بين مقبلٍ ومودّعٍ

بقلم نهال عبد الواحد

صالة مزدحمة بين ذاهبٍ وعائد، مَن يسير متبخّترًا جارًّا حقيبته ومَن يركض بها متعجّلًا، بين لقاءات باكية بين مودّعين ولقاءاتٍ حارّة لمشتاقين بعد طول غياب ومسافات!

كانت لتوّها عائدة من رحلةٍ طويلة قد واجهت الجميع وعاركتهم من أجلها، رحلة ضحّت من أجلها بكلّ شيءٍ حتى أهلها وحبيب عمرها!

هاهي تشتاق إليه بجنون وتمنّي نفسها أنّه لا زال على العهد حتى اللّحظة ومؤكّد أنّه يعاني من نفس الشّوق والوجد!

حالها كما قال الّشاعر:
« أُغالِبُ فيكَ الشَوقَ وَالشَوقُ أَغلَبُ
وَأَعجَبُ مِن ذا الهَجرِ وَالوَصلُ أَعجَبُ»

شردت في ذكرياتهما معًا محدّثةً نفسها، كيف كان يبذل كلّ ما في وسعه ليسعدني! كيف صدق بوعده لي وتقدّم لخطبتي!  بل ما أجمل يوم الخطبة وما تلتها من أيام وأسابيع!

كنتُ سعيدةً بحبّه كأي فتاة تسعى إلى حبيبها وتعدّ اللّيالي والأيام حتى يتحقّق المراد ويجمعهما عش الزّوجية السّعيد... إلى أن غزتني تلك الأفكار وقلبت حالي من حالٍ إلى حال، فبعت كلّ غالٍ من أجلها!

لا زلتُ أتذكرك يا أحمد وأنت تقنعني بهدوء منطقك تارة وبعصبيتك تارةً أخرى... لقد أقسمت عليّ أن أحافظ على حبّك، كدتَ تتوسّل إليّ أن أعود إلى رشدي لكنّي اخترتُ شيطاني، قُلت لي بالحرف: «ستخسريني يا أفكار إن تبعتِ هواكِ» بالفعل خسرتك وخسرتُ الكثير والكثير...

أنا فقط أردتُ أن أحقّق ذاتي وكياني، أعجبتني أفكار المساواة بين الرّجل والمرأة وتحرّرها من قبضة الرّجال، اقتنعتُ بها واعتنقتها بقوة حد الاعتقاد! ضربتُ بكلّ شيء عرض الحائط دون أن أرى الحقيقة، وأنّها لم تكن أفكارًا، لم تكن سوى مجرد أوهامٍ...

إنّها النّسوية أو خدعة تحرير المرأة، وهي في الأصل مجرد فلسفة لتثوير المرأة على الرّجل، لكن الحقيقة الخبيثة أنّها أيديولوجيا كاملة، ولا عَلاقة لها بمناصَرة حقوق المرأة، فما اكتشتفته لم يكن  تحقيقًا لمفهوم الأنوثة، لكنّها في الواقع تجعل معيار النّجاح هو تحقيق ما يُحقّقه الرّجل، الإعجاب بالذّكورة واحتقار الأنوثة...

نحن لم نكن نناصر لحقوق المرأة، بل حرصنا على كبْت المرأة وإخفاء معالمها، واعتراف بعلو القِيم الذّكورية، قمّة التّناقض واختلال المعايير...

استقرَّ في وعيي أنّ المرأة كائن ضعيف، وحتى ينصلح هذا الكائن الضّعيف لا بد أن يكون رجلًا، ولذلك لابد أن تتقمَّص الشّخصية الذّكورية، وتُحقق النّجاح الذّكوري.

نبدو تيارًا يدعو ظاهريًّا للهجوم على الرّجل، وكراهية الرّجل، لكن في الواقع ننشُدُ كلَّ ما حقَّق الرّجل، ونمحو كل خصائص المرأة، وكلّ ما يميز المرأة وطبيعتها، ومسخ خِلقتها وفطرتها ونفسيتها حتى نصبح في الأخير رجلًا بجسد أنثى بقلبٍ ذكوري وبطموحاتٍ ذكورية...

ما لم يعرفه الكثير أنّنا صِرنا نكره أنفسنا كرهنا لكوننا إناثًا حد الدّونية والاحتقار! ترسّخ في أذهاننا أنَّ الذّكور يتآمرون علينا عبر التّاريخ، حتى يكونَ كلُّ شيءٍ ذكوريًّا.

