الفصل الرابع والعشرون
تحذير: الفصل طويل ومليء بالدموع
—————
٥- نوفمبر - ٢٠٢٥، الأربعاء
مر شهرٌ منذ خروج إيلر من المشفى وما زالت تسترجع ذاكرتها تدريجيًا، لكن المؤسف هو أنها تتألم بكل مرة تسترجع بها الكثير من الذكريات فجأة، وحدث أكثر من مرة أنها نامت لفترة طويلة لتعبها من ذلك الألم.
كانت إيلر تستحم عندما كادت تنزلق، لكنها تمكنت من التمسك بالحائط وجلست على الأرض تحارب موجة الصداع التي رافقت قنبلة الذكريات التي فجرت عقلها فجأة. كان الألم شديدًا، وكانت الذكريات أشد ألمًا حتى جعلتها تبكي بحرقة أسفل المياه. ارتفعت شهقاتها التي رُدد صداها بالحمام، لكنها تماسكت وأغلقت صنبور المياه لتهدأ قليلًا وتخرج بجسد قليل الارتعاش.
ارتدت ملابسها وذهبت لتبتلع دواءً مسكنًا للآلام ثم جلست على الأرض وأسندت رأسها على الأريكة خلفها تنتظر من هذا الألم أن يتلاشى. تدفقت الدموع من عينيها مجددًا، وشعرت بحنجرتها تنغلق على نفسها في محاولةٍ لكبت الشهقات التي كانت تصارع لأجل الخروج، لكنها مع ذلك تمكنت من تمالك نفسها مجددًا وبدأت تحاول تهدئة نفسها بأخذ نفس عميق وزفره كل بضعة ثوانٍ.
لم تكن تعلم إن كانت تشعر بالقلق أو الارتياح، بالخوف أو الأمان، بالحزن أو الاستبشار، لكنها كانت تعلم أنها بحاجة ماسةٍ لأن تهدأ كي لا يشتد الألم ويفجر رأسها. ضغطت بقوة على الجانب الأيمن من رأسها، ثم مقدمة جبينها، ثم بيديها الاثنتين ضغطت على كل جانب من رأسها وأغمضت عينيها تحاول إبعاد ما تذكرته عن عقلها لأجل أن ترتاح قليلًا.
تلاشى الألم أخيرًا وأخرجت نفسًا لم تعلم أنها حبسته بداخلها، فأعادت جسدها للخلف بعد أن كانت قد تكورت على نفسها لشدة الألم. نظرت للسقف بعينيها المتعبتين دون أن تمر أي فكرة بعقلها حتى سمعت أخيرًا صوت الباب يفتح، وصوت خطوات جيمين على الأرضية تعلن عودته من الاجتماع الذي كان به.
نهضت من مكانها وبذراعين مرتجفتين حاوطت خصر جيمين ودفنت رأسها بظهره مغمضةً عينيها، تحاول استرجاع قليلٍ من القوى التي زالت وتركتها خائرة متعبة. حاول جيمين أن يستدير ليعانقها لكنها شدت ذراعيها غير سامحةٍ له بأن يفعل ما يريد، وعندما لم تنبس بأي كلمةٍ ازداد استغراب وقلق جيمين حيال ما قد يكون قد حصل لزوجته أثناء غيابه.
«هل أنتِ بخير؟» كان سؤالًا سهلًا يسيرًا، لكن إيلر لم تستطع الإجابة عليه.
هل هي بخير وهي بالكاد تستطيع الوقوف على قدميها لوحدها؟ هل هي بخير وقد فتك الألم برأسها؟ هل هي بخير وقد كادت ذاكرتها قتلها؟
ربما؟ لمَ لن تكون بخير إن كانت تتنفس دون أي ألم برئتها؟ لمَ لن تكون بخير إن كان لديها من تستند عليه ليساعدها؟ لمَ لن تكون بخير وقد استعادت مجددًا نفسها؟
«أنا بخير، لقد اشتقت لك فحسب.» وكان ما تقول صحيحًا، لقد اشتاقت لزوجها كثيرًا.
فقدها لذاكرتها جعلها تفقد شيئًا من قلبها. صحيح أنها لم تنسَ مشاعرها له، لكنها نسيت سبب وجود تلك المشاعر، نسيت ما خلق تلك المشاعر ونمّاها بقلبها، نسيت ما جعلها تتمسك بكل هذه المشاعر رغمًا عن ذاكرتها التي خانتها، والآن بعد أن تذكرت جيمين النادل، جيمين حبيبها، جيمين زوجها، لم تعد تشعر بالفراغ المجهول الذي اجتاحها بكل مرةٍ عانقها أو قبلها، لم تعد تشعر بالنقص الذي قطعها بكل مرة عبر عن عاطفته لها، لم تعد تشعر بالضياع الذي ابتلعها بكل مرة لامسها.
