۲۱

على وسادة معطرة ينامُ صبيّ صغير، أنامله متمسّكة بالغطاء بالقوة التي يسمح له بها جسده المحموم، خصلاته الأمامية مبلّلة بأثر قطعة القماش الملتصقة بجبهته العريضة، وعلى ذات الفراش سهَت سيدة في منتصف العمر، عنقها مائل إلى يمين خافق الصبيّ ذي الإيقاع المتوتر، ويدها مستريحة على صدره، أناملها متجعدة من ملامسة المياه لفترة طويلة ليلة إلبارحة، ووجها شاحب بفعل القلق.

دلف إلى الخيمة شيخ طاعن في السّنّ، قبضته الضّعيفة تمسك بعصاه المصقولة جيدًا والموشّاة بخطوط دقيقة من ماء الذّهب ارتسمت بخطّ كوفي أنيق على الخشب مشكّلة عبارات جميلة الهيئة، ملامحها لا تكاد تتضح من بعيد، وإذا ما اقتربت، قرأتْ عيناك: ‹سيّد الدّواء وشيخ المعلّمين›. وهي عبارة كُتبت على سبيل التّعريف بالمنزلة الرّفيعة التي يملكها صاحب العُكّاز.

«بشّري يا هِند؟» حينما تنبّه للحركة الطّفيفة التي أبدتها المرأة استجابةً لوجوده، باشر في سؤالها عن حال الولد.

«إنّه يتماثل للشّفاء يا معلّمي». بنبرة جدّيّة قالت المرأة، ثمّ استوَت واقفةً فعدّلت الغطاء على جسد النّائم وأبدلت كمادته.

فيما تحرّك المُسنّ نحو وسادة منجّدة، ألقى بعكازه على مقربة منه، واضجع ملاحقًا هيئة السّيدة بعينيه.

ولم يكسر صمت المكان سوى دبيبُ الأقدام على السّجادة الأرضيّة ومواء خافت قادم من الخارج.

في النّهاية هي اقتربت من الرّجل فجثت أمامه وتساءلت بصوت خرج محتقنًا فاضحًا دموعًا حجزتها طويلًا في مقلتيها: «هل ستسمح له بأخذ الولد حقًا؟».

اعتدل الرّجل في مجلسه واحتوى محدّثته بذراعه فقرّبها إليه وأسندَ رأسها على فخذه، وراح يمسح وجهها بيده بعد أن رطّبها من وعاء كان مجاورًا له.

«ما رأيك ألا تبعث رائحته على السّكينة؟ وجدته في الأمس بينما كنت أتجول في مدارِ الواحة».

قال ملاطفًا ثم استرسل في الشّرح عن العشبة ذات العِطر المهدّئ، ذاتها ما عطَّر بها وسادة الصّبي صباحًا حينما خرجت السّيدة به وساعدته ليقضي حاجته ويستحمّ مزيلًا آثار مرض ألمّ به منذ فترة ولّما يبرأ منه تمامًا بعد.

أطبقت المرأة جفنيها في سكينة، كانت لأنامل زوجها تأثير سحريّ عليها، ما أن يلمسها حتى تنتظم أفكارها ويصفو ذهنها.

للقلق سلطانٌ قويّ عليها، تغذّيه الظّنون وتُشعله الهواجس، فتتقد في بدنها نيران تنعكس في عينيها، ولكنّه يتقهقر وينسحب صاغرًا ببضع لمسات حانية!.

لطالما جادلها الزّوج أنّ التّأثير الإيجابيّ يأتي من الطّريقة المدروسة، ولكنّها تؤمن أنّ الحبّ فوق الطّرق جميعها.

حينما يسمع ذلك، هو فقط يبتسم، قائلًا إنّها ربما تكون محقة فيما تدّعيه.

أحسّت بقبلة ترتسم على جبهتها فاحترّ وجهها حياءً، نطقت تمازحه بغية إبعاد الشّعور المزعج: «لا أصدّق أنّك ستعرّضنا لعشبة مجهولة، فقط لأجل رائحتها... وأنتَ من علّمني أنّ أرقّ الزّهور قد تحمل السُّم في ثناياها».

أومأ الرّجل مُبتسمًا ثمّ قال موافقًا: «أصبتِ يا حبيبتي، إنّها عشبة معروفة ومدروسة مسبقًا، ولكنّي أراها للمرة الأولى، فلم أكذب كليًّا».

«حاشى لسيد الحكمة أن يجري لسانه بالكذب، لم أقصد ذلك يا معلّمي». قاطعته المرأة بانفعال، وحينما تنبّهت لارتفاع صوتها ألقَت نظرة على الطّفل، فلّما وجدته نائمًا بهدوء تنهّدت براحة وعادت لتستلقي بخمول بين يديّ زوجها.

«هذا الولد منذور للخير يا حبيبتي، تعرفين ذلك أكثر من أي أحد آخر».

«بلى. أعرف. لقد توفى الله عشرة من أبناءك خلال شهورهم الأولى.

ولم يتخطّى عامه الأول سوى هذا الولد، فنذرته شاكرًا حامدًا. أعرف».

أحسّ الرّجل بغصّة زوجته التي حاولت مدراتها عنه ولم تنجح....

ابتلع غصّته الخاصّة وقال: «سيكون بخير مع تلميذي حامد، أعدكِ بذلك».