وذلك لنثور على الرّجل، ثم ننزع طاعة ولي أمرنا، نتمرَّد على أسرنا، ثم نثور على كلّ شيءٍ، ثمّ بعد كلّ هذا أصبحتُ عن نفسي أستشعر أنَّ المحيطين بي يتآمرون عليّ، لم أعد أثق بأحد! تحوّلت مع الوقت إلى شخصية عدائية، صِرتُ سريعة الشّعور بالإهانة، أتحسَّس دائمًا لأي كلمة تصدر من الرّجل، أعتقد دومًا أنّي على صواب! صِدامية لا أتسامح مع أحد وأُسيء الظّن بالجميع! أشعر كأنّي صِرتُ مصابة بالبارانويا!

صِرتُ ألعن الرّجال صباحًا ومساءً وكأنّها وظيفتي الوحيدة بالحياة! وصلتُ لدرجة محاربة الأمومة والدّعوة إلى حرّية الإجهاض والنّيابة في الحمل والرّحم الصّناعي؛ فالجسد جسدي وكلّ امرأة حُرّة في جسدها لدرجة أنّي اقتنعتُ تمامًا بحرّية العلاقات لأبعد صورة وبحجّة الحرّية اقترفتُ الكثير من المخالفات، المهم ألّا أكون تحت حكم رجل!

الحقيقة الّتي عِشتُها بين الغرب -مَن ظننتُ أنّي سأعيش قمّة الحرية- لم تكن سوى حرية زائفة، ومساواة زائفة، لأن باختصار أي فرصة عمل لأبني ذاتي وكياني تتطلّب في المقام الأول حسن المظهر ومدى جاذبيتي... ليس إلّا! أمّا أي مهارة ومؤهّلات تأتي في آخر القائمة.

وحسن المظهر والجاذبية لم يكن يحمل إلا تبعاتٍ بعينها وكم لانهائي من التّنازلات... لتظهر الحقيقة الواقعية... أنّ ثمن حرّيتي الّتي حاربت لأجلها كان تحوّلي إلى مجرد وسيلة للاستمتاع بكل صوره... وإلّا فالثّمن طردي فتحمّلت وتنازلت وسِرتُ في القطيع...

ذاك العالم المدّعي لحرية المرأة ويسعى جاهدًا لحماية المرأة العربية -على حد قولهم- هو أسوأ مَن يهين نساءه ويستخدمها لأجل المتعة بعد أن ثوّرها كي ترفض أن يكون لها عائل يحميها ويقوم على رعايتها،  وبعد أن تترك وحدها تجد نفسها في العراء مكابدة كلّ شيءٍ وحدها... ليتم استغلالها بنجاح دون أن تجد ما يحميها... فتظلّ في قاع الوحل مدى حياتها، لكن بعد إعادة تسميته بالحرية المطلقة... والّتي ليست سوى حرية جسدية فراشية بلا قيود أو رادع أو تحمّل مسؤولية حتى لنتاج تلك الحرية من أجنّة مباحٌ قتلها بأي صورة...

كانت شاردة كثيرًا لدرجة اصطدامها بأحدهم، لتكون المفاجأة! جحظت عيناها مصدومةً حين رأته أمامها بنفس طوله ووجهه الباش الودود، وقد أدركت أنّ قيمة الرّجل أن يحمي المرأة، فمطلب الأمان عند المرأة هو المطلب الأول والرّئيس لها في أي علاقة!

تنهّدت بكل شوقٍ وهمست تناديه: أحمد!

كان في بادئ الأمر ينظر إليها مندهشًا متطلّعًا لذلك المسخ الواقف أمامه، تخلّل أصابعها بين خصلات شعرها قصير بالكاد حدّه إلى أذنَيها خليطًا بين الخصلات السّوداء والبنفسجية، ثمّ وضعت إحدى يدَيها في جيب بنطال من الجينز بينما يدها الأخرى معدّلة بها كنزتها الضّيّقة مفتوحة الصّدر مظهرًا ذلك الوشم تحت عظمة التّرقوة مثل اخيه الآخر الموشوم على ساعدها، وحول خصرها النّحيل سترة زرقاء مربوطة!

لكن حين نادته باسمه مبتسمةً بوجهها الحنطي المنحوت خلع نظّارته الشّمسية جاحظًا فيها بعينَيه العسليتَين! وقد أُلجم لسانه هيئتها المشمئزة!

فنادته مجدّدًا: معقول نستني يا أحمد!

ابتلع ريقه ببطء قائلًا: أفكار!

فاتسعت ابتسامتها مهدرةً: أيوة أنا أفكار، وحشتني أوي يا أحمد، يا رتني كنت سمعت كلامك، أنا خلاص رجعت ومش مسافرة تاني ولا هرجع لحياتي دي تاني.

