمال عقله بسرعة فالتقط مباشرة حجر بحجم قبضة يده, وصوبه باتجاه الرجل الحامل للمسدس, ثم ألقى به نحوه بكل قوته.
جاءت الضربة مفاجئة لذلك الرجل الذي اصطدم الحجر برأسه بقوة ففجر دماء رأسه وأسقطه فاقداً للوعي على الفور.
بينما تعلق جمال برقبة الرجل الآخر من الخلف فأفلت مصعب مرغماً, و أعاد يده للخلف ليسحب جمال للأمام وبدأ العراك معه بأيدي عارية فتدخل مصعب لمساعدة جمال, وعندما شعر ذلك الرجل أن الكفة تميل نحوهما, فرّ هارباً على الفور إلى خارج المدرسة.
لحق به جمال, وهو يصيح بمصعب:
_أستدعي الحراس.
هرول مصعب إلى حراسه الذين كانوا ينتظرونه خارج المدرسة, وما أن رآهم حتى صاح بهم ليلحقوا بذلك الرجل.
قفز جمال فوق ذلك الرجل مسقطاً إياه, وفي نفس اللحظة وصل الحراس وقاموا بتقييده على الفور .
ساعد مصعب جمال على النهوض, وهو يقول في امتنان:
_شكراً لك يا جمال ...لقد كدت أجن من مسدسه المصوب إلى رأسي.
أجابه جمال بأنفاس متقطعة:
_فلتحمد الله...لقد استطعت أن تثير القلق داخلي قبل خروجك.
ثم استدار جمال نحوه قائلاً بحدة:
_مصعب لم يتبقى على المحاكمة سوى ثلاثة أيام فقط .. لا تخرج من المنزل أبداً حتى إلى المدرسة ...هل فهمت!
وافقه مصعب بإيماءة من رأسه قبل أن يغادر المدرسة على الفور مع حراسه.
¤¤¤¤¤¤¤¤¤
أستطاع مصعب حضور الجلسة, وقُبلت شهادته على أيمن فزُجّ به في السجن.....
بينما لم يتخلى عبدالله عن الحراس أبداً طوال شهر كامل بعد تلك الجلسة, ليتأكد أن ولديه لن يتعرضا لخطر حتى بعد الشهادة.
¤¤¤¤¤¤¤
وضع شاهر كفيه على رأسه المحني على مكتبه, وراح ينوح في مرارة:
_ولدي الحبيب أيمن...لقد حرموني منك...ولدي الوحيد حرموني منه أمام عيناي.
أجهش شاهر بالبكاء أمام عيني جابر الذي لم يطرف له رمش, ولم يمضي وقت طويل على هذا الحال حتى نهض شاهر بغتة, وقد توقفت دموعه في عينيه صائحاً بكل ما اعتمل داخله من غضب وقهر وحنق:
_يجب أن أحرمك يا عبدالله من ولديك كما حرمتني من ولدي.. سأجعلك تذوق أضعاف الألم الذي أذقتني إياه.
استدار شاهر نحو جابر, وقال في صرامة:
_أقتلوا مصعب ومعاذ...أقتلوهم ولو بقيتم سنة كاملة تبحثون عن فرصة مناسبة لقتلهم ..المهم أن يُقتلوا وأذيق عبدالله شعور الثكلى.
شد جابر قامته, وقال في شراسة مخيفه:
_أعدك أن نفعل ما بوسعنا .... سأجعله يندم ألف مرة على سماحه لولده بالشهادة ضد أيمن.
¤¤¤¤¤¤¤¤¤
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top