ذكرى من الماضي " ١٩ "
" منذ ثلاثة أيام. "
قال أيمن عبارته السابقه بضيق فصاح جابر في انبهار :
_لم يعد منذ ثلاثة أيام بمجرد أن قلت له أن يُحضر مصعب.
أومأ أيمن برأسه علامة الإيجاب قبل أن يقول في انفعال:
_سيعود لن يحتمل أكثر من ذلك..
عاد جابر لتنظيف سلاحه قائلاً بإعجاب:
_أنه فتىً قوي بحق..لن تجد من يستطيع أن يحتمل ساعات وهو أحتمل أكثر منها...أنه أصلب مما تصورت.
ذرع أيمن الحجرة في توتر شديد, وعقله لا يكاد يكف عن التفكير, إلا أنه استدار بغتة نحو جابر سائلاً في لهفه:
_أتظنه سيصمد أكثر.!
رمقه جابر بطرف عينه في استغراب, وهو يجيبه :
_لو صمد أسبوعاً كاملاً دون علاج ودون أن يأخذ جرعة واحدة فإنه سيموت لا محالة...ولذلك أظن أنه لن يحتمل أكثر من ذلك ولو أن صموده هذا يشعرني ببعض القلق..
ثم تطلع بضع لحظات لأيمن قال بعدها في شك:
_إنها المرة الأولى التي أراك فيها مهتماً جداً بانضمام شخص بعينه إلى زبائننا.
فرك أيمن كفيه بقوة, وقال بصوت ملأه بكل حقده ومقته:
_كم أكره مصعب هذا...أكرهه كما لو كان ليس لي عدواً في الحياة غيره...لن أنسى تعيّيّر والدي لي به...دائماً يقول لي إني عارٌ عليه مقارنة بمصعب...إنه متفوق في دراسته ..ذكي...الكل يحبه ..أصدقائه و المعلمين...حتى أنه تفوق علي بشكله أنه وسيم معتدل الجسد وأنا بدين قبيح.. يجب أن أحطمه وأحطم جسده وسمعته حتى يعرف والدي أن ولده أيمن أذكى من مصعب.
وضع جابر مسدسه, وقال ببرود:
_إذن لهذا استدرجت جمال للتعاطي...لقد كنت أظنك تريد منه الوصول لثروة مصعب لتزيد ثروة والدك فحسب وليست مسألة شخصية منبعها حقدك .
برقت عينا أيمن, وقال في مكر:
_إن مصعب ذكي لا يمكن خداعه فلم يكن أمامي إلا أن أستدرج صديقه جمال.. ذاك المتهور...وحدث ما توقعته...سأقتل مصعب بالمخدرات وأقتل معه حقدي الذي لازمني طوال حياتي.
ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتي جابر وقال :
ــ إذن لم يكن جمال سوى ممر عبورك لمصعب...ياله من ساذجً غبي.
ارتسمت ابتسامة خبيثة مماثلة على شفتي أيمن وهو يجيبه:
ـ يستحق ذلك ..عليه أن يدفع ثمن صداقته لشخص مثل مصعب...فمنذ مرحلتنا الابتدائية لم تتح لي الفرصة يوما ما أن أؤذي مصعب أو أتنمر عليه بسبب وجوده الى جواره.
هز جابر كتفيه قائلا بجدية:
ـ لم أعد أعلم حقا.. هل أعتبر بما فعلته بجمال أن جمال ضحية لصداقته بمصعب؟ ..أم سيكون مصعب ضحية لصداقته بجمال إذا ما تحقق ما تسعى أليه؟
كشر أيمن عن أسنانه قائلا بحقد:
ـ الأثنان معا.
واشتدت قبضته وتطلعت عينا ه للخارج مضيفا بشراسه:
ـ هذا ما أرجوه.
¤¤¤¤¤¤¤¤¤
- الساعة الثالثة فجراً -
أخذ جمال يتقلب على سريرة بألم محاولاً كتم أهات تجاهد في استماتة لتجاوز حلقه إلى خارجه حتى لا تجذب والديه فينكشف ما جاهد لإخفائه عنهم طوال أربعة أيام ونصف....غرس وجهه في الوسادة بقوة, والألم يزداد في كل ثانية أسوأ مما قبلها..