قالت الأخيرة بنبرةٍ نادمة، فتنحنح قائلًا بعملية: وماله، ربنا يوفقك!

فتلاشت ابتسامتها تدريجيًّا وسألته: إنت لسه زعلان منّي حتى بعد السنين دي كلّها!

-أديكِ قُلتيها، بعد السنين دي كلّها، أنا كلّمتك بدل المرة مرّات وهددتك إنك كده بتخسريني وبرضو مشّيتي اللي ف راسك، حتى والدك الراجل الكُبّارة ضربتِ بكلامه عرض الحائط لحد ما الراجل مات بقهرته! يا ترى انبسطتِ وبآيتِ اندبندنت وومان! الحقيقة أنا مش شايف أدامي حاجة تفرح، حتى حجابك رمتيه... وبآيتِ حاجة مش عارف أوصفها بكلمة مناسبة!

قال الأخيرة باشمئزازٍ قرأته فأومأت نادمة: بس أنا ندمت والله واقتنعت!

-وماله! حقك تندمي وتتوبي كمان، بس لازم تعرفي إنك هتتعبي شوية عشان تكسبي رضا أمك وأخواتك اللي اتبروا منك وادعي بأه بآيت حياتك إن أبوكِ يسامحك.

-هعمل فعلا كل ده... بس وانت معايا وجنبي، أنا كنت لسه بفكّر فيك وفي أيامنا الجميلة...

فقاطعها قائلًا: هتعملي كل ده لوحدك، انت اختارتِ طريق لوحدك ومشتيه فعلا لوحدك، يبقى لما تحبي ترجعيه ترجعيه برضو لوحدك.

-انت بتتخلّى عنّي يا أحمد!

-ربنا يعلم إني ياما حاولت معاك بصدق وحب حقيقي مش حب سيطرة وتملّك زي ما كنتِ بتصدعيني بيه، ياما حاولت أفهّمك الحقيقة، إن ربنا ساوى بينا بالفعل في التّكليف والعمل والجزاء، ولو في تفاضل ده لأن كل واحد فينا له طبيعته ومجاله اللي يقدر يتفوق فيه وما ينفعش التاني يقوم به من أساسه!

حتى إن الرّسول -صلّى اللّه عليه وسلّم - وهو حزين على فراق زوجته السّيدة خديجة قال عنها: «كانت ربّة البيت وأمّ العيال» ولما جاءه جبريل عليه السلام قاله إنها هتدخل عليه بطعام أو شراب فأقرئها السّلام من ربّها وبشّرها ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا وصب...

يعني وهي في مقام تكريم وتشريف اتشرّفت بمهمّتها كزوجة وأم، ربّة البيت وأم العيال مش تقليل ولا إهانة ولا أي سخف م اللي حشو به عقلك وحشيتو به عقول البنات وخربتوها!

يعلم الله إنّي حبيتك وأخلصت ليكِ، واستنيت إنك تندمي وترجعي لمدة سنة كاملة، يعني حتى بعد ما خالفتينا كلنا ما بعتكيش وقلت هترجع محتاجاني، لكن ما رجعتيش...

فقاطعته متوسّلة: واديني رجعت أهو يا أحمد!

ابتسم ساخرًا وأومأ قائلًا: ده صحيح، رجعتِ وندمانة كمان، لكن بعد عشر سنين! هل كان المفروض أعطّل نفسي وحياتي لحد ما تمنّي عليّ وترجعي لي ندمانة؟!

فنظرت إلى أسفل بخزيّ، فأكمل: أنا آسف يا أفكار، انت صفحة وقطعتها من زمان، أنا تخطيتك وتعافيت منّك خلاص.

فردّت بصوتٍ مختنقٍ بالبكاء: يعني مفيش أمل تسامحني وتقف جنبي؟

- سامحتك يوم ما نسيتك وكمّلت حياتي، لكن آسف ماقدرش أساعدك ولا أقف جنبك في أي مكان ولا بأي صورة.

-ليه بس؟! حتى ده مستكتره عليّ! ده انت طول عمرك شهم وكريم وبتساعد الناس!

فابتسم متعجّبًا وقال: مستغربك جدًا على فكرة، مش كنت شيطان رجيم وماليش حق في أي حاجة!

