أطبق الظلم علينا
في بلدة صغيرة يعمها السلم و السلام، أناسها أخيار من عبدة الله المؤمنين، يسود بينهم الوقار و الحياء. و قد كانت هذه البلدة محطة أنظار السياسيين و الجشعين .
فاقتحموها مرة، و راحوا ينهبون خيراتها و يرعبون سكانها، و كان مصير كل من لا يطيعهم، السجن و الأعمال الشاقة لأشهر، و من بينهم رجل يدعى عبد الله ، كان رجلا فقيرا، محترما ،يعيش رفقة أبويه و زوجته الصدِّيقة، و لم يكن له آن ذاك أطفال و لا مزيد من الأقارب ، كما أنه كان مثالا يحتدى به ...
و قد أخذ إلى السجن ، هو و مجموعة من الفدائيين لبلادهم، أبعدوهم عن أهلهم و أخذوا ممتلكاتهم و وظفوا زوجاتهم كخادمات أو رهائن .
و لم يلبث هذا الأخير -عبد الله - سوى أشهر معدودات حتى عاد إلى بيته ، و خيبة الأمل أنه لم يجد أحدا في المنزل! فأخذ يجوب الشوارع كالمجنون باحثا عن عائلته ، و قد أوقفه رجل يدّعي أنه حام للمدينة، فبادره عبد الله بأن استفسر عن غياب أهله،و أحبائه عن المنزل؟ و أين قد يكونون؟
و هنا كانت الإجابة صادمة جدا ! حيث أنه يدعي أن جميع هذه البيوت و المحلات ملك للسلطات العليا ، و أنه لا يحق لأمثاله التدخل في هذه الأمور.
و لم يلبث غروب الشمس إلا و وجد زوجته تنفض الأثاث بالقرب من أحد المستعمرات ، بطلب من الرئيس! و هذا ما زاد من غيض و حرقة عبد الله ، فراح يلم شمل عائلته و يربط الأواصل من جديد، لينتهي بعد ذلك أمام دار العجزة فيستعيد والديه ، و منه استأجر بيتا آخر لأن ناشرو الجور ، و الفساد، أخدو منه كل ما يملكه، و بعدها قرر أن يذهب إلى المدينة بحثا عن فرصة للشغل -المنعدمة في بلده- تاركا أهله و أحبابه في رعاية الله ...
احتدمت الأيام و صعوبة العمل ، و شقاء عبد الله يزداد كل ثانية ، لا! بل في كل جزء من الثانية! و قد كان يعمل حمالا في مدينة الأشرعة و هي مدينة مزدهرة فيما يخص التجارة البحرية ، مما جعلهم يسمونها بذلك.
كانت فرصته للتواصل مع عائلته شبه منعدمة، نظرا إلى بعد المسافة، و غلاء رسوم البريد!لكنه كان مضطرا أن يرسل المال في ظرف بريدي، و ذلك رغما عنه، فلوا لا إذ لم يفعل، كيف سيتصرف أهله العاجزون تماما؟!... و ما زاد الطين بلة، أن زوجته صفية كانت حاملا آن ذاك بحوالي ثلاثة أشهر، أي ما يقارب تاريخ الإحتلال.
ازدادت صعوبة العمل شيئا فشيئا، خاصة و أن عبد الله قد خرج من السجن توا، فليس هناك كثير من الناس يتفهمون سبب ذلك، لدى لا تتواجد كثير من فرص الشغل، و باثت تحديا لا مناص منه...
استأجر عبد الله غرفة مهترئة، ذات جدران مشققة، تفوح منها رائحة الصدء، و كأن حدادا كان يقطن فيها!...احتاج مدة ليعتاد على حياته الجديدة، و خاصة أنه بعيد عن أهله الأعزاء.
كان ذلك اليوم كسائر الأيام، طلب إليه أن ينقل هو و مجموعة من الشبان الآخرين، شحنة رمل إلى قلب المدينة، و ذلك عن طريق عربة، عليهم أن يجروها بأنفسهم؛ فبينما كان عبد الله يتجه بكيس ثقيل من الرمل نحو العربة، اصطدم خطأ بمصطفى -أحد الشبان- فقال عبد الله :
عبد الله:
_ أعذرني يا صديقي...!
قاطعه مصطفى متأسفا بدوره:
_ لا عليك أبدا، فهذا خطئي...! أنا من لم ينتبه عليك...!
عبد الله:
_ إذن تعادلنا...!
ثم انفجر الجميع ضاحكين، أظن أن تفاهمهم هذا راجع إلى تقارب الأعمار!..لقد كانوا رغم كل مشاق العمل يلقون النكات، و يتبادلون الأحاديث طوال الطريق، و هم يجرون العربة بالإضافة إلى ارتفاع درجة الحرارة؛ لقد كان يحاول جاهدا نسيان ألمه و طغيان الأقدار عليه، مع أن ذلك شبه مستحيل.
انتهى الشجعان من عملهم المرهق، و راح كل واحد يقتات نصيبة من النقود.
عبد الله:
_ بسم الله...!
هذا ما قاله عبد الله ثم استلم حصته و ارتد إلى خلف رفاقه، خرج من تلك الغرفة الضيقة التي تشعره بالإختناق، على الرغم من أنها شبيهة بالغرفة التي استأجرها لكن مع نوافد؛ تقدم...ثم تقدم... و الإبتسامة ترتسم على وجهه بصدق لأول مرة، لقد كان سعيدا كالطفل الذي حصل على لعبة جديدة توا؛ أجل، أكيد سيكون سعيدا...! فأخيرا هذا مبلغ يستحق العناء.
ليس بالكثير، لكنه يفي بالغرض، سيكفيه لدفع إيجار الغرفة، وليرسل الباقي منه إلى زوجته في -نيسان- المدينة التي احتلت، والتي هي بل... الأم، ظل يسير مدة طويلة، محافظا على نفس الملامح، مبتسما دونما سبب، وهو يجوب الشوارع، أم أنه يسير وفق خطى توحى إليه بطريقة ما من عند ربه....؟ أم أنه فقط يشعر بالإرتياح لذلك...؟
لا هذا ولا ذاك، إنه فقط شارد الذهن، يسير بحثا عن ملجأ يأويه من شرارة الحرب العاتية مقصية خلالها بصيص الأمل الأخير...! أجل، فمن المستحيل أن ينتهي تحالف تلك القبائل دونما حرب دامية، ليحتل المفترس الأقوى والأذكى ساحة القتال، ويحتفظ بالبلدة مستعمرة لديه، وليستنزف خيراتها، ويضطهد سكانها...
حينها فقط سيترأ قمة الهرم الغذائي الشخص الأكثر نذالة ليخلف وراءه مئات من الضحايا و من يعانون، بل و لم و لن يعيدهم أدنى اهتمام فكيف بأن يلتفت نحوهم و يقدم يدا للمساعدة، فحتى إن كانت أياد لن تفي بالغرض لردع ما بثه في الأرض من خراب و عذاب لمن حوله، لكن مع الأسف ما من أحد يفكر بهذا المنظور فبالكاد يرون أبعد من أنوفهم و هم يرفعون برؤوس تحمل ذنب الملايين إلى السماء، ليدوس على الأقل منه شئنا و لو من دون قصد.
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top