الفصل الثاني


بعيداً عن ضجيج العاصمة طوكيو وشوارعها المكتظة و بإحدى القرى الريفية الهادئة المسمى بشيزوكا ، كان ذلك الطفل ذو الثامنة من عمره نائماً بعمق غير آبه بحياته التي خلت معظم أيامها من الهدوء .

تقدمت والدته ذات الشعر البُني القاتح بينما ترتدي ثياب رسمية بسيطة ملائمة لعملها لتقف أمام السرير الصغير الخاص بطفلها بينما تهزه بكل هدوء ورقة :" يوشي هيا إستيقظ حتى لا تتأخر يا طفلي "

فتح يوشي عيناه الزرقاوتين بينما يتثائب بنعاس إلا أنه أجبر جسده على الإعتدال وهو يتحدث ببحة خفيفة بسبب آثار النوم :" إستيقظت يا أمي "

قبلته على جبينه بحنان بينما تنطق بهدوء :" حسناً يا صغيري ، الفطور معد بالفعل وهو على الطاولة ، لا تتأخر بالنهوض وإعتني بنفسك جيداً "

لم يستطع منع نبرة حزينة من الخروج وهو يتحدث بصوته الطفولي :" حسناً أمي ، إعتني بنفسك أيضاً "

نظرت له بحزن فهي تعلم أنه يقضي معظم وقته وحيداً بالمنزل لكن ماذا يمكنها أن تفعل ؟

هي سيتوحب عليها العمل لأجل صغيرها وتوفير ما يحتاجه على الأقل الأساسيات فقط .

شعر الصغير بحزن والدته ليرسم إبتسامة هادئة على شفتيه بينما يغادر فراشه :" لا تقلقي أنا بخير حقاً "

عادت لتقبله مجدداً وتغادر المنزل ليبقى صغيرها وحده به ، هو أخذ حماماً دافئاً ثم إتجه إلى المطبخ وتناول طعام الإفطار بكمية قليلة قبل أن ينهض و يتوجه للمدرسة سيراً على الأقدام ، هو تقريباً بحاجة لربع ساعة حتى يصل ليصل لها .

*************************

توجه يوشي إلى مقعده والذي كان في أول مقعد في منتصف الصف بينما من يجلس بجواره فتى مشاكس و تعتبر أسرته واحدة من أغنى الأسر الموجودة بالقرية !

مقارنة بالطلاب الآخرين فيوشي شخص غامض لهم ، لا يتحدث معهم إلا نادراً كما أن لا أحد منهم سيحاول الإقتراب منه بما أن من يجلس بجانبه إبن أحد اغنى الموجودين بالقرية إتخذ منه دمية ليزعجها و يتنمر عليه .

وأيضاً ذكائه بدراسته جعل منه متوفقاً للغاية مما يجعل الأستاذ دائماً يمدحه دون سواه وهذا ولد بعض الغيرة من بقية الأطفال بالفصل ، فالفصل الواحد يتجاوز عدد طلابه الثلاثين أو أكثر !

وبالرغم من كل ما كان يصيبه هو كان يرفض فقط الخضوع أو البكاء أمامهم ، لم يرد تخييب ظن والدته به مهما حدث .

*************************
إنتهى الدوام المدرسي أخيراً لينهض يوشي من مكانه بهدوء و يضع الكتب بداخل حقيبته و ينطلق بلا مبالاة لكل ما حوله !

لكن من يستمتع بالتنمر عليه لم يعجبه أن يذهب فقط لذا توقف بمنتصف الساحة وهو يتحدث بسخرية :" على مهلك أيها الذكي هنالك موضوع علينا التحدث بشأنه ! "

لم يلتف يوشي له مطلقاً وكأنه لم يستمع لصوته حتى وهذا أغضب الفتى الذي سار بسرعة ليمسكه من كتفه بينما ينطق بحده وإنزعاج :" أنا أتحدث إليك أيها المتشرد ! "

هو أنهى جملته ليقوم بلكم يوشي بقوة على وجنته مما جعله يتراجع خطوة أو إثنتين للخلف ، وبعدها هو نظر للفتى بعينان تشعان بالغضب و اليأس !

هذا يؤلمه دائماً ولكنه فقط صمت ونظر له بهدوء وكأنه ينتظر أن يتحدث من أمامه بينما كف يده الصغير الأيمن يمسح على وجنته المشتعلة من الألم عله يخفف عنها .

نطق الطفل الآخر بعد أن تجمع العديد من الاطفال حولهما :" عندما يتحدث أسيادك عليك أن تجيبهم ! "

توسعت عينا الصغير الفيروزية بغضب شديد ، تمنى لو أنه كان قادراً على ضرب الفتى الذي أمامه بشدة فهو لا يتوقف عن التحدث عن والدته بسوء !