أسرع عقله يعقد مقارنة مخيفه
حياته...حياة مصعب
آلامه...ألام مصعب
هو يتألم لأنه لا يملك المال, أما مصعب فلن يتألم أبداً لأن جسده أذا ما احتاج فسيجد المال في الحال،
تكوم على نفسه بقوة ضاغطاً بشده على جسده الذي يكاد يتفجر من الألم وعقله يعمل،
مصعب لم يتركني للحظة واحده ...في الصف ، في المدرسة ، في الشارع...
ينصحني بالابتعاد عنهم ولكني لم أستجب له...والآن أسعى لإيقاعه في هذه السموم بخدعة حقيرة لكي أجد فقط ثمن ما يحتاجه جسدي.
أطلق صرخة خافته بعد محاولات عدة لوأدها, ولكنها كانت أقوى منه مع ما يصاحبها من ألم فظيع أشعره بأنه لن يعيش أكثر من لحظات ليلفظ فيها أنفاسه الأخيرة...
تردد في عقله كلمة أيمن (مصعب يملك المال...
المال..
المال...
المال....)
نهض جمال عن سريرة مترنحاً وقال في انهيار:
_مصعب أنا أسف.. لقد احتملت الكثير من أجلك...ولكني أكاد أموت من الألم.. أما أنت فتستطيع أن توفر ما تحتاجه بمال والدك.
ثم سار في خطوات متعثرة
إلى مزرعة شاهر.
¤¤¤¤¤¤¤¤
في اليوم التالي استدار مصعب نحو جمال الذي أخذ يصرخ باسمه عند خروجهم من الصف، توقف جمال بضع لحظات أستغلها في التقاط أنفاسه قبل أن يهمس:
_مصعب هل يمكنني الحديث معك!
اتسعت عينا مصعب, وزينت ابتسامة كبيرة شفتيه, وهو يقول:
_تستأذنني!!...منذ متى وأنا أتمنى هذه اللحظة...هيا قل يا جمال ما تريده أنا أسمعك.
أخذ جمال يلتفت يمنة ويسرة بحذر, همس بعدها:
_ليس هنا.
همس مصعب بدوره دون أن يدري لماذا:
_أين؟
أجابه جمال باختصار:
_في المقهى خارج المدرسة.
أطاعه مصعب على الفور, وهو يشعر أن الدنيا لا تكاد تسعه فرحة بتجاوب جمال معه، لابد أنه فكر في ترك تلك السموم ويحتاج لمساعدته.
¤¤¤¤¤¤¤¤¤
جلس جمال في مواجهة مصعب تفصل بينهما طاولة متوسطة في ذلك المقهى...
بادر مصعب بقوله في تلهف شديد:
_هيا يا جمال قل ما تريده...كلي آذان صاغية.
أسترخي جمال في مقعده وقال بهدوء:
_ألن تطلب لنا شيئاً قبل الحديث!
نهض مصعب عن مقعده, وهرع على الفور لإحضار كوبين من القهوة لهما, لم يمضي وقت طويل حتى كان كوب جمال في يده, وهو يسترق نظرات قلقة إلى مصعب الذي أخذ جرعة من كوبه ثم قال في أدب جم:
_جمال إذا كنت تريد التخلص من تلك السموم فثق أني لن أتخلى عنك أبداً...هيا قل ما تشاء.
شعر جمال بكلمات مصعب, وكأنها خنجر حاد قد غرس في قلبه, وبدأ ضميره يجلده جلداً للتخلي عن ما عزم عليه...فدار ببصره في توتر وحيرة في أرجاء المقهى, وشعر برجفة بسيطة عندما رأى عيناي أيمن محدقة به, والذي كان يجلس على طاولة أخرى بعيدة بعض الشيء عنهم يراقبه بشغف..
أخذ جمال جرعه من قهوته تظاهر بعدها بالسعال الشديد, وقال بصوت متقطع:
_مصعب.. أرجوك.. أحضر لي.. زجاجة ماء.
هرع مصعب على الفور لإحضارها ثم ناوله إياها, وهو يقول في رفق:
_أشرب.
شرب جمال نصف الزجاجة, ثم قال بامتنان:
_شكراً يا مصعب.
