ذكرى أول صديق "٤٢"
ابتسامة عذبة علت شفتي مصعب، وهو يحرك مقود السيارة بهدوء، وأصابع كفيه تعانق هاتفه الخلوي الملتصق بأذنه اليمنى، وصوت محدثه ينساب منه قائلاً :
- نعم نفذتُ ماطلبته مني تماماً .. لقد أرجعتُ المزرعة لصاحبها بل وتركتُ كُلّ معداتي فيها ... فماتركته من المزرعة لا يُعدُ شي أمام ماكافئتني به.
حركة خفيفه صدرت من خلف مصعب جعلت عيناه تتحرك بسرعة لتنظر من المرآه الأمامية لجمال الذي كان نائماً في المقعد الخلفي وقد حرك ذراعه في عشوائيه لترتطم بمقعده من الخلف ..
تنهيدة ارتياح صدرت من بين شفتيه حين أدرك أنه لم يسمعه وأنه لازال نائم ..
أسرع مصعب عندئذ يُنهي مكالمته بقوله :
- شكراً لك .. أنا ممتن حقاً لأستجابتك لطلبي .. فهذه المزرعة بالذات يملكها شخص عزيز علي قلبي .. كما أن أسرته هم أسرتي ولا أُحب أن يدخل الحزن لقلوبهم من أجل فقدهم لها .
همهم محدثه بعدة كلمات مدح فيها أخوّته .. قبل أن يُنهي مصعب المحادثة ثم وضع هاتفه على تابلوة السيارة، وارتد بظهره للخلف هامساً بارتباك :
- سأكون في موقف عسير لو علم جمال بذلك.
صوت تكسر حبات البطاطس علا الى جواره فالتفت مصعب للمقعد المجاور له ليبتسم بحب لمعاذ الذي ظل يأكل وعيناه تُحدق فيما حوله من بساتين وحدائق وجبال قبل أن يقول :
- أخي .. لم أرى مثل هذه من قبل .. أُنظر .. أُنظر هناك قروووووووود .
كلمته الأخيره نطقها بصراخ سعيد جعل مصعب يهمس له مؤنباً :
- أخفض صوتك .. جمال نائم.
رفع كفيه ليغطي فمه المفتوح في ارتباك فضحك مصعب قائلاً:
- لا بأس .. فهو لم يستيقظ ... لابد أن وقت أنتقامنا منه بالليلة الماضيه كان سيئاً عليه فهو مرهق للغاية ولم يُفق رغم صراخك العالي.
أنزل معاذ يديه وابتسم بارتياح قبل أن تتوسع عيناه فجأة ويشير بذراعه بأكملها للخارج صائحاً:
- قرد ضخم ... و ا ا ا ا ا و .. أخـــي أنظـــ ...
قطع باقي صراخه كف مصعب التي غطت فمه برفق وهو ينطق:
- لقد رأيته .. لقد رأيته ... بالكاد سكت لتعود للصراخ مجدداً.
تشبث بكفه وأنزلها قائلاً :
- أسف .
أغمض مصعب عينيه في تعب وتنهد فهو بحاجه لأشغاله عن رؤية هذه الحيوانات وإلا فأنه ولاشك سيصيبه بالصداع وسيوقظ جمال أيضاً بصراخه المتواصل .
لمعت فكره بغته في رأسه جعلته يبتسم ويسرع لفتح درج سيارته المقابل لمعاذ قائلاً:
- معاذ .. خذ الصندوق الأبيض في الدرج وافتحه.
حول معاذ نظراته نحوه وقد شد انتباهه ماقاله وفي فضول سحب ذلك الصندوق وراح يقلبه بين يديه قبل أن يُبصر زر صغير ضغطه بسرعه لينفتح غطائه أوتوماتيكياً ..
توسع فم معاذ وبرقت عيناه المحدقتان بما داخله وبدا كالمسحور تماماً ولم يستطع حتى النطق ليعبر عن فرحته وسعادته بما رآه ..
فيما ضحك مصعب وقال لينتشله من سكونه :
- أنه لك .
لم ينطق ولم يتحدث بل انقض عليه معانقاً بقوة من هول فرحته وقد لمعت عيناه بالدموع ..
وبصعوبه شديدة حافظ مصعب على توازنه وعلى مقود السيارة وهو يصيح به :
- معاذ .. أبتعد عني .. سنصنع حادث مروع أن لم تتركني.
" أنا أُحبك .. أُحبك أخي .. أُحبك كثيراً "
همس بها في كلمات متواصله وهو يعتصر عنقه في سعادة مما جعل مصعب يدير بصره نحوه قائلاً :
- وأنا أُحبك .. ولكن لستُ أنا صاحب هذه الهدية ..
ارتخت ذراعي معاذ من حوله وارتد للخلف وقد بدا عليه الدهشه فقال مصعب بصوت لم يخلو من نبرة حزن :
- أنها من أبي.
بدا الوجوم في وجه معاذ الصغير فيما ربت مصعب على شعره وداعبه قائلاً بابتسامة متأثرة :
- لو رآك الآن لسُرَّ قلبه بمقدار سعادتك وفرحتك بهديته ..
