الفتاة الصغيرة
شاءت الأقدار أن تقوده إلى أشحاص أخيار ينقادون إلى ربهم، و ما زالوا متمسكين ببصيص الأمل الخافت التي يناضل العامة للإبقاء عليه، فعلى غرار أن المحتلين الأشرار استولوا على بلده و ممتلكاته و جزوا نصابه من الحياة، بيد أن هؤلاء استضافوه و رحبوا به -مجازيا- على الأقل.
دس الدنانير الأربعة في جيبه و أقبل يصيح من جديد؛ لكن هذه المرة بعزم أكبر و ثقة أن بعد الحرج لا يوجد سوى الفرج، عزم يتمنى أن يقوده إلى مبتغاه على دروب الحياة الوعرة و المطبات المتناثرة هنا و هناك.
ظل يعمل طيلة الفترة الصباحية إلى أن حلت الظهيرة، فاتجه صوب عيادة الطبيب عماد ليخضع لفحوصات جديدة، و قد أقبل على تلقي العلاج؛ كان عليه أن يلتزم بالمواعيد المحددة بدقة، و أن لا يتخلف عنها كل يوم على الأقل إلى حين تجاوز المدة شهرا، حينها سنتقلص إلى فترات أسبوعية و هكذا حتى يشفى بإذن الله.
مر اليوم الأول، الثاني و الثالث... و هكذا كانت تتسابق الأيام فيما بينها؛ و من بين هذه الأيام كان عبد الله في أحدها، عائدا من للمنزل بعد يوم طويل خاض فيه صراعات الحياة اليومية بين الخضوع للعلاج و العمل في الميناء لتوفير حاجيات عائلته.
كانت الشمس على أهبة المغيب، و الشفق الأحمر يطل عبر الأفق مزينا السماء بهدوءه و كأنما العالم في سكينة بعيدا عن كل هذا الصراع، الذي مبتغاه سد الحاجة اللاعقلانية للجشع المتربص بالأغلب من الناس.
يسير عبد الله بخطى متباينة ليعبر زقاقا ضيقا مهترئا تكسوه الظلمة، و يثير القشعريرة في الأبدان، لكن ليس بيده من حيلة فهذا معبره الوحيد إلى حيث يعيش، فجأة أثار انتباهه حفيف خافت لم يكد ليستوقفه لولا الهدوء المخيم على المكان.
التفت عبد الله بحثا عن مصدر الصوت، ليلاحظ أن منبعه قادم من خلف مكب النفايات؛ أراد أن يتجاهل الصوت و يكمل مسيره لكن الصوت انتقل من حفيف خافت إلى نحيب مسموع للعيان، فاتجه نحو السخص الذي يصدر الصوت بحذر فإذا بها تتضح صورة لفتاة لا تكاد تقارب الخمس سنوات.
كانت مستلقيت على الأرض دون حراك، ما عدا أنها تبكي بتكتم و تمتد يدها لتلامس الجدار و هي تخدشه بأصابعها الصغيرة، و يبدوا أن هذا ما كان يسبب صوت الحفيف الغريب ذاك.
مع أنها كانت تجكم إغلاق عينيها بخوف، فقد ظل عبد الله يراقبها في صمت و هو بتحسر على هذه المسكينة، فمن ذا الذي يجرؤ و يرمي بهذه الصغيرة إلى هنا..؟! كان بتأملها بروية، طفلة بالخامسة تقريبا، ذات بشرة بيضاء كالثلج و قد ازرقت بسبب البرد القارص الذي يحاوطها، كما تملك شعرا ذهبيا حريريا ينم على أنها واحدة من أولئك الأجانب على الرغم من أنه يعبق بالأوساخ، فهذا منال من يتلوى بين الأوساخ و ينتظر حدفه ليستريح.
كانت الفتاة ترتدي ملابس مهترئة و ممزقة تطلعك على مدى معاناتها، لم يتردد عبد الله و لو لثانية في حملها بين دراعيه، و ضمها إليه كي تدفأ قليلا، و إذا نوع من العطف و الحنين يسيل إليه، و كأنه بحتضن عائلته ، تذكر عندما كان صغيرا حينما يعانقه والده بالمثل إذا وقع و تأذى ليخفف عنه، و كيف كان يربث على ظهره بلطف أبوي يغمره إلى أن يهدأ و يكف عن البكاء.