عقد مصعب كفيه أمام وجهه, وقال بصوت ملأه بكل لهفته:
_جمال منذ أن جلسنا لم تتكلم... سأساعدك ،لا تحسب أني غاضب من تجاهلك لي، كلا بل أنا أكاد أُجن سعادة بقرارك التخلي عن هذه السموم.
خانت جمال بعض دمعاته, وعيناه ترمقان مصعب الذي يأخذ ما بين فينة وأخرى رشفة من قهوته وهو يتحدث, أربكت دمعات جمال مصعب فقال مواسياً :
_جمال أرجوك لا تبكي...ستكون في أفضل حال..
قاطعه جمال بصوت مضطرب:
_مصعب لقد وضعت...
ما كاد جمال ينطق عبارته تلك, حتى تحسس مصعب رأسه في ألم مفاجئ, قبل أن يحني رأسه على الطاولة ثوان قليله, ثم مالبث أن خلل شعره بأصابع كفه معيداً له إلى الخلف, وهو يقول معتذراً:
_لا عليك..أكمل أنا أسمعك..
فتح جمال شفتيه ليكمل, ولكن بغتة وبحركة مفاجئه, أحنى مصعب رأسه على الطاولة بعنف محتضناً له بكفيه, وهو يهزه في ألم فظيع, نهض جمال نحوه صائحاً في ذعر:
_مصعب هل أنت بخير!
ظل مصعب يهز رأسه بضع لحظات بين كفيه في توجع, ولكنه مالبث أن تمالك نفسه وأجابه بضعف:
_ألم فظيع ...يكاد رأسي ينفجر.
أخرج جمال قرص, وأعطاه إياه قائلاً في قلق حقيقي:
_مصعب خذ هذا سيخفف عنك ما تشعر به.
ألتقط مصعب القرص منه في ثقة عمياء, وابتلعه مباشرة ثم أخذ جرعة من الماء, وظل ساكناً للحظات, شعر بعدها أن الألم قد انخفض للنصف تقريباً فرفع رأسه نحو جمال وقال في امتنان:
_شكراً لك يا جمال...إنها المرة الأولى التي أشعر فيها بمثل هذا الصداع أنه مؤلم بحق...أنا أسف لقد قطعت عليك حديثك.
كاد جمال يصرخ في وجهه أنه هو الوغد الذي تسبب فيما أصابه وأنه لا يستحق ثقته, ولكن الكلمات المشجعة التي أطلقها أيمن ورفاقه, وتصفيقهم له جعله يتراجع والتي لم يدركها مصعب بسبب ما تبقى من الألم داخله.
ساعد جمال مصعب على النهوض, قائلاً بتوتر:
_مصعب هيا عد إلى المنزل يجب أن ترتاح.
أنزل مصعب كفيه عن رأسه, وهو يهتف في أسى:
_لقد كنت أتشوق لسماع ما تريد قوله ...أنا أسف يا جمال.. عندما أتحسن أعدك أني سآتي إلى منزلك بنفسي.
كلمات مصعب كانت كالصفعات الموقظة لضمير جمال النائم, والذي أنقض عليه في شراسة عاتباً عليه قبح فعله وخيانته لأعز صديق له و الذي مد يده له ليخرجه من حفرته المظلمة فقابله بالنكران وبدلاً من أن يخرج من ظلمته جذبه نحوه ليغطيهم الظلام معاً.
(المال...المال...المال ..صرخت هذه الكلمة في عقله بعنف...مصعب يملك المال يمكنه أن يتدبر أمره...أما أنت فقير مسكين ...لا تملك المال )
أخرج جمال من جيبه كيس صغير به بعض الأقراص ناوله لمصعب قائلاً بانفعال:
_خذ هذه إنها مسكنات أستخدمها مؤخرا إذا ما داهمني الصداع...تناول قرصاً واحداً كلما شعرت بالصداع.
ألتقطه مصعب منه في ثقة كبيرة مع بعض عبارات الشكر فلابد أن جمال بدأ باستخدام هذه المسكنات منذ قرر التوقف عن التعاطي ( هذا ما ظنه مصعب ), ثم اتجه مباشرة إلى منزله ليستريح.