لقد اشتاقت لجيمين كثيرًا، اشتاق قلبها له كثيرًا، وعلى الرغم من أنه لم يفارقها منذ اليوم الذي وجدها به ضائعة بجسدها في المستشفى، إلا أنها لم تشعر إلا الآن بأنها مع نصفها الآخر قد لُم شملها.
«هل يمكنك أخذي لقبر والدتي؟» تقطع قلبها عندما طلبت هذا منه.
قبر والدتها... لم تتوقع أبدًا بأنها ستذهب لوالدتها، وستكون هي بقبرٍ تنتظرها. لم تتوقع أبدًا أنها لن ترى والدتها تحمل ابنها أمامها، لم تتخيل أبدًا أن والدتها ستموت شوقًا لها. كانت إيلر تعلم بكل تأكيد بأن موت والدتها ليس خطأها أبدًا، لكنها لم تستطع إلا أن تشعر بخيبة الأمل والخذلان يتسللان لدواخلها وكأنها هي من طلبت أن تقع بتلك الغيبوبة لتجرى التجارب عليها.
كيف ستتصرف والدتها -إن لم تمت- لو علمت بأن ابنتها قد عوملت معاملة الفئران في المختبرات؟ ما الذي ستفكر به إن رأت ابنتها لا تتعرف عليها وتنحني لها كما تنحني للغرباء؟ كم سيتقطع قلبها إن رأت ابنتها الوحيدة في حالةٍ من التيه والضياع لا تعرف حتى عائلتها؟
لم تعلم إيلر كيف كانت تبدو ملامحها عندما خرجت من الغرفة وقد ارتدت ما يناسب الجو، وسمعت جيمين يطلب من والديه أن يعتنيا بجيسونغ حتى يعود وإيلر من زيارة قبر والدتها، لكنها الآن لم تستطع التركيز إلا في كونها لم تشعر بأي شيء عندما أخبرها والدها بأن والدتها قد توفيت. لم تشعر بالألم، لم تشعر بالحزن، لم تشعر بالأسى، لم تشعر بأي شيء عدا السوء الذي حل على قلبها بتلك الليلة ولم تعرف سببه حتى الآن.
كان قبر والدة إيلر بمنطقة ريفية خارج سيؤول حيث ترعرعت قبل أن تتزوج من السيد لي، وعلى الرغم من أن الطريق إلى تلك المقبرة لم يكن طويلًا، إلا أن إيلر لم تتحدث طواله على الإطلاق.
لم يعلق جيمين على صمتها، صحيح أنها قد فقدت ذاكرتها لكن تصرفاتها لم تتغير منذ السابق وحتى الآن. كان من الواضح أنها تواجه الكثير من المشاعر في آن واحد، لذا فضل جيمين أن يمسك كفها عوضًا عن التحدث معها، وعرف أن قراره كان حكيمًا عندما شدت إيلر بكفها على كفه دون أن تشيح نظرها عن الأشجار على قارعة الطريق.
توسطت الشمس السماء عند وصول الزوجين للمقبرة التي خلت إلا من القبور، وكانت إيلر شاكرةً لذلك. سارت إلى جانب جيمين ناحية قبر والدتها، تعانق بين ذراعيها باقةً من زهور الزنبق البيضاء لتضعها على قبرها. شدت على تلك الباقة عندما رأت اسم والدتها على شاهد القبر، وشعرت بالدموع تتسابق لعينيها بغية الهطول، لكنها حاربتها للحظة واستدارت لجيمين الذي انحنى يقدم احترامه لوالدة زوجته المتوفاة.
«هل يمكنني أن أبقى هنا وحدي قليلًا؟» كانت نبرتها تحمل الكثير من الألم الذي لم يسمعه جيمين يخرج منها قط، وشك للحظة في أنها قد تكون تذكرت والدتها.
«بالطبع.» ابتسم لها في محاولةٍ للتخفيف عنها، ثم قبل جبينها وابتعد ليعطيها بعضًا من الخصوصية.
جلست إيلر على ركبتيها إلى جانب القبر، وضعت الزهور عند شاهده ووضعت رأسها على ما هو قريب منها من حجارته، ثم سمحت لنفسها أخيرًا بالبكاء. أرادت أن تتحدث، أرادت أن تقول أي شيء، أرادت أن تخبر والدتها بأنها لم تمت، أرادت أن تخبر والدتها بأن ابنتها قد أصبحت أمًا، أرادت أن تخبر والدتها بأنها رأت ابنها ولعبت معه، أرادت أن تخبر والدتها بأنها تخاف أن تُخطئ في تربية ابنها، أرادت أن تخبر والدتها كم كان جيمين أبًا رائعًا في عدم وجودها.