الفتاة هي الأخرى بادلت عبد الله العناق و تمسكت به بقوة ليس و كأنه سيهرب منها، لم تفتح عينيها لتنظر إليه حتى، أو تنطق بحرف إنما أطبقت على هذه السكينة بلطفها الصامت حينما كانت متمسكة به و قوتها تكاد تخور.
نهص عبد الله أخيرا عندما خفت شدة عناق الطفلة له، و ذهب بها صوب العيادة، عيادة الطبيب عماد؛ أسرع بخطواته إلى ما يشبه الهرولة و هو يحمل الطفلة التي بدى و كأنها غفت، لكن يا للحسرة فعندما وصل كانت العيادة مغلقة بالفعل، نظرا إلى أن عماد يقفل بمجرد الغروب، و حاليا فالظلام الدامس قد استوطن المكان بالفعل و يطغى عليه مثلما احتل المستعمرون بلاده و موطنه، ما عدا الإنارة الخافتة التي تتدفق عبر نوافذ المباني المجاورة، لتتيح له إمكانية إيجاد طريقه الظال.
أكمل مسيره نحو تلك الغرفة الضيقة التي تثير اختناقه -بيته- أو هكذا يسميه ليقنع نفسه بالألفة و يبتعد عن هذه الغربة التي تنهش أفكاره في كل دقيقة، لا.. بل في كل ثانية يقضيها من حياته.
في بادئ الأمر واجه صعوبة لفتح الباب، نظرا إلى أنه يحمل الطفلة الصغيرة، و هذا راجع أيضا إلى كون الباب قد نال مناله من الزمن و باث صدئا لدرجة أنه أحيانا يعلق بهذا الشكل، لكن في النهاية تمكن عبد الله من فتحه بمعونة الله و لتوكله عليه.
ليصدر الباب صريرا مزعجا ما إن زحزحه، فتحه على مصراعيه و تقدم للداخل؛ ما تزال الفتاة ممسكة بعبد الله و متشبثة بقميصه بكل ما أوتيت من قوة، على الرعم من أن منظرها يوحي على أنها نائمة بالفعل، حاول أن يضعها على السرير الصغير، لكن من دون جدوى فيبدوا أنها تعلقت به و من دون أن ترى وجهه حتى.
و كالمعتاد سار الليل بخطى بطيئة تتثاقل كلما انغمس عبد الله بتفكيره في كل ما حوله، من مشاكل و وحدة و خاصة في عائلته التي تركها بيد الله دون رقيب أو عتيد و ما زاد الطين بلة هو الطفلة البريئة، ظل يفكر و يفكر، ترى ما مصير هذه الفتاة الصغيرة؟ و من تكون على أية حال؟ و كيف أو من أوصلها إلى ذلك المكان الرث؟.
فما أقبح استغلال و إيذاء الأطفال..! و ما أجمل العناية بهم..!
أوليس الأطفال هم رجال المستقبل و أعمدة المجتمع؟ إذن لماذا يعاملونهم هكذا..؟ جميعنا كنا أطفالا يوما و احتجنا إلى رعاية و حنان، و مع الأسف فمعظمنا فقط من حصل عليه و ليس الجميع محظوظا كغيره.
طلعت الشمس معلنة عن بداية يوم جديد، و هي تطل من بين الغيوم الملبدة في السماء لتعكر صفو هذا الصباح، كان عبد الله يستكين بجانب السرير دون حراك، و هو يتأمل ملامحها الطفولية البريئة، و هي تغط في نوم عميق بطمأنينة.
ما يزال الهدوء يخيم على المكان، إن استثنينا بالطبع الضوضاء الصادرة من الخارج كالمعتاد، حالت الأسئلة و الإستفسارات تناب عبد الله بين الفينة و الأخرى، ماذا سيفعل بالطفلة الآن؟ لا يمكنه الإحتفاظ بها، و إلا كيف له أن يعمل تزامنا مع هذا؟ و غيرها من التساؤلات التي انهمرت على رأسه كالشلال و لا يدري كيف يخرج نفسه من هذه الورطة؟..
نهض بهدوء و تقدم إلى الطفلة ليهزها برفق كي تستيقظ، لكنها بدأت تتقلب في السرير و هي تعيد رفع الغطاء على رأسها لتختفي تحته تماما نظرا إلى كونها هزيلة نوعا ما، ابتسم عبد الله تلقائيا على تصرفها الطفولي هذا و لظرافتها.
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top