ثم عاد ينظر للطريق قائلاً :
- أنه يعرف كل مانحبه .. ويُحسن أختيار هداياه التي تُسعد قلوبنا وتفاجئنا.
استخرج معاذ هديته من الصندوق وقد تحولت دموع فرحته لدموع شوق وحزن لوالده .. فيما استرجعت ذاكرته جميع الأوقات التي قضاها برفقة والده يعلمه السباحه .. وطلبه المستحيل منه أن يشتري له دولفين صغير يُربيه في مسبح منزلهم ..
كفيه الصغيره راحت تُقلب تلك الميدالية الفضية الجميلة على هيئة دولفين ألتصق جسده على مرساة سفينه ..
فيما قال مصعب بلطف :
- يُمكنك تعليقها بمفاتيح حجرتك .. أو بحقيبتك المدرسية .. أو بخزانتك في نادي مدينتنا الرياضي.
أحتضنت كفي معاذ الصغيرتان الميدالية وشد عليها بقوة ورفع عيناه الغارقتان ليسأل مصعب :
- لماذا لم يُعطني أبي الهدية بنفسه وقتها ؟!
أجابه مصعب :
- لقد طلب صناعتها قبل شهر من وفاته .. وحين وصلتني من صانعها كان قد مر على وفاته ثلاثة أشهر .. لقد فوجئتُ بها كثيراً وعلمت أنهُ كان يريدها هدية نجاحنا في ذلك العام.
وأشار إلى ميدالية معلقة بمفتاح سيارته وقال بتأثر :
- وهذه خاصتي أنا .
كانت ميدالية بحجم صغير لكأس العالم جعلت معاذ يقول بانبهار:
- أبي كان يعلم أنك تُحب كرة القدم كثيراً.
أومأ مصعب برأسه إيجاباً وبصعوبة شديدة كبت حزنه الشديد حتى لا يتفجر على صفحة وجهه ولكنه لم يستطع منع الغصه التي ظلت عالقه بحلقه وهو يتمتم بصوت مرتجف :
- أبي بحق كان يعلم كل شيء عنا .. ما نُحبه .. ما نكرهه .. ما يُغضبنا .. وما يُسعدنا .. بل وفي حياته كلها لم يعاملنا كوالد فقط ويأمرنا بما شاء .. بل كان يهتم لرأينا ويسعى لأقناعنا .. ويشاركنا كل اهتماماتنا وكأنه صديق لنا .
تقوست شفتي معاذ وقال :
- هذا صحيح .
زيّنت شفتي مصعب عندئذ ابتسامة غاية في العذوبة وهو يقول بثقة:
- لذلك دوماً أُكرر أن والدي هو أول صديق في حياتي.
تطلع معاذ لعيني مصعب الذي بدا هائماً بحق في حب والده بأكثر منه، ولم يستطع عقله الصغير أن يربط بين كون والده هو صديقه لذا فقد عاد لينظر لميداليته بشغف حين لفت انتباهه عدد فجوات الميداليات بالصندوق..
كانت ثلاثة فجوات ..
أحدها على هيئة كأس العالم والتي كانت هدية مصعب..
وأخرى على هيئة المرساة والدولفين وهي هديته..
والثالثه على هيئة غريبه ظل معاذ ينظر لها وقت ليس بقصير محاولاً فهم ذلك التشكل الغريب حين قاطع مصعب شروده بقوله :
- إنها على هيئة مفتاح ربط.
ارتفع حاجبا معاذ وسأله:
- هل هي لأبي؟
حرك مصعب رأسه نافياً ذلك ثم قال بحيرة :
- لقد شككتُ وقتها أنها لأبي .. ولكن أبي لا يُحب هذا النوع من الأشياء .. كما أن له ميداليته الخاصه التي أهدتها له أمي .. لذا خطر لي خاطر أن تكون لجمال .. ولكن لم ألبث أن وجدتُ مع الصندوق الأبيض صندوق صغير بمفرده وجدت به ميدالية على هيئة إطار للسيارات كُنتُ قد تمنيتُ مرةً أمام والدي أن أُهدي مثلها لجمال لمعرفتي بحب جمال الشديد للسيارات ..
التقى حاجبا معاذ الصغيرين بشده فقال مصعب بلطف:
- لقد بقيتُ حائراً بشأنها حتى هاتفتُ المُصّنع فأخبرني بأن صاحب هذه الميدالية قد استلم الصندوق قبلنا في دولةً خارجية .. ولذا فأنه بلاشك قد أخذ هديته ومن ثم أعاد أرسال الصندوق إلى عنوان منزلنا بمدينتنا .
عاد معاذ يتناول حبات البطاطس سائلاً بشغف :
- ألم تعرف من هو ؟!
بدا الضيق على وجه مصعب وضاقت عيناه وهو يجيبه :
- كلا .. لقد حاولتُ جاهداً معرفة هذا الشخص من خلال عنوانه بالبلد الخارجي ولكن لم أجد أي تجاوب .