¤¤¤¤¤¤¤¤¤
ـ بعد أسبوعان ـ
طرقات عنيفة تلك التي هزت باب منزل جمال عند الساعة الثانية عشرة مساءاً، هرع جمال لفتح الباب وما أن رأى من خلفه حتى أصابته الدهشة، كان مصعب مستند على أحد ركني الباب في تهالك محتقن الوجه وعيناه محمرتين, والذي ما أن رأى جمال حتى أنقض عليه, وأمسكه من ياقة سترته بقوة, صائحاً بصوت ملأه بكل عصبيته:
_جمال لقد قلت أنك وضعت لي شيئاً ...فهل ما يدور في ذهني صحيح؟
أشاح جمال بوجهه عنه في حياء شديد فهم منه مصعب أن ما توقعه كان صحيحاً تماماً, فهزه مصعب من ياقة سترته هزة أحس جمال بأثرها في عنقه, وهو يصرخ في سخط:
_خنت صداقتنا أيها الغبي ... كيف وثقت في وقح ..
قاطعه جمال بانهيار:
_مصعب كان ذلك رغماً عني ..لقد كدت أقتل من الألم..
دفعه مصعب بخشونة مقاطعاً:
_فقلت لا بأس من أن أقتل مصعب معي...عذر أقبح من ذنب..
أتجه جمال نحوه, وهتف في ندم:
_مصعب أنا أعلم أني أستحق أسوأ مما قلت ولكن ...
قاطعه مصعب في انفعال جارف, وهو يحيط جسده بذراعيه في ألم:
_أصمت.. أصمت.. لم أعد أود سماع صوتك...أنت خائن.
انهار مصعب ساقطاً على الأرض, وهو يفرك جسده بشكل جنوني, والألم الفظيع ينخر جسده كسكين حاد.
أنحنى جمال نحوه وسأله في لهفه وقلق:
_متى نفذ الكيس الذي أعطيتك؟
أجابه مصعب بوهن:
_منذ ستة أيام.
صاح جمال بصوت مذعور:
_يا إلهي...هذا خطير.
أسرع جمال خطاه إلى حجرته, وأحضر بعض الأقراص, وناوله لمصعب قائلاً في عجلة:
_خذ هذه بسرعة قبل أن يقتلك الألم.
رمقه مصعب بنظرة حملت كل غيظه, وهو يهمس بصعوبة:
_أبعد عفنك عني.
صاح جمال في عصبية:
_مصعب لن تحتمل...أن أسبوع واحد كفيل بقتل أي مدمن إذا ما انقطع بغتة عن التعاطي.
ارتسمت ابتسامة حزينة على شفتي مصعب وهو يقول:
_أنا مدمن!!.نعم قل ذلك.. فلقد أصبحت مدمن بفضل ما عملته يداك القذرتين.
أحنى جمال رأسه في ندم ومرارة بينما زاد مصعب من تكومه على نفسه صائحاً في ألم وانهيار:
_لم أعد أحتمل...جسدي يتمزق...
عاد جمال لمناولته بعد أن رأى ألمه الشديد, قائلاً برجاء:
_مصعب يا أخي...أرجوك...خذها...لن أحتمل رؤيتك هكذا.
ضرب مصعب يده بعنف مسقطاً الأقراص منها, وهو يقول في غلظه:
_أقسم أني لن أخذها...دعني أموت فأنا ضحيتك أنت...أنت من قتلني وليس هي.. لن أسامحك يا جمال.
احتقن وجه مصعب بعد تلك الكلمات بشدة, حتى صار مزرقاً ولم يعد يقوى على الكلام وبدأ يتنفس بصعوبة شديدة.
تطلع أليه جمال بضع لحظات, وعقله يفكر ماذا يجب عليه أن يفعل، ( إنه يرفض تماماً أخذ الأقراص مني، إنه أقوى مني لقد تحمل ما لم أنحمله أنا نفسي ..
ولكن عليّ إنقاذه، سأخبر والد مصعب أنه رجل طيب, ولكنه يحب مصعب كثيراً ولا ريب أنه سيرمي بي في السجن ، وسأُسيئ بذلك لسمعة والداي وأخواتي، أن والد مصعب يصبح قاسياً جداً عندما يتعلق الأمر بأحد ولديه..ماذا أفعل!!.....
ماذا أفعل؟ )
أقترب جمال من مصعب الذي بدأ يصدر منه شهقات متقطعة, وعقله يقاتل ليختار
أما موت مصعب ..
وأما سجنه وضياع سمعة أسرته ..
¤¤¤¤¤¤¤
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top