والدته التي تعمل لأجله بالمصنع الذي تمتلكه أسرة الفتى الذي يهينه دائماً ، هو لا يعلم كيف عليه الهرب من واقعه !؟

فزميله بالفصل و المتنمر دائماً ما يخبره بأنه عليه أن يخدمه و أن لا يجيبه حتى لا تفصل والدته من العمل !

ليس وكأنه صدقه إلا أنه بإحدى المرات سأم من الفتى وقام بضربه بقوة ، بالكاد تمكن المعلمين من الإمساك به وإبعاده عنه لكن بعدها بيوم كانت والدته قد طردت من العمل دون أن تدرك السبب .

هو إضطر بعدها بأسبوع الإعتذار للفتى و التوسل له أيضاً ليعيد والدته التي يأست من البحث عن عمل آخر .

هو يمتلك شخصية وعقل أكبر من عمره الصغير بسبب الحياة التي إضطر أن يخوضها ، لذا هو يتجرع الألم و الذل بصمت دون أن ينطق ولو بحرف واحد لأي إنسان حتى لا يجرح مشاعر والدته أو يرى السخرية بالآخرين .

تنفس بعمق وهو يرى الفتى يخرج كل ما بحقيبته ويلقيه أرضاً ليبدأ بالسخرية منه ومما معه و من حقيبته المهترأة وكالعادة بعد أن إنتهى إكتفى بتسديد ركلة لمعدته ليغادر .

وبعدها بفترة قصيرة يتمالك يوشي نفسه ويبدأ بإعادة أدواته وكتبه للحقيبة ومن ثم ينفضها لإبعاد التراب عنها ويعود للسير بصمت وعيناه الزرقاوتين تصبحان مظلمتان أكثر .

***************************
لم يتحسن مزاجه عند عودته للمنزل الذي لم تكن هناك حياة به بسبب وجود والدته بالعمل ، إلا أنه إتجه لغرفته وأخرج بعد الثياب و أنطلق للإستحمام بكل هدوء ، وكإحدى عادته هو تفقد جسده و الكدمات التي بدأ بعضها يختفي والأخرى جديدة كركلة اليوم التي تركت أثراً .

إنتهى من إستحمامه و توجه للأسفل ليخرج الطعام ويتناول كمية أقل من الإفطار حتى بسبب مزاجه العكر .

هو حاول بعدها القيام بواجباته المدرسية لكن شعوره بالحزن والألم أجبره على إلقاء الكتب بعيداً ليذهب لغرفة صغيرة جداً قريبة من غرفته وتعتبر مكتبة صغيرة للغاية يقضي بها وقته إن غضب .

أمسك بإحدى الروايات بها وبدء بالقراءة ، لكن عقله كان مشغول بالتفكير ما يحدث معه دائماً ، هو أغلق الكتاب بسبب تجمع الدموع بعيناه الفيروزية ، شهق بألم عندما سالت دموعه بغزارة وألقى ما بيده ليقف بمنتصف الغرفة وهو لا يعلم كيف يمكنه تفريغ كمية الألم التي يحملها بداخله .

تأمل المكان قبل أن يضرب المكتب بقبضة يده الصغيرة وهو ينطق بصوته الطفولي الباكي :" فقط قليلاً ، عندما أكبر أكثر سأجعله يندم ، أنا سأبحث عن عمل آخر ولن أهتم حينها إن طردت أُمي أبداً ! سأحطم وجهه القذر له و أنا .. "

صمت ليأخذ أنفاسه بسرعة فهو ما عاد قادر على التحمل أكثر ، لا يريد تحمل كل تلك الإهانة التي يتلقها بصمت لاسيما أنه قادر على الرد وبسهولة ، فذلك الفتى مجرد جبان يختبئ خلف نقوده والنفوذ الخاصة به .

بالنهاية هو إتخذ زاوية ما ليبدء بالبكاء بشدة محاولاً إخراج ما يعتصر قلبه الصغير و الذي تلقى أكثر بكثير مما يحتمله بحياته القصيرة هذه .

******************************

بعد عدة ساعات عادت هانا إلى المنزل وهي تشعر بإرهاق شديد , هذه الفترة هي تعمل كثيراً وبلا ساعة راحة واحدة حتى لذا فهي تعود محطمة بالكامل !

خرج يوشي من غرفته وهو يرسم إبتسامة لطيفة على وجهه وكأنه لم يكن هو الشخص الذي كان يبكي بحرقة بزاوية ما بالمكتبة قبل ساعات لينطق بشيء من المرح :" أهلاً بعودتك أمي "

هو إقترب ليقبلها على جبينها بخفة قبل أن يردف بقلق عندما أطلقت أنين خافت وهي تنحني لتصبح بمستواه :" هل أنتي بخير ؟ هل تشعرين بالألم ؟ "

إبتسمت له قليلاً لتبعثر خصل شعره الشقراء بينما تتحدث بكل هدوء محاولة إخفاء الألم من صوتها :" أهلاً بصغيري , لا لست كذلك يا طفلي , أنا بخير "

هي قالتها بينما تجلس على أول أريكة صادفتها لينطق هو بإنزعاج :" لا أنتي لستي كذلك ! لنذهب للمشفى الآن أرجوكِ "

هي أجابته بسرعة :" لا , لا داعي لذلك أنا بخير حقاً القليل من الراحة فقط وسأكون كذلك ! "

أردفت بعدها بإبتسامة حنونة في محاولة منها لإبعاد تقطيبة صغيرها القلقة :" والآن هل أنهيت فروضك ؟"

هو عبس بخفة بسبب مرور أحداث اليوم عليه لينطق بصوت خافت :" لا , ليس بعد لم أتمكن من ذلك "

هي نظرت له بقلق فهذه ليست من عادته مطلقاً !