«لقد أطعمته من لبنِ صدري، ومن ثمَّ ربيّته معكَ سنينًا، يعزّ عليّ فراقه يا معلّمي».

في النّهاية، هي استسلمت لحزنها فأجهشت في بكاء مرير شاركها به زوجها.

حينما توفى الله زوجته الأولى، كانت قد ذاقت مرارة فقدان أولادها جميعًا، كلّ على حده، وماتت في حسرتها خشيةَ فقدٍ جديد، فعاش وليدها الأخير ولم تره!.

وكانت هند في ذلك الوقت أرملة مُرضِعة ولها ولدها، أشفقت على اليتيم الوحيد، فضمّته مع ولدها إلى صدرها الحنون، واهتمت بهما معًا لفترة طويلة لاحقة، فلّما رأى منها ذلك، طلبها الأب الأرمل زوجةً له وتكفّل برعاية ابنها كعمّ أو جدّ حتى يقوى ويشتدّ عوده، سواء أقبلت عرضه أم لم تقبل...

وتمّ الأمر، ومضى عليه أربع سنين، تخطّت خلالها المرأة مراحل شاقة بصفتها التلميذة الأنثى الوحيدة لزوجها، الحكيم والمعلّم، أمّا الولد المنذور فقد أتمّ عامه السّادس منذ أيام قليلة، وارتأى الأب أنّ وقت الوفاء بالعهد قد آن أوانه.

«أين أخي يا أماه؟». بالكاد فهم الأبوان ما تلعثم به الغلام المريض من بين سعاله الحادّ المتواصل.

نظرت المرأة إلى زوجها بترقب، فلّما سمعت قوله: «أرى أنّ الخطر قد زال والحمد لله. بإمكانك جلبُ الصّغير». نهضت على عجل وخرجت ساعيةً إلى حيث تركت ولدها، عليه توديع أخيه فربما لا يراه مجددًا...

-

إبّان ليلة دمويّة تعرضت فيها الحملة البغداديّة إلى هجوم مباغت من طرف مجموعة مسلّحة تمتهن السّلب والنّهب، وهي المجموعة الرابعة التي يصادفونها منذ مغادرتهم مدينتهم بغداد، التقوا بقافلة من البدو الرّحل، استضافتهم وعاونتهم في إكرام موتاهم وفي إقامة الصّلاة عليهم، وبالصّدفة عرف البغداديون أنّ الجماعة المُضيفة ليست سوى الجماعة التي يقصدون مضاربها منذ البداية.

وكان خبر خروجهم من بغداد قد وصل مسبقًا إلى الطّبيب الكبير الذي يعمل على تنصيب تلميذ مؤهّل جديد وإرساله إلى مقرّه الأخير في الشّام، فقرّر الجَمع بين الغايتَين وشقّ طريقه ملاقيًا السّائلين ليجيب مطالبهم، ثمّ يكمل مسيرته حتى الافتراق عن تلميذه ومَريديه أخيرًا، والعودة إلى السّعي في بلاد الله، كان هذا ما سمعوه من لسان الشّيخ ذاته، حيث رافقهم رجل ما، إلى مكان اجتماع الشّيخ بتلاميذه لأول مرّة منذ بدء التّرحال الأخير، إذ إنّه كان مشغولًا بولده المحموم.

«...خطّها المهندسون بالرّمال على الأرض. وأقبل الإمام المنصور رحمه الله يدخل من كل باب ويمرّ في ممرات المخطوطة، فأمر أن يحفر الأساس على ذلك الرّسم. فأنشأ المدينة في عام ١٤٥ من الهجرة على شكل مدينة مدوّرة».

سمع القادمون الجزء الأخير من قول الشّيخ، الذي كان يجلس متربّعًا وفي حضنه الطّفل المرتسمة عليه آثار المرض، إلى يمين الولد جلس آخر مقارب له في السِّن، وتحلّق حولهم العديد من الرّجال والنّساء والأطفال.

أمّا على شمال الحكيم فكان يجلس رجل قوّيّ البنيان، يشي وجهه بحكمة تحصّل على بعضها، ووُلِد ببعضها الآخر، ومن عينيه تبرق خبرته التّي اكتسبها بمجهود مضنٍ صرفَه خلال سنينه الفائتة كتلميذ ومَريد للشّيخ، وكان من شروط الأخير ليقبل تخطّي تلاميذه -المختارون بعناية- للمرحلة الثّالثة في التّعليم هو أن يتعهّدوا بتولّي مسؤوليّة مدرسة علميّة جديدة قائمة على ما اكتسبوه منه وما سيحصلون عليه في حياتهم العمليّة القادمة في منصبهم الجديد كمعلّمين لهم أتباعهم الخاصيّن.

هبة الله وشقيقته كانا على درايا بكلّ ما قاله الشّيخ معرّفًا صِغار الأتباع بالمكانة التي سيتبؤّها تلميذه المجتهد ‹حامد›، أما باقي البغداديين فانجذبوا إلى الحديث المنمّق الصّادر عن الشّيخ فصيح اللّسان وواسع الحِكمة فاقتربوا منه مُحسنين الإنصات، لا يختلفون بشيء في هيئاتهم الخارجيّة عن سائر أتباعه ومريديه.

-

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top