أرادت أن تخبر أمها كم كانت خائفة عندما لم تكن تستطيع تحريك أي شيء بجسدها لا ترى سوى الظلام ولا تسمع إلا أصوات الخشخشات، أرادت أن تخبر أمها كم كانت خائفة عندما استيقظت من غيبوبتها ولم ترَ أحدًا غير ممرضة لم تعرف حتى اسمها، أرادت أن تخبر أمها كم كانت تخاف في كل مرة يأتي الطبيب بحقنة جديدة ظانًا أنها نائمة لا تدرك ما هو حولها، أرادت أن تخبر أمها كم كانت خائفةً عندما لم تتذكر أي شيء عن نفسها، أرادت أن تخبرها كم هي آسفة لنسيانها.
أرادت أن تخبر أمها بكل شيء، أرادت أن تشعر بأمها تعانقها، أرادت أن تشعر بأمها تطبطب عليها، أرادت أن تشعر بأمها تواسيها وتخبرها بأن كل شيء سيُحل وبأن كل شيء سيكون على ما يرام. لكن أنّى لها ذلك وجسد والدتها مدفونٌ تحت الثرى؟ أنّى لها ذلك وروح والدتها قد صعدت للسماء؟ أنّى لها ذلك ووالدتها لم تعد في هذا العالم بعد الآن؟
«أماه-» زاد نحيبها وعلا صوتها، وبكل شهقة كانت تشعر بقلبها ينكسر، وبموجة من الألم تضرب رأسها ثانيةً.
«أماه!» نادتها بأعلى صوتها، قبضت التراب بيدها وبللت قبر والدتها بدموعها.
«ابنتك لم تمت أماه! ابنتك ما تزال هنا أماه! ابنتك بحاجة إليك أماه!» بكل جملة كان صوتها برتفع أكثر حتى شعرت بأنها أوصلت صوتها للسماء حيث والدتها، لكنها لم ترتح حتى أخرجت صرخةً مقهورة من أعماق قلبها «أنا أقسم أنني أحتاجك أماه!»
شعرت بقواها تخور مجددًا وعلمت أن عليها أن تنهض وتعود، غير أنها لم ترد الابتعاد عن والدتها. لم تعد تملك الطاقة للبكاء، ولم تملك الطاقة لتبقي نفسها مرفوعة عن القبر، فأخفضت ذراعيها وأراحت خدها على القبر الذي تبلل بدموعها مغمضةَ العينين لا تقوى حتى على فتحهما.
شعرت بألم شديدٍ في رأسها، وحاولت رفع جسدها عن الأرض بصعوبة، ثم أخذت خطواتٍ مرتعشة ناحية جيمين الذي سمع بكاءها وحارب رغبته في الذهاب والوقوف إلى جانبها.
مسح الدموع التي كانت قد سقطت على وجنتيه وفتح ذراعيه ليعانق إيلر فورما اقتربت منه. لم يقل أي شيء، عانقها بقوة وبصمت بينما بكت هي بالصمت ذاته بصدره مجددًا، وتركها جيمين لتبكي كل السوء بقلبها حتى شعرت بالارتياح.
سارا ببطء إلى جانب حقل قريب، ذراع جيمين كانت تطوق إيلر، وكانت هي تضع رأسها على كتفه. كانت الشمس قد بدأت تنتقل للغرب، وكان الهواء يحرك أعشاب الحقل باهتة اللون. جلسا أخيرًا عند صخرة كبيرة، جيمين يستند عليها وإيلر تستند عليه حتى استدارت لتريح خدها على صدره وتسمع نبضات قلبه.
كان الهدوء مطبقًا على المكان حتى قررت إيلر كسره «عندما كنت بالسادسة من عمري سمحت لي والدتي لأول مرة أن أستحم بمفردي، لكنني كدُت أنزلق وأضرب رأسي بالحائط لولا أنها دخلت الحمام وأمسكت بي قبل ذلك.» أخبرته بهدوء «كدتُ أن أنزلق اليوم بينما كنت أستحم، وتذكرت تلك الحادثة عندما كنت بالسادسة. عندما ظننت أني صرت بخير هاجمتني كتلة ضخمة من الذكريات فجأةً وأجبرتني على الجلوس على الأرض.»