تحدثت بعد برهة من الزمن :" لماذا هل حصل شيء ما يزعجك ؟"

إبتسم بتوتر وهو يجيبها :" لا , فقط وجدت رواية مثيرة بالمكتبة ولم أنتبه للوقت "

حدقت به قليلاً ليكمل هو بطفولية :" هل أنتي غاضبة مني الآن ؟"

هي إحتضنته بخفة لتتحدث :" لا , لست غاضبة لكنني لا أريدك أن تهمل دراستك موافق ؟"

إبتسم لها مجدداً وهو ينطق :" لا تقلقي سأفعل وكالعادة سأكون الأول على الفصل ! "

إبتسمت له بحنان بينما أردف هو بإستياء بينما يراها تذهب لغرفتها :" ألن تتناولي طعامك ؟ "

نطقت دون أن تلتفت له :" لا يا صغيري أرغب بالنوم قليلاً , عندما أصحوا سأتناوله "

هو عبس بإستياء طفولي بينما يشعر بالقلق الشديد عليها , بالرغم من صغر سنه إلا أنه يتمنى أن يساعدها بكل الطرق الممكنة , لا يريد أن يحدث لها مكروه فهي أسرته الوحيدة لا حياة له من بعدها مطلقاً .

هو أراد إبعاد كل تلك الأفكار المزعجة من عقله لذا نطق بصوت مرتفع :" أمي هل يمكنني الذهاب لمنزل خالتي ؟ "

نظرت له لتجده يبتسم بمرح لتنطق :" أجل يمكنك الذهاب لكن لا تتأخر حتى تعود وتكمل واجباتك "

هو أجابها بهدوء :" لا تقلقي لن أفعل ! أترغبين بأي شيء قبل أن أذهب ؟"

تحدثت بإبتسامة حنونة :" فقط إعتني بنفسك أوصل تحياتي لخالتك "

أومأ لها لينطلق بسرعة نحو منزل خالته , هو ليس ببعيد عنهم ويوشي معتاد على الذهاب هناك بكثير من الأحيان للعب مع أبناء خالته وبالرغم من أن أكبرهم بالخامسة ربما ؟! لكنه يفضل اللعب معهم والخروج من عزلته قليلاً ومن هو أصغر منه سناً يجعلونه ينسى حقاً كل تلك التنمرات التي يتعرض لها .

*************************

ما إن إستيقظت هانا حتى بدأت ترتب المنزل بكل هدوء حتى لا توقظ طفلها النائم فالساعة تشير لما بعد منتصف الليل تقريباً , المنزل لم يكن كبيراً حقاً بل العكس هو صغير للغاية بحيث يتألف من غرفتين نوم صغيرتين وغرفة للضيوف وهي واسعة قليلاً , مطبخ متوسط الحجم وحمام صغير وشبه غرفة إن صح تسميتها بذلك للكتب والتي يفضل الصغير الجلوس بها دائماً .

لا يوجد أي حديقة للمنزل , هي إنتهت من الترتيب وتناولت القليل من الطعام بينما تحدق بإنزعاج بالكمية التي تناولها صغيرها , وهذا جعلها تدرك أنه مستاء اليوم أيضاً , ليس وكأنها لا تعلم أن طفلها يحاول بكل جهده أن لا يخبرها بألمه أو حزنه حتى لا يثقل عليها وهذا أحياناً يزعجها وبشدة , هي نهضت من مكانها وإتجهت لغرفته دخلت بهدوء وجلست على طرف سريره لتقبل جبهته بلطف بينما تنطق :" لا أريدك أن تصبح كتوماً للغاية , أعلم أن هذا سيكون مؤلماً جداً يا صغيري , أنا هي والدتك وأنا من علي تحمل العبئ بأكمله لا أنت "

قبلته مجدداً وأعادت ترتيب الغطاء من حوله لتغادر الغرفة ثم إتجهت لغرفتها لتحاول النوم مجدداً لكن أفكارها قادتها نحو الجزء الثاني من أسرتها والتي تتسائل كل يوم إن كانوا بخير أم لا ؟!

هي همست بكل هدوء :" أحلام سعيدة لكما "

لتغمض عيناها بكل هدوء .

~ نهاية الفصل ~

قراءة ممتعة

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top