ولم يستطع منع نبره مستاءة من أن تتخلل صوته وهو يضيف مستنكراً:
- لقد حصل على هديةً مثلنا ... لو كان والدي حياً وقتها لم أكن لأدعه حتى يُخبـــ ...
لم يكد يتنبه لقوله " لو " حتى بتر حديثه وأسرع ليستغفر ..
" كيف قُتل والدي ؟! "
اتسعت عينا مصعب الى آخرها وانقبض قلبه بشده حين ارتفع صوت معاذ المرتجف بسؤاله السابق ..
أحمرت عينا مصعب بشده، وذلك المشهد المؤلم يتفجر في ذاكرته فيما انسابت دموع معاذ على وجنتيه، وهو يسأله ببكاء:
- هل تألم كثيراً ؟! .. هل ذكر شيئاً عنـــي قبــ ...
" أوقف السيارة "
صدح صوت جمال فجأة من خلف الأثنين وهو يعتدل جالساً ويُبعد الغطاء عن جسده .. أدار معاذ عينيه اللامعتان نحوه فيما لم يستطع مصعب الرد عليه فقد كان لازال يُغالب نفسه ..
غطى جمال فمه من تثاؤب شديد ثم مد يده ليفتح الباب الخلفي وهو يهتف بصرامه:
- مصعب قُلتُ لك أوقف السيارة.
لم ينبس مصعب بحرف واحد وهو يوقفها في طاعةً عمياء دون أن يدري مايريد، وعندها دفع جمال بابه وهو يهتف بمعاذ في رفق:
- معاذ تعال للخلف .. وأنت يامصعب بادل مع معاذ المقعد فأنا من سيقود .
قفز معاذ للخلف دون تردد فيما قال مصعب بانزعاج:
- جمال أنت لم تنم سوى خمس ساعات .
كان جمال قد خرج حقاً وفتح باب السائق ليواجه مصعب الجالس قائلاً بتبرم :
- هل نمتُ حقاً ؟! .. بربك ثرثرتكم العاليه حول الميداليات من يستطيع النوم معها !!
حمد مصعب ربه أن جمال لم يُفق أثناء مكالمته لصاحب المزرعه ومع ذلك ظهر التردد على وجهه وهو يمانع مغادرة مقعده قائلاً بقلق :
- أنت مرهق لذا ..
قاطعه بتعب وتأفف :
- هل سأبقى منتظراً في الشارع طويلاً ؟! .. هيا تحرك .. ومتى ماتعبت من القيادة سأوقظك بأبشع الطرق.
ابتسم مصعب عندئذ وهو يتحرك ليجلس على مقعد الراكب بعد أن أقنعه فيما احتل جمال مقعد القيادة وأدار المحرك لتتحرك السيارة ونظر من مرآته الأماميه لمعاذ الصامت للخلف والذي قد بدا أثر الحزن على وجهه فقال :
- معاذ .. هل تُريد أن أحكي لك قصة الضفدع والبطه ؟!
شهق معاذ بفرح والتصق بمقعده صارخاً :
- أمازلت تذكرها ؟
أومأ جمال برأسه بثقه وقال :
- بل وبكل تفاصيلها .. هل تُريد اختباري؟
صرخ معاذ بسعاده " نعم " فيما رمقه مصعب بنظره مستغربه فهو يُدرك أن جمال لا يُحبها لتواجهه ابتسامة جمال وهو يسأله :
- كيف سيكون قصر والدك في وجود ثلاثة أفراد جُدد؟! .. سيكون ضيقاً عليك بعض الشيء.
سعادة لا حدود لها ملئت عينا مصعب وابتسامه كبيرة نبعت من قلبه النابض سروراً .. وهو يجيبه بانفعال:
- ليس أضيق من السابق .. حين كُنتُ بمفردي.
قالها وزادت ابتسامته اتساعاً وعيناه تُغادر للخارج للمناظر الجميلة وكأنه يعيش حلماً جميلاً وخيالاً رائعاً لمستقبله المشرق برفقة أسرته الجديدة ..
وعندها تنهد جمال قائلاً بارتياح :
- لا يُعتمد على بقاء هذين الأثنين معاً بمفردهما ماداما سيذكران والدهما ..
"أبدأ "
صرخ بها معاذ من خلفه بحماس ليأخذ جمال نفساً عميقاً علّه يُعينه على التماسك فهو لايُحبها حقاً ثم فتح شفتيه ليقصها له صارفاً بذلك ذهنه عن ذكرى والده وقاطعاً طريق رحلتهم الطويلة لمدينتهم .
------------------
النهاية
ولجميع القراء الأعزاء هذه الرواية دخلت مسابقة فإذا وصلتم للبارت الأخير .. ورأيتموها تستحق وقد منحتكم المتعة والفائدة وأعجبتكم أدعموها بتصويتكم لبارتاتها ⭐️🌟💫 .. وشكراً مسبقاً لكم جميعاً ❤️
و مارأيكم بالغلاف الجديد ؟ ^_^
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top