استدارت إيلر مجددًا، وصارت الآن تجلس على ساقي جيمين تحتضنه من الأمام «لقد كان استرجاع ذكرياتي مؤلمًا للغاية، لكنني تمالكت نفسي ولم أرِد شيئًا غير أن آتي إلى هنا.» كان جيمين يستمع لها بتركيز، وكان يقربها إليه حتى لم يعد هناك مكان لتقترب أكثر «لقد استرجعت ما تبقى من ذكريات عندما كنت عند قبر أمي.»
رفعت رأسها تنظر لعينيه حيث الدموع تهدد بالتدفق على وجنتيه «أتذكر الآن أول مرةٍ رأيتك بها في المقهى، أتذكر أول رسالةٍ أرسلتها لي، أتذكر كيف جعلتني أكسر روتيني اليومي، أتذكر كيف واسيتَني عندما أخفقت بأحد الامتحانات، أتذكر عندما شكرت النجوم لوقوعي في حبك وتحقيقها لأمنيتي، أتذكر مواعيدنا التي كانت عبر مكالمات الفيديو عندما سافرت للولايات، أتذكر عندما فاجأتني بقدومك من هناك بعد آخر امتحانٍ جامعي لي، أتذكر عندما كنت تنتظرني نهاية مذبح الكنيسة بيوم زواجنا، أتذكر كيف كانت ردة فعلك عندما أخبرتك بأنك ستكون أبًا، وأتذكر كيف كنت معي بكل لحظة حتى أُدخلت لغرفة العمليات لألد.»
بكى كلاهما، لقد انتظر جيمين هذه اللحظة طويلًا، انتظر أن تعود ذاكرة إيلر لها لتتذكر حياتهما معًا، انتظر أن تعود زوجته له كما فقدها قبل سنة، وها قد حصل على مبتغاه الآن.
«أتعلمين، لقد تمنيت أنا أيضًا من النجوم شيئًا. لقد تمنيت أن أشعر بدقات قلبي مجددًا، ومن المستحيل أن أشعر بها لولاكِ.» لم يأبه أحدهما بالدموع التي بللت خديهما وكأن السماء أمطرت وابلًا عليهما «كنتُ أعاني دون وجودكِ إلى جانبي، كنت مرهقًا ضعيفًا لا أقوى على أي شيء، لقد كنت أفتقدك باليوم ألف مرة أتوسلك أن تعودي لي، وها أنتِ الآن بين يدي مجددًا.»
«أنا آسفة.» همست له بانكسار «آسفة لأنني لم أرَ ابننا يكبر معك، آسفة لأنني تركتك تواجه المصاعب وحيدًا.»
«لا تقولي هذا.» تذكر جيمين ذلك اليوم الذي تمنى به أن يشعر بقلبه ينبض مجددًا، ذلك اليوم الذي لم ير بعده إيلر بالشقة مجددًا، ذلك اليوم الذي توهم فيه إيلر تقول له هذا الكلام ذاته «لم يكن أيٌ مما حصل ذنبك.»
لم يعد أي منهما يستطيع الصبر أكثر، وسارعا بتقبيل بعضهما بلهفة وشوقٍ وسط اشتياقهما لبعضهما. لم يأبه أحدهما للشمس التي تغيب، ولم يأبه أحدهما للنجوم التي سطعت في السماء، لم يأبه أي منهما لأي شيء عدا كونهما قد اجتمعا معًا مجددًا أخيرًا بعد كل ما واجهاه من صعاب. لم يترك أحدٌ منهما الآخر، ولم يرد أحدٌ منهما أن يتركه الآخر. لقد كانا بعيدين عن بعضهما لفترة طويلة للغاية، وحان أخيرًا الوقت الذي يستطيعان فيه أن يقولا بأنهما قد عادا لبعضهما أخيرًا.
لم تكن إيلر شاكرةً لليوم الذي تمنت به الوقوع في الحب بقدر الآن، ولم يكن جيمين شاكرًا لليوم الذي تمنى به الشعور بقلبه ينبض مجددًا حتى الآن.
كلاهما كان ممتنًا لهمسه بأمنيته للنجوم، وكلاهما كان ممتنًا لتلك النجوم.
—————
اعترف اني صحت وانه اكتب الفصل لدرجة اني صدعت
احس خلاص يعني كفاية احزان :(
اخيرًا إيلر تذكرت كل شي، تعبت نفسيتي وانه اشوفهم يعانون ياخي.
الأمنية الأولى كانت سعادة سعادة سعادة حزن
والأمنية الثانية صارت حزن حزن حزن سعادة
بس يعني شرايكم فيني وانه اعطيكم فصول طويلة (مقارنةً بفصول أمنية النجوم عادةً)؟
المهم احب اذكركم ان الرواية من وحي الخيال وان النجوم ما تحقق الأماني، اذا تبون شي اطلبوه من الله☺️💙
اشوفكم الجبتر الجاي✨
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top