-وقلت لك اتغيّرت وندمت، أعمل إيه يعني؟

-وأنا قلت لك إن من حقك تندمي وتتوبي لكن أنا مش هدخّلك في حياتي تاني بأي صورة، أنا ربنا كرمني بزوجة محترمة تتمنى لي الرضا أرضا، متحمّلاني وصيناني وشايلة معايا البيت والولاد، أسرتي هي دنيتي اللي مش ممكن أغامر بيها ولا أضحّي بأمانها حتى لو كان لعمل الخير، ما فيش إنسان يفتح على نفسه باب يحتمل ما يكونش أده، صحيح أنا بتقي الله لكن اللي يفتح صدره ويراهن على نفسه يبقى بيعرّض نفسه لمغامرة غير محسوبة العواقب، أنا بشر مش هحط نفسي في موقف يحتمل أضعف بسببه واخرب حياتي وحياة أغلى ناس عندي، حتى لو أنا بالقوة اللي أقدر أحكم نفسي مش هعيّش مراتي قلقانة وعلى أعصابها طول الوقت عشان أنا عايز أعمل خير، أحط بيتي وحياتي فوق فوّهة بركان الله أعلم هينفجر امتى! بس وقت ما ينفجر هيدمر كل أخضر ويابس... بتمنى لك السعادة وإنك تلاقي نفسك بعيد عن الأوهام اللي بوظت عقلك دي.

فسالت دموعها وفاضت على خدَّيها وأومأت له نادمة: ربنا يسعدكم... يا بختها بيك، أما أنا فكان لازم أدفع التمن...

ثمّ تحرّكت مبتعدةً جارّةً ساقَيها وقد غمرها الحزن ونال منها ما نال، رأت نفسها المصرّة في بادئ الطّريق كما ترى نفسها الحالية شديدة النّدم، كيف خُيّل لها أنّ ظمأ ذلك الشّوق الطّويل بعده ارتواء، لكنّه كان كماءٍ عذب أمسكته بكفٍّ مفتوحة وأصابع منفرجة، فما كان إلّا أن يذهب هاربًا منها بلا رجعةٍ قبل أن تتذوّق منه شيء!

بينما هو ظلّ واقفًا يتبعها بعينَيه آسفًا من أجلها محاولًا طرد تلك الأشواق والذّكريات الّتي هجمت عليه فجأة بشراسة، لكنّه بالفعل قد تخطّاها منذ أعوام، وكان عليه غلق هذا الباب، بل سدّه تمامًا قبل أن يلجه ويذلّ فيه ويظلم معه أحبّ النّاس إليه، أو يعاني من رواسب إحدى أفكارها العقيمة...

وما أن التفت حتى تفاجأ بزوجته واقفةً ناظرةً له دون أن تعقّب عاقدةً ذراعيها أمام صدرها، ارتبك أحمد بعض الشّيء ثمّ ابتلع ريقه مفكّرًا بسرعةٍ كيف يتصرّف بحكمةٍ معها؟

اقترب منها وربّت على كتفَيها بلطفٍ ولا زال يفكّر لكنّها سبقته قائلة: ما تغلّبش نفسك يا أحمد، أنا سمعت كل حاجة وعجبني ردك الصراحة...

فتنهّد براحةٍ لكنّها أكملت: بس هل للكلام ده مخرج؟ هل ممكن ترجع لك تاني وتحاول تاني وتالت وعاشر؟! هل...

فاقترب مرّة أخرى وتجرّأ وضمّها إليه في مكانٍ عام ففاجأها بحركته فاستكانت بين يديه، فهمس لها: اطمني، انت اللى فى القلب، انت ضلعي اللي اتخلق منّي، وأبقى غبي وأغبى غبي كمان لو ضيّعت المضمون وروحت أجري ورا الأوهام، هي صفحة اتقطعت واترمت من زمان، إنما انت الدفتر كله بين إيدك، كتبتِ فيه على أد ما كتبتِ ولسه باقي الصفحات ملكك اكتبي فيه اللي انت عايزاه... أما هي فمش هتحاول تاني، إحساسها إنها ظلمتني لسه مسيطر عليها غير مشاعرها ناحيتي، دول يخلّوها تبتعد وتتمنى لي السعادة بكل راحة...

ثمّ أبعدها عنه برفق وقبّل جبينها فابتسمت فتلألأ وجهها اللّؤلؤيّ، عدّل حجابها المحتشم بيدَيه واقترب هامسًا: بحبك!

فهمست له مبتسعةً ابتسامتها ومعلّقةً ذراعها في ذراعه: وأنا كمان بحبك أكتر وأكثر...

فربّت على كفّها بحب قائلًا بمشاكسة: طب يلا نلحق طيارتنا! ده أنا محضّر لك حتة بروجرام، هتعيشي أحلى عيد جواز ف حياتك...




تمّت بحمد الله 💜